أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)














المزيد.....

الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 20:14
المحور: قضايا ثقافية
    


الأفكار الملقّنة، بطبيعتها، تأتي من الخارج وتُقدَّم للفرد جاهزة، تحمل توجيهًا ضمنيًا أو صريحًا لما يجب التفكير فيه أو كيف يجب أن يُفكَّر. وهي تُزرع غالبًا من خلال التعليم النمطي، الإعلام، أو حتى من خلال البيئة الاجتماعية التي تحيط بالفرد. والسؤال هنا ليس عن قدرة الإنسان على تلقي هذه الأفكار، بل عمّا إذا كانت قادرة على أن تُنتج إبداعًا حقيقيًا، أم أنها مجرد عوائق تُجمّد العقل في قوالب مسبقة. والإبداع، في جوهره، لا يُولد من التكرار أو الامتثال، بل من التمرّد على المألوف وإعادة صياغة الواقع برؤية جديدة. والمبدع بدوره لا يكتفي بتلقي الفكرة، بل يعيد طرحها، يتحدى أصلها، يُعيد تشكيلها، وربما يهدمها ليبني شيئًا مختلفًا. ولهذا، فإن الأفكار الملقّنة لا تصنع الإبداع بحد ذاتها، إلا إذا خضع لها الإنسان أولًا ثم ثار عليها. بمعنى أن التلقين قد يكون مادة خامًا، لكنه لا يملك القيمة الفنية أو الإبداعية ما لم يُعاد تفكيكه وتركيبه بجهد شخصي مستقل. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض أشكال التلقين قد تكون بداية لحراك ذهني. أحيانًا، يتلقّى الطفل فكرة تقليدية أو قاعدة جامدة، لكنها تثير في داخله تساؤلًا أو رفضًا خفيًا، وهذا قد يكون الشرارة الأولى لتكوين فكر مغاير. فالمشكلة لا تكمن دائمًا في التلقين نفسه، بل في غياب المساحة للتساؤل والاختلاف. إذا حُرِم الفرد من حرية النقد والاختيار، يصبح التلقين عبئًا قاتلًا للخيال. أما إذا استُخدم كمحفّز أو كمدخل مؤقت نحو بناء موقف فكري مستقل، فقد يتحول إلى نقطة انطلاق نحو الإبداع.
وتماشيا ما تم ذكره الإبداع لا يمكن أن يكون نتيجة طاعة عمياء، لأنه فعل حر، ينبع من الداخل، من التوتر بين الواقع والرغبة في تغييره. والأفكار التي تُمنح للفرد دون أن يُطلب منه التفكير فيها أو مساءلتها، هي أشبه بالقيود الناعمة. قد تمنحه أمانًا فكريًا مؤقتًا، لكنها لا تتيح له تجاوز حدود المألوف. ولهذا فإن البيئة التي تعتمد على التلقين كوسيلة للتربية والتعليم كثيرًا ما تقتل المواهب في مهدها، لأن الطفل فيها يُعلَّم أن الصواب لا يُصنع، بل يُتلقّى.
إذن، الإبداع ليس نقيضًا تامًا للتعلّم أو الاستفادة من تجارب الغير، لكنه نقيض للخضوع العقلي. هو قدرة على رؤية ما هو موجود بعينٍ مختلفة، وإعادة ترتيب المفاهيم القديمة بطريقة جديدة. لهذا، فإن الأفكار الملقّنة لا تُنتج الإبداع إلا حين تُقابل بعقل يرفض أن يكون مجرد وعاء، ويصر على أن يكون ذاتًا فاعلة، تختار، وتشكل، وتخترع. ولأن الإنسان ليس صفحة بيضاء تمامًا، فإن ما يُلقّن له يترك أثرًا، سواء قبِله أو رفضه. الإبداع الحقيقي لا يعني الانفصال التام عن كل ما سبق، بل القدرة على الامتزاج بين ما هو مُتعلَّم وما هو مُبتكَر. فالفنان يرسم بريشة قد تعلّم استخدامها من غيره، لكن اللوحة التي يبدعها هي رؤيته هو. والمفكر قد يستند إلى أفكار سبقه إليها آخرون، لكن طريقته في ربطها وتفسيرها هي ما يمنحه فرادته. وهنا يظهر الفارق الجوهري بين التكرار والخلق: التكرار يعيد إنتاج الأصل كما هو، أما الخلق فيضيف إليه شيئًا لم يكن فيه من قبل.
وبالنتيجة الأفكار الملقّنة تصبح عائقًا حين تُغلق على العقل أبواب التساؤل، لكنها قد تكون جسورًا إذا ما قادت إلى تفكير أعمق، أو دفعت الفرد إلى أن يسأل: لماذا؟ كيف؟ ماذا لو؟ وهذه الأسئلة هي بذور الإبداع. لذلك، كثير من المبدعين العظماء بدأوا من التمرّد على ما لُقّنوا به، لا من رفضٍ كامل للمعرفة، بل من رغبة عميقة في إعادة النظر، وفي إيجاد معنى ذاتي لما يُقال.
ومن هذا نرى إن التربية والتعليم، حين يُبنيان على التلقين وحده، يُخرّجان أجيالًا تحفظ ولا تفهم، تُكرّر ولا تبتكر، تخشى الخطأ أكثر مما تطمح إلى الاكتشاف. في مثل هذه البيئة، يُصبح الإبداع خطرًا، لأنه يُهدد البنية القائمة. بينما في بيئة تحتفي بالتجربة والخطأ، وتفتح مجالًا للتعبير المختلف، فإن التلقين يتحوّل إلى مجرد نقطة انطلاق، لا إلى وجهة نهائية. وهذا هو الفارق بين تعليم يُعيد إنتاج العقول، وتعليم يُنتج العقول. لذلك، لا يجب أن نطرح سؤال: هل الأفكار الملقّنة تصنع الإبداع؟ بل: كيف نتعامل مع هذه الأفكار؟ كيف نقدّمها؟ وكيف نربّي الأفراد على تلقيها؟ فالفكرة في ذاتها ليست سجنًا، بل طريقة تقديمها هي التي تحدد إن كانت ستُستخدم كمطرقة تبني أو كقيد يكبّل.
وباختصار، الإبداع لا يُصنع من الفراغ، لكنه لا يزدهر في التلقين الأعمى. إنه توازن دقيق بين المعرفة والتأمل، بين التلقي والرفض، بين التقليد والخلق. الأفكار الملقّنة لا تصنع الإبداع إذا أُخذت كما هي، لكنها قد تثيره إذا ما وُضعت تحت مجهر النقد، وفُتحت لها نوافذ التأويل والتطوير. هنا فقط، تبدأ رحلة الخروج من التكرار إلى الابتكار، ومن الصمت إلى التعبير، ومن الحفظ إلى الخلق.
يقول أحد المفكرين: "الإبداع لا بد له من إعداد جيد، وجهد عنيف في التدريب واكتساب المهارات اللازمة، كي يصير المرء قادراً على بلورة أفكاره وتشكيلها وتحقيقها في مجال معين".
مراجع المقال:
1.دفاعا عن العقل والحداثة، د. محمد سبيلا، منشورات مركز أساس فلسفة الدين – بغداد، سنة الطبع 2004.
2. الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، د. السيد محمد بدوي، دار المعارف في مصر، 1980.
3.ثورة الأمل، اريك فروم، ترجمة مجاهد عبد المنعم، الطبعة الأولى لسنة 2010.
4.الشرق الفنان، د. زكي نجيب محود، سلسلة الثقافة/ 7 منشرات دار القلم في مصر.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
- قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
- المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
- صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟


المزيد.....




- بعد تحريك ترامب لوحدات -نووية-.. لمحة عن أسطول الغواصات الأم ...
- مقبرة الأطفال المنسيّة.. كيف قادت تفاحة مسروقة صبيين إلى سرّ ...
- الوداع الأخير.. طفل يلوح لجثامين في جنازة بخان يونس وسط مأسا ...
- مستشار سابق للشاباك: حرب غزة غطاء لمخطط تغيير ديمغرافي وتهجي ...
- نفاد تذاكر -الأوديسة- قبل عام من عرضه.. هل يعيد كريستوفر نول ...
- بين الرخام والحرير.. متحف اللوفر يستضيف معرض الكوتور لسرد قص ...
- أزمة حادة بين زامير ونتنياهو بشأن استمرار الحرب على غزة
- فورين أفيرز: لماذا على تايوان إعادة إحياء مفاعلاتها النووية؟ ...
- فيديو الجندي الأسير لدى القسام يثير ضجة في إسرائيل
- بلغراد تندد بتثبيت حكم على زعيم صرب البوسنة


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)