أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)















المزيد.....

كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8419 - 2025 / 7 / 30 - 20:17
المحور: قضايا ثقافية
    


تُعد القوالب الفكرية من أكثر الأدوات تأثيراً في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيهه نحو نمط تفكير موحد، حيث تعمل المجتمعات والأنظمة والمؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية على إنتاج منظومات فكرية جاهزة تُغذي العقول منذ الصغر، وتمنح الأفراد شعوراً بالانتماء والمعنى، ولكنها في الوقت نفسه تُقيّد حرية التفكير الفردي وتحد من القدرة على التساؤل والنقد. إن صناعة القوالب الفكرية لا تتم بشكل مباشر أو صريح في أغلب الأحيان، بل تنشأ من خلال عمليات متراكمة، تبدأ بالتربية الأسرية، مروراً بالمناهج الدراسية، وتكرّسها وسائل الإعلام والخطاب الديني والثقافي والاجتماعي، بحيث تُصبح هذه القوالب بمثابة "بداهات" لا يجرؤ الكثيرون على مساءلتها، خشية النبذ أو الاتهام بالخروج عن الإجماع أو فقدان الهوية.
لذا تكمن خطورة القالب الفكري في قدرته على جعل الإنسان يظن أنه يفكر، في حين أنه يكرر ما قيل له. فعندما يتشرب الفرد مجموعة من الأفكار الجاهزة حول الدين، والسياسة، والتاريخ، والمجتمع، فإنه يبني تصوراته للعالم وفق ما يُقدَّم له من أنماط تفسير جاهزة، ويخضع للمنطق الجمعي الذي يفرض عليه طريقة معينة في فهم الأشياء دون أن يمنحه فرصة لتكوين وعي مستقل. هكذا يتم إنتاج "فكر موحد"، يظن فيه كل فرد أنه يمارس التفكير بينما هو يعيد إنتاج نفس المنظومة الفكرية التي صيغت له سلفاً. وهذا ما يجعل الاختلاف صعباً أو حتى مرفوضاً، لأن من يخرج عن القالب يُعد شاذاً أو مارقاً، وقد يُحارب أو يُقصى اجتماعياً وثقافياً.
ومن المؤكد إن القوالب لا تُصنع في فراغ، بل غالباً ما تكون نتيجة تفاعل بين السلطة والمعرفة. فالسلطات السياسية والدينية والاقتصادية تستثمر في إنتاج القوالب لأنها تضمن من خلالها استقراراً في البنية الاجتماعية، وتحقيقاً لنوع من السيطرة الناعمة على الجماهير. إن السيطرة على الأذهان أكثر فاعلية من السيطرة على الأجساد، ومن هنا كانت صناعة الفكر الموحد مدخلاً لإدارة المجتمعات، وتوجيه الأفراد بما يخدم مصالح القوى المهيمنة. ولهذا نجد أن القوالب لا تُواجه بالعنف فقط، بل تُغلَّف بمفردات التقديس، أو تُربط بالهوية الوطنية أو الدينية، بحيث يصبح التشكيك فيها تهديداً للذات الجماعية بأكملها. إنها بذلك تتحول من أدوات فكرية إلى قوالب رمزية مقدسة. غير أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن للفرد أن يتحرر من هذه القوالب دون أن يفقد توازنه أو يشعر بالاغتراب؟ التحرر من الفكر الموحد لا يعني بالضرورة الخروج على المجتمع، بل يعني التمرن على التفكير المستقل، وامتلاك الجرأة على السؤال، والقدرة على مراجعة المسلمات. وهو مسار صعب لأنه يتطلب الانفصال الرمزي عن السائد، والقبول باللايقين، والاعتراف بأن الحقيقة ليست مطلقة أو مملوكة من طرف واحد. وحدهم المفكرون الأحرار، والفلاسفة، والمبدعون، استطاعوا عبر التاريخ أن يخرجوا من تلك القوالب، ويدفعوا الإنسانية إلى آفاق جديدة من الوعي، لكنهم في الغالب دفعوا ثمناً باهظاً، من التهميش إلى النفي أو حتى الموت.
إنّ آلية إنتاج الفكر الموحّد لا تقوم فقط على بث الرسائل والأفكار، بل تعتمد أساسًا على تكرارها وتضخيمها وتمريرها عبر قنوات متعددة، بحيث تُزرع في العقل الجمعي كما تُزرع البذور في التربة، لتتحول مع الوقت إلى معتقدات راسخة يصعب اقتلاعها. إنّ الطفل، منذ لحظة ولادته، يتلقى رسائل ضمنية ومباشرة من محيطه الأسري والمدرسي والإعلامي، تُحدِّد له ما يجب أن يؤمن به، وما يجب أن يرفضه، وما هو "صحيح" و"خاطئ"، و"مقبول" و"مرفوض". هذه الرسائل لا تُطرح بوصفها آراء قابلة للنقاش، بل كحقائق مطلقة غير قابلة للنقد. من هنا تبدأ عملية "قولبة" الفرد، ليصبح متماهياً مع فكر جماعي، لا يجرؤ على خرقه. هذا النمط من التنشئة يخلق نوعاً من "الطمأنينة الزائفة"، حيث يشعر الفرد بالأمان لأنه ينتمي إلى فكر سائد ومقبول، لكنه في الواقع يعيش داخل حدود ضيقة من التفكير. فالفكر الموحد لا يشجع على الإبداع، ولا على طرح الأسئلة، بل يخاف من المختلف والمجهول، ويُفضّل الاستقرار على المراجعة. من هنا تتولّد العقلية التي ترى في كل خروج عن المألوف تهديداً أو انحرافاً. وغالبًا ما يتم تحصين هذا الفكر بآليات دفاعية كالتخوين أو التكفير أو الإقصاء، مما يجعله مغلقًا على ذاته، غير قابل للتطور أو التحديث.
ولعل أخطر ما في القوالب الفكرية أنها لا تنحصر في مجال معين، بل تمتد لتطال الدين، والسياسة، والتاريخ، والفن، والجندر، واللغة. فكل ما يتصل بالهوية الجماعية يُعاد إنتاجه بطريقة تُناسب النموذج الذي يراد ترسيخه. الإعلام مثلاً، لا يقدّم المعلومة فحسب، بل يساهم في بناء التصورات الجمعية، ويخلق نُسخًا موحّدة من "المواطن الصالح"، أو "المرأة المثالية"، أو "العدو". وهكذا يتشكل وعي زائف، يرى العالم من زاوية واحدة، ويغيب عنه التعدد والتعقيد والتناقض، وهي مكونات أساسية لأي تفكير نقدي حيّ.
وفي السياق العربي خصوصاً، تعاني كثير من المجتمعات من استبداد ثقافي لا يقل قسوة عن الاستبداد السياسي. فالمجتمع ذاته، قبل السلطة، قد يكون رقيبًا على التفكير الحر. وهذا ما يجعل تغيير القوالب عملية بطيئة ومؤلمة، لأنها تتطلب مواجهة الذات الجماعية، ونقد ما اعتُبر "مقدسًا" أو "أصيلاً". المفكر هنا يصبح مزعجًا لا لأنه ضد المجتمع، بل لأنه يُحرّك المياه الراكدة، ويوقظ الوعي النائم، ويزعزع البديهيات. ولذلك يُنظر إلى المفكر الحر بوصفه خطرًا لا يُرحّب به، حتى وإن كان ينطق بالحقيقة.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية الفلسفة كأداة تحرر. فالفلسفة لا تعطي أجوبة جاهزة، بل تُعلّم كيف نطرح الأسئلة بطريقة صحيحة، وكيف نشكّ بطريقة بنّاءة. ومن هنا جاء العداء التاريخي للفلسفة من قبل كل سلطة شمولية، لأنها تُهدّد القوالب، وتُعرّي تناقضاتها، وتُطالب بالتحرر من المسلمات. ولهذا السبب أيضًا، كان كثير من الفلاسفة والمفكرين في تاريخنا عرضة للمحاكمات والنفي والرقابة، من سقراط إلى ابن رشد إلى غاليليو إلى المفكرين العرب المعاصرين.
ولا يمكن الحديث عن القوالب الفكرية دون التطرّق إلى دور التعليم. فالنظام التعليمي، في كثير من الأحيان، لا يُعلّم التلميذ كيف يُفكر، بل يُعلّمه ماذا يُفكر. تُختزل العملية التعليمية في تلقين وحفظ، وتُقدّم المعرفة كسلطة، لا كمجال بحث وتساؤل. النتيجة: أجيال تخرج من المؤسسات التعليمية وهي غير قادرة على التفكير النقدي، بل تبحث عن "الإجابات النموذجية" في كل شيء. وهكذا يُعاد إنتاج الفكر الموحّد، لا بفعل السلطة فقط، بل من خلال منظومات اجتماعية كاملة تعمل على صيانته وتعزيزه.
وعليه... التحرر من القوالب لا يعني الفوضى الفكرية، بل يتطلب شجاعة الوعي. إنّ امتلاك العقل النقدي لا يعني رفض كل ما هو سائد، وإنما إخضاعه للفحص والسؤال. ويجب التمييز بين احترام التراث وتقديسه، وبين فهم الدين والتدين الموروث، وبين الهوية والانغلاق. فالمجتمعات التي نجحت في التقدم هي تلك التي استطاعت أن تُراجع قوالبها، وأن تُقيم توازناً بين الثابت والمتغير، وبين الأصالة والانفتاح. الفكر الموحد قد يمنح المجتمع انسجاماً ظاهرياً، لكنه في النهاية يُنتج الهشاشة، ويجعل من أي اختلاف شرارة قد تتحول إلى صراع.
وفي النهاية، يمكن القول إن القوالب الفكرية لا تزول بسهولة، لأنها تتجدد باستمرار وتأخذ أشكالاً جديدة بحسب الزمان والمكان، ولكن الوعي بها هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها. وكلما ارتقى مستوى الوعي النقدي في المجتمع، تقلّصت سطوة الفكر الموحد، وازدهرت حرية التفكير والتعبير، وظهرت إمكانيات أوسع للعيش المشترك القائم على التنوع والاحترام.
مراجع المقال:
1. الذات والعنف – أمارتيا سن، ترجمة فؤاد شاهين، المركز القومي للترجمة، 2010.
2. الهويات القاتلة – ريجيس دوبريه، ترجمة عبد الله إبراهيم، دار الكتاب الجديد، 2001.
3. التفكير النقدي – فنسنت رايان، ترجمة منير البني، دار الحوار، 2005.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
- قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
- المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
- صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟


المزيد.....




- تجربة مرعبة.. مصري يروي تجربته مع قبيلة تحتفظ بجثث موتاها لس ...
- الرئيس اللبناني: تعبنا من حروب الآخرين على أراضينا وعلينا وق ...
- اتهام غير مسبوق من داخل إسرائيل: حكومتنا ترتكب إبادة جماعية ...
- السويد تصدر حكماً بالسجن مدى الحياة لمواطن بتهمة حرق الطيار ...
- العلاقة السورية الروسية، بين التعاون الحذر و-المصالح البرغما ...
- بين خطاب رئيس الجمهورية وتمسّك حزب الله بالسلاح.. هل دخل ل ...
- المغرب: بوابة إسرائيل إلى أفريقيا
- وزير الخارجية السوري في موسكو وبحث في مصير القاعدتين العسكري ...
- هل تحيي زيارة ويتكوف إلى إسرائيل محادثات وقف إطلاق النار في ...
- الدفاع المدني في غزة: مقتل 40 فلسطينيا على الأقل في عمليات إ ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)