أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ابتسامة على دفتر الدَّين














المزيد.....

ابتسامة على دفتر الدَّين


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 09:06
المحور: الادب والفن
    


لم يفهم حيدر كيف انقلب كل شيء فجأة. البارحة جلست سلمى بجانبه في قاعة المحاضرات، تسأله عن درس المحاسبة وتبتسم ابتسامة خفيفة. أما اليوم، فقد مرّت قربه كأنها لا تعرفه، وضعت حقيبتها على المقعد البعيد وأشاحت بوجهها. شعر كأن حجرًا سقط في قلبه، ثقيلًا وصامتًا، وأحس أن شيئًا خفيًا يبعدها عنه، لكنه لم يعرف بعد ما هو.

في تلك الأيام، كان دكان "أبو سالم" شاهدًا على فقر الحي. باب حديدي قديم يئن عند فتحه، ورفوف خشبية تتكدس فوقها علب السكر والشاي والرز . على الطاولة دفتر ضخم مليء بالأسماء والديون. يدخل الفقراء واحدًا تلو الآخر، يطلبون ما يسد رمقهم، فيكتب أبو سالم الأسماء ثم يردد:
– اكتبها دينًا يا أبا سالم… الله كريم.
فيرد وهو يغلق الدفتر:
– الله كريم، والذي يسدد الديون أكرم.

لكن هذه الديون لم تكن تبقى طويلًا. ففي كل شهر تقريبًا، قبيل المغرب، يدخل شاب وسيم يحمل حقيبة جلدية صغيرة، يضع النقود على الطاولة ويقول بصوت خافت:
– امحُ الديون كلها، واعتبرها صدقة جارية.
ثم يغادر قبل أن يسأله أحد عن اسمه. ذلك الشاب لم يكن سوى حيدر نفسه.

في الجامعة، تعرف حيدر على سلمى. فتاة بسيطة الملبس، عيناها تلمعان بصدق واضح. كانت تحكي له عن والدها المريض وأمها المنهكة، وتقول:
_من المحتمل ان اترك الدراسة ، واجد فرصة عمل
، لعلي أرفع عنهم بعض الحمل.
فيرد عليها بابتسامة حزينة:
– وإذا تركت الدراسة، من سيغير هذا القدر؟ اصبري، فهي سلاحك الوحيد.
لم تكن تعلم أن الشاب الذي يجلس بجانبها في القاعة هو جارها، يسكن على بُعد زقاق واحد من بيتهم، وأنه الميسور الوحيد بينهم. ولم يكن يعلم هو أيضًا أنها إحدى الأسر التي يُمحى ديونهم كل شهر من دفتر أبي سالم.

وبينما كان يعيش قصته بصمت، كان صديقه علي يعيش قصة أخرى. علي شاب فقير، يعمل مساءً في مقهى بالكرادة ليسد رمقه، ومع ذلك أحب رنا، ابنة تاجر معروف. كانت تدخل الكلية بملابس أنيقة وعطر غالٍ، بينما هو يكتب لها أشعارًا على أوراق المقهى. قال لحيدر مرة وهو يتنفس بمرارة:
– أحبها، لكنها تقول: أهلي لن يقبلوا… يرون أن الفقر لا يبني بيتًا.
فأجابه حيدر بهدوء:
– والقلب؟ أليس يبني ما لا يبنيه المال؟
ابتسم علي ثم صمت، وبين عينيه بريق دمعة مختبئة.

في المساء، كانت سلمى تعود إلى بيتها الصغير. والدها يسعل قرب المدفأة، وأمها تحاول أن تخبز ويداها ترتعشان. قالت سلمى:
– سأترك الجامعة وأبحث عن عمل.
فأجابتها أمها والدمع في عينيها:
– لا يا ابنتي، لا تذبحي حلمك. دعينا نحن نتحمل الهم، أما أنت فأكملي طريقك.
ومع مرور الأيام، بدأت تسمع سلمى همسات في الحي. جارتهم العجوز قالت وهي تتأمل دفتر الديون:
– رحم الله والديه… الشاب ما قصّر، كل شهر يمحو الدين.
تجمدت سلمى عند سماعها، وتراكم في قلبها شك عميق. وحين علمت أن ذلك الشاب طالب جامعي من نفس الحي، لم يكن أمامها سوى أن يتجه نظرها إلى حيدر. فصارت تنظر إليه بعين الشك بعد الثقة، وتتحاشاه في القاعة.ضانا منها بانها المقصودة .

وفي تلك الأثناء، كان علي يتلقى ضربته القاسية. قالت له رنا ببرود:
– أهلي لن يوافقوا… الفقر يقتل الحب.
فرد بصوت مخنوق:
– وإن كان الفقر في الجيب، فالحب في القلب… لماذا يهزمنا؟
لم تجب، وأدارت وجهها. جلس تلك الليلة في المقهى، يكتب على ورق الفواتير: "هل يُقاس القلب بميزان المال؟"
أما حيدر فآثر الصمت. تذكر وصية والده: اجعل الخير خفيًا، فهو أنقى. كان يرسم دوائر فارغة على دفتره، بينما عيناه تتبعان سلمى وهي تبتعد.

وذات مساء، اشتد مرض والدها، فذهبت مع أمها إلى دكان أبي سالم. قالت الأم وهي تمسح دموعها:
– أخرنا يا أبا سالم هذا الشهر، والله ييسرها.
فنظر إليها وقال وهو يغلق الدفتر:
– يا ابنتي… لقد سدد الشاب ديونكم . وهو يفعلها من أجل الناس جميعًا.وليس انتم فقط .
حينها فقط، سقط الوهم، وعرفت سلمى كم ظلمته.
في اليوم التالي، دخلت القاعة بخطوات مترددة. جلست قربه وقالت بصوت خافت:
– سامحني… أسأت الظن بك.
رفع رأسه ببطء، وابتسم. كانت ابتسامته أبلغ من كل كلام.

بعد أيام قليلة، اجتمعا في حديث طويل على مقاعد الحديقة الجامعية. قالت سلمى وهي تحدّق في الأشجار:
– ذقت مرارة الفقر يا حيدر… وأعرف ماذا يعني أن يبيت الإنسان وفي قلبه دين. إن كان لي أن أبدأ حياة جديدة، فلا أريدها إلا معك… نكمل الطريق معًا، نخدم الناس بصمت.
ابتسم حيدر وهو ينظر إليها:
– هذا ما حلمت به دائمًا… أن يكون الحب رسالة، والخير طريقًا.
اتفقا على الزواج بعد التخرج، ليجعلا من بيتهما بيتًا مفتوحًا للفقراء والمحتاجين، وليحملا معًا وصية والده: اجعل الخير خفيًا، فهو أنقى.
أما علي، فقد بقي في المقهى، يراقب أكواب الشاي التي يوزعها للزبائن. كان صوته يخفت، لكنه في أعماقه ما زال يردد: الفقر لا يقتل الحب، بل القلوب التي لا تصمد.

وهكذا، انتهت الحكاية على وجهين: ابتسامة لحيدر وسلـمى فتحت أبواب الأمل والزواج والمشروع الإنساني، ودمعة لعلي أغلقت بابًا آخر إلى الأبد.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين
- عقاب الماء البارد
- ومضات العمر
- دم في نفس الشارع
- السوق _دكة العطار
- حين سلمني ابي
- الكرسي الفارغ
- حلم التخرج
- النافذة التي لا تُفتح


المزيد.....




- -بوصلة السراب- متحف سردي لثقافة القرية العُمانية
- الموسوعة السعودية للسينما تطلق إصدارات جديدة بدعم من -ترجم- ...
- اقتراح ايراني بايجاد الية لتجارة النتاجات الثقافية للدول الم ...
- وعد بنسف الرواية الحكومية.. الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون ي ...
- أرونداتي روي: ما يحدث في غزة إبادة جماعية
- يعود بفيلم -Anemone-.. دانيال داي لويس يوضح أسباب تراجعه عن ...
- وهل غيرها أنهكتْني؟
- تجسيد زنا المحارم في مسرحية -تخرشيش- يثير الجدل في المغرب
- مهرجان الفيلم العربي يعود إلى ستوكهولم بدورته السادسة
- أيادي الشباب تعيد نسج خيوط التراث المنسي في -بيت يكن- بالقاه ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ابتسامة على دفتر الدَّين