أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - دم في نفس الشارع














المزيد.....

دم في نفس الشارع


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8449 - 2025 / 8 / 29 - 00:44
المحور: الادب والفن
    


"في الأزمات، ينكشف المعدن الحقيقي للإنسان، لا بما يقول، بل بما يقدّم من دم ووفاء."

ما أعجبَ أن يحملَ الإنسانُ جسدَ غيره كما لو كان جسده، وأن يسيل الدم بين يديه فيشعر أنه دمُه هو، وما أعظمَ أن تنقلبَ الجيرة إلى أبوةٍ ثانية، تُكتب بمداد الجراح لا بأحبار الكلام. إن للدم لغةً لا تخطئها القلوب، تُخرسُ الخطبَ العالية، وتُسكتُ أصوات المنابر، لأنها وحدها الحقيقة، وحين تنطقُ الحقيقة بالدم، يسقطُ كلُّ زيف.

في ظهيرةٍ حزينة، خرج أهل الزقاق يشيّعون رجلاً مات موتًا هادئًا، بعد أن عاش حياةً عاصفة بالحب والوفاء. كان النعشُ محمولًا على الأكتاف، والوجوه مبللة بالدموع. وفي المقدمة، كان حسين يخطو بثبات، وقد التصق كتفه بخشب النعش كأنما يريد أن يحمل الرجلَ في قلبه قبل كتفه. لم يكن حسين يومها مجرد مشيّع، بل كان يردُّ دينًا قديمًا لا يردّه العمر كله.

حين توقفوا للصلاة، انحنى حسين فوق الكفن، وبلّل القماش الأبيض بدموعه، فانكشفت الذاكرة أمامه كما تُفتح نافذةٌ على ماضٍ بعيد.

عام 2006... حين اهتزَّ الحي بانفجارٍ عصف جدرانه، وسقط حسين مضرجًا بالدم، كان أبوه أبو حسين يصرخ ملء صوته:
– "ولدي... يا ناس ساعدونا!"

ولم يلبِّ النداءَ أحدٌ أسرع من أبي عمر، الذي حمل الفتى كأنما حمل روحه هو. انطلق الاثنان: أبو حسين في المقدمة يقود السيارة، عيناه على الطريق وقلبه يسبق يديه، وأبو عمر في المقعد الخلفي، يحتضن حسين، ويضغط على جرحه بيدين لم تعرفا غير الإخلاص.

كانت الدماء تغمر كفيه وثوبه، وحسين يفتح عينيه بصعوبة، يتمتم بصوت واهن:
– "عمو... لا تتركني..."

فأجاب بصوت يختلط فيه الرجاء بالحزم:
– "أنت ابني... دمك دمي... والله ما أتركك."

وعند باب المستشفى، سلّموه إلى الأطباء، وهناك انهار أبو حسين باكيًا، والتفت إلى جاره قائلاً:
– "هذا دين برقبتي يا أبا عمر."

لكن الرجل هز رأسه، وقال بصرامةٍ يكسوها الحنان:
– "لا تقل دينًا ولا فضلًا... إحنا أهل... واللي ما يحمي جاره، ما يحمي نفسه."

ومنذ تلك اللحظة، صار الدم الذي التصق بيد أبي عمر حديث الزقاق:
"دمٌ أقوى من الخطب، وأصدق من الشعارات."

وحين تعافى حسين بعد شهور، خرج ذات صباحٍ ربيعي، ورأى أبا عمر جالسًا على كرسيه الخشبي، يرقب الأطفال يلعبون في الزقاق، فاقترب منه، وانحنى ليقبّل يده التي لم تزل تحمل ذاكرة الدم. عندها اغرورقت عينا الرجل، وقال بصوت متهدج:
– "كبرتَ يا ولدي... وصار جرحك شهادة على إنسانيتنا."

عاد المشهد إلى الجنازة... حسين يشدّ قبضته على خشب النعش، ويمشي به بخطواتٍ بطيئة، كأنه يسير في موكب ذاكرته. لم يكن يحمل جسد رجلٍ ميت، بل كان يحمل روحًا زرعت فيه حياة جديدة. في تلك اللحظة، أحسّ أن الدم الذي نزف ذات يوم لم يُهدر، بل صار حبرًا كتب قصةً لا تموت: قصة الجيرة التي تحوّلت إلى أبوة، والأخوّة التي تجلّت في شارعٍ صغير من بغداد الجريحة.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السوق _دكة العطار
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح
- بين النخيل
- حين تسقط الاقنعة
- صحوة القلب
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر


المزيد.....




- «أوديسيوس المشرقي» .. كتاب سردي جديد لبولص آدم
- -أكثر الرجال شرا على وجه الأرض-.. منتج سينمائي بريطاني يشن ه ...
- حسن الشافعي.. -الزامل اليمني- يدفع الموسيقي المصري للاعتذار ...
- رواد عالم الموضة في الشرق الأوسط يتوجهون إلى موسكو لحضور قمة ...
- سحر الطريق.. 4 أفلام عائلية تشجعك على المغامرة والاستكشاف
- -الكمبري-.. الآلة الرئيسية في موسيقى -كناوة-، كيف يتم تصنيعه ...
- شآبيب المعرفة الأزلية
- جرحٌ على جبين الرَّحالة ليوناردو.. رواية ألم الغربة والجرح ا ...
- المغرب.. معجبة تثير الجدل بتصرفها في حفل الفنان سعد لمجرد
- لحظات مؤثرة بين كوبولا وهيرتسوغ في مهرجان فينيسيا السينمائي ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - دم في نفس الشارع