|
هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 20:50
المحور:
قضايا ثقافية
إذا ما تأملنا الصورة التاريخية للمثقف، فإن دوره التقليدي ارتبط بممارسة النقد، وتفكيك البنى الفكرية والسياسية والاجتماعية القائمة، والتصدي للسلطة حين تنحرف، وتبني الوعي حين يغيب. المثقف كان – أو ينبغي أن يكون – ضمير مجتمعه، منارة فكرية وسط العتمة، وصوتًا للحق حين يخفت. لكن هذا النموذج النقي تعرّض لكثير من التشويش والتحوّر، حتى باتت صورته في المخيال الجمعي متصدعة، فيها من الالتباس بقدر ما فيها من التقدير. ويُعد المثقف المقلوب هو نتاج هذا التحول. إنه ذلك الذي يرتدي قناع النقد، لكنه يوظّف أدواته لأهداف لا تمتّ بصلة إلى جوهر النقد البنّاء. قد يكون متعلمًا، واسع الثقافة، لامع الأسلوب، لكنه في المضمون إما منحاز، أو مدفوع بمصالح شخصية، أو مُكبّل بانتماءات أيديولوجية تُعميه عن رؤية الواقع بصفاء. هو لا يملك شجاعة المصارحة، ولا صدق المراجعة، بل يُفضّل التموضع حيث الريح أقوى، حتى لو كانت الريح ضد مصلحة مجتمعه. ولكي نوضح الصورة الحقيقية لهذا المثقف المعني، ونفضح نواياه، لا يمكن اعتباره ناقدًا حقيقيًا، لأن الناقد - بمفهومه العميق - لا ينفصل عن المسؤولية الأخلاقية. لكون النقد ليس تهديمًا فحسب، بل هو عملية تقويم وتقديم بدائل. أما المثقف المقلوب، فيمارس التهديم بلا مسؤولية، ويوجه سهامه لا حيث يجب، بل حيث يظن أنه سيجني التأييد أو النفوذ. لذلك فإن نقده لا يُبنى عليه، لأنه لا ينبع من مركز وعي متماسك، بل من موقع مهتزّ تتنازعه الذاتية والارتزاق أحيانًا. وهنا تبرز المفارقة؛ فبعضهم قد ينظر إلى هذا المثقف بوصفه منقذًا، لأنه يبدو للوهلة الأولى كمن يتصدى للفساد، أو يتحدث بجرأة، أو يرفع شعارات الحرية والتغيير. لكنه منقذٌ مزيّف، لأن خطابه لا يسعى إلى البناء، بل إلى استعراض القدرة على الهدم، دون أن يُقدم بديلاً مقنعًا، أو يُشارك فعلًا في معركة الوعي. إنه يسهم – بوعي أو بغير وعي – في تعميق الانقسام، وإشاعة الشك في القيم، ونشر السخرية بدل النقد، والتقليل من كل محاولة جادة للإصلاح الحقيقي. وهذا النوع الذي نعنيه، لا يمكن أن يكون منقذًا، لأنه ببساطة لا يمتلك البوصلة. يفتقد إلى مشروع حقيقي، ويتكئ فقط على حضوره الإعلامي، أو على قدرته على إثارة الجدل، أو ركوب موجة السخط الشعبي. ولذلك فإن أثره، مهما بدا طاغيًا في لحظات معينة، يبقى هشًا، مؤقتًا، وسرعان ما ينكشف عند أول اختبار جدي. ومن جانبنا، لا يُفترض أن نقع في التعميم، فليس كل مثقف صاخب بالضرورة مقلوبًا، ولا كل ناقد صريح هو منقذًا. لكن التفريق بين المثقف الحقيقي والمثقف المقلوب بات ضرورة مجتمعية وفكرية ملحة. المجتمعات لا تنهض على أكتاف الشعارات وحدها، بل على وعي يقظ، ونقد مسؤول، وتفكير حر، وقيم ثابتة، وهذه كلها لا تجتمع في المثقف المقلوب مهما زيّن خطابه بالأناقة أو الشعارات. المثقف الملتزم يشتغل في الظل حين يلزم، ويواجه في الضوء حين يقتضي الواجب، ولا يطلب لنفسه هالة، بل يحمل على عاتقه مسؤولية التنوير دون أن يُفرّط بمبادئه. أما المثقف المقلوب، فوظيفته تنتهي بانتهاء الحاجة إلى الضجيج، ويتلاشى حضوره حين يصمت الجمهور. لذلك، فإن الإجابة الحاسمة عن سؤال "هل المثقف المقلوب ناقد أم منقذ؟" لا تحتمل التردد. إنه ليس هذا ولا ذاك. بل هو ظاهرة ثقافية طارئة، تكشف بوضوح أزمة الوعي في مجتمعاتنا، وتذكّرنا بأن المثقف حين ينقلب على ذاته، يفقد قيمته، ويُصبح عبئًا لا أملًا. وهنا، يتوجب علينا أن نعيد النظر في الطريقة التي نتلقى بها الخطاب الثقافي، فليس كل من يرفع شعارات الحداثة ناقدًا حقيقيًا، ولا كل من يتبنى خطاب المعارضة مثقفًا مسؤولًا. لقد آن الأوان أن نتجاوز الانبهار بالأشكال، ونفكك المضمون، ونسائل كل من يتصدر المشهد الثقافي: ما مشروعك؟ من تمثل؟ وماذا أضفت؟ وهل في حوزتك من مشاريع ناهضة تسد رمق الجوع الثقافي؟. وكل هذه الأسئلة وغيرها إلى اجابات، ومعطيات حقيقية يجب أن يقوم بها المثقف، وثمة خطوات جادة تقع على عاتق المثقف، وبعكسيه فحاله حال الكثير من دعاة الثقافة، يحملون أصواتا نشاز. ومن يحمل هذه الصفة من صفات المثقف لا ينحني أمام الجمهور ليكسب التصفيق، ولا أمام السلطة ليحصل على امتياز. إنه في منطقة معقدة، يقف على حد السيف، مهدد دومًا، لكنه لا يتراجع. ولأنّ الحق في أغلب الأحيان لا يُصفق له، فهو يعلم أن طريقه موحش، لكنه لا يساوم على وعيه. كون أخطر ما يمكن أن يفعله المثقف المقلوب، أنه يُربك البوصلة الجمعية. فهو يتحدث بلغة تُشبه الحق، ويظهر بمظهر المصلح، لكنه في الحقيقة يُغلق أبواب الوعي، لأنه يُشيع ثقافة الشك دون أن يُقدم يقينًا، ويُدمن النقد دون أن يمسّ الجذور، ويجعل من كل قيمة موضع سخرية حتى لا يبقى شيء مقدّس أو ثابت. وبالتالي يُصبح أثره تراكميًا، لا في البناء، بل في الانهيار. لأن المجتمعات حين تفقد الثقة بمثقفيها، فإنها تفقد واحدًا من أهم خطوط الدفاع ضد الجهل والتعصب والانحدار. وإن لم يكن المثقف منقذًا، فلا أقل من أن يكون شاهدًا أمينًا على زمنه. أما حين ينقلب على هذا الدور، ويتحول إلى لاعب في مشهد العبث، فإنه يُفرغ الثقافة من معناها، ويُحوّل الفكر إلى زينة شكلية لا تُقنع ولا تُلهم. والمعضلة الكبرى أن صوته قد يعلو لفترة، لكنه لا يخترق الأعماق، ولا يُنتج أثرًا ممتدًا. لأنه فاقد للصدق، ولأن الشعوب – مهما بدا غير ذلك – تمتلك في أعماقها حاسة تميّز بها الغث من السمين، وتعرف جيدًا من يكتب بمداد الوجدان، ومن يتكلم بلون المصلحة. لذلك، ليس المثقف المقلوب ناقدًا، لأنه لا يُمارس النقد بمعناه التحرري، ولا منقذًا، لأنه لا يُؤمن بالخلاص الجمعي. بل هو ظاهرة يجب أن تُفكك وتُعرّى، لا من باب العداء، بل من باب التنوير الحقيقي، الذي لا يكتفي بإنتاج المعرفة، بل يحميها أيضًا من التشويه. في النهاية، يبقى المثقف المقلوب انعكاسًا لأزمة أعمق من مجرد خطاب متناقض أو موقف متلوّن؛ إنه تجلٍّ لاختلال المعايير وضياع البوصلة في زمن يُكافأ فيه الادّعاء ويُهمل الإخلاص. لكن الأمل لا يموت، فما يزال في المشهد مثقفون حقيقيون، يعملون بصمت، يزرعون الوعي لا الضجيج، ويؤمنون أن الكلمة حين تكون صادقة، تصنع فرقًا، ولو بعد حين. هؤلاء هم من يعوَّل عليهم في لحظات الانحدار، لأنهم لا يطلبون مجدًا شخصيًا، ولا يتاجرون بالأفكار، بل يكتبون من موقع المسؤولية، لا من رغبة الظهور. وإذا كان المثقف المقلوب صوتًا عابرًا يعلو حين يعلو الضجيج، فإن المثقف الحقيقي جذورٌ صامتة، لكنها وحدها القادرة على إنبات التغيير الحقيقي. ففي النهاية، لا يخلّد التاريخ من رفع شعاراته، بل من صدق في حملها. مراجع المقال: 1. المثقف والحداثة – د. عبد الله الغذامي، سنة النشر 2000 الناشر: المركز الثقافي العربي. 2. خيانة المثقفين – جوليان بندا (ترجمة) 1927 | الترجمة العربية الأحدث: 2007، الناشر: دار الفارابي. 3. سوسيولوجيا المثقفين – د. علي وطفة، سنة النشر: 2011، الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية. 4. دور المثقف في عالم متغيّر – نعوم تشومسكي (ترجمة عربية)، سنة الترجمة: 2012، الناشر: دار الفارابي. 5. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد – محمد عابد الجابري، سنة النشر: 2001 : مركز دراسات الوحدة العربية.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
-
المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
-
الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
-
صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
-
كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
-
المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
-
تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
-
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
-
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
-
المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
-
فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
-
حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
المزيد.....
-
انفجار الغواصة تيتان.. السلطات الأمريكية تعلن نتائج التحقيقا
...
-
هل تتحول قضية سلاح حزب الله إلى سبب لزعزعة الداخل اللبناني؟
...
-
هل يوافق حزب الله على نزع سلاحه نتيجة الضغوط الأمريكية؟
-
من هو إيتمار بن غفير، الوزير الإسرائيلي المثير للجدل؟
-
-بمن فيهم حزب الله-.. مسؤول سوري: سنلاحق بشار وماهر الأسد وك
...
-
رافضًا وضع جدول زمني لتسليم سلاحه.. أمين عام حزب الله: لا يج
...
-
الأزمة في غزة مستمرة.. استهداف طوابير الجوعى يخلف أكثر من 52
...
-
دورتموند يمنع حزب البديل من استخدام ألوانه في دعاية انتخابية
...
-
السلطات اللبنانية تعتقل ناشطا بتهمة ابتزاز الرئيس الغابوني
-
81 شهيدا في غزة منذ فجر اليوم والمقاومة تدمر آلية للاحتلال ب
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|