أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)














المزيد.....

المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 21:52
المحور: قضايا ثقافية
    


في كل مرحلة من مراحل التاريخ الثقافي، ينهض المثقف بوصفه الضمير القلق في وجه السكون الجمعي، ذلك الذي ينطق حين يصمت الجميع، ويصمت حين يعلو صخب الخطابات الزائفة. غير أن هذا الدور النبيل لا يسلم من التهديد؛ إذ تبدأ رحلة التبعية الفكرية حين يغدو المثقف جزءًا من المشهد الذي يفترض به تفكيكه، لا حين ينحاز، بل حين يتطابق، ويتماهى حتى يفقد صوته الفردي بين ضجيج الإجماع. التبعية الفكرية لا تعني أن يكون المرء مُسيّرًا بالكامل، بل أن تتآكل قدرته على الفحص، أن يستقيل وعيه ببطء، أن يتحول إلى ناقل لمقولات لم يعد قادرًا على مساءلتها. إن أخطر أشكال التبعية ليست المفروضة قسرًا، بل تلك التي تنشأ من داخل الذات، حين يتعود المثقف على راحة التكرار، ودفء القبول، فيبدأ باستبطان الرقابة دون أن يشعر.
إنّ من يراقب الساحة الثقافية العربية يدرك أن كثيرًا من المثقفين باتوا أسرى لعلاقات الانتماء أكثر من الالتزام بالمعنى. فهم إمّا محكومون بولاءاتهم السياسية، أو بتحالفاتهم الأيديولوجية، أو محكومون بمزاج السوق الثقافي الذي يصنع نجومية لا تستند إلى فكر، بل إلى قابلية التهذيب. ولعل أخطر ما في هذا الوضع أن المثقف يتحول إلى واجهة، إلى صورة قابلة للتسويق، لا إلى موقف قابل للاختلاف. عندها تصبح الثقافة فعلاً مكررًا، لا كشفًا ولا صراعًا، بل مرآة للمقبول لا مجهرًا للمُهمل. يحدث هذا حين يتنازل المثقف عن صلابته الأخلاقية لصالح التوازنات، وعندما يرضى بأن يكون صدىً لما يريد الآخرون سماعه، لا صوتًا لما يجب أن يُقال، حتى لو لم يُرِد أحد سماعه.
يُستدعى هنا المفكرون الذين حذّروا من هذه الحالة في نصوصهم المؤسسة؛ فقد نبّه إدوارد سعيد إلى خطورة المثقف الذي يتماهى مع المؤسسات والسلطات، لا لأنه فاقد للذكاء، بل لأنه فقد شجاعته. فالكلمة، مهما بلغت فصاحتها، لا وزن لها إن لم تُولد من استقلال أخلاقي. كما كتب جوليان بندا، في واحدة من أهم صيحات التحذير في الفكر المعاصر، عن خيانة المثقفين الذين بدل أن يكونوا خُدّامًا للحقيقة صاروا وكلاء لأهواء الجماعات. الخيانة في هذا السياق لا تأتي دفعة واحدة، بل تسللًا، عبر انخراط المثقف في نظام من التبرير، حيث يبدأ بمسايرة الضرورات، ثم يستبطنها، ثم يدافع عنها باعتبارها ثوابت.
ومن هذا المنطلق نرى أن المؤسسات الثقافية، الأكاديمية منها أو الإعلامية، كثيرًا ما تُغري المثقف بالمكانة، مقابل أن ينزع عنه مخالبه النقدية. وإن لم تفرض عليه التبعية مباشرة، فإنها تهيئ له شروطًا تجعله يختارها بنفسه: راتب ثابت، منصب واضح، جمهور كبير، شبكة أمان، بشرط واحد فقط: أن لا يفسد التناغم. في هذا الجو، يفقد المثقف نزعة القلق، ويستبدل بها طمأنينة مشروطة، لا تُطلب فيها الأصالة، بل المهارة في ترتيب الكلمات وتدويرها ضمن قوالب مكررة.
ومن منظار آخر أن التبعية لا تعني الاتفاق في الرأي، بل التخلي عن جوهر التفكير الفردي. حين يكتب المثقف ما لا يؤمن به تمامًا، أو يتجنب قضايا جوهرية لأن الخوض فيها "غير مناسب"، أو حين يعتذر مسبقًا عن آرائه ليبقى في منطقة رمادية، فإنه في الحقيقة يسهم في إنتاج ثقافة خرساء، تتكلم كثيرًا لكنها لا تقول شيئًا. إنه حينذاك يتحول إلى ترس في ماكينة، لا يجرؤ على الخروج منها، بل يفضل أن يُدير نفسه مع دورانها، خوفًا من أن يُقذف خارجه. هذه هي التبعية في أقسى صورها: أن تصبح الحرية شيئًا يُخاف منه، لا يُطمح إليه.
لكن مقابل هذا التواطؤ، يظهر نموذج نادر لمثقف يرفض أن يكون تابعًا، لا للسلطة، ولا للجمهور، ولا للأيديولوجيا. إنه المثقف الذي قد يدفع ثمن عزلته، لكنه لا يقايضها بثمن خيانة الذات. المثقف الحقيقي لا يتحصّن خلف الإجماع، بل يسعى إلى خلخلته إن اقتضى الأمر، لأنه يعلم أن الفكرة الأصيلة لا تُولد من التكرار، بل من التوتر، من المواجهة، من اختراق السائد. هذا النموذج يُذكّرنا بأن الثقافة، في جوهرها، فعل مقاومة لا تزلف، ومغامرة لا مراوغة، وشهادة لا ترويج.
ويذهب جورج سانتايانا إلى إن "من يجهل ثقافته محكوم أن يكرر أخطاءها". – من كتاب حياة العقل
ويجب الأخذ بالحسبان من إن معركة المثقف اليوم ليست مع الآخر فحسب، بل مع ذاته أولًا؛ أن لا يخدع نفسه حين يكتب، ولا يلبس أفكاره أقنعة التهذيب الزائف. فحين يتحول المثقف إلى موظف في خطاب جاهز، يخسر الثقافة وتخسره. وإن كان لا بد من ثمن، فليكن عزلة فكرية مشرفة، خير من مجد زائف لا يترك خلفه سوى التكرار والصمت. المثقف الذي يواجه التبعية ليس هو الأعلى صوتًا، بل الأصدق ضميرًا، والأعمق قدرة على رفض التماثل حين يُصبح هو القاعدة، والسؤال حين يُصبح الخطر.
وبوجيز العبارة إن التبعية الفكرية ليست مجرّد علاقة سلطوية بين الحاكم والمثقف، بل هي في جوهرها تحوّل في البنية الداخلية للعقل، حيث يستبدل التفكير بالتلقّي، والحفر في المعنى بإعادة التدوير. إنها لحظة دقيقة يبدأ فيها المثقف بالتنازل، لا لأنه مجبر، بل لأنه وجد في الامتثال خلاصًا من إرهاق الصراع. المثقف الذي كان ينبغي أن يكون قلقًا بطبعه، ومؤرّقًا بأسئلته، ينزلق إلى راحة الاجترار؛ يتكلم لغة غيره، ويدافع عن منظومات لا ينتمي إليها، ويخشى أن يُقال عنه إنه “خارج السرب”. وهكذا لا يعود السرب حشدًا فكريًا حيًّا، بل يتحوّل إلى قطيع رمزي، لا يجرؤ أحد أن يُحدّق في عينيه.
مراجع المقال:
1. المدينة في تفكير الغرب – شحاتة صيام، دار قباء، 2011.
2. في نقد الحاجة إلى الإصلاح – حسن حنفي، دار الفكر المعاصر، 1999.
3. ثقافتنا في مواجهة العصر – جلال أمين، دار الشروق، 2002.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
- قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
- المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
- صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ


المزيد.....




- بسرعة ودقة.. شاهد لحظة اقتحام مستودع وسرقة مجوهرات بمليون دو ...
- زلزال عنيف بقوة 8.8 درجة يوقظ المحيط ويهدد قارات العالم في ل ...
- لماذا يُعتبر قرار ستارمر الاعتراف بدولة فلسطينية، تغيّراً في ...
- وسط معارضة إسرائيلية وأمريكية.. بارو يعلن أن 15 دولة أخرى تع ...
- إسرائيل تبدأ ترحيل ناشطي سفينة -حنظلة- بعد محاولتهم كسر الحص ...
- تسعة أشهر على فيضانات فالنسيا.. مظاهرات تطالب باستقالة الحكو ...
- ألمانيا تطلق خطة مشتريات دفاعية ضخمة -بهدف تعزيز قدراتها ال ...
- عمليات إخلاء وتحذيرات من تسونامي عبر دول المحيط الهادي
- هندسة المناخ: باحثون من جامعة واشنطن قاموا -سرا- بتجربة مثير ...
- إسرائيل ومحمد: عرض مسرحي عن علاقة الأبناء بالآباء وصدمات الط ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)