أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود السلمان - جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي














المزيد.....

جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 00:00
المحور: الادب والفن
    


(1)
قصيدة "جسر" للشاعر طه الزرباطي، المنشور في جريدة "أوروك" وكذلك على صفحته في الفيس بوك، يُعدّ نموذجًا لما يمكن أن نسميه بـ"النص الهجين" أي الذي يدمج بين التجربة الذاتية والعشق الصوفي، وبين التاريخ الثقافي والبعد الحضاري، ضمن بنية لغوية تتجاوز القصيدة التقليدية إلى مستوىٍ من الكتابة التي تتحرك على تخوم الشعر، السرد، والتحليل الفكري، دون أن تفقد انسيابها الوجداني. فالقصيدة تبدأ من عنوانٍ مقتضب: "جسر" وهو غير المُجسّر. وكلمة جسر تُفجّر طبقات تأويلية متعددة. فالجسر في الوعي الجمعي ليس مجرد معبر مادي، بل هو رمز للانتقال، والعبور، وربما الفقد أيضاً. وهنا، يتحوّل الجسر إلى مساحة شعرية قائمة على التناقض: "جسر على سراب"، وكأنّ الشاعر يبدأ النص بإلغاء ثبات الفكرة، ويدخل القارئ في بُعد من الضياع المقصود، الضياع الميتافيزيقي الذي يجعل من السؤال الأول: "أأنت مصر على الغياب؟" استفهاماً وجودياً أكثر منه عتابًا عاطفيًا. فالمُخاطَب لا يُعرّف: أهو الأب؟ الحبيب؟ الله؟ الذات؟. وهذا التعدد المقصود يُتيح للقصيدة أن تبقى مشرعة على كافة الجهات.
(2)
يتخلل النص صوت ذاتي عميق، فيه نبرة بكاء طفولي على حرمان قديم، لكنه لا يستجدي الشفقة، بل يكشف المسكوت عنه من "الافتقار العاطفي". جميع الآباء "يجلبون نجوماً لأبنائهم"، أما الأب هنا (الرمز ربما؟) فيكتفي بـ "المكتوم والبربند وجمال الدين"، وهي أسماء تمور عراقية معروفة، لكنها في السياق تتحوّل إلى رموز لمعاني أخرى: "السكوت، الحصار، والإيمان العاجز عن الإشباع". يظهر هنا أول خيط رمزي يحيلنا إلى عراق النكسة والتناقضات، حيث الجمال مغيّب، والعاطفة متقشفة، والمحب محروم.
(3)
العلاقة العاطفية في النص ليست غزلية مباشرة، بل تتحوّل إلى نوع من الافتتان المتأزم، فالمحبوبة "مُلغمة" كأنها حرب. يُقابل الحبّ هنا بالتفجير، بالألم، بالدمار. يُعيدنا ذلك إلى سياقات ثقافية أعمق، فالشاعر لا يكتفي بإعلان معاناته، بل يُقارنها بأزمنة سابقة: السومريون، العيلاميون، المصريون، الصينيون… شعوبٌ تواصلت بالمحبة، تبادلت الجعة - البيرة، العطور، الرسوم، لا البارود. وفي هذا الموضع، يظهر البارود لا كأداة قتال فقط، بل كرمز للعلاقات التي تفشل لأنها لم تُبنَ على الودّ، بل على الخوف والغرور والمنع.
(4)
المفارقة تتصاعد حين يتداخل التاريخ بالحاضر: "المصريون توصلوا إلى حمرة الشفاه، إلى كحل العيون، تبادلوها مع العيلاميين…". أما الحبيبة المعاصرة، فـ"شفتاها ملغمتان"، تنفجران في أول تقبيل. هذا التحوّل من الجمال الناعم إلى الانفجار الرمزي يعكس الأزمة الشعورية بين الذكرى والواقع، بين الحنين والمواجهة، بين الرغبة في الحب والخوف من نتائجه. وبهذا، يُصبح الجسر جسرًا ملغّمًا، لا عبور فيه دون خسائر.
(5)
ثم ننتقل إلى القسم الأكثر وجودية وفلسفية في النص، حيث تبدأ الأسئلة بالتفجر: أأضحك؟ أم أبكي؟ أم أُعرض عن البرحي (نوع التمر)؟ وعن الشفاه؟ وتتصاعد هذه الأسئلة لتصل إلى استحضار جبل "بيستون"، حيث نُقشت قصة "فرهاد وشيرين"، ليذكّرنا الشاعر أن هناك حبًّا نُحت في الحجر ليبقى، بينما نحن ننسى أو نمحو. هنا يصبح الجسر رمزًا أبديًا للمحبين، للحكايات التي تُبنى رغم كل شيء، مقابل واقعنا اليومي الذي يفجر حتى القُبلة. الذروة تأتي حين يُسخّر النص رموز الثقافة الشعبية، مثل "توم وجيري" وأفلام الكارتون، ليُشير إلى أن العالم أصبح يقدّم حبًّا مستهلكًا، آمنًا، بلا وصول حقيقي، بلا تفجّر أو حتى تحقق. ويقارنها بالواقع الذي نحن فيه الآن: حيث الحبّ ممنوع، والقبلة تنفجر، والخوف يلد خوفًا، ولا يعود لله مكانٌ في التجربة إلا كنداءٍ نهائي: "يا الله، دلّنا علينا، عليك… على سرنا المكنون فيك". هذا النداء الصوفي الأخير يُعيد كل شيء إلى نقطة البدء: الجسر، الذي هو في النهاية "جسرنا الخفي إلى قبلة حمقاء". القبلة هنا لا تُدان، بل تُعطى بعدًا وجوديًا – هي اختزال الحب الممنوع، والرغبة المقدسة، والمجازفة التي لا تتم. لذا الوصف بـ"الحمقاء" لا يحمل تحقيرًا، بل انكسارًا أمام ما لا يُفهم.
(6)
بالتالي، القصيدة تضع القارئ أمام تساؤلات كبيرة: ما الذي جعل الحب معركة؟، لماذا نُفجر القُبل؟، لماذا نحفر جباهنا في الطين حين نخاف؟، وأين هو جسرنا الحقيقي: إلى الآخر؟ إلى الله؟ إلى الذات؟. وعليه، النص لا يقدّم إجابات، بل يفتح احتمالات وجودية متعددة، تلتقي جميعها في جمالية عالية اللغة، متداخلة المعنى، عميقة الرمز. وبالمحصلة النهائية، "جسر" ليست قصيدة غزل، ولا تأمل ذاتي بسيط. إنها نصّ وجودي، يمتحن قدرة الإنسان على عبور أزماته بالحبّ، وعلى تذكّر تاريخه من خلال رموز حسيّة، وعلى التشبث بما تبقى من الجمال في عالم مُلغّم بالمنع، والاغتراب، والفقد.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
- المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
- القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)


المزيد.....




- فيلم -صائدو شياطين الكيبوب- يحقق نجاحًا باهرًا.. ما سرّه؟
- موسيقى -تشيمورينغا-.. أنغام الثورة في زيمبابوي
- قائد الثورة الإسلامية يعزي برحيل الفنان محمود فرشجيان
- -عندما يثور البسطاء-: قراءة أنثروبولوجية تكسر احتكار السياسة ...
- مدن على الشاشة.. كيف غيّرت السينما صورة أماكن لم نزرها؟
- السعودية.. إضاءة -برج المملكة- باسم فيلم -درويش-
- -الدرازة- المغربية.. حياكة تقليدية تصارع لمواكبة العصر
- بيت جميل للفنون التراثية: حين يعود التراث ليصنع المستقبل
- هرر.. مجَلِّد الكتب الإثيوبي الذي يربط أهل مدينة المخطوطات ب ...
- هرر.. مجَلِّد الكتب الإثيوبي الذي يربط أهل مدينة المخطوطات ب ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود السلمان - جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي