|
أين نحن من الوجود؟
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 11:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سؤال يعبّر عن واحدة من أعمق القضايا الفلسفية الوجودية التي شغلت فكر الإنسان منذ العصور الأولى: ما حدود اختياري في هذا العالم؟ هل أنا حقًا موجود بإرادتي؟ أم أنني "مُلقى" في عالم لم أشارك في اختياره، لا في لحظة البداية، ولا في معطياته الجوهرية؟ هذا السؤال هو محور وجودي بامتياز، وقد شكّل أساسًا لأعمال فكرية عند فلاسفة كبار مثل جان بول سارتر، وهايدغر، ونيتشه، وكامو، و دوستويفسكي، وغيرهم. لنبدأ من السؤال الذي اخترناه، والذي يتضمن قائمة طويلة من الاختيارات التي تمت دون إرادة (الإنسان فُرضت عليه هذه الأسماء، إذ لم يخترها بمحض أرادته): الأب، الأم، الاسم، الدين، اللغة، المكان، العادات، الأخلاق، وحتى نوع الطعام. هذا الشعور بعدم الاختيار لا يعكس فقط ضيقًا وجوديًا، بل تحديًا جذريًا لفكرة الحرية نفسها. فأين تنتهي البرمجة الاجتماعية، وأين تبدأ الذات الحرّة؟. الارادة الوجودية في الفلسفة الوجودية، يُعتبر هذا الوعي باللاإختيار هو بداية النهوض الوجودي. أن تدرك أن كل شيء قد فُرض عليك دون مشاركتك، هو اللحظة الأولى التي تعني أنك صرت حرًا من الداخل. سارتر يقول: "الإنسان محكوم عليه بالحرية"، أي أنه مهما وُلد في ظروف لا يملكها، إلا أنه يظل قادرًا على خلق المعنى من داخلها. لقد وُلدت في عالم لم تختره، نعم. لكن ما تفعله الآن بهذا العالم هو اختيارك الوحيد. هايدغر يتحدث عن الإنسان باعتباره "مُلقى في الوجود" – لم يُسأل، لم يُستأذن، فقط وُجد. لكن هذا الإلقاء لا يعني العجز، بل هو ما يدفع الإنسان إلى اكتشاف ذاته كمشروع دائم التشكّل. كل ما لم تختره، لا يحددك، بل هو المادة الخام التي يمكنك أن تبني بها ذاتك الأصيلة. لكن هذا ليس سهلاً، مع ذلك. في المجتمع التقليدي، تُفرض "أنا" - نحن جاهزة على الفرد منذ لحظة ولادته. اسمه، دينه، لغته، قبيلته، كلها تُعدّ هويته دون أن يكون له رأي. وهنا تظهر الإشكالية بين الهوية المفروضة والهوية المُختارة. حينما تبدأ بطرح هذا السؤال: "أين نحن من هذا الوجود؟"، دعونا نبدأ في تفكيك الهوية المصنوعة، ومحاولة خلق “أنا” – نحن أكثر حرية، أكثر صدقًا. الفيلسوف الألماني نيتشه، بدوره، يرى أن التحرر الحقيقي لا يبدأ إلا عندما “نقتل الآلهة الزائفة”، أي عندما نتحرر من كل الأفكار والمسلمات التي ورثناها بلا وعي. الإنسان الأصيل، في نظر نيتشه، هو من يعيد تقييم كل القيم، أي يعيد النظر بكل ما قيل له إنه خير أو شر، جميل أو قبيح، صحيح أو باطل. ما لم تُساءل تلك المسلمات، فأنت تعيش كمن يمشي في نومه. أما الفيلسوف دوستويفسكي، فقد ذهب أبعد من ذلك حين كتب: "الإنسان حيوان يعتاد كل شيء، وهذه هي أسوأ خصاله". أي أن التكرار، والعادة، يجعلاننا نقبل ما فُرض علينا دون اعتراض، ونعيش كما يُراد لنا لا كما نريد. لكن ماذا بعد الوعي بهذا “اللااختيار”؟ هل يعني ذلك أن الحياة بلا جدوى؟ أم أن الفعل الحقيقي يبدأ حين ندرك هذه القيود؟ هنا تأتي لحظة التمرد الواعي. تمرد لا يعني الفوضى، ولا يعني الانسلاخ من كل شيء، بل يعني أن تختار الذي اخترته بحرية حتى لو كان مشابهًا لما فرضوه عليك. فأن تختار دينك بإيمان حقيقي، بعد وعي، لهو أعمق من مجرد وراثته. وأن تتحدث لغتك لأنك تحبها لا لأنهم فرضوها، يجعلها هويتك التي وُلدت من إرادتك، لا من إرادتهم. الإنسان أمام اختيارين فأنت الآن أمام خيارين: إما أن تبقى مرآةً لما قيل لك، أو أن تتحول إلى كائن حرّ يصوغ ذاته عبر الوعي، والتأمل، والاختيار المسؤول. الحريّة لا تعني أن نكون بلا قيود، بل أن نكون واعين بهذه القيود، وفاعلين في مواجهتها أو تطويعها. وفي النهاية، حين نسأل: “أين نحن من هذا الوجود؟”، فإنسان لا يبحث عن موقع جغرافي، بل عن مكان في المعنى. عن دورك في سردية كبرى، لست مسؤولًا عن بدايتها، لكنك الآن مسؤول عن نهايتها. وبالتالي فإن كل هذه الأشياء لا تنسجم، لا منطقًا ولا عدالة، مع مبدأ المحاسبة الفردية. فكيف يُحاسب إنسان على ما لم يختره؟. كيف يكون مسؤولًا عن دينٍ ورثه، عن لغةٍ حُبس فيها، عن قيمٍ حُقنت في وعيه قبل أن يكتمل عقله؟ المحاسبة، في جوهرها، تستلزم شرطًا أساسيًا: الحرية. والمفارقة العميقة أن كل هذه الأشياء – من العقيدة إلى الطقوس، من الأخلاق إلى العادات، من الانتماءات إلى اللغة – قد زُرعت فيه قسرًا، ومع ذلك يُطلب منه لاحقًا أن يتحمل تبعاتها كأنه اختارها بكامل وعيه. هذه المفارقة تكشف عن خلل عميق في التصور الديني والاجتماعي التقليدي للعدالة. لأن العقوبة التي لا تُبنى على حرية الخيار، هي عقوبة ظالمة مهما كانت دوافعها. والله – كما يُفترض في التصورات الفلسفية الناضجة – لا يمكن أن يكون ظالمًا. فكيف نقبل إذن بهذا التناقض الصارخ بين ما وُرِّث وما يُحاسب عليه؟ كيف يستقيم أن تكون مولودًا في قالب، ثم يُقال لك: تَشكَّل من جديد، أو ستُدان؟. ما لا ينسجم هنا ليس فقط فكرة المحاسبة، بل أصل المنظومة التي لا تعترف بمرحلة “اللااختيار” كواقع حقيقي. يتم القفز فوق هذه الحقيقة، ويُفترض أنك كنت حرًا من لحظة الوعي الأولى، بينما وعيك نفسه كان مُبرمجًا. لا يمكنك محاسبة آلة على مخرجاتها إذا كانت مدخلاتها قد ضُبطت سلفًا، فكيف بالإنسان؟ كيف نجتاز ما فُرض علينا؟ لذلك، فإن كل هذه الأشياء – اسمك، دينك، قوميتك، عاداتك، وحتى طريقة موتك – لا يمكن أن تُؤخذ كمعايير للثواب أو العقاب إلا إذا أُتيح لك أن تنظر فيها بحرية، أن تختار أو ترفض، أن تتبنّى أو تنقض، أن تعيد بناء ذاتك خارج ظل الجماعة. وما لم يحدث هذا، فإن أي محاسبة تُصبح إعادة إنتاج للظلم، لا للعدالة. والأكثر قسوة أن يتم تعليمك منذ الطفولة أن كل ما فيك مقدّس، وأن التشكيك فيه خطيئة. فتنمو وأنت تظن أنك اخترت، بينما أنت في الحقيقة تردّد صدى خيارات غيرك. وحين تكتشف متأخرًا هذا الخلل، تواجه لا فقط العزلة، بل محكمة القطيع: لماذا شككت؟ لماذا سألت؟ لماذا لم تُكمل الطاعة بصمت؟ وكأن العالم قد اتفق على أن وعينا خطر، وأن خلاصنا الوحيد هو في الجهل أو الإنكار. إن الاعتراف بأننا لم نختر البداية هو أول طريق نحو مسؤولية حقيقية عن ما نفعله بعد أن نعي. أما ما قبل ذلك، فما هو إلا سجل من التعليمات، لا من القرارات. والإنسان لا يُحاسب على ما لُقِّن، بل على ما واجه، وراجع، واختار بعد وعي. وكل غير ذلك ليس إلا سجنًا مستترًا خلف ستار الدين، أو الأخلاق، أو التقاليد. التعصب للوطن والدين مثلًا، المسلم – وهو في كثير من الأحيان متعصّبٌ جدًا لدينه – لم يختر دينه ولا معتقده بإرادة حرّة واعية. لقد وُلد في بيئة إسلامية، وفي أغلب الحالات لم تُتح له حتى فرصة الاطلاع على أديان أو رؤى أخرى بطريقة محايدة. تربّى منذ الطفولة على أن الإسلام هو “الدين الحق”، وأن ما عداه باطل وكفر وضلال. لقّنه مجتمعه، وأهله، ومدرسته، وخطب الجمعة، والأدب الشعبي، أن عليه أن يحب هذا الدين، ويخاف من الخروج عنه، ويحذر من كل من يُخالفه. ومع ذلك، نراه حين يكبر يُدافع عن هذا الدين كأنه اختاره بنفسه، بل يقاتل القتال المستميت من أجله، ويعده جزءًا من كيانه وجوهره، بل يعتبر التشكيك فيه اعتداءً على ذاته. إنه يتحرك بدافع الولاء لا الفهم، بدافع الهوية لا عن اقتناع ناتج عن مقارنة ونقاش وتجربة. فهل يُعقل أن هذا الدفاع – مهما بدا حماسيًا – يكون نابعًا من اختيار حر؟ أم أنه مجرد تكرار مبرمج لما نشأ عليه منذ نعومة أظفاره؟ حين يقول: “أنا مؤمن لأنني وجدت في الإسلام الحق”، هل قالها بعد أن قرأ الكتب المقدسة للأديان الأخرى، وبعد أن تساءل بعمق عن وجود الله، وعن ماهية النبوة، وعن إمكان الخطأ في التراث؟ أم قالها لأنه وُلد على هذا المعتقد، وتم تلقينه أنه لا يجوز له حتى أن يتساءل؟ إن هذه المواقف الحماسية، التي تُقدَّم على أنها يقين، ليست بالضرورة دليلًا على وعي راسخ، بل قد تكون انعكاسًا مباشرًا لحالة ذهنية لم تُراجع أصل أفكارها، بل حصّنتها بالخوف من التغيير. وهنا يظهر التناقض الجوهري: كيف لإنسان لم يختر دينه أصلًا أن يُحاسب عليه كما لو أنه اختاره بحرّية؟ كيف يُكافأ على الإيمان أو يُعاقب على الكفر، إن كان الإيمان نفسه نتيجة بيئة جبرية لا خيار فيها؟ إن الطفل الذي وُلد في مكة سيكبر مسلمًا، والذي وُلد في روما سيكبر مسيحيًا، والذي وُلد في دلهي سيكبر هندوسيًا. فهل كانت للهؤلاء أي إرادة حقيقية في اختيار ما يؤمنون به؟ الدفاع المستميت عن العقيدة إن الدفاع المستميت عن المعتقدات الوراثية ليس بالضرورة دليلًا على صدق داخلي، بل قد يكون نتاج شعور لا واعٍ بالتهديد. لأن الشك، حتى إن لم يُصرّح به، يهز البنية النفسية التي بُنيت على “اليقين” الموروث. ولهذا يثور كثير من المتدينين لا حين تُهاجم تعاليمهم، بل حين تُسأل الأسئلة البسيطة: لماذا تؤمن بهذا؟ هل اخترته بنفسك؟ متى شككت آخر مرة؟ هذه الأسئلة تُربك لأن الإجابة عنها تفضح الهشاشة التي تحت جلد التعصب. وهكذا، فإن المحاسبة الإلهية أو الأخلاقية التي تُبنى على معتقدات لم تُختر بإرادة حرّة، تبدو محاسبة غير منطقية. إنها تُشبه امتحان طالب لم يُسمح له بالاطلاع على المنهج، ثم سُئل عن نتيجته. العدل لا يكون في تكرار ما لُقِّنّا، بل في تمكيننا من أن نفكر بحرية، أن نختار بإرادة، أن نؤمن عن قناعة لا عن توريث. وعندها فقط، يمكن أن يكون الإيمان مسؤولية، لا صدفة. وحتى حين يولد الإنسان في وطنٍ – أيّ وطن – لم يختره هو بمحض إرادته، بل وجد نفسه مُنتميًا إليه بالقوة، بالولادة، وبسطوة الأوراق الثبوتية والهوية الرسمية التي كُتبت له قبل أن يعرف كيف ينطق اسمه. الوطن هنا ليس اختيارًا حرًا، بل قفصًا من التحديدات: الجنسية، اللغة، التاريخ، العلم، النشيد، والموقف السياسي. يُقال له منذ طفولته: “هذا وطنك، دافع عنه، مت لأجله، ارفع رايته، وامْتَلِك فخر الانتماء إليه”، لكنه لا يُمنح لحظة واحدة ليسأل: “هل أريده فعلًا؟ هل يُمثّلني؟ هل أشعر أنني فيه ذاتي أم مسجونٌ ضمن قالب جغرافي وفكري مفروض؟” إنه يُطلب منه أن يحب وطنه أكثر من روحه، أن يراه الأفضل، أن يبرّر أخطاءه، أن يمجّد تاريخه حتى وإن كان ملطخًا بالدم، أن يتبنّى موقفه الرسمي تجاه كل شيء، أن يُعادي من يعاديه ويُصادق من يصادقه، لا بمنطق العدالة، بل بمنطق الولاء القومي. ولو تجرأ يومًا على أن ينتقد سياسات بلده، يُتهم بالخيانة، وكأن الولاء للوطن أهم من الولاء للحق. الدين والوطن ومثل الدين، يصبح الوطن جزءًا من هوية الإنسان قبل أن يكون خيارًا له. بل قد يكون أكثر خطرًا، لأن الانتماء الوطني يُحقَن في الدم مع اللغة واللهجة والتاريخ المصنّع. يُلقّن الطفل أنّ وطنه مقدّس، وأن الموت في سبيله بطولة، وأن خيانته – كما تُعرّفها السلطة – أبشع من أي جريمة. لكن أحدًا لا يسأله: هل يشعر بهذا الوطن؟ هل يمثّله؟ هل يعيش فيه حياة كريمة؟ أم هو فقط ورث عبء الانتماء، دون أن يملك حق الرفض؟ والأسوأ أن كثيرًا من الأوطان تُعامل أبناءها كأرقام لا كأفراد. تُطلب منهم التضحية، ولا تُعطيهم في المقابل شيئًا. تحمّلهم مسؤولية الفقر، الفساد، الدمار، وتتهمهم بالتقصير إن فكروا بالهرب أو النقد أو مجرد الحلم بمكان آخر. أيّ وطن هذا الذي لا يختار الإنسان أن يولد فيه، ثم يُطالب بأن يقدّس كل ما فيه؟ كيف يُمكن لعاقل أن يُحاسب على ولاء أو خيانة لوطن فُرض عليه مثلما فُرض عليه الدين واللغة والعادات؟ إن العدالة لا تكون في فرض الانتماء، بل في إعطاء الإنسان فرصة أن يعيد تعريفه بنفسه: أن يقول “أنا أختار هذا الوطن لأنني أؤمن به”، لا لأنني خائف من التهمة، أو أسير الولادة الجغرافية. وما لم يُمنح الإنسان حق أن يقرر من يكون، وأن يختار لمن ينتمي، سيظل خاضعًا لمحاكم لا تعترف ببراءته الأصلية، بل ترى في كل اختلاف جريمة. الوطن، مثل الدين، مثل كل الانتماءات القسرية، يصبح قيدًا حين يُحاط بالقداسة دون أن يُراجع، حين يتحوّل إلى هوية ثابتة لا تقبل الشك أو التعديل أو النقد. ومع ذلك، يُحاسب الإنسان على ما يفعله باسمه، يُدان أو يُكافأ، كأنه اختاره بحرّية، بينما الحقيقة أنه وُلد فيه كما يُولد في أي سجن: بعينين مفتوحتين على العالم، دون مفتاح للخروج. الحساب خارج الارادة هو من باب أولى، لا يُحاسَب الإنسان كما يُحاسَب مَن اختار بإرادته الحرّة الواعية. إذا كان الإنسان منذ ولادته قد خضع لمنظومة كاملة من الإكراهات الناعمة أو الصارمة، من الدين إلى الوطن، من اللغة إلى المعتقد، من الثقافة إلى القيم، فإن مساءلته وكأنه كان حرًّا في كل ذلك هو ضربٌ من الظلم، بل من العبث العقلي والأخلاقي. من باب أولى أن يُفهم الإنسان في سياقه، لا خارج ظروفه، وأن يُقيَّم بحسب مدى وعيه وتحرّره من تلك القيود، لا على أساس الطاعة العمياء أو الولاء الوراثي. فالعقل الذي لم يُمنَح فرصة السؤال، لا يمكن أن يُلام لأنه لم يُجب إجابة مختلفة. والقلب الذي تربّى على الخوف من الشك، لا يُدان لأنه لم يعبر حدود التقليد. إذا كان كل شيء قد فُرض عليه قبل أن يتكوّن له رأي، فكيف يُنتظر منه أن يكون مسؤولًا بنفس الطريقة التي يُحاسب بها من عاش حرًا، وامتلك أدوات المقارنة، واختار فعليًا من بين بدائل متعددة؟ من باب أولى، كذلك، أن تكون العدالة – سواء إلهية أو إنسانية – واعية بهذا البُعد الجبري في تكوين الإنسان. ومن وعليه أن يُعاد تعريف المحاسبة في ضوء مدى ما أتيح له من وعي وحرية، لا وفق معيار واحد جامد لا يعترف بتفاوت الظروف واختلاف البدايات. إننا لا نولد متساوين في الخيارات، بل متساوين في الجبر. وحين نُحاسب كما لو كنا أحرارًا تمامًا، فإننا نُظلم مرتين: مرة حين سُلبنا الإرادة، ومرة حين حُمّلنا مسؤولية ما لم نختره. وبذلك يجب أن يُفهم أن أول درجات الوعي تبدأ من هذا السؤال: "هل ما أؤمن به هو فعلاً ما اخترته؟"، و"هل ما أنتمي إليه هو نتيجة اقتناع، أم امتثال؟". وإذا بدأ الإنسان بهذا السؤال، فإن أي خطوة تالية – نحو التحرر، أو المراجعة، أو إعادة البناء – ستكون هي أولى خطواته نحو استحقاق المسؤولية الأخلاقية. أما دون ذلك، فإن ما نراه من طاعة أو إيمان أو وطنية أو أخلاق، هو انعكاس لبرمجة، لا تعبير عن ذات حرّة. متى تُسقط الفروض؟ وكجزء من هذه الأمور التي فُرضت على الإنسان دون إرادته، هناك ما يمكنه لاحقًا أن يُغيّره أو يتنازل عنه، كالانتماء الوطني أو السياسي أو حتى الثقافي، إذا ما توفّرت له الجرأة، والظروف، والوعي الكافي لذلك. فبعض الناس يهاجرون، يُبدّلون جنسيتهم، يتبنّون ثقافات مغايرة، يرفضون الإرث القومي الذي وُلدوا فيه، ويبحثون عن هوية أكثر انسجامًا مع ذواتهم الداخلية. لكن حتى هذا “الاختيار” يُقابَل غالبًا بنبذ جماعي واتهام بالخيانة، وكأن الوطن دينٌ آخر لا يُمكن المساس به. ومع ذلك، تظل هذه الأمور قابلة، ولو نظريًا، للتغيير أو التنازل. لكن هناك أشياء أخرى أكثر التصاقًا بالوعي، أكثر عمقًا وتسلطًا، لا يستطيع الإنسان الفكاك منها بسهولة، أو ربما لا يستطيع على الإطلاق. اللغة التي يفكر بها، على سبيل المثال، ليست مجرّد وسيلة تواصل، بل هي الهيكل الذي يصوغ إدراكه للعالم. من الصعب أن “تُفكّر” خارج لغتك، لأن اللغة تُشكل المفاهيم قبل أن تصل إلى العقل. كيف يمكن للمرء أن يرى العالم دون المفردات التي عرّفته عليه؟ كيف يستطيع أن ينظر إلى ذاته من خارج المرآة التي صنعها له المجتمع منذ ولادته؟ ثم هناك الدين، وهو الحالة الأكثر تعقيدًا. فحتى وإن بدت إمكانية تركه قائمة من الناحية الشكلية – كأن يعلن المرء تحوّله أو إلحاده – إلا أن الدين في ثقافتنا ليس مجرد إيمان شخصي، بل هو نظام شامل يطال الجسد والعقل والمجتمع. إنه ليس ما تؤمن به فقط، بل ما يأمرك الآخرون أن تؤمن به. إن خروجه من الجسد أصعب بكثير من خروجه من بطاقة الهوية. كثيرون يعلنون رفضهم للدين، لكنهم لا يزالون يعانون من بقايا الخوف، من الشعور بالذنب، من الصور العالقة في اللاوعي عن الجحيم والعقاب واللعنة. فالدين، حين يُلقّن بطريقة سلطوية، لا يغادر بسهولة، لأنه يغرس جذوره في الطفولة، ويستقر في النفس كمصدر دائم للتهديد الروحي.
والأخطر أن الدين، في مجتمعاتنا، لا يُطرح كخيار، بل كقدر. يُربّى عليه الطفل كما يُربّى على اسمه، لا كمسألة يكتشفها، بل كهوية تُجبَر على ارتدائها منذ اليوم الأول. ولهذا فإن رفض الدين – أو حتى مراجعته – يصبح لدى الكثيرين معضلة وجودية وأخلاقية، لأنه ليس مجرد فكرة بل شعور داخلي، وخوف مزروع، ومجتمع يراقب. إنه ممنون، لا لأنه بالضرورة صادق، بل لأنه مغلّف بالرهبة، ومحصّن بجدار من العار الاجتماعي. وهكذا، فإن الإنسان يجد نفسه واقعًا بين طبقات من الهويات، بعضها يمكنه، بشق الأنفس، التخفف منها، وبعضها أشبه بسلاسل في الروح لا تنكسر بسهولة. من هنا، يجب أن يُنظر إلى مسؤولية الإنسان الأخلاقية والفكرية من زاوية مركبة: هل أتيحت له القدرة على الوعي؟ هل توافرت له الظروف التي تمكّنه من مساءلة ما ورثه؟ هل كانت إرادته حقيقية أم مقموعة باسم الجماعة أو الله أو الدولة؟ إن مجرد القول بأن الإنسان يستطيع أن “يُغيّر” ما فُرض عليه لا يكفي. لأن القدرة على التغيير تتطلب بيئة فكرية، وشجاعة نفسية، وأمانًا اجتماعيًا، وكلها نادرة في المجتمعات التي تقدّس السائد وتُعادي كل خروج عنه. ولهذا، فإن الحكم على الإنسان كما لو كان كامل الحرية، متساوي الفرص، مُخيّرًا في كل شيء، هو في ذاته حكم جائر يتجاهل تعقيدات البناء النفسي والاجتماعي الذي نشأ فيه. فمن باب أولى، أن يُقاس الإنسان لا بما ورث، بل بما فعله حين عرف أنه كان وارثًا، لا مالكًا. الهوية والانتماء الدين والوطن بالنسبة للإنسان ليسا مجرد انتماءين خارجيين أو بطاقتين تعريفيتين، بل هما في المجتمعات التقليدية ــ كما في كثير من المجتمعات المعاصرة ــ يشكلان جوهر هويته الوجودية، بل ويُطلب منه أن يراهما كذلك. يُلقَّن منذ صغره أن الدين هو “الحق المُطلق” الذي لا يجوز الشك فيه، وأن الوطن هو “الأم” التي لا تُعصى، ولا يُنتقص من كرامتها، ولا يُسأل عن عدلها أو ظلمها. الدين هو الإطار الذي يُفسّر له كل شيء: الخير والشر، الموت والحياة، المسموح والممنوع، وحتى المصير بعد الفناء. أما الوطن، فهو المجال الذي يُحدِّد له من يحب ومن يكره، من هو “نحن” ومن هو “الآخر”، من هو الشهيد ومن هو الخائن، من هو المواطن الصالح ومن هو الخارج عن الصف. كلاهما لا يُمنح للإنسان بوصفه نتيجة لاختيار حُر، بل يُفرض عليه كضرورة وجودية، ويتم بناء شخصيته حولهما كما يُبنى البناء حول أساس غير قابل للإزاحة. الدين يُزرع في أعماقه، قبل أن تتكوّن أدوات الفهم لديه، باعتباره الطريق الوحيد إلى النجاة، والخروج عنه تهلكة أبدية. أما الوطن، فغالبًا ما يُشكَّل كرمز أسطوري للكرامة والواجب، حتى لو لم يمنحه أي شيء من العدالة أو الحماية أو حتى الاعتراف. لهذا فإن كسر أحد هذين القيدين – أو حتى مجرد مساءلته – يُنظر إليه كنوع من الانتحار الرمزي، لا لأنه بالضرورة خيانة عقلية أو أخلاقية، بل لأن الإنسان يكون قد تمحور نفسيًا حولهما منذ صغره، وصار الدين والوطن شيئًا من ذاته، لا مجرّد مفاهيم خارجية. بلغة أوضح: تم إدخال الدين والوطن إلى نسيج “الأنا”، بحيث يصبح الشك فيهما شكًّا في الذات نفسها. ولذلك تكون مقاومة التغيير أو المراجعة شديدة، ليس فقط من المجتمع، بل من داخل النفس ذاتها. وعندما يفكر الإنسان في التحرر من أحد هذين العنصرين، فإنه لا يفقد فقط صوته ضمن الجماعة، بل يخسر الإحساس بالأمان النفسي الذي نشأ عليه. أن تتوقف عن الاعتقاد بدينك، أو أن ترفض وطنك، يعني أن تخرج من القطيع، أن تُرمى في العراء، أن تعيش بلا غطاء من المعنى أو الانتماء، حتى لو كان الغطاء قديمًا ومثقوبًا. ولهذا فإن معظم الناس، حتى وإن تساءلوا سرًا، لا يجرؤون على الخروج علنًا، لأن الخروج لا يعني تغيير فكرة، بل تغيير حياة كاملة، وقد يتطلب ثمنًا باهظًا من العزلة والصراع. ومع ذلك، يبقى الدين والوطن – في أصل مفهومهما – فكرتين يمكن إعادة التفكير فيهما من منظور إنساني لا سلطوي. فالدين، في شكله الصافي، تجربة روحية حرة، لا وصاية فيها ولا خوف ولا تلقين، والوطن، في تعريفه الإنساني، هو المكان الذي يمنحك كرامتك، لا الذي يطالبك بالموت من أجله بينما يحرمك من الحياة. لكن ما بين هذه التصورات النقية، وما يُلقَّن للناس منذ الطفولة، فجوة واسعة من السلطة والتشويه. وهكذا، فالدين والوطن، كما يُزرعان في النفس، لا يُمثّلان الانتماء بل الإكراه، لا يمنحان الهوية بل يفرضانها. ولذلك، فالموقف النقدي تجاههما لا يعني الخيانة، بل محاولة لاستعادة الذات من قبضة ما لم تُشارك في صنعه. وإذا كان الإنسان سيُحاسَب يومًا – من الله أو من نفسه – فعلى ما اختاره بوعي، لا على ما طُبع فيه بالإكراه والتلقين.
خاتمة
وهكذا، حين نتأمل بعمق في كل ما سبق، ندرك أن الإنسان وُضع في مسرح هذا الوجود دون أن يُمنح فرصة حقيقية لاختيار دوره أو نصّه أو حتى خشبة المسرح التي يقف عليها. كل شيء من حوله – دينه، وطنه، لغته، أفكاره، عاداته، انتماءاته – جاء إليه قبل أن يأتي إلى وعيه. ورغم هذا، يُحاسب ويُطالب بالولاء، يُراقَب ويُدان وكأنه اختار كل تفصيلة في حياته بإرادة حرة ووعي تام. وهنا يكمن التناقض الأكبر، والظلم الأشد: أن يُعامل الإنسان ككائن مسؤول، بينما هو في الواقع، في بدايته، نتاج إكراهات لا يُمكنه الفكاك منها بسهولة. لكن رغم هذا الجبر العميق، تبقى لحظة الوعي هي ما يمنحه إمكانية التحرر. ليس التحرر بالمعنى الرومانسي الساذج، بل التحرر بوصفه وعيًا نقديًا، مساءلة صادقة، وجرأة على مراجعة ما وُرّث لا بوصفه يقينًا، بل احتمالًا خاضعًا للتفكير. وعند هذه اللحظة فقط يبدأ الإنسان في استعادة ذاته من قوالب الجاهز، فيستحق أن يُقال عنه: اختار. إن الكرامة الإنسانية لا تكمن في الطاعة العمياء، بل في القدرة على السؤال. والمسؤولية الحقة لا تولد من التلقين، بل من حرية الاقتناع. لذلك، فإن أعدل ما يمكن أن يُمنح للإنسان ليس الدين ولا الوطن، بل الحرية. والحرية لا تعني التحرر من كل شيء، بل تعني أن يكون ما يتمسك به هو ما اختاره فعلاً، لا ما فُرض عليه في غفلة من وعيه. حينها فقط، يصبح الإيمان صادقًا، والانتماء شريفًا، والوجود نفسه أصدق وأكثر استحقاقًا لأن يُعاش. أهم مراجع المقال: 1.نيتشة (هكذا تكلم زرادشت) ترجمة فليكس فارس. منشورات دار الأهلية – الاردن لسنة 2019. 2. دوستويفسكي (رسائل من تحت الأرض) 3. سارتر (الوجود والعدم) نسخة الكترونية. 4. هيدجر (الكينونة والزمان) نسخة الكترونية. 5. البير كامو (الغريب) دار الآداب – بيروت، ترجمة عايدة مطرجي غريب. 6. مصطفى حجازي (التخلف الاجتماعي) المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة عشرة، لسنة 2021 . 7.طه حسين (في الشعر الجاهلي) الطبعة الأولى لسنة 1926. 8. معروف الرصافي- الشاعر العراقي (الشخصية المحمدية) دار الجمل – المانيا. 9. داود السلمان (ثمار الفلسفة) منشورات دار السرد – بغداد لسنة 2025. 10. داود السلمان (الله في فكر عمر الخيام) منشورات دار السرد – بغداد لسنة 2024.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
-
تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
-
مَن هم القرآنيون؟
-
التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
-
لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
-
خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
-
نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
-
من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
-
الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
-
الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
-
مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س
...
-
الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة
-
المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين
-
الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد
...
-
البُعد العاطفي والنفسي في قصيدة (أوراق مُعادن) للشاعر علي ال
...
-
الأسى وسطوة الفقد في نص (قشعريرة نبض) للشاعرة سوسن يحيى
-
الذات والهوية في نص (ليسَ غريباً عني) للشاعرة رجاء الغانمي
-
المُسحة الجمالية في (ارهاصات أنثى) للشاعرة ورود الدليمي
-
الاغتراب النفسي في أغنية (مرينة بيكم حمد) للكبير ياس خضر
-
رواية العمى: فلسفة انهيار المبادئ والقيّم
المزيد.....
-
لماذا لا يمكنك شراء ساعة -رولكس- جديدة مباشرة من المتجر؟
-
بيونسيه تتألّق بتصميم لبناني استغرق 300 ساعة عمل وتزيّن بـ18
...
-
عاصرت الحربين العالميتين والكساد الكبير.. شاهد كيف احتفلت مس
...
-
غزة ورأي الأمريكيين بما يحصل.. استطلاع CNN يكشف
-
كيف تبدو الخرطوم بعد أشهر من سيطرة الجيش عليها؟
-
-الأقوى منذ بداية الحرب-.. الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات جديد
...
-
معاهدة كينسنغتون تعيد رسم المحور الأوروبي: هل تقود لندن وبار
...
-
الاتحاد الأوروبي يفرض حزمة عقوبات جديدة على روسيا ويخفض سقف
...
-
ماكرون يدين -بشدة- قصف إسرائيل لكنيسة -العائلة المقدسة- الخا
...
-
كيف يمكنك حماية أطفالك من أخطار الذكاء الاصطناعي؟
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|