أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)















المزيد.....

المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 09:59
المحور: قضايا ثقافية
    


تثير هذه الإشكالية سؤالًا عميقًا حول موقع المثقف في مجتمعنا المعاصر، ومدى استقلاله الفكري، ودوره في تشكيل أو إعادة إنتاج الأطر السائدة. فالمثقف الذي يُفترض فيه أن يكون صوتًا حرًا ومُبادرًا في نقد الواقع وتجاوزه، كثيرًا ما يتحول إلى أداة داخل منظومة ثقافية أو سياسية تُعيد إنتاج السلطة بدلًا من مساءلتها، فيصبح حاملًا لخطاب "مقولب"، يتكرر دون مساءلة، ويفقد بذلك دوره التحرري.
في السياقات المعاصرة، يعاني المثقف من ضغوط متشابكة، تبدأ من تحولات الإعلام، إلى سطوة الاقتصاد، إلى الرقابة الاجتماعية، بل وحتى من تحوّل الثقافة نفسها إلى "صناعة" تفرض على المثقف أن يساير السوق بدلًا من أن يقاومه. فبدلًا من أن يكون منبع الأفكار النقدية، يصبح في أحيان كثيرة صدى لما هو سائد، حتى وهو يتظاهر بالتمرّد. هنا يظهر المثقف لا كضحية وحسب، بل كجزء من بنية تستبطن القيود وتعيد إنتاجها. غير أن تحميل السياق المعاصر وحده مسؤولية "قولبة" المثقف فيه شيء من التبسيط، لأن المثقف يظل فاعلًا في اختياراته، ومسؤولًا عن مواقفه. فالخضوع لا يحدث فقط بالإكراه، بل أحيانًا بالرضا، حين يختار المثقف السلامة بدلًا من المواجهة، والتماهي مع الجمهور أو السلطة بدلًا من زعزعة المسلمات. وهنا يصبح القالب لا قيدًا مفروضًا، بل خيارًا واعيًا للهروب من مسؤولية التفكير الحر.
وهنا لابد من السؤال: هل ما يزال ممكنًا الحديث عن "مثقف عضوي" بالمعنى الغرامشي، أي المثقف المرتبط بقضايا مجتمعه، لا بمصالحه الخاصة؟ أم أن المثقف اليوم فقد استقلاله تحت ثقل الإعلام الجديد، وتحوّلات السلطة الرمزية، وعولمة الثقافة؟ في الواقع، ثمة نماذج متفرقة لمثقفين خرجوا عن القوالب، وواجهوا الاستبداد أو التطرّف أو الشعبوية، لكن هذه النماذج غالبًا ما تكون استثناءً، أو تُقصى من الساحة الإعلامية لصالح خطاب سطحي أو وظيفي.
في المحصلة، لا يمكن حصر المثقف بين دور الضحية أو المتواطئ بشكل مطلق. فالمثقف المعاصر هو في موقع مزدوج: يتعرض لضغوط كبرى تفرض عليه قوالب جاهزة، لكنه في الوقت نفسه يمتلك إمكانية الاختيار والمقاومة. وهنا تكمن مسؤوليته الحقيقية: هل يختار أن يكون مكرّسًا لما هو سائد، أم صانعًا لما هو ممكن؟ هل يكون مرآةً لقيود العصر، أم أداةً في تفكيكها.
واليوم، كما نعتقد، تتزايد في الزمن الراهن صور "المثقف المقولب" الذي لم يعد يُنتج المعرفة بقدر ما يستهلكها ويعيد تدويرها داخل أنماط خطاب جاهزة تخدم إما مؤسسات السلطة، أو السوق الثقافي، أو الجماهير الباحثة عن التأكيد لا عن الإزعاج. فتراه يتحدث كثيرًا، لكنه لا يُقلق أحدًا. يكتب بغزارة، لكن كتاباته لا تحدث صدًى في عمق الوعي. وهنا يتحول دور المثقف من فاعل إلى متلقٍ، ومن مفكر إلى مؤثر، ومن صاحب موقف إلى مكرر لخطاب يتناسب مع اللحظة ولا يصطدم بها.
يقول فولتير في هذا الاطار: "المثقفون هم حراس العقل ضد التعصب". – من رسائله في الفلسفة.
وعلاوة على ما تقدم، نزيد بأن هذه "القولبة" ليست فقط سياسية أو إعلامية، بل أيضًا فكرية ونفسية، وربما روحية كذلك. فحين يفقد المثقف الجرأة على مواجهة القيم السائدة، أو حين يغدو شغله الشاغل هو "القبول العام"، يدخل في دائرة مراوغة بين العقل والرضا. فيصبح صوته مرتفعًا، لكن محتواه محسوبًا، ومواقفه مشذبة، بحيث لا يزعج السلطة ولا يخسر الجمهور. وهنا تبدأ خطورته، إذ لا يعود المثقف جزءًا من مشروع تنويري، بل جزءًا من إعادة إنتاج خطاب مريح للنظام القائم، حتى وإن حمل ظاهر النقد، وهذه هي الاشكالية الكبرى.
من جهة أخرى، علينا أن لا نتجاهل الأبعاد الاجتماعية التي تساهم في "تكييف" المثقف. فالتضييق على الحريات، وتراجع دور الجامعة، واحتكار الإعلام، وضعف حركة النشر المستقل، كلّها عوامل تُضعف صوت المثقف وتدفع به إلى التكيّف أو العزلة أو التماهي مع قوى تضمن له الظهور لا التأثير. كما أن منصات التواصل الاجتماعي، رغم أنها فتحت هامشًا للخطاب الحر، أسهمت في تسليع (أي تصبح سلعة) الثقافة، وجعلت من المثقف "ماركة شخصية" يجب أن تُباع وتُروَّج، وهو ما يتطلب مسايرة ذوق الجمهور أكثر من مواجهته.
لكن، رغم هذا المناخ الضاغط، فإن المثقف لا يفقد تمامًا حريته، بل يظل يملك مساحة – وإن كانت محدودة – للتمرد والاختلاف، شريطة أن يدفع ثمن استقلاله. فالمثقف الذي يصرّ على طرح الأسئلة الصعبة، ويكشف تناقضات السلطة والمجتمع، ويفكر خارج الأطر المغلقة، غالبًا ما يجد نفسه مُهمشًا، أو خارج "اللحظة الإعلامية"، لكنه يظل – من الناحية التاريخية – المثقف الحقيقي، الذي يربط المعرفة بالتحرر لا بالتكريس.
المثقف اليوم مدعوّ لأن يعيد النظر في موقعه، وأن يسائل ذاته قبل أن يطالب الآخرين، وأن يتساءل إن كان ما يقدمه يوسع أفق الحرية والمعرفة، أم يُعيد إنتاج ما يريده السوق أو السلطة أو الجمهور. فهو إن لم يفعل، فإنه يتحوّل – عن قصد أو غير قصد – إلى "صانع قيوده"، لا فقط ضحية لها.
مصادر ومراجع المقال:
1. الجابري، محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995.
2. إدوارد سعيد. صور المثقف. ترجمة: فواز طرابلسي، دار الآداب، بيروت، 1994.
3. علي حرب. المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي. المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001.
4. جورج طرابيشي. المثقفون العرب والتنوير المفقود. دار الساقي، بيروت، 2009.
5. حسن حنفي. من العقيدة إلى الثورة. دار التنوير، بيروت، 1988.
6. عبد الإله بلقزيز. المثقفون في الحضارة العربية: من التبشير إلى التبرير. مركز دراسات الوحدة العربية، 2002.
7. غالي شكري. المنفى والمملكة: دراسات في أدب المثقفين. دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1980.
8. عزمي بشارة. في المثقفين والحداثة والهويّة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2010.
9. الطيب تيزيني. من التراث إلى الثورة. دار دمشق، 1976.
10. عبد الله العروي. الإيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
- خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
- نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
- من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
- الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
- الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
- مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س ...


المزيد.....




- بيان مشترك من أمريكا وفرنسا وسوريا بعد اجتماع باريس.. هذا ما ...
- مسؤول إسرائيلي: سنسمح للدول الأجنبية بإنزال المساعدات على غز ...
- عاجل: ترامب يقول إن حماس لا تريد التوصل لاتفاق
- عقار جديد يقلب موازين الوقاية من الإيدز عالميًا.. ما الذي نع ...
- هل ستفعلها فرنسا .. خطة باريس للاعتراف بدولة فلسطين تغضب إسر ...
- بعد اجتماع إسطنبول - الأوروبيون وإيران سيواصلون المحادثات ال ...
- إسرائيل ستسمح بإسقاط المساعدات جوا إلى غزة وسط تحذيرات دولية ...
- الباحث في القانون الدولي محمد عريقات: قرار فرنسا الاعتراف بد ...
- محكمة النقض في فرنسا تقضي ببطلان مذكرة التوقيف الصادرة بحق ب ...
- في اليونان درجات حرارة تلامس 43 مئوية وسط تحذيرات واسعة


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)