|
الجزالة والبُعد الوجودي في (مرايا البحر) للشاعرة السورية هويدا محمد مصطفى
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8346 - 2025 / 5 / 18 - 14:05
المحور:
الادب والفن
*توطئة الشعر عند الشاعرة السورية هويدا محمد مصطفى، هو ليس بنزة أدبية عابرة، حالها حال الكثير من القضايا الجوهرية التي تنتاب الإنسان (على اعتبار الإنسان عقل مفكر، وكيان يتحسس الأشياء، ويلمسها عن كثب) ثم تختفي ريثما تستقر حالته النفسية؛ بل الشعر عندها هو ثورة فكرية إنسانية، تنفجر في أي لحظة، وبانفجارها سيحدث تغييرا جذريا في ملامح الحياة (بكل مستويات الحياة)، وبالتالي ستظهر النتائج والمواقف الإنسانية، جراء ذلك التغيير، التغيير الذي يقود بيده قارب الحياة، فينتشلها من جذورها، ومن قوقعتها في بحبوحة ضيقة الأفق. الشعر عند شاعرتنا هو كفتاح ضد التقوقع، والانعزالية المتغطرسة في مجتمعاتها العربية والاسلامية، على حدٍ سواء، مجتمعاتنا الغارقة بالحنين إلى الماضي، ومنشدّة إلى دهاليز تراث الأجداد، وتشيح بوجهها عن كل ما هو جديد نهضوي. لذا نجدها تصدح للحب والوطن، للناس والحياة، للفرح والسرور، للشجن الذي يراد منه الرفض لكل مسميات العنف الضارب أطنابه في اعماق شعوبنا، ولا يريد الانفكاك منه. وعليه، نجد شاعتنا تحمل على عاتقها هما كبيرا، وهذا الهم هو عبارة عن رسالة بوح صارخ، ومكامن وخلجات قابلة للانفجار، وما هذا الانفجار إلّا قصائد شجن تخرج من الداخل، من سويداء القلب، ملامسة شغافه بهمس لبوح مستغاث. أولاً: في العنوان ولا ابالغ حيث أقول: إن اختيار الشاعرة العنوان لديوانها الشعري "مرايا البحر" إنّه اختيار موفق، ولم يأت على حين غرة، بل كان اختيارا عن دراية وفكرة مسبقة، ومدروسة بعناية فائقة. فالبحر رمز يعني للشاعرة الكثير، ربما هو رمز للعطاء، للخير، للغياب الشاسع، وربما يعني الحياة، الحياة بكل تجلياتها وديمومتها وعطائها غير المحدود، أو حتى الوجود، لأنّ الوجود أقل ما نروم أن نعبّر عنه سنقول: بحر متلاطم الأمواج، فمن هذا الباب جاء العنوان. ثانياً: الصورة الشعرية تمتلك الشاعرة قابلية عالية لرسم الصور الشعرية، فتصيغها كما يصوغ الصائغ القرط الذي يروم صياغته، بحرفة، ودراية عالية؛ وهذا يدل على قابليتها على صياغة المعاني الشعرية، كونها متمكنة من أدواتها الشعرية والفنية، كذلك قاموسها اللغوي، والمفردات التي تختارها بدقة وعناية فائقتين. وهي تكتب القصيدة العمودية والتفعيلية والنثرية، وتجيد ذلك. فمن قصيدة عمودية لها تحت عنوان "سأظلّ أحلم" تقول في بيت من هذه القصيدة: (ما كنت أمنح للسنين نضارة... بل كنت أرقب عتمة الأحزان) وهذا البيت يُمثل قمة الشجن، والاحباط النفسي، عندما يتعرّض الانسان إلى موقف: إنساني أو شخصي، أو حتى حدث عام فيه صدع لحالة انسان اتعبته السنين، وأضرمت به نار الاحزان، فجعلته يخوض في بحر اليأس فيندب حظه العاثر. صورة أخرى من ثورة شعرية كثيرة للشاعرة، من قصيدة وضعت الشاعرة لها عنوان "هي الدنيا" ص 87. تقول: (ذرفت الدمع في الديجور حتما... عسى الأيام تلهمني الأمورا) وكلنا نعلم أن "الديجور" هو الظلام، أو اشتداد الليل، وهذا يعني أن الأمور قد وصلت إلى ذروتها، وهذا رمز اتخذته الشاعرة، لتكالب الدهر أو المحن، سواء كانت الشاعرة تصف حالتها الشخصية، أو حال الناس الذين يحيطون بها، وما مر بهم من وضع وزي، لا يُحسد عليها، فهو وصف عام يراد به، حالة ارباك قد حصلت. ثالثا: في اللغة تحمل الشاعرة أشبه بقاموس لغوي من الكلمات والمفردات الشعرية الأخاذة، وكذلك اللغوية بما يكفي أن تكتب مئات وربما أكثر: من القصائد والأبيات الشعرية، بحيث يبقى قاموسها الشعري ممتلئً، فاللغة التي تستخدمها الشاعرية، لغة حية وناضجة. رابعا: الانزياح الشعري للشاعرة قابلية ممتازة في تطويع الحروف، وامكانية هائلة في الانزياح وتمسرح الكلمات في داخل النص، بحركة ديناميكية فاعلة، وهذا وجدته في أكثر قصائد هذا الديوان. ففي نص بعنوان "ظل وجهك" ص 18، حيث نقرأ: "الغربة فينا/ والعمر يغتسل بالسنين/ في صمت يدور/ نحن نتقاسم وجه المنفى/ المثقل بالدموع.. بالجوع/ على طاولة خرساء). والطاولة الخرساء تمثّل قمة الانزياح الشعري، وهي الصورة التي عبّرت من خلالها الشاعرة عن القلق والخوف من المجهول، لاسيما حين تصل الأمور إلى طريق مغلق، ويكون الإنسان في حيرة من أمره، فليس عليه من اليسر أن يقرر أي قرار، سلبا كان أم ايجابا، وهو من اصعب على ما يمر بالإنسان. ولها ايضا من نص آخر تحت عنوان "على عتبة الحب" ص 4 نقرأ: "عابرون نوقظ الحلم/ من مضجعه/ نحاول فك أزرار الليل/ نرتب وسائد الشوق/ غارقين بصمتنا المجروح". والحق يقال: هذا المقطع هو أشد محنة من النص الذي سبقه، فهو صارخ بالشجن، وفيه انزياح واضح في الخطاب الشعري، نص ابداعي عبرت فيها الشاعرة عن قابليتها في صنع التجلي الشعري، والاطناب عن روح القلق التي يمتاز بها الشاعر المتمكن من أدواته الشعرية. ومن نص آخر بعنوان "في غيابك" نقرأ هذا المقطع: "كلما حز من ذكرياتي/ وحاولت النسيان/ يقبض عليَّ حبك" وهذا تعبير موفق يُعبر عن الشّد الروحي والعاطفي بين الحبيب وحبيبته، وهو صورة أخرى للانزياح الشعري الذي راهنت عليه الشاهرة، فهو رهان جاء مكملا لحالة اللهب العاطفي الذي يطوق قلبين متحابين. لكن في "تأملات" ص 40 من مقطع للشاعرة كان مغايرا، يُفسر أواصر الحب الصادق، الموشم بالحنين. "لم أشرب نخب حضورك/ لم أسمع زغاريد الكأس/ وأنا أترع ليلي بذكراك". في هذا المقطع ترسم الشاعرة صورة أليمة، تجسّد فيها معاني الفراق، وحرقة البُعد، وألم الغياب، وهو تعبير ضاج بمعنىً إنساني – عاطفي، يمثل المشاعر الجياشة وصادقة في الوقت ذاته. وتسترسل الشاعرة وهي تجهش بخلجات عاطفية، تعبّر من خلالها عن آلام مكبوتة، باعتبارها امرأة، والامرأة لها مشاعرها الخاصة، هي غير المشاعر التي يحملها الرجل، وذلك للفوارق البيولوجية وغيرها. فمن نص آخر لها يفيض انسيابية، وهو بعنوان "عبور في الذاكرة" ص 52. جاء في مقطع منه: "وأنا أطوف النظرات/ في الشرود/ في الأفق البعيد/ وأضيع في أعماق البحر/ أذوب مع الموج المهرول/ باضطراب وجنون". وعبارة الجنون هنا جاء كإنّ الحال قد وصل إلى الحد الأعلى من: الشوق واللهفة، ونفاد آخر سهم من سهام الصبر لدى الشخص المنتظر، وقد طال الغياب وما كاد أن يتحمل المزيد من الصبر، غير أن يسلم أمره للقضاء والقدر. وهكذا تستمر الشاعرة في بث بوحها، هذا البوح الذي يمثل قمة العاطفة والبُعد الانساني، الغارق بالشجن الايجابي الذي يراد من ورائه الشجب والاعتراض. وهو انزياح في اللغة، وتموسق نابض بالإيقاع الشعري. خامسا: صورة الوطن والوطن يمثّل الأم، الأب، الأرض، وضمير الشاعر الذي عاش وترعرع فيه، فهو بمثابة الروح، والقلب الخافق: بالخير والمحبة والاحساس الدائم، لهذا الشاعر – الانسان. فمن قصيدة تحت عنوان "دمشق" ص 28 نقتطف منها هذا المقطع الذي جسدّت فيه الشاعرة قمة المشاعر النبيلة الصادقة، تقول: "هي دماؤهم/ فاضت حديدا ونار/ تعبر الجنائن والمدائن/ يهتز جسد الأرض وترتجف الأمراء/ تتلوى من الطفولة تشرب الأشياء/ وجرح عميق/ إني أراك يا دمشق/ ترسمين الكون/ أساطير البقاء". فلا يوجد أكثر وأجزل وأنبل من هذه المعاني الصادقة، من جزالتها وكثافتها، وبُعدها الروحي والوجودي، إنها دمشق – أيها السادة – ويكفي أنها بلد الشاعرة، وهذا له دلالته الخالصة. *داود السلمان – ناقد وشاعر عراقي
#داود_السلمان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم الدين عند فويرباخ 1/ 2
-
هل الكتابة ابتكار؟
-
شعاع ابيضّ - نافذة سوداء تأسيس لسمو الإنسان للقاص حميد محمد
...
-
الدهشة والمفارقة في (وجه أزرق) للقاص عبد الحسين العبيدي
-
خالد القطان-إلى المنفى أو تقويم الأحزان
-
النزعة الوجودية عند دوستويفسكي
-
البناء النصي في مجموعة (تحت صواري ديسمبر) لزينب التميمي
-
ماركس.. مؤسس المدينة الاقتصادية
-
تولستوي.. اعترافات أم تخبط فكري؟
-
ما هي الشيوعية؟
-
سلطان العارفين.. الرومي جلال الدين
-
بيكون.. الفيلسوف الذي حقق حلم أفلاطون
-
الإيمان والألحاد- رؤية فلسفية 3/ 3
-
الإيمان والألحاد- رؤية فلسفية2/ 3
-
الإيمان والألحاد- رؤية فلسفية1/ 3
-
نيتشة.. الانسان السوبرمان
-
القلق الإنصياعي في نص(زيف حلم) ل جابر السوداني
-
عدنان الفضلي الشاعر الذي أغوته الساعات
-
المنحى الصوفي في قصيدة (خمرةُ اليقين) للشاعر كريم القيسي
-
ذاتية المعنى.. قراءة في مجموعة (أأقيم على حافة هاوية) للشاعر
...
المزيد.....
-
أخيرًا.. وزارة التعليم تُعلن موعد امتحانات الدبلومات الفنية
...
-
فيلم -Eddington- المثير للجدل سياسيًا بأمريكا يُشعل مهرجان ك
...
-
وزيرة الثقافة الروسية لم تتمكن من حضور حفل تنصيب البابا
-
مخرج فلسطيني: الفن كشف جرائم إسرائيل فبات الفنانون أهدافا لج
...
-
لوحة سعرها 13.2 مليون دولار تحطم الرقم القياسي لأغلى عمل لفن
...
-
كفى!
-
وداعًا أيها السلاح: لو عاد همنغواي حياً ماذا كان سيكتب؟
-
-بوذا يقفز فوق الجدار-.. لهذا السبب ترجمة أسماء الأطعمة الصي
...
-
مصر.. قرار قضائي بحق فنانة شهيرة في أزمة سب وقذف طليقها
-
من هارلم إلى غزة.. مالكوم إكس حي في كلمات إبرام كيندي
المزيد.....
-
اقنعة
/ خيرالله قاسم المالكي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
المزيد.....
|