أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)














المزيد.....

صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 20:02
المحور: قضايا ثقافية
    


أصبحت المفردة اليوم تُراقَب قبل أن تُولد، يبدو المثقف - أو ما يُفترض أنه كذلك - محاصرًا لا من الخارج فقط، بل من داخله أولاً. لم يعد المثقف حُرًا في تشكيل أفكاره، بل بات في حالات كثيرة نتاجًا لمنظومة تصنع له موقعه وحدوده، بل وتُزوّده بما ينبغي أن يفكر فيه، وما يجب أن يتجنبه، وما يصلح لأن يُقال دون أن يزلزل السقف الذي وُضع فوق رأسه.
صناعة المثقف اليوم، في كثير من السياقات، تُشبه خط إنتاجٍ فكري مُسبق الإعداد. يُؤخذ الفرد الذي يملك أدوات التعبير، ويُعاد تشكيل وعيه عبر دوائر التأثير: الإعلام، التمويل، الأيديولوجيا، المنصات الرقمية، وأحيانًا وهم الشهرة ذاته. لا يُسمح للفكرة أن تولد في فضاءها الحر، بل يتم تكييفها ضمن أطر جاهزة مثل: "هذا الخطاب مقبول"، "تلك النبرة مؤذية"، "ذلك السؤال غير ضروري"، "هذا الموضوع لا يُفتح"، وهكذا تتحدد الأفكار قبل أن تُقال، ويتقلص هامش الجرأة إلى حدود أنيقة لا تُزعج السوق أو السلطة أو الذائقة المعلبة.
المثقف الذي كان، يومًا ما، ضمير مجتمعه، تحول لدى البعض إلى متحدث باسم القوالب الجاهزة. لا يُصغي لما لا يُقال، بل يُكرر ما يُطلب منه قوله. تصبح الثقافة أداة تزيين للخطاب الرسمي أو الوجوه الإعلامية، لا ساحة صراع حقيقي مع السائد والمألوف. وهكذا يتم إفراغ دور المثقف من جوهره، وتحويله إلى حامل ميكروفون بلهجة فصيحة.
لكن المفارقة الكبرى أن السلطة - مهما كان نوعها - لا تخشى المثقف الحر بسبب آرائه فقط، بل لأنها لا تستطيع التنبؤ بما سيقوله بعد دقيقة واحدة. هذه "اللايقينية" في الفكر المستقل، هذه الخطورة الكامنة في الفكرة التي تنشأ خارج النسق، هي ما يُرعب المنظومات المسيطرة. لذلك تسعى منذ عقود إلى ضبط المشهد عبر خلق مثقفين "آمنين"، يتمتعون بذكاء محسوب، وحس نقدي تحت السيطرة.
إن صناعة المثقف كما تُمارَس اليوم، في بعض الأوساط، هي نوع من "تحنيط الوعي" في قوالب براقة. فبدل أن يكون المثقف هو من يوسّع حدود اللغة والفكر والخيال، يتحوّل إلى حارسٍ أمينٍ للحدود. وفي هذا السياق، تصبح الطاعة الفكرية مغلفة بعبارات مثل الواقعية، والاعتدال، والانضباط، والتوازن - وكلها أسماء مستعارة للخضوع.
ليس المقصود هنا تمجيد "التمرد الأجوف"، بل التأكيد أن وظيفة المثقف لا تبدأ من الخارج، بل من تلك اللحظة التي يرفض فيها أن تُحدَّد أفكاره قبل أن تُولد. اللحظة التي يختار فيها أن يُخاطر - لا باسم الشهرة أو الاستفزاز - بل باسم الصدق.
فحين يكون الصمت أكثر أمانًا، يصبح الكلام مقاومة. وحين تُصنَع الأفكار في مصانع السلطة، يصبح التفكير المستقل فعل تحرير.
في المجتمعات التي ترتّب مراتب الكلام قبل أن تسمح بالنطق، يُختَزل دور المثقف إلى ديكور عقلانيّ في مشهد مُسيطَر عليه سلفًا. لا يُصنَع المثقف من جهده الفردي فقط، بل غالبًا ما يُعاد تشكيله عبر منظومات الاعتراف المؤسسي: من يظهر على الشاشة، من يُنشر له، من يُحتفى به، ومن يُسكت في الزوايا. وهكذا يتحوّل الإبداع إلى امتثال، ويصبح التفكير خارج الخطاب السائد نوعًا من التهوّر أو "اللاواقعية".
يقول ريمون آرون: "وظيفة المثقف ليست أن يكون نبيًا، بل أن يوضح التعقيد". (من مقالاته السياسية والفكرية)
إن أخطر ما تواجهه الثقافة اليوم ليس المنع المباشر، بل ترويض الخيال وخصي الأسئلة. في هذا المناخ، لا تُصادر الأفكار بقوة القانون فقط، بل تُحبَط عند منبعها، حيث يبدأ المثقف في مراقبة نفسه قبل أن يُراقَبه أحد. يتحول القلم إلى فلتر، واللسان إلى ميزان حساس لدرجة الخوف، والفكرة تُعدّل وتُحذف وتُلوى لتناسب الذوق العام، أو "مزاج السوق"، أو "سقف الحرية"، أو "الممول".
السلطة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، لا تحتاج إلى فرض الرقابة حين تُنجز المهمة الأهم: زرع الرقيب داخل رأس المثقف نفسه. حينئذٍ لا يكون المثقف مكمّم الفم، بل يُمارس الصمت طواعية، ويبرّره بمنطق الحكمة أو الانشغال أو المسؤولية. يبدأ في التفكير بما يُقال عنه، لا بما يجب أن يُقال منه.
وفي ظل هذا المشهد، تظهر فئة من المثقفين الذين يصوغهم الوسط، لا الوعي. مثقفون يُعيدون تدوير المقولات المستهلكة بلغة أنيقة، يتكئون على مرجعيات رمزية عالية، لكنهم يتحركون ضمن هامش مقبول لا يُزعج أحدًا. لا يقترحون الجديد، ولا يهدمون البالي، بل يشتغلون على التجميل، أو ما يمكن تسميته بـ "تجميد النقد".
الخطورة هنا لا تكمن فقط في غياب المثقف المستقل، بل في تسويق بدائل ناعمة عنه: محلل يساوي بين الجلاد والضحية، ناقد يشرح الواقع دون أن يلمسه، مفكر ينظّر على بُعد آلاف الكيلومترات من المأساة، وكاتب يبرر السقوط باسم التعقيد. بهذه الطريقة، يتم تدجين الفعل الثقافي وتحويله إلى ملحق بالسلطة أو السوق أو الجماهير الغاضبة.
لكن، وسط هذا التشوّه، تبقى هناك أصوات لا تُصنع، بل تتكوّن. مثقفون لا يتكلمون لأنهم دُعوا للحديث، بل لأن الصمت لم يعد ممكنًا. هؤلاء لا يكتبون من أجل الموافقة، ولا من أجل العزل، بل لأن الحقيقة - على هشاشتها - لا يمكن دفنها إلى الأبد. هم الذين يُفاجئون اللغة بوجعها، ويكسرون السياق عندما يكون السياق قيدًا.
وفي النهاية، ليست المسألة في أن يكون المثقف ضد السلطة دائمًا، بل أن يكون ضد الصمت حين يكون الصمت خيانة. وأن يكون مع الفكرة قبل أن تُبرمج، وقبل أن تُعتمد، وقبل أن تُترجَم إلى خطاب متاح.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
- خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
- نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
- من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
- الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
- الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
- مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س ...
- الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة


المزيد.....




- ماكرون وزوجته يقاضيان إعلامية أمريكية زعمت أن بريجيت -رجل-
- هل كان جيفري إبستين عميلا استخباراتيا؟.. مسؤولة أمريكية تجيب ...
- هل أوباما يتمتع بـ-حصانة رئاسية- ضد اتهامات ترامب له بالخيان ...
- الجنيه المصري يقفز لأعلى مستوى في 2025 أمام الدولار.. وخبراء ...
- قرار تاريخي: العدل الدولية تعطي الضوء الأخضر للدول لمقاضاة ب ...
- جامعة كولومبيا توافق على دفع 221 مليون دولار لإنهاء تحقيقات ...
- من -حنظلة- إلى العالم.. الناشط روبرت مارتن: حين تسكت الحكوما ...
- مصادر لـCNN: وزيرة العدل الأمريكية أبلغت ترامب بوجود اسمه في ...
- محكمة العدل الدولية تفتح الباب لتعويضات الدول المتضررة من ال ...
- إسرائيل: الكنيست يقر مقترحا لضم الضفة الغربية ورفض أي خطة لإ ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)