|
الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8436 - 2025 / 8 / 16 - 10:56
المحور:
قضايا ثقافية
الحديث عن حرية المثقف في ظل الضغوط المؤسسية يلامس واحدة من أكثر الإشكاليات تعقيدًا في علاقة الفرد بالمؤسسة، والفكر بالسلطة، والضمير بالواقع. فالمثقف، في صورته الجوهرية، ليس مجرّد حامل لمعارف أو ناقل لأفكار، بل هو كائن نقدي، مشغول بالسؤال، متمرّد على الجاهز، وساعٍ باستمرار إلى كشف ما وراء الظواهر، وإلى مساءلة البُنى القائمة، سواء كانت سياسية أو دينية أو اقتصادية أو حتى ثقافية. ولهذا، فإن المثقف بطبيعته يدخل في علاقة متوترة مع المؤسسات، لا بوصفها هياكل تنظيمية فقط، بل بوصفها قوى سلطوية تملك قدرة على الضبط، والإقصاء، والمكافأة، والعقاب. المؤسسة، سواء كانت دولة، جامعة، وسيلة إعلام، مركز بحث، أو حتى منظمة ثقافية، لا تتحرّك في فراغ. بل إن لها مصالح، وتوجهات، وحدودًا تحدّد لها ما يُقال وما لا يُقال، ما يُشجَّع وما يُحارَب. وهي، بحكم حاجتها إلى الاستقرار والهيمنة، تميل بطبعها إلى المحافظة، إلى تثبيت الوضع القائم، إلى تقنين الفكر وتوجيهه لخدمة أجندتها، لا إلى تحفيزه على التجاوز أو الثورة. ومن هنا تبدأ أولى أشكال الضغط على المثقف، الذي يُفترض فيه أن يكون صوت الضمير، لا بوق السلطة. هذه الضغوط لا تكون دائمًا عنيفة أو فجّة. فهي قد لا تأخذ شكل الرقابة المباشرة أو المنع الصريح، بل قد تكون أكثر نعومة ودهاء: التهميش، الحرمان من الترقية، الإقصاء من المنابر، قطع التمويل، أو الإغراق في البيروقراطية. وقد تأتي أيضًا من خلال الإغراء: منح الفرص، المناصب، الامتيازات، الجوائز، على شرط أن يتخلّى المثقف – أو يُخفف – من حدّة صوته، أو أن يُعيد صياغة أفكاره بطريقة أكثر "قابلية للهضم"، أو أن يُساير الرأي العام الذي تصنعه المؤسسة. وبهذا المعنى، يتحوّل المثقف في أحيان كثيرة إلى موظف ضمن منظومة، محكوم بشروطها، ومُراقب بأدواتها، ويجد نفسه مهددًا بالتهميش أو العزل إن تجاوز الخطوط المرسومة. هنا، لا تعود حرية المثقف خيارًا سهلًا، بل عبئًا، قد يدفع ثمنه من استقراره، أو مكانته، أو حتى أمنه. وفي مثل هذه الظروف، يصبح الصمت حكمة، والمجاملة فضيلة، والنقد "المشروع" هو ذلك الذي لا يُزعج أحدًا. إلّا أن المثقف، إن قبل بهذه المعادلة، خان دوره. فوظيفته الحقيقية ليست التناغم مع السياق، بل مساءلته. ليست تكرار خطاب الجماعة، بل تفكيكه، والبحث عن مواطن الخلل فيه. والمثقف حين يُساوم على حريته، يُفقد فكره قيمته، لأن المعرفة التي تُنتَج تحت الوصاية، أو بإملاء من سلطة، لا تُحرر، بل تُعيد إنتاج التبعية. الضغوط، للأكيد، لا تأتي فقط من السلطة السياسية، بل من المجتمع نفسه. فالمثقف قد يُجابه بضغط شعبي، يطالبه بأن لا يُزعزع القيم المستقرة، أو أن لا يُصادم معتقدات الجماعة، أو أن لا يُثير الأسئلة "المحرّمة". وقد تُمارَس عليه الرقابة من زملائه، أو من جمهوره، أو من المؤسسة التي ينتمي إليها ثقافيًا أو أيديولوجيًا. هذه الضغوط، وإن كانت غير رسمية، إلا أنها لا تقل قسوة عن رقابة الدولة، لأنها تضع المثقف في مواجهة مع محيطه المباشر، وتُهدّد بتجريده من مكانته الاجتماعية، أو من انتمائه لتيار أو فئة أو هوية. ونلاحظ في كثير من السياقات العربية، تعاني حرية المثقف من الحصار من جهتين في آنٍ واحد: الدولة التي ترى في الفكر الحر تهديدًا، والمجتمع الذي يرى فيه خروجًا عن المألوف. وبينهما، يجد المثقف نفسه معزولًا، أو مجبرًا على التخفّي، أو على التحايل على الواقع بلغةٍ رمزية، أو بمنهجٍ موارب. وتلك حلول لا تخلو من الذكاء، لكنها تؤشر أيضًا إلى حجم الأزمة: فحين يضطر المثقف إلى التخفي، فإن الساحة تُفرَّغ للمروّجين والدجّالين، وتتحوّل الثقافة إلى تكرار واجترار. وأكيد، أخطر ما تفعله الضغوط المؤسسية هو أنها تدفع بعض المثقفين إلى التكيّف الكامل معها. فيتحولون إلى أدوات في يد السلطة، يُجمّلون خطابها، ويُبرّرون قراراتها، ويُهاجمون خصومها، ويتقمّصون دور "العقل الواعي" وهم في الحقيقة مجرد "صدى". هؤلاء ليسوا فقط مثقفين مزيفين، بل هم شركاء في صناعة الوعي الزائف، وفي تسويق الوهم، وفي إطفاء جذوة السؤال. والمجتمع الذي يُكافئ هذا النمط من المثقفين، إنما يُعاقب نفسه، لأنه يُحوّل الثقافة إلى ملهاة، لا إلى وعي نقدي. ومع ذلك، فإن حرية المثقف ليست مجرد امتياز تمنحه المؤسسة أو تنتزعه. إنها موقف داخلي، وإرادة شخصية، واستعداد لتحمّل العواقب. المثقف الحق لا ينتظر الإذن كي يُفكّر، ولا يساوم على صدقه من أجل مصلحة عابرة. وهو، وإن خسر الموقع أو المنصب، يربح احترامه لذاته، ويحتفظ بقدرته على أن يقول ما يؤمن به. وهذه القدرة، في النهاية، هي جوهر الحرية. إن الدفاع عن حرية المثقف ليس مطلبًا نخبويًا، بل هو ضرورة لمجتمع سليم. لأن حرية المثقف تعني حرية الفكر، وحرية الفكر تعني فتح المجال للسؤال، والنقاش، والتجديد. وإذا سُمِح للمؤسسات - السياسية أو الدينية أو الثقافية - أن تُقيّد هذا الدور، فإنها تقضي على قدرتها على التطور، وتُمهّد لركود طويل، لا يُنتج إلا الخضوع أو التطرّف. فالثقافة التي لا تُقاوِم، تتحوّل إلى أداة للسلطة، والثقافة التي لا تُزعج، لا تُغيّر. إن مسؤولية المثقف اليوم ليست سهلة، لكنها نبيلة. أن يُحافظ على استقلاله، على صوته، على قدرته على المساءلة، ولو وسط الصمت أو الضجيج. أن يظل شاهدًا لا على ما يُقال فقط، بل على ما يُخفيه الصمت، وما يُخنقه الخوف، وما تُخدّره المؤسسات باسم "المصلحة العامة". فحرية المثقف، في النهاية، ليست ترفًا فكريًا، بل هي وعد بأن الإنسان ما زال قادرًا على أن يُفكر، أن يُشكك، أن يرفض، وأن يُعيد بناء العالم لا كما يُراد له، بل كما ينبغي أن يكون. وإذا كانت حرية المثقف بهذا القدر من الأهمية، فإن حمايتها ليست فقط مسؤولية المثقف ذاته، بل مسؤولية المجتمع بكل مكوناته. لأن حرية المثقف لا تنفصل عن حرية الجميع. حين يُكمَّم صوت المفكر، يُكتم وعي الناس، وحين يُلاحق كاتب لأنه أبدى رأيًا أو كشف تناقضًا أو فضح مصلحة خفية، فإن المجتمع كله يخسر أفقًا جديدًا للفهم، وأداة ضرورية للتغيير. ولهذا فإن أول من يدفع ثمن إسكات المثقف ليس هو وحده، بل البيئة التي يُقصى منها العقل الحر، ويُستبدل فيها الفكر بالمجاملات، والنقد بالتطبيل، والرأي بالتلقين. وهذا لا يعني أن المثقف ضحية فقط، أو أنه دائمًا في الجانب الأخلاقي الصحيح. ففي كثير من الأحيان، يتحوّل بعض من يسمّون أنفسهم مثقفين إلى جزء من المنظومة الضاغطة على الحريات، إما بدافع المصلحة أو الخوف أو الطموح الشخصي. هؤلاء، الذين يبيعون ضمائرهم لقاء منصب أو شهرة أو تقرّب من سلطة، لا يُسهمون في خنق حرية الفكر فقط، بل يُسهمون أيضًا في تشويه صورة المثقف ذاته، مما يفتح الباب أمام احتقار الثقافة، وتراجع الثقة في الكلمة الحرة. هؤلاء يشكّلون، دون مبالغة، الحاجز الأخطر في وجه أي مشروع نقدي، لأنهم يأتون في ثوب المفكّر، لكنهم ينطقون بلغة الحاكم أو الممول أو الجمهور المتعصّب. وفي ظل هذا المشهد المتشابك، لا بد أن نفهم أن حرية المثقف لا تُنتزع دفعة واحدة، بل تُبنى في صمت، عبر مسار طويل من الصدق والاستقلالية، عبر اتخاذ مواقف مكلفة أحيانًا، وصعبة أحيانًا أخرى، لكنها هي التي ترسم حدوده الأخلاقية وتُحدّد مكانته الحقيقية. المثقف ليس بوقًا، ولا موظفًا، ولا تابعًا. هو صوت مختلف بالضرورة، ومن دون هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون فاعلًا في مجتمعه. المثقف الحقيقي لا يسعى للقبول العام على حساب الحقيقة، ولا يتحصن بالجماعة على حساب الفرد، ولا يقايض فكرته بالسلامة أو الربح. إنه يُدرك أن كلمته قد لا تُغيّر الواقع فورًا، لكنها تفتح فيه شرخًا، وتُطلق فيه سؤالًا، وتُربك فيه سلطة اعتادت على الإجماع أو الخنوع. وإذا بدا أن الضغوط المؤسسية أقوى من المثقف، فذلك لأن المؤسسات تملك أدوات السيطرة، لكنها لا تملك القدرة على الصمود أمام الفكر المستقل حين يُصِر على البقاء. فالكلمة الصادقة لا تموت، والفكرة الحرة لا تُقبر، مهما طال الزمن. والمثقف الذي يرفض أن يكون تابعًا، وإن بدا وحيدًا أو معزولًا، يملك سلطة أخلاقية تتجاوز سلطات المال والإعلام والسياسة. إنه يُمثل ضميرًا أعلى، لا يُقاس بعدد المتابعين، بل بمدى صدقه واتساقه مع ذاته ومع مبادئه. وفي الختام، لا يمكن للمجتمع أن يتطوّر أو أن يُشفى من أمراضه، إن لم يملك مثقفين أحرارًا، قادرين على المواجهة دون خوف، وعلى النقد دون حقد، وعلى البناء دون تبعية. فحرية المثقف ليست امتيازًا، بل ضرورة. إنها تُشكّل الحصن الأخير في وجه الاستبداد، والرداء الأخلاقي الأخير في زمن التزييف. وكلما صمد مثقف واحد في وجه القمع أو المساومة أو التهميش، كلما ازداد الأمل في أن الثقافة لم تتحوّل بعد إلى سلعة، وأن الفكر ما زال قادرًا على أن يكون أداة للتحرير، لا أداة للزينة. راجع المقال: 1. المثقف وديمقراطية العبيد، المؤلف: العلمي (غير مذكور بوضوح، لكن الكتاب معروف من خلال محتواه) دار النشر: غير محدد في المصدر، سنة الطبع: غير واضحة، لكن الكتاب موجود في مكتبة نور بصيغة إلكترونية. 2. جحيم المثقّف: الثقافة والإيديولوجيا في العراق 1945–1980، المؤلف: محمد غازي الأخرس، دار النشر: غير مذكورة صراحة، لكنه مدرج في مواقع مراجعة كتب موثوقة، سنة الطبع: غير محددة في المصدر. 3. المثقف اللامنتمي في التراث الإسلامي: دراسة عن قمع الدولة للفكر الآخر، المؤلف: محسن محمد حسين، دار النشر: غير محددة، سنة الطبع: غير موضَّحة، موجود بصيغة إلكترونية في مكتبة نور منذ 2017 .
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
-
المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
-
تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
-
المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
-
تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
-
المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
-
المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
-
صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
-
المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
-
التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
-
ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
-
هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
-
قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
-
المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
-
الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
-
صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
-
كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
-
المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
-
تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
-
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
المزيد.....
-
بعد تحذيره النووي.. رئيس روسيا السابق يعلق على لقاء بوتين وت
...
-
ذوبان غير مسبوق للأنهار الجليدية في أميركا وكندا وأوروبا
-
انتقادات لقمة ألاسكا.. لا اتفاق ولا أسئلة فقط احتفالات وعلاق
...
-
قلق حول مصير -منقذ السوريين- حمزة العمارين بعد اختطافه في ال
...
-
هندسة التهجير القسري.. من النكبة إلى حرب الإبادة
-
قمة ألاسكا.. ترامب يعطي اجتماعه مع بوتين 10 من 10
-
بـ 90 ثانية فقط.. لصوص يسرقون مجوهرات بقيمة 2 مليون دولار
-
مخرجات قمة ترامب وبوتين.. لا اتفاق لوقف الحرب في أوكرانيا
-
فيديو.. بوتين يركب -الوحش- مع ترامب في ألاسكا
-
روسيا تطلق 85 مسيرة على أوكرانيا.. وتسقط 29 مسيرة أوكرانية
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|