أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)














المزيد.....

تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 23:07
المحور: قضايا ثقافية
    


حين تصير الأفكار متشابهة حدّ التطابق، وتتشكل العقول في قوالب واحدة، يبدأ صوت المثقف في التلاشي، أو بالأحرى، في التحول إلى صدى لما يُراد له أن يقول، لا لما يجب أن يُقال. فالمثقف الذي يفكر خارج النسق يُعد خطرًا، والاختلاف لم يعد فضيلة، بل يُنظر إليه كخيانة للتوافق المفروض. في زمن كهذا، يصبح الصمت ملاذًا للمثقفين، لا لأنه فضيلة، بل لأنه خيارٌ تراجيدي بين أن تقول الحقيقة فتُقصى، أو أن تتشابه مع الآخرين فتفقد ذاتك. "تماثل الأفكار" ليس مجرد تكرار في القول، بل هو احتلال خفي للعقل، حيث تُزرع الآراء، وتُهذّب اللغة، وتُصفّى الجرأة، حتى تُصبح كل الجمل الممكنة مضمّنة في خطاب واحد، لا يخرج عن الإطار العام، ولا يزعج السلطان أو المجتمع.
السؤال: "هل يفقد المثقفون صمتهم؟.
وهذا السؤال يحمل في طيّاته مفارقة مؤلمة: فالمثقف، بوصفه ضمير الأمة، ومرآة وعيها، من المفترض أن يكون أول من يتكلم، وأول من يصرخ حين يسود الظلم، لكنه كثيرًا ما يُجبر على الصمت. هذا الصمت ليس نابعًا من نقصٍ في الرؤية، بل من زيادة في الفهم - فهم حدود الممكن، وحدّة البطش، ومرارة العزلة. في أزمنة القمع أو الزيف أو الازدحام الصاخب بالفارغ، قد يلوذ المثقف بالصمت لأن صوته لن يُسمع، أو لأن الضجيج قد اختطف الوعي. لكن حين يتحوّل هذا الصمت إلى نمط دائم، إلى موقف فكري، أو إلى تواطؤ صامت مع السائد، يصبح المثقف تمثالًا من تماثيل الأفكار: له ملامح الوعي، لكنه بلا روح. موجود، لكنه لا يُحدث فرقًا.
إن فقدان الصمت لا يعني بالضرورة تحوّل المثقف إلى الصراخ، بل إلى استعادة المعنى. فالمثقف لا يُقاس بعلو صوته، بل بمدى أصالة ما يقول، وبقدرته على إزعاج الركود، حتى وإن بالكلمة المكتوبة، أو الفكرة الهادئة، أو السؤال البسيط الذي لا يُرضي.
السؤال إذن ليس: هل يفقد المثقفون صمتهم؟.
بل: هل ما يزال هناك ما يستحق أن يُقال، في زمن تشابهت فيه الأفكار، وتحوّلت فيه الكلمات إلى قوالب جاهزة، لا تُحرّك ضميرًا، ولا تفتح أفقًا؟.
وإذا كان هناك من ما يزال يكتب، أو يتكلم، أو يشكك، دون أن ينخرط في جوقة التماثل، فهو من بقي حيًا في غابة التماثيل. هو من ما يزال يعتقد أن الكلمة موقف، لا زينة… وأن الصمت، أحيانًا، هو أعلى أشكال الرفض. حين تُعيد الفكرة إنتاج نفسها بصيغة متكررة، وتُصبح الكلمات مستنسخة عن بعضها، تتهاوى وظيفة المثقف كما تُهدم معابد الروح في زمن التسطيح. تماثل الأفكار لا يعني فقط غياب الإبداع، بل غياب الجرأة على الخروج من القطيع. والمثقف، إن لم يكن مخالفًا حين يستوجب الأمر المخالفة، فما هو إلا لسانٌ آخر للسلطة، أو ظلٌ هزيل لحشدٍ فارغ.
في هذا السياق، يتغيّر جوهر الصمت. لم يعد صمتًا ناتجًا عن التأمل أو الوعي، بل يتحوّل إلى نوعٍ من الانكماش الفكري، أو الخضوع الناعم، حين يتحوّل المثقف إلى موظفٍ في مؤسسة ثقافية، لا إلى متمردٍ بالكلمة. هو صمتٌ يُدجَّن، ويُكافَأ، وتُمنح له المنصات بشرط أن لا يُقلق أحدًا. الأسوأ من ذلك، أن تماثل الأفكار لا يُفرِغ الفضاء الثقافي من الجِدّة فحسب، بل يجعل من الكلام نفسه شكلاً آخر من الصمت، حين يُقال بلا معنى، أو يُعاد ترتيبه ليبدو جديدًا، وهو في حقيقته تكرار باهت لأفكار فقدت وهجها منذ زمن. وهنا يغدو "الكلام" استمرارًا للفراغ، و"الصمت" موقفًا أنبل.
في هذا العالم المُشبَع بالشبهات، المليء بالأحاديث التي لا تقول شيئًا، يبقى المثقف الحقيقي هو من يمارس الصمت حين يعجز عن قول الحق، لكنه لا يُزيّف القول ليسد الفراغ. إنه من يختار الانكفاء لا خوفًا، بل تطهّرًا من التواطؤ.
لكن، متى يفقد هذا الصمت شرعيته؟
حين يتحول إلى قناع، لا إلى موقف.
حين يصير وسيلة للهروب، لا لحماية الفكرة.
حين يصبح مجرد مراوغة لغوية في وجه معركة مصيرية.
المثقف في جوهره ليس متكلّمًا فقط، بل حاسّةُ الشكّ الأولى في جسد المجتمع. وظيفته أن يعيد فتح الأسئلة المغلقة، وأن ينكأ الجراح التي يغطيها النظام أو العُرف أو الجماعة. وإذا لم يفعل، فإنه يستقيل من دوره، ويجلس بهدوء في صفّ التماثيل، حيث كل شيء صلب، وجميل، لكن لا حياة فيه.
من هنا، فإن استعادة صوت المثقف لا تعني رفع الصوت، بل استعادة الشجاعة. لا تعني تحطيم الصمت، بل تحرير الصمت من الزيف، وتحرير القول من التكرار. وحين يحدث ذلك، يُكسر التماثل، ويولد الفكر من جديد، لا كصدى، بل كإيقاعٍ خاص يُقلق المألوف، ويُنبّه الغافل، ويستفز النظام. لذا، يبقى المثقف الحقيقي في صراعه الدائم:
بين أن يصمت كي لا يكذب، أو يتكلم كي لا يخون. فهل يفقد المثقفون صمتهم؟.
ربما، حين يعودون إلى أنفسهم، ويتذكرون أن الكلمة الأولى كانت خلقًا… وأن كل كلمة بعدها، إمّا بناءٌ للروح، أو هدمٌ لها.

مراجع المقال:
1. إعادة النظر في الاستشراق – فريد هاليداي، ترجمة أحمد محمود، دار المستقبل العربي، 1994.
2. الثقافة والهيمنة – ريمون وليامز، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، 2002.
3. عصر الانقطاع الكبير – عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
- قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
- المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
- صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟


المزيد.....




- ترامب يقول إن على بوتين الموافقة على وقف إطلاق النار في أوكر ...
- فرنسا: النيابة العامة تطلب مذكرة توقيف دولية جديدة ضد بشار ا ...
- بروكسل تقترح تعليق تمويل شركات إسرائيلية ناشئة بسبب أزمة غزة ...
- محادثات أمريكية صينية مطولة في ستوكهولم لاحتواء الحرب التجار ...
- نيويورك: خمسة قتلى بينهم ضابط شرطة في إطلاق نار بوسط مانهاتن ...
- ميدفيديف مخاطبا ترامب: لسنا إسرائيل ولا إيران والإنذارات خطو ...
- مقتل مسلح نفذ هجوما في حي مانهاتن بنيويورك
- ألمانيا وإسبانيا تعتزمان نقل مساعدات إنسانية جوًا إلى غزة
- ماذا حدث في المفاوضات؟ ولماذا انقلبت إسرائيل؟
- بعد عودته.. مراسل الجزيرة محمد البقالي يحكي ما جرى مع -حنظلة ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)