أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - داود السلمان - الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة














المزيد.....

الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 22:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في تاريخ الفكر الفلسفي، تُعد مسألة الأخلاق من أكثر القضايا إثارة للجدل، لأنها تمس الإنسان في جوهره، وتحكم سلوكه، وتوجه علاقاته مع الآخرين. وإذا كان الفلاسفة قد انقسموا في فهمهم لماهية الأخلاق ومصدرها، فإن اثنين من أعظم مفكري الحداثة، إيمانويل كانت وكارل ماركس، قدّما رؤيتين متناقضتين تقريبًا حول هذه القضية. الأولى ترى أن الأخلاق قائمة على العقل والواجب المجرّد، بينما الثانية تنطلق من الواقع المادي والعلاقات الاجتماعية لتفهم الأخلاق كتعبير عن البنية الاقتصادية للمجتمع.
في هذا المقال، سنستعرض باختصار النسق الأخلاقي عند كل من كانت وماركس، ثم نعرض نقاط التباين الأساسية بينهما، وصولًا إلى تقييم فلسفي لموقع كل منهما في تاريخ الفكر الأخلاقي.
أولًا: إيمانويل كانت والأخلاق من منظور الواجب العقلي
كانت (1724–1804) يعتبر أن الأخلاق لا تُبنى على نتائج الأفعال أو منفعتها، بل على النية وعلى احترام الواجب. في قلب فلسفته الأخلاقية يوجد مفهومه الشهير: "الأمر المطلق"، وهو مبدأ عقلي يفترض أن على الإنسان أن يتصرف وفق قاعدة يمكن تعميمها على الجميع. أي أنك، قبل أن تقوم بفعلٍ ما، يجب أن تسأل نفسك: "ماذا لو قام كل الناس بهذا الفعل؟".
بالنسبة لكانت، الإنسان كائن عاقل، ويجب أن يُعامل دائمًا كغاية، لا كوسيلة. هذا المبدأ يُعد من أرفع ما وصلت إليه الفلسفة الأخلاقية، لأنه يعطي الإنسان قيمة مطلقة، ويؤسس للأخلاق على أساس الحرية والكرامة، لا على العادات أو المنافع. الأخلاق عنده لا تعتمد على الدين أو السلطة أو العُرف، بل على العقل الخالص وحده.
لكنه يُحمّل الإنسان مسؤولية كبيرة، إذ يفترض أن كل فرد قادر على استخدام عقله ليُميّز بين الخير والشر، دون الحاجة إلى مرجعية خارجية. وعليه، فإن الأخلاق الكانتية هي أخلاق فردية مثالية، ترتكز على قوة الإرادة واحترام القانون الأخلاقي الذاتي.
ثانيًا: كارل ماركس والأخلاق من منظور المادية التاريخية
أما ماركس (1818–1883)، فقد قدّم منظورًا ماديًا بالكامل. هو لم يؤسس "نظرية أخلاقية" بالمعنى التقليدي، بل كان ناقدًا للأخلاق البرجوازية التي رآها مجرد أداة في يد الطبقات الحاكمة لتبرير سيطرتها. عند ماركس، الأخلاق ليست شيئًا ثابتًا أو مطلقًا، بل هي انعكاس للبنية الاقتصادية والاجتماعية. ما يُعتبر "أخلاقيًا" في مجتمع ما، قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، لأن الطبقة الحاكمة هي التي تُنتج القيم الأخلاقية بما يخدم مصالحها.
ففي المجتمعات الرأسمالية، مثلًا، تُعتبر الملكية الخاصة والعمل المأجور من المبادئ الأخلاقية العليا، لكن ماركس يرى أن هذه المبادئ تخدم استغلال العامل، وتحافظ على التفاوت الطبقي. ولذلك، فالأخلاق التي تسوّق لها الطبقات البرجوازية ليست سوى إيديولوجيا تُخفي مصالحها.
ماركس لا يُنكر أهمية الأخلاق، لكنه يرى أن أي أخلاق حقيقية يجب أن تقوم على العدالة الاجتماعية، والمساواة، وإنهاء استغلال الإنسان للإنسان. وبالتالي، فإن التغيير الأخلاقي لا يتحقق عبر تنظيرات مجردة كما عند كانت، بل من خلال تغيير الواقع المادي نفسه، أي بإسقاط النظام الرأسمالي وإقامة مجتمع شيوعي.
ثالثًا: نقاط الالتقاء والافتراق
رغم التناقض الظاهري بين الفيلسوفين، إلا أن هناك بعض النقاط المشتركة:
كلاهما يرى أن الإنسان كائن أخلاقي مسؤول، لكنهما يختلفان في مصدر هذه المسؤولية.
كلاهما ينتقد النفعية، التي تجعل الأخلاق تابعة للنتائج، لا للمبادئ.
لكن الفروق بينهما أعمق بكثير:
- كانت يرى أن الأخلاق ثابتة وعقلية ومطلقة، تنبع من العقل الفردي.
- ماركس يرى أن الأخلاق متغيرة وتاريخية، وتُبنى في إطار الصراع الطبقي.
- كانت يضع الحرية الفردية والواجب العقلي كأساس.
- ماركس يركز على التغيير الاجتماعي والاقتصادي كأساس لأي قيمة أخلاقية.
-عند كانت، الأخلاق فوق المجتمع.
-عند ماركس، الأخلاق ناتجة عن بنية المجتمع.
رابعًا: تقييم فلسفي
النموذج الكانتي يقدم منظومة أخلاقية متماسكة، صعبة التحقيق لكنها قوية المبدأ. يُعطي الإنسان قدرًا كبيرًا من الكرامة والاحترام، ويصلح كنموذج مثالي في عالم يسعى إلى العدالة. لكنه يتجاهل السياقات الاجتماعية والسياسية، ولا يقدّم حلولًا واقعية لمشكلات الظلم والاستغلال.
أما ماركس، فهو يُذكّرنا بأن الأخلاق ليست منعزلة عن الواقع، وأن التغيير الحقيقي لا يأتي من تنظير مجرد بل من فعل اجتماعي ثوري. لكنه، في المقابل، لا يقدّم منظومة أخلاقية واضحة المعالم، بل يضع الأخلاق في خدمة الصراع الطبقي، مما قد يبرر أحيانًا وسائل قاسية تحت ذريعة "التاريخ".
في النهاية، يمكن القول إن كانت يمثل أخلاق المبادئ، وماركس يمثل أخلاق الثورة. بينهما مسافة طويلة، لكن فهم هذه المسافة هو مفتاح لفهم كيف يتعامل الفكر البشري مع السؤال الأبدي: ما هو الصواب؟.
مصادر المقال:
- جون لويس، مدخل الى الفلسفة، منشورات دار الحقيقة بيروت ترجمة أنور عبد الله، ط الثانية لسنة 1973.
- إيمانويل كانت، نقد العقل العملي، تعريب وتقديم ناجي العلواني، دار جداول، الطبعة الأولى بيروت لسنة 2011.
- علي حسين، دعونا نتفلسف، منشورات دار أثر، السعودية الدمام، الطبعة الخاصة للعراق عن دار الكتب العلمية، بدون ذكر سنة الطبع.
- عالم صوفي، جوستاين غاردر، رواية حول تاريخ الفلسفة، دار المنى بدون ذكر تاريخ الطبع.
- مختصر تاريخ الفلسفة، نايجل واربرتون، ترجمة محمد مفضل، تقديم علي حسين، دار الكتب العلمية بغداد، الطبعة الأولى لسنة 2019.
- فلسفة كانت السياسية، د. السيد علي المحمودي، منشورات دار الهادي، بيروت الطبعة الأولى لسنة 2007.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين
- الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد ...
- البُعد العاطفي والنفسي في قصيدة (أوراق مُعادن) للشاعر علي ال ...
- الأسى وسطوة الفقد في نص (قشعريرة نبض) للشاعرة سوسن يحيى
- الذات والهوية في نص (ليسَ غريباً عني) للشاعرة رجاء الغانمي
- المُسحة الجمالية في (ارهاصات أنثى) للشاعرة ورود الدليمي
- الاغتراب النفسي في أغنية (مرينة بيكم حمد) للكبير ياس خضر
- رواية العمى: فلسفة انهيار المبادئ والقيّم
- الترابط والموضوعية في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم
- النسق وبناء النص عند الشاعرة فراقد السعد
- عشرة كتب غيّرت قناعاتي الفكرية والمعرفية1/ 10
- الجزالة والبُعد الوجودي في (مرايا البحر) للشاعرة السورية هوي ...
- مفهوم الدين عند فويرباخ 1/ 2
- هل الكتابة ابتكار؟
- شعاع ابيضّ - نافذة سوداء تأسيس لسمو الإنسان للقاص حميد محمد ...
- الدهشة والمفارقة في (وجه أزرق) للقاص عبد الحسين العبيدي
- خالد القطان-إلى المنفى أو تقويم الأحزان
- النزعة الوجودية عند دوستويفسكي
- البناء النصي في مجموعة (تحت صواري ديسمبر) لزينب التميمي
- ماركس.. مؤسس المدينة الاقتصادية


المزيد.....




- ماذا دار في ‎أول اتصال بين السيسي ورئيس إيران بعد الهجوم الإ ...
- احتفالات مولودية الجزائر بلقب الدوري تتحول إلى مأساة وحزن
- بزشكيان لماكرون: العدوان الإسرائيلي دليل على أن خططنا الدفاع ...
- قبرص تعتقل مشتبها به في قضايا تجسس وإرهاب
- إيران تتعهد بتطوير صناعتها النووية بوتيرة أسرع بعد الحرب
- إيران تطلق الموجة 19 من هجماتها على إسرائيل
- رئيس إيران يعلن موقف طهران من التفاوض بشأن برنامجها النووي
- سوريا: إيقاف وسيم الأسد المتهم بالضلوع في تجارة المخدرات خلا ...
- إسرائيل حاولت زعزعة إيران فساعدت في توحيدها
- بانون يعارض الانضمام للحرب على إيران ويوجه تحذيرات لترامب


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - داود السلمان - الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة