أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)














المزيد.....

المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 21:28
المحور: قضايا ثقافية
    


في هذا الصراع المستمر بين الانتماء والتحرر، يجد المثقف نفسه مجبرًا على الموازنة بين حاجته للقبول الاجتماعي ورغبته في قول الحقيقة كما يراها. فالقول المستقل ليس مجرد خيار بل هو فعل مقاومة، وغالبًا ما يكون مكلفًا في بيئات لا تتسامح مع الخروج عن النسق. وربما ما يزيد الطين بلّة أن القوالب التي تأسر المثقف ليست دائمًا مفروضة عليه من الخارج فحسب، بل قد تنبع أيضًا من داخله؛ من حاجته إلى الاعتراف، إلى الانتماء، إلى الأمان. في هذه الحالة، يصبح الخضوع للقوالب فعلًا لا واعيًا، يظنه البعض ذكاءً أو "واقعية"، لكنه في حقيقته تنازل تدريجي عن الدور الجوهري للمثقف.
وبطبيعة الحال، تتجلى الأزمة أيضًا في العلاقة بين المثقف والجمهور. فبينما يُفترض أن تكون هذه العلاقة قائمة على التنوير المتبادل، كثيرًا ما تصبح علاقة تبعية أو مهادنة. فالجمهور قد لا يحتمل خطابًا يهز ثوابته، وقد يدفع المثقف للانزلاق إلى ما يُرضي الأغلبية بدلًا من مواجهتها. هكذا يتحول الفكر من أداة للتحرير إلى سلعة تُباع ضمن شروط السوق الثقافي، ومن خطاب حُر إلى خطاب ترويجي ناعم، يفقد قدرته على زعزعة السائد. وقد يبرر المثقف ذلك بأن "التغيير لا يأتي دفعة واحدة"، أو أن "الناس غير مستعدة بعد"، وهي تبريرات تحمل في طياتها خوفًا من العزلة أو الطرد من الحظيرة.
على الجانب الآخر، ثمّة مثقفون يختارون العزلة كنوع من المقاومة. ينسحبون من ساحات الجدل العام حين تصبح خاضعة لابتذال جماهيري أو رقابة سلطوية. هذا الانسحاب، وإن بدا جبنًا أحيانًا، قد يكون أيضًا موقفًا احتجاجيًا صامتًا، أو حفاظًا على نقاء الفكرة وسط ضجيج لا يترك مجالًا للفكر المستقل كي يُصغي إليه أحد. إلا أن هذه العزلة ليست حلًا دائمًا، فالمثقف لا يُبقي على صفة "المثقف" إلا من خلال انخراطه، حضوره، ومساهمته في إنتاج المعنى داخل مجتمعه، لا خارجه.
المفارقة الكبرى أن المجتمع نفسه يحتاج إلى هذا المثقف "الأسير"، حتى لو أنكر ذلك. ففي لحظات الأزمات والتحولات، يتطلع الجميع إلى من يملك رؤية أو بوصلة. هنا فقط يعود صوت المثقف – ذلك الذي ربما جرى تهميشه سابقًا – ليصبح مطلبًا، بل وضرورة. هذه الديناميكية تكشف أن المثقف، حتى في أضعف حالاته، يظل عنصرًا حيويًا في نسيج المجتمع، وأن الحاجة إليه لا تسقط حتى عندما يُدفع نحو الصمت أو التهميش.
في المقابل، هناك محاولات صادقة للخروج من هذه الأسر، لكنها غالبًا ما تكون مكلفة. المثقف الحرّ، في كثير من الأحيان، يدفع ثمن استقلاله من استقراره الاجتماعي أو أمانه الاقتصادي. وقد يجد نفسه على هامش الفضاء الثقافي، أو مستبعَدًا من منصات التأثير، لأنه رفض التماهي مع السائد. هنا تتجلى المأساة: فبينما يتغنى المجتمع بحرية الفكر، فإنه يعاقب من يمارسها فعليًا. وهذا ما يجعل استقلال الفكر لدى المثقف معركة يومية، لا حالة ثابتة.
ومع ذلك، فإن أهمية المثقف لا تكمن في كونه صوتًا دائمًا للرفض، بل في قدرته على مساءلة المسلمات، وكشف التناقضات، وفتح نوافذ جديدة للتفكير. وحتى في لحظات الصمت أو التردد، فإن وعي المثقف بأسْره هو الخطوة الأولى نحو تحرره. ربما لا يمكنه أن يكون حرًا بالكامل، لكن وعيه بقيوده يمنحه إمكانية الانفكاك عنها، ولو جزئيًا.
ومن هذا المنطلق، نرى إن المثقف الذي يقف بين قوالب المجتمع وسؤال الاستقلال، يعيش حالة من التوتر الخلّاق. هذا التوتر، على قسوته، هو ما يبقي الفكر حيًا، والنقد ممكنًا، والتغيير واردًا. وفي زمن تتكاثر فيه الأصوات وتتشابه، يبقى للمثقف الحقيقي – حتى في أسره – بصمة لا تُنسى.
في نهاية المطاف، ليست حرية المثقف هدفًا يُنال مرة واحدة، بل هي معركة مستمرة ضد أشكال دقيقة وخفية من السيطرة والترويض. وهي معركة تُخاض ليس فقط بالكتابة والخطابة، بل أيضًا بالصمت المدروس، بالمواقف الصغيرة، وبالإصرار على ألا يتحول الفكر إلى تكرار. وربما لا يكون المثقف حرًا تمامًا أبدًا، لكنه يظل حرًّا بمقدار وعيه بأسره، ومقاومته له، ورفضه المستمر لأن يُختزل في دور، أو يُجبر على خطاب، أو يُصاغ وفق مقاسات السلطة أو الجمهور.
وبناءً على ذلك، يرى "سارتر أن المثقف الحقيقي هو من يستخدم عقله ووعيه لفضح الظلم والفساد، ويدعو إلى التغيير الاجتماعي".
وهكذا، يبقى المثقف في موقعه الحدّي: لا هو جزء كامل من المنظومة، ولا هو خارج عنها تمامًا. هذا الموقع، وإن كان مرهقًا، هو ما يمنحه قيمته وفرادته. ففي زمن يكثر فيه الكلام، يبقى صوت المثقف الحقيقي نادرًا لا لأنه الأعلى، بل لأنه الأصدق.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
- خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
- نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
- من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
- الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
- الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
- مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س ...
- الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة
- المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين


المزيد.....




- -وعود مبالغ فيها-.. خبراء يشككون في خطة ستارمر لوقف الهجرة غ ...
- 3 هزائم لنتنياهو ستطارده وتقضي عليه
- مبعوث ترامب سيزور الشرق الأوسط بشأن غزة.. والخارجية الأمريكي ...
- مشروع استيطاني جديد.. خطة إسرائيلية لتحويل غزة إلى وجهة سياح ...
- محادثات محفوفة بالتوتر بين إيران والترويكا الأوروبية في إسطن ...
- سوريا تشكل لجنة تحقيق في إعدامات بالسويداء
- بريطانيا تهدد إسرائيل.. تحول حقيقي أم مجرد رسائل إعلامية؟
- براك لرويترز: لا بديل للنظام الحالي بسوريا وفظائع السويداء ل ...
- مستشفى الشفاء يعلن وفاة 21 طفلا جراء التجويع في غزة
- ما دلالات التصعيد البريطاني ضد إسرائيل؟


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)