|
قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 22:20
المحور:
قضايا ثقافية
في أغلب المجتمعات التي تشهد استقطابًا سياسيًا أو جمودًا ثقافيًا، بلا ريب ستصبح مسألة حرية المثقف موضوعًا حساسًا ومعقدًا، بل ومحوريًا لفهم واقع الإنتاج الثقافي ودور النخبة الفكرية. في مثل هذه السياقات، تظهر “القولبة الثقافية” كقوة خفية وفاعلة، تسعى إلى تطويع الأفراد – وعلى رأسهم المثقفين – ضمن أنماط فكرية وسلوكية جاهزة، تُملي عليهم ما يجب أن يُقال، وما لا يُقال، ما يُعتبر وطنيًا أو خائنًا، أخلاقيًا أو منحرفًا، مقبولًا أو مرفوضًا. لأن المثقف، في جوهره، ليس موظفًا لنقل المعرفة أو تكرار ما يُقال، بل هو فاعل نقدي، دوره إعادة مساءلة البنى المعرفية والقيم السائدة، وتحفيز الوعي الفردي والجماعي على إعادة النظر في الواقع وتفكيك تناقضاته. غير أن القولبة الثقافية، بوصفها إحدى أدوات السيطرة الاجتماعية والسياسية، لا تسمح لهذا الدور بأن يتحقق في صورته الكاملة، إذ تسعى إلى تدجين المثقف، وإفراغ فكره من مضامينه النقدية، عبر إخضاعه لمعايير “الصواب” الثقافي الذي تحدده السلطة، سواء كانت دينية، سياسية، أو حتى مجتمعية. لذلك لا تشتغل القولبة بطريقة مباشرة دائمًا، بل تعمل أحيانًا بمنطق ناعم، حيث يُعاد تشكيل وعي الفرد تدريجيًا عبر التعليم، الإعلام، والدين، ليصبح سجينًا لتمثلات معينة عن ذاته ومجتمعه ودوره. وفي هذا السياق، يُمارس على المثقف ضغط مضاعف: فهو إما أن ينصاع للمنظومة، ويعيد إنتاج خطابها كما هو، أو أن يُصنَّف ضمن "المنحرفين" عن السائد، ويُنبَذ، أو يُهمَّش، أو يُشهَّر به، بل وربما يُلاحَق قانونيًا أو اجتماعيًا. فمما لا ريب فيه، القولبة لا تكتفي بفرض خطاب معين، بل تعمل على نزع شرعية الخطابات الأخرى، وتجريم الاختلاف، وإشاعة نوع من الخوف الداخلي في نفس كل من تسوّل له نفسه التفكير خارج السياق المفروض. وفي بيئة كهذه، يصبح المثقف في صراع دائم بين الحفاظ على حريته الفكرية، وبين خطر خسارة موقعه، أمانه، أو حتى حريته الجسدية. وهذا ما يدفع بعض المثقفين إلى التراجع أو التواطؤ، فيتحولون من حملة فكر إلى وكلاء خطاب السلطة، ويتحول نقدهم إلى تجميل للواقع، وتبرير للسلطة، والتماهي مع الجماعة، هربًا من عزلة المثقف المستقل، أو من ثمن الانشقاق. لكن لا يمكن إنكار أن هناك مثقفين استطاعوا أن يقاوموا هذا القيد. هؤلاء يظلون، رغم التهميش والملاحقة، أوفياء لفكرتهم عن دور المثقف، ويخوضون معركة طويلة ضد الصمت، ضد التبسيط، ضد الأحكام الجاهزة، وضد التهديد المبطّن الذي تفرضه آليات القولبة. فبعضهم يلجأ إلى الرمزية أو التلميح، وآخرون يستخدمون الفنون والسخرية كوسائط مقاومة، وثمة من يهاجر ليكتب من الخارج بحرية، ولكنهم جميعًا يشتركون في وعي عميق بأن الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع، وأن التواطؤ مع القالب هو موت بطيء للضمير. بمعنى آخر، القولبة الثقافية لا تُخضِع المثقف وحده، بل تعكس فشلًا مجتمعيًا أوسع في تقبل التعدد والاختلاف، وتُجسد هشاشة البنية الديمقراطية، حتى حين تتخفى خلف شعارات الحداثة والانفتاح. ومن هنا، فإن الدفاع عن حرية المثقف ليس قضية نُخبوية معزولة، بل هو دفاع عن قدرة المجتمع على التطور، على الحلم، على مساءلة نفسه. فما يُقال اليوم على الهامش، هو غالبًا ما سيصبح مركزًا غدًا، والتاريخ، في نهاية المطاف، لا يخلّد من أطاع، بل من تجرّأ على أن يختلف. وفي عالم تتزايد فيه أدوات الرقابة، وتتنامى فيه النزعة نحو التبسيط الثقافي والانغلاق الفكري، تصبح حرية المثقف أشبه بفعل مقاومة يومي. ليست رفاهية، ولا ترفًا، بل ضرورة حيوية لضمان وجود تفكير مستقل، وفضاء عام يُسمح فيه بإعادة التفكير بكل شيء: في السلطة، في المجتمع، في المقدّس، في الذات. هذه الحرية، وإن كانت محفوفة بالمخاطر، تظل الأمل الوحيد لبناء ثقافة حية، قادرة على التجدد، لا مجرد ثقافة تدور في فلك القوالب الجاهزة. ورغم أن التحديات التي تواجه المثقف في ظل القولبة الثقافية قد تبدو عصيّة، إلا أن ما يمنحه القدرة على الاستمرار هو إيمانه العميق بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الوعي. هذا الوعي لا يُصاغ في صمت القوالب، بل في ضجيج الأسئلة، في لحظات التمرّد، وفي شجاعة الوقوف خارج الصف حين يفرض الصف التماهي الكامل مع ما هو قائم. والمثقف الذي يدرك خطورة القولبة لا يقف ضد المجتمع بقدر ما يسعى لإنقاذه من الركود، من الجهل المقنن، ومن الطاعة المفرطة التي قد تتحول إلى نوع من العبودية الفكرية. وبالتالي، القولبة لا تكتفي بإسكات الأصوات الحرة، بل تسعى أيضًا إلى إنتاج "مثقف رسمي"، يُستخدم كغطاء شرعي لكل ما تمارسه السلطة أو الجماعة من تقييد للحريات. هذا المثقف غالبًا ما يُحتفى به، ويُكرّم، ويُمنح الجوائز، لأنه لا يُشكّل خطرًا حقيقيًا، بل يسهم في تثبيت الوضع القائم. في المقابل، يُترك المثقف الحر في عزلة، أو يُلاحَق، أو يُتَّهَم بالعدمية، أو حتى بالخيانة. ولكن، وكما أثبت التاريخ، فإن السلطة الثقافية الحقيقية لا تأتي من المنابر الرسمية، بل من قدرة المثقف على البقاء صادقًا مع نفسه، حتى في أقسى الظروف. إن القولبة الثقافية تمثل نوعًا من "الرقابة الذاتية"، الأخطر من الرقابة المباشرة. حين يخاف المثقف من قول الحقيقة، ليس بسبب نص قانوني أو جهاز رقابي، بل بسبب خوف داخلي تشكل بفعل تراكمات اجتماعية وتعليمية، حينها يصبح المثقف خاضعًا دون أن يشعر. والخطر هنا يكمن في أن يتحول هذا الخضوع إلى نمط حياة، وإلى نمط تفكير. في هذه اللحظة، لا يعود الخطر في السلطة أو المجتمع فحسب، بل في المثقف ذاته، الذي يتخلى طوعًا عن حريته. ولكن رغم هذا السواد، تبقى فسحات من الأمل. الإنترنت، وسائل التواصل، المنصات المستقلة، والأصوات الجديدة التي لا تنتمي إلى المؤسسات التقليدية، فتحت فضاءات بديلة يستطيع فيها المثقف أن يكتب، أن يعبر، وأن يؤسس لخطاب موازٍ لا يخضع للقولبة. هذه الفضاءات، رغم ما فيها من فوضى وتشويش أحيانًا، تُعد فرصة لإعادة تعريف دور المثقف بعيدًا عن النموذج الرسمي أو الكلاسيكي، وتفتح الباب أمام أشكال جديدة من المقاومة الثقافية. و وسط هذه الدوامة فإنّ المثقف الذي يعي هذا الدور لا يبحث عن النجاة الشخصية، بل عن الخلاص الجمعي. لا يسعى إلى استرضاء السلطة أو المجتمع، بل إلى زعزعة القوالب حين تكون ظالمة، جامدة، أو مضللة. ولا يهاب الاتهام أو العزل، لأن حريته لا تُقاس بمدى قبوله، بل بمدى صدقه. فكل مثقف حر، حتى وإن صمت الجميع من حوله، هو بمثابة شمعة في العتمة، تُذكّر بأن الإنسان وُجد لا ليُقالَب، بل ليُفكر، ليحلم، وليختار. وفي النهاية، لا يمكن الحديث عن تحرر المجتمع دون تحرر المثقف. ولا يمكن تحرر المثقف دون مواجهة حاسمة مع آليات القولبة التي تُحاول تقليص الإنسان إلى مجرد تابع. وبين هذا وذاك، تبقى المعركة قائمة، ومع كل كلمة تُقال خارج القالب، يُسترد جزء صغير من الكرامة الفكرية، ويُفتح أفق جديد للمستقبل. وبهذه المناسبة يرى ديفيد هيوم: "لا تُقاس الثقافة بعدد الكتب، بل بقدرة العقل على الحكم". - من مقالاته الفلسفية مراجع المقال: 1. ثقافة العولمة وعولمة الثقافة – نبيل علي، عالم المعرفة، الكويت، 2005. 2. فخ العولمة – هانس بيتر مارتن وهارالد شومان، ترجمة: فايز الصياغ، دار الكتاب العربي، 2002. 3. اللغة والسلطة – نورمان فيركلو، ترجمة: سعيد بنكراد، دار توبقال، 2010. 4. العقل المستقيل في الإسلام – جورج طرابيشي، دار الساقي، 1996. 5. أزمة المثقفين العرب – كاظم حبيب، دار الكنوز الأدبية، 2007
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
-
الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
-
صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
-
كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
-
المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
-
تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
-
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
-
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
-
المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
-
فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
-
حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
-
التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق
...
المزيد.....
-
عامل مزرعة في جنوب أفريقيا يقول إنه أُجبر على إطعام جثتي امر
...
-
ماتوا جوعًا قبل أن تمتد أيديهم للطعام.. جنازات في غزة لضحايا
...
-
لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. إيران تترقّب أول زيارة للوكالة ا
...
-
من الخطوط الأمامية.. زيلينسكي يتهم روسيا بتجنيد -مرتزقة أجان
...
-
وزير الصحة بدارفور: -الدعم السريع- مسؤولة عن انتشار الكوليرا
...
-
قتيل و4 إصابات بغارة إسرائيلية على بلدة الخيام جنوبي لبنان
-
إدارة ترامب تربط دفع تمويل للولايات والمدن بموقفها من إسرائي
...
-
حملة إسرائيلية لتبرئة وتلميع قاتل الناشط عودة الهذالين
-
صحة غزة: علاج -غيلان باريه- غير متوفر ونحذر من موت بالجملة
-
المرصد يتابع معاناة صحفيي غزة من حرب تجويع القطاع
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|