أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين















المزيد.....

المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 20:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الدين، في جوهره، هو أحد أعظم التجليات الروحية والفكرية في حياة الإنسان. لطالما كان وسيلة لتنظيم العلاقات الاجتماعية، وتزكية النفس، والبحث عن الغاية من الوجود. ولكن عبر التاريخ، لم يَسلم الدين – رغم قدسيته – من محاولات التحوير والاستغلال، خاصة من أولئك الذين نُصبوا أنفسهم أو نُصّبوا "رجال دين"، فجعلوا من أنفسهم وسطاء بين الإنسان وربه، ومن الدين وسيلة لتحقيق مصالح دنيوية: سلطة، مال، نفوذ. وهذه بحدّ ذاتها مشكلة عويصة، تلقي بظلالها على واقعنا الحاضر، بل هي مشكلة المشاكل، فكل حروبنا وتشتتنا يقع على رؤوس هذه الفئة المعينة من المجتمع.
فمنطقيا، الرسالات السماوية جميعها – من الإسلام، والمسيحية، واليهودية، إلى الديانات الشرقية – جاءت لتعلّم الإنسان القيم العليا: الرحمة، العدل، الصدق، المحبة، التواضع. لم يكن هدفها بناء طبقات سلطوية ولا خلق كهنوت يحتكر الفهم والتفسير، بل تحرير الإنسان من الجهل والعبودية والتبعية. جاء في القرآن: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ويقول المسيح في إنجيل متى: "أنتم ملح الأرض… أنتم نور العالم"، في دلالة على أن أتباع الدين يجب أن يكونوا مصدر خير ونور، للبشرية كافة، لا قيدًا على الآخرين، فهم أحرارا فيما يعبدون، ويمارسون طقوسهم حسبما يشاؤون.
وكما يحدثنا التاريخ، إنّه في عصور مختلفة، شهدنا تحوّل رجال الدين من مصلحين إلى "وسطاء" بين الخالق والمخلوق، وتحول الدين إلى أداة لإدامة الواقع السياسي أو تثبيت السلطة، لا لتحرير الإنسان من الظلم. وهو ما يرفضه الواقع والمنطق السليم، بل وحتى فطرة الانسان.
في أوروبا القرون الوسطى، أصبح رجال الدين الكاثوليك جزءًا من السلطة السياسية. إذ تحالفت الكنيسة مع الملوك، وباعت صكوك الغفران، وفرضت الهيمنة على العقول والعلوم، فحرّمت الأفكار المخالفة، وسجنت أو حرقت المفكرين. المثال الأشهر هو غاليليو، الذي حُكم عليه بسبب تبنّيه فكرة مركزية الشمس، واللاهوتي الفيلسوف برونو. إلى أن جاءت الحداثة، فخففت الوطأة وأعطت العقل مساحة واسعة لأخذ دوره في هذا المعترك.
ولو نظرنا إلى التاريخ الإسلامي، سنجد رجال الدين في البداية غير طبقة منفصلة، بل كانوا فقهاء وعلماء بين الناس. ولكن مع تعاظم الدولة، بدأت السلطة تستخدم الفقهاء لتبرير سياساتها. من نماذج ذلك استخدام بعض الفقهاء لتبرير حكم السلاطين والملوك، أو تمرير فتاوى تخدم المصالح السياسية، حتى وإن تعارضت مع مقاصد الشريعة. هذا يتكرر حتى اليوم في دول عديدة، حيث يُستدعى "رجال دين رسميون" ليبرروا الظلم، القمع، أو التطبيع باسم الدين.
ثم إنّ الأمر لا يقتصر على الديانات الإبراهيمية. في البوذية والهندوسية مثلًا، جرى استغلال الدين لتبرير النظام الطبقي، وتكريس الامتيازات لطبقات الكهنة. فأصبحت الطبقات الدنيا تُمنع من مجرد لمس الكتب المقدسة، وكأن الحقيقة حكرٌ على نخبة روحية تتحكم بالمقدّس. ولما جاء القديس مارتر لوثر، تغيرت أمور كثيرة، وصار تحجيم كبير لفئة معينة من رجال الكنيسة، الذين احتكروا الدين، وصاروا يبيعون صكوك الغفران.
لهذا نجد رجال الدين استغلوا عدة آليات لتحقيق هذا النفوذ، منها احتكار التفسير، حيث يدّعي رجل الدين أن له فهمًا خاصًا لا يملكه غيره، فيُصبح "كلامه" هو الدين، ويُخوّن من يخالفه. ومن أبرزها أيضًا تسييس الفتوى، أي تكييف النصوص لتبرير قرارات سياسية أو أخلاقية، حتى إن كانت مخالفة لمقاصد الدين، وروح الشريعة. ثم هناك سلاح التكفير والتخوين، حيث يُستخدم الدين كسلاح ضد الخصوم، سواء كانوا سياسيين، مثقفين، أو حتى من نفس الدين الواحد. ولا يمكن إغفال استغلال العواطف الدينية، عبر إحياء مناسبات دينية بطرق تخدم النفوذ لا الإيمان، أو جمع الأموال تحت شعارات زائفة. وأخيرًا، التلاعب بالجهل، فغياب الوعي الديني السليم يُسهّل السيطرة على العقول، خصوصًا في المجتمعات التي تفتقر للتعليم الديني العقلاني، من الذين يسمون الاصلاحيين.
ومن اللافت للنظر، إنّه عندما يُستغل الدين، تظهر نتائج كارثية (كما نجدها اليوم وعلى نطاق عام، لاسيما في مجتمعاتنا العربية والاسلامية على حدٍّ سواء). من أبرزها التعصب والطائفية، حيث يُربّى الناس على كراهية المختلف باسم الدفاع عن العقيدة. كما يُستخدم الدين لقمع حرية التعبير والفكر والإبداع، والحريات الشخصية، بادعاء حماية "الثوابت". ويتستّر الظالمون خلف رجال الدين، فيتحولون إلى قديسين رغم فسادهم. والأسوأ من كل ذلك أن الناس يبتعدون عن الدين الحقيقي بسبب أفعال "رجاله"، فيتزايد الإلحاد أو النفور الروحي، لا رفضًا لله أو القيم، بل هربًا من التسلط والتناقض.
والحل – بحسب رؤياي - لا يكون بمحاربة الدين، بل بتحريره من قبضة المستغلين. من الضروري أن ندرك أن نقد رجال الدين لا يعني نقد الدين نفسه، وأن الدين في جوهره علاقة بين الإنسان وربه، ليست بحاجة إلى وسطاء يُهيمنون على الضمير. ويجب أن نعمل على تجديد الخطاب الديني، من خلال علماء مستقلين، يجمعون بين العقل والنقل، ويؤمنون بحرية الإنسان. كما أن التعليم الديني العقلاني ضروري، تعليم يركز على المقاصد، الأخلاق، والتفكر، لا على الطاعة العمياء. ومن المهم أيضًا فصل الدين عن السلطة، لضمان أن يبقى الدين مصدرًا للقيم لا أداة للقهر، أي نحث على تطبيق النظام العلماني، لأن هذا النظام يحقق الحرية والحقوق للجميع.
ونختم بالقول: الدين ليس المشكلة، بل الذين يتخذونه سُلّمًا للنفوذ، باستغلال البسطاء من الناس. رجال الدين ليسوا فوق النقد، بل يجب أن يخضعوا للمساءلة، مثل أي سلطة بشرية. إن الإنسان لا يحتاج إلى "كهنة" ليتقرّب إلى الله، بل يحتاج إلى وعي، وصدق، وعقل مفتوح. وحده الدين الذي يُحرّر الإنسان من الخوف والخضوع الأعمى، هو الدين الذي يستحق أن يُتّبع.
مصادر المقال:
1: فويرباخ، أفكار حول الموت والأزلية، دار الرافدين، بيروت لبنان، الطبعة الثانية لسنة 2019، ترجمة نبيل فياض.
2: ايمانويل كانت، محاضرات في التعلم الفلسفي للدين، منشورات دار الرافدين، الطبعة الاولى لسنة 2022، ترجمة جوزيف معلوف.
3: الدكتور علي الوردي، وعاض السلطين، منشورات دار كوفان – لندن سنة الطبع 1995.
4: عبد الله القصيمي، عاشق لعار التاريخ، منشورات دار الجمل، المانيا – بغداد لسنة 2006.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد ...
- البُعد العاطفي والنفسي في قصيدة (أوراق مُعادن) للشاعر علي ال ...
- الأسى وسطوة الفقد في نص (قشعريرة نبض) للشاعرة سوسن يحيى
- الذات والهوية في نص (ليسَ غريباً عني) للشاعرة رجاء الغانمي
- المُسحة الجمالية في (ارهاصات أنثى) للشاعرة ورود الدليمي
- الاغتراب النفسي في أغنية (مرينة بيكم حمد) للكبير ياس خضر
- رواية العمى: فلسفة انهيار المبادئ والقيّم
- الترابط والموضوعية في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم
- النسق وبناء النص عند الشاعرة فراقد السعد
- عشرة كتب غيّرت قناعاتي الفكرية والمعرفية1/ 10
- الجزالة والبُعد الوجودي في (مرايا البحر) للشاعرة السورية هوي ...
- مفهوم الدين عند فويرباخ 1/ 2
- هل الكتابة ابتكار؟
- شعاع ابيضّ - نافذة سوداء تأسيس لسمو الإنسان للقاص حميد محمد ...
- الدهشة والمفارقة في (وجه أزرق) للقاص عبد الحسين العبيدي
- خالد القطان-إلى المنفى أو تقويم الأحزان
- النزعة الوجودية عند دوستويفسكي
- البناء النصي في مجموعة (تحت صواري ديسمبر) لزينب التميمي
- ماركس.. مؤسس المدينة الاقتصادية
- تولستوي.. اعترافات أم تخبط فكري؟


المزيد.....




- toyour el-janah kides tv .. تردد قناة طيور الجنة على القمر ا ...
- سوريا: تنظيم -داعش- الإرهابي يقف وراء تفجير الكنيسة بدمشق
- البابا ليو: يجب عدم التساهل مع أي انتهاك في الكنيسة
- حماس: إغلاق المسجد الأقصى تصعيد خطير وانتهاك صارخ للوضع التا ...
- سلي أطفالك في الحر.. طريقة تحديث تردد قناة طيور الجنة 2025 T ...
- صحفي يهودي: مشروع -إسرائيل الكبرى- هدفه محو الشرق الأوسط
- نبوءة حزقيال وحرب إيران وتمهيد الخلاص المسيحاني لإسرائيل
- الجهاد الاسلامي: الإدارة الأميركية الراعي الرسمي لـ-إرهاب ال ...
- المرشد الأعلى علي خامنئي اختار 3 شخصيات لخلافته في حال اغتيا ...
- حماس: إحراق المستوطنين للقرآن امتداد للحرب الدينية التي يقود ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين