|
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 00:50
المحور:
قضايا ثقافية
يُعدّ التفكير المقيّد هو واحد من أكثر الأشكال خطورة في التعامل مع الواقع، لأنه لا يصيب الفكر فقط، بل يشلّ القدرة على التفاعل مع الحياة. حين يتحول الإنسان إلى كائن يعمل وفق نمط مكرر من الأفكار المقولبة، يفقد تدريجيًا قدرته على المبادرة، النقد، والتجديد. تكمن مأساة هذا النوع من التفكير في أنه يبدو مريحًا في ظاهره: فهو يقدّم إجابات جاهزة، ويجنّب الفرد عناء التساؤل، ويمنحه شعورًا زائفًا باليقين. لكن هذا اليقين المصنّع سرعان ما ينقلب إلى عبء معرفي، لأنه يجعل الإنسان أسيرًا لمجموعة من المسلّمات التي لا تقبل المراجعة أو التفكيك. وحين يواجه هذا الإنسان واقعًا متغيرًا، أو فكرة خارجة عن السياق المألوف، فإن ردّ فعله غالبًا ما يكون الرفض أو التشنّج أو الانسحاب. التفكير المقولب لا يعني فقط التبعية الفكرية، بل يشير إلى نوع من التنازل الطوعي عن ملكة التفكير نفسها. وهو ما ينتج عنه هشاشة في المواقف، وتكرار في المفردات، وجمود في الرؤية. وتزداد هذه الأزمة حدة حين تكون النماذج المقولبة مرتبطة بمؤسسات كبرى كالدين، أو الدولة، أو الأعراف الاجتماعية - العشائرية، إذ يتحوّل كل نقد لهذه النماذج إلى نوع من التهديد. التفكير المقيّد لا يجرّ الإنسان إلى الجمود فقط، بل يجعله جزءًا من منظومة إعادة إنتاج القوالب ذاتها، وكأنه يشارك في بناء سجنه بيديه. إن التحرر من هذا النوع من التفكير لا يعني تبني مواقف متطرفة بالضرورة، بل يتطلب شجاعة طرح الأسئلة، والاعتراف بجهلنا، والقدرة على تخيّل أجوبة خارج المسار المرسوم. وهنا العقل الحر ليس من يملك كل الأجوبة، بل من يملك الجرأة على الشك، والانفتاح على الاحتمال. ولتوضيح أكثر، فأن التفكير المقيد يُعدّ آلية دفاعية يتبناها الإنسان عندما يخشى من المجهول أو يشعر بعدم الأمان في عالم متغير. إنه نمط ذهني يعمل ضمن حدود صارمة، لا يخرج عنها، ولا يسمح بالمرونة أو التعدد في الرؤية. هذا النوع من التفكير لا يكتفي بتقييد صاحبه، بل يسعى إلى تقييد المجتمع من حوله، عبر فرض قوالب فكرية جاهزة يتم تكرارها وتعليمها للأجيال القادمة كأنها حقائق مقدسة. ومن خلاله يتم استبعاد كل ما هو جديد أو مختلف باعتباره تهديدًا لهوية ثابتة. المأساة الحقيقية هنا تكمن في أن التفكير المقيد ينتج عقلًا لا يعرف ذاته إلا عبر مرآة الآخرين، ولا يقوى على تأسيس قناعاته إلا ضمن سياج التقليد. في بيئات كهذه، تصبح حرية الفكر نوعًا من الخيانة، ويُنظر إلى التساؤل كإهانة، بل وأحيانًا كجريمة فكرية. هذا يفسّر لماذا لا تنتج المجتمعات ذات الفكر المقولب إبداعًا علميًا أو فنيًا حقيقيًا، لأنها لا تسمح للخيال أن يعمل بحرية، ولا تمنح العقل فرصة لإعادة اختراع العلاقة مع المفاهيم الكبرى كالعدالة، والمعنى، والهوية. وهنا يبرز الدور المحوري للتعليم، والإعلام، والنقد الثقافي كأدوات قادرة على تحرير العقل من هذا الأسر، بشرط ألا تُستعمل هي ذاتها كأدوات لإعادة إنتاج القوالب. بمعنى آخر، التفكير المقيّد ليس مجرد حالة ذهنية فردية، بل هو نتاج لبنية ثقافية واجتماعية كاملة تعمل على قمع التعددية وتحويل الإنسان إلى كائن منمط، يكرر الأفكار نفسها، ويعيش في دورة مغلقة من التصديق والترديد. هذه البنية قد تكون دينية، سياسية، تعليمية، أو حتى عائلية. وتُظهر الدراسات النفسية والاجتماعية أن الإنسان الذي ينشأ في بيئة لا تسمح بالاختلاف أو لا تشجع على التساؤل، غالبًا ما يتبنّى هذا النمط من التفكير كآلية دفاعية، يحتمي من خلالها من تعقيد الواقع ومن مسؤولية اتخاذ المواقف. ومن هنا تكمن خطورة التفكير المقولب في أنه يُقنِع صاحبه بأنه على حق دائمًا، وبأن أي محاولة لتغيير منظومة أفكاره تهديد وجودي. بهذا المعنى، فإن التفكير المقيد لا يخلق فقط أفرادًا جامدين، بل يعيد إنتاج أنظمة اجتماعية لا يمكن تطويرها أو مساءلتها، ما يجعل التقدّم الحضاري بطيئًا أو متوقفًا. ومن هنا يمكن القول إن الجمود الفكري أخطر من الفقر أو حتى الاستبداد السياسي، لأنه ينتج أفرادًا لا يرغبون في التغيير أصلًا. ومن هذا الباب فأن التعليم هو أخطر الأدوات التي تُستعمل إما لتحرير التفكير أو لتقييده. ففي أنظمة التعليم التقليدية، يُعلّم الطفل أن يحفظ لا أن يفكر، أن يطيع لا أن يناقش، وأن يعتبر المعلم أو الكتاب أو رجل الدين مصدرًا للحقائق النهائية غير القابلة للنقاش. وبهذا، ينشأ جيل غير قادر على النقد أو الخيال، لأن أدواته العقلية أُصيبت بالتكلّس المبكر. وفي المقابل، فإن أنظمة التعليم الحديثة التي تقوم على الحوار والتفكير النقدي والتعلم بالممارسة، تساعد الطفل على إدراك أن الحقيقة ليست مطلقة دائمًا، وأن كل فكرة قابلة للتطوير أو المراجعة. لذا نجد في أعمال عبد الله العروي، خصوصًا الأيديولوجيا العربية المعاصرة، أن التفكير المقيد في العالم العربي يتغذى من الخوف من التفكك، ومن الإحساس بأن الهوية مهددة. ولهذا تميل المجتمعات إلى الاستنجاد بالثوابت، لا بوصفها أدوات فهم، بل كحصون دفاعية ضد كل جديد. هذه الرؤية تفسر كيف أن التحولات الكبرى في العالم العربي تقابل دائمًا بتوجس، وأن أي نقاش في الدين، أو في الموروث، يُعامل على أنه عداء للهوية. ويلخص كل ما نوهنا إلى تشارلز داروين، حين يرى إن "أعلى مراحل الثقافة الخلقية هي إدراك أن علينا التحكم في أفكارنا". بالنتيجة نصل إلى إن التحرر من التفكير المقيد لا يحدث بمجرد قراءة كتاب أو التعرض لفكرة جديدة، بل هو مسار طويل من الشك، والمراجعة، والتجريب، والفشل أحيانًا. وهو مسار يحتاج إلى بيئة تشجع على التساؤل، وتكافئ التفكير المختلف، وتحتفي بالتعدد لا بالخضوع. في غياب هذا، سيبقى التفكير المقيد هو القاعدة، وسيظل العقل العربي يعيد إنتاج أزماته دون أمل حقيقي في التغيير. مراجع المقال: 1. فروم، إريك. الخوف من الحرية. ترجمة طلعت الشايب، دار الحوار، 2002 2. بورديو، بيير. بؤس العالم. ترجمة نظير جاهل وآخرين، المنظمة العربية للترجمة، 2012 3. العروي، عبد الله. الأيديولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، 1995 4. بول فايارابند. ضد المنهج. ترجمة د. فؤاد زكريا، المجلس الأعلى للثقافة، 2005 5. علي حرب. نقد النص. دار الطليعة، بيروت، 1993
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
-
المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
-
فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
-
حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
-
التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق
...
-
أين نحن من الوجود؟
-
التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
-
تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
-
مَن هم القرآنيون؟
-
التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
-
لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
-
خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
المزيد.....
-
-أسقط السكين أرضًا-.. شاهد لحظة مواجهة المارة لرجل طعن 11 شخ
...
-
وزير خارجية أمريكا يوضح جهود بلاده في احتواء التصعيد بين كام
...
-
تصعيد حوثي جديد ضد إسرائيل: الجماعة تعلن استهداف كل السفن ال
...
-
بيروقراطية ألمانيا تهدد طموحاتها في عصر جديد من الرقمنة
-
مدينة آهاوس الألمانية.. نموذج للمدن الذكية ومستقبل الرقمنة!
...
-
من الطلاق إلى الضرائب.. هكذا تربعت إستونيا على عرش الرقمنة
-
دراسة ألمانية: لهذا يتخوف المرضى من -أطباء الذكاء الاصطناعي-
...
-
شقيقة زعيم كوريا الشمالية: لسنا مهتمين بمبادرات السلام مع ال
...
-
رئيس الوزراء السوداني يعين 5 وزراء جدد
-
قصص مجوّعي غزة.. محمد جميل حجي
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|