أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - تزوير التاريخ وتزييف الحقائق















المزيد.....

تزوير التاريخ وتزييف الحقائق


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 23:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ليس أمرًا طارئًا على المجتمعات، حين نلتمس تزويرا للتاريخ وتزييفا لحقائقه، بل هو سلوك متجذر في كل حقبة شهدت صراعًا على السلطة أو الفكر أو الدين، لا سيما في التاريخ الاسلامي. فالتاريخ ليس مجرّد وقائع توثق ما جرى، بل هو في كثير من الأحيان مرآة لأهواء من كتبه أو تبنّاه أو سوّقه، كما يرى ابن خلدون في مقدمته، وغوستاف لوبون في كتابه "فلسفة التاريخ". وعندما يبرز كتاب مثل كتاب "أشهر الطغاة في التاريخ" لكاتب مجهول والذي يكتفي بتوقيع نفسه بـ "الحسيني الحسيني معدي"، حيث يدرج شخصيات مثل: فرويد، وماركس، ويقرنهما بهامان، وعبد الله بن سبأ، وفرعون، وأسماء أخرى علمية وفلسفية، ويدرجهم على أنهم طغاة، لذا ندرك أننا أمام محاولة جديدة لإعادة تشكيل الوعي العام من خلال رؤية انتقائية تعيد تصنيف الشخصيات التاريخية وفق ميزان غير موضوعي، بل أيديولوجي ونفسي في الغالب.
الكتاب يعرض قائمة من مائة شخصية يعتبرهم المؤلف "طغاة"، لكن التناقض في الأسماء يكشف بوضوح أن الاختيار لم يكن مبنيًا على معايير متسقة أو منطق تاريخي علمي، وإنما على انتقائية ذاتية تنطلق من تصور ضيق للطغيان، يتداخل فيه السياسي مع الديني، والعلمي مع النفسي، والفكري مع الخيالي. إدراج شخصيات مثل هامان وفرعون وبي لهب – الشخصية الرمزية المرتبطة بالقرآن والتي يشكك بعض المؤرخين في وجودها التاريخي كمصدر مستقل – يدل على أن المؤلف يعتمد على البعد الرمزي والديني أكثر من اعتماده على الوقائع التاريخية. أما حين نقرأ أن فرويد، مؤسس التحليل النفسي، أو كارل ماركس، صاحب الفكر الاشتراكي، ضمن قائمة الطغاة، فالسؤال الذي يفرض نفسه: هل يُحاكم المفكر على أفكاره أم على نتائج استغلالها؟ وهل يُعتبر صاحب النظرية مذنبًا لأن آخرين استخدموا أفكاره في أنظمة قمعية؟.
أعتقد أن هذا المؤلف مأجون، ومدفون الثمن، تبنته جهة أرادت أن تبني نظرية معينة، هذه النظرية، هدفها تزوير التاريخ، وطمس الحقائق، بحيث حينما تأتي الاجيال القادمة، تتبنى هذه النظرية، وتعدها حقيقة ثابتة، وهذا الأمر بصعبة بمكان، ويجب أن نلتفت اليه.
المشكلة الأعمق أن المؤلف لا يميز بين من مارس الطغيان كسلطة سياسية استبدادية، وبين من كان مجرد فاعل فكري أثّر في مسار التاريخ، سواء بالسلب أو الإيجاب. صدام حسين ومعمر القذافي، مثلًا، هما مثالان لحكام مارسوا قمعًا ممنهجًا، لكن لا يمكن اختزال تجربتيهما بالكامل تحت عنوان "الطغيان" – بالمعنى العام - دون الاعتراف أيضًا بوجود لحظات من البناء أو الاستقلال الوطني، مهما كانت محاطة بالجدل. أما أن توضع أسماء كفرويد وماركس بجانبهم، فهذا يشي بأن الكاتب يريد أن يُسقط رؤيته العقائدية الخاصة على كل من يخالفها، سواء في الفكر أو في السلوك.
هنا تحديدًا تتجلّى أزمة التاريخ المُسيّس، حين يتحوّل المؤرخ أو الكاتب إلى قاضٍ يحاكم النوايا لا الوقائع، ويصدر أحكامًا أخلاقية على شخصيات كان لها أثر عميق ومعقد في مجرى التاريخ الإنساني. فالطغيان في هذا السياق لم يعد مجرد سلوك سلطوي دموي، بل أصبح أي خروج عن النسق الفكري الذي يتبناه الكاتب. وهنا نكون أمام نمط فكري مغلق يختزل العالم في معسكرين: خير مطلق وشر مطلق، وهي الرؤية ذاتها التي ساهمت عبر التاريخ في تأجيج الحروب والمظالم الكبرى.
فما بالك بأحداث وقعت قبل أكثر من اربعة عشر قرنا من الزمن، بأكيد قد زُورت أحداث على أنها حقائق ساطعة، وأحداث حقيقية على أنها مزيفة، وذلك لتوجهات المؤرخ الفئوية، والعقائدية والفكرية.
وإذا كنا نجد هذا التبسيط المخل في تعاطي المؤلف مع التاريخ الحديث، الذي لم تمضِ عليه سوى عقود قليلة وما زالت وثائقه وشهاداته حية، فكيف يمكن أن نثق بقراءات تراثية تعود إلى أربعة عشر قرنًا وأكثر؟، - كما ذكرنا قبل قليل - ما الضامن أن الروايات التي وصلتنا عن الصراعات الأولى في الإسلام مثل الفتنة الكبرى أو حروب الردة أو أحداث كربلاء أو الخلافات المذهبية لم تتعرض لذات التزوير أو التحريف؟ حين نُسلم بوجود هذا النمط من الكتابة الذي يصنّف ويجرّم ويقدّس حسب المزاج العقائدي أو السياسي، فإننا نقر ضمنًا بأن التاريخ قد يكون أقرب إلى الرواية منه إلى الحقيقة.
الكاتب المجهول الذي يقدّم هذا العمل يختبئ خلف اسم مزدوج "الحسيني الحسيني معدي"، مما يضفي على النص بعدًا غامضًا، لكنه أيضًا يثير الريبة. فعدم الإفصاح عن الهوية لا يخدم فكرة الموضوعية أو الجرأة كما قد يتوهم البعض، بل يعكس في كثير من الأحيان محاولة لتجنب المساءلة أو تحمل مسؤولية الفكرة. وهو ما يقلل من القيمة العلمية للنص، ويجعله أقرب إلى منشور أيديولوجي منه إلى عمل تأريخي موثق.
في الواقع، انتشار مثل هذه الكتب في البيئات الثقافية العربية ليس مجرد مصادفة، بل يرتبط بحالة من الاستقطاب الحاد الذي يجعل الجمهور أكثر ميلًا إلى تبني السرديات الجاهزة، خصوصًا تلك التي تؤكد قناعاته المسبقة أو تقدم له عدوًا واضحًا يمكن أن يحمّله مسؤولية الإخفاقات الجماعية. هنا يلعب تزوير التاريخ دورًا مريحًا نفسيًا، لكنه مدمّر معرفيًا، لأنه يحجب عن الناس القدرة على التفكير النقدي والتحليلي، ويدفعهم إلى القبول بمرويات مشوهة فقط لأنها تتناغم مع ما يريدون تصديقه.
ولعل أخطر ما في هذا النوع من الكتابات هو أنها تصدر أحكامًا نهائية، مغلقة، غير قابلة للنقاش أو التأمل. إذ يصبح كل من يتعاطف مع إحدى الشخصيات المذكورة، أو يرى فيها أبعادًا إنسانية أو فكرية مختلفة، خائنًا أو مضللًا. وهكذا يتحول التاريخ من ميدان للبحث والفهم، إلى أداة للوصم والإقصاء.
خلاصة القول، أن كتاب مائة طاغية من التاريخ لا يقدّم لنا قراءة حقيقية للطغيان، بل قراءة متحيزة لما يراه الكاتب خروجًا عن النسق. ومع أن بعض الأسماء المذكورة تستحق النقد وربما الإدانة، فإن طريقة تقديمها ضمن سردية موحدة تدمج بين الفيلسوف والطاغية الحقيقي تشي بأن الأمر لا يتعلق بالحقائق بقدر ما يتعلق بتسويق رؤية خاصة للوجود والتاريخ. ولهذا، فإن التعامل مع مثل هذه النصوص يجب أن يكون نقديًا، حذرًا، وواعيًا بخلفياتها، حتى لا نقع مرة أخرى ضحية لروايات تم تصميمها خصيصًا لتزوير الذاكرة الجماعية باسم الحقيقة.
وهنا تكمن الخطورة، لذا عليها أن نتوقى الحيطة والحذر ونحن نقرأ الأحداث التاريخية، وأن لا نصدق بكل ما نقرأه، فالحذر، من تلك الكتب القديمة، بل وحتى الحديثة، التي تغطت بغطاء حداثوي، كهذا الكتاب آنف الذكر.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
- خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
- نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
- من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
- الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
- الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
- مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س ...
- الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة
- المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين
- الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد ...
- البُعد العاطفي والنفسي في قصيدة (أوراق مُعادن) للشاعر علي ال ...
- الأسى وسطوة الفقد في نص (قشعريرة نبض) للشاعرة سوسن يحيى
- الذات والهوية في نص (ليسَ غريباً عني) للشاعرة رجاء الغانمي
- المُسحة الجمالية في (ارهاصات أنثى) للشاعرة ورود الدليمي
- الاغتراب النفسي في أغنية (مرينة بيكم حمد) للكبير ياس خضر
- رواية العمى: فلسفة انهيار المبادئ والقيّم
- الترابط والموضوعية في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم
- النسق وبناء النص عند الشاعرة فراقد السعد


المزيد.....




- خلال زيارته لبلدة الطيبة والاطلاع على اعتداءات المستوطنين د ...
- TOYOUR EL-JANAH KIDES TV .. تردد قناة طيور الجنة بيبي على نا ...
- 400 عالم يؤيدون فتوى تصنيف من يُهددون المرجعية، بالحرابة
- بروجردي.. إيران الإسلامية ستتحول لواحدة من القوى الكبرى في ا ...
- الاحتلال الإسرائيلي يعتقل عرفات نجيب أحد حراس المسجد الأقصى ...
- الاحتلال يعتقل أحد حراس المسجد الأقصى
- إيهود أولمرت: اليهود يقتلون الفلسطينيين يوميا بالضفة
- -المسجد الإبراهيمي بين عراقة التاريخ وتحديات التهويد- انتصا ...
- “متعة جنونية” تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي ...
- ماما جابت بيبي..حدث تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر نايل ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - تزوير التاريخ وتزييف الحقائق