|
المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8423 - 2025 / 8 / 3 - 20:49
المحور:
قضايا ثقافية
في أزمنة التغير العاصف، تصبح المجتمعات في حاجة ماسّة إلى صوت المثقف؛ ذاك الصوت الذي لا يكتفي بوصف الواقع، بل يتجاوزه إلى نقده، وتفكيكه، واقتراح مسارات بديلة للمستقبل. غير أن ما نشهده اليوم، في كثير من البيئات الثقافية، هو انكماش لهذا الدور، وتحوّل المثقف من صوت نقدي مستقل إلى صدى خافت لخطابات السلطة، أو أداة من أدواتها، أو على الأقل متواطئ معها بالصمت. هذا الامتثال الطوعي أو القسري، أفضى إلى فقدان ما يمكن تسميته بـ"صوت المستقبل"، أي البصيرة النقدية التي تنذر وتبشّر وتبتكر، وترسم ملامح البديل الممكن لا البقاء في ظل القائم. وحين يخضع المثقف للامتثال، يصبح أشبه بمفسّر رسمي للواقع، لا ناقد له. ينشغل بتبرير ما هو كائن، لا باختراع ما ينبغي أن يكون. يتخلّى عن مهمته الأساسية: مساءلة الموروث، ونقد السلطة، وفضح التناقضات، والمطالبة بالعدالة والحرية والمعنى. وهذا الامتثال لا يكون دائمًا نتاج قمع مباشر، بل غالبًا ما يُولد من داخل المثقف نفسه، حين يختار السلامة على المجازفة، أو يفضّل القرب من دوائر النفوذ على البقاء في هامش الحقيقة. والسلطة الحاكمة، في أي شكل من أشكالها، تميل بطبيعتها إلى تطويع الأصوات المثقفة وترويضها، أو على الأقل تحييدها. لكنها لا تنجح في ذلك إلا حين تجد في صفوف المثقفين من يقبل بالدور الزائف: دور المثقف-المُبرّر، أو المثقف-الخبير التقني، أو المثقف-النجمي الذي يعيش على فتات الظهور الإعلامي. وهكذا، يتحول الخطاب الثقافي إلى استعراض لغوي بلا مضمون تحويلي، ويُفرَغ من بعده الأخلاقي، ويُختزَل في مقولات رائجة لا تهز وعيًا ولا تُزعزع يقينًا. وحينها قد يغيب النقد، وغياب النقد لا يعني الرضا، بل غالبًا يعني التواطؤ أو العجز. والمثقف الممتثل، حتى لو كان حسن النية، يُصبح شريكًا في إعادة إنتاج أنظمة التخلف والظلم، لأنه يزيّنها بالكلام أو يصمت عنها. بذلك، تتراكم الأزمات، ويغيب صوت الإنذار المبكر، ويُفقد المجتمع بوصلة الوعي التي كان يُفترض أن يقدّمها المثقف. وبالتالي، إن فقدان صوت المستقبل لا يعني فقط غياب الرؤية، بل أيضًا فقدان الخيال. والمثقف حين يتنازل عن خياله، يُصبح موظفًا في مصنع الأوهام، لا صانعًا للمعنى. لا يقترح حلولًا، ولا يجرؤ على الحلم، ولا يعيد تخيّل العلاقة بين الفرد والمجتمع، أو بين السلطة والعدالة، أو بين المعرفة والحرية. وهذا هو الجذر العميق للأزمة: الصمت عن طرح الأسئلة الصعبة، وترديد الإجابات الجاهزة. في هذا الحال، ما يحتاجه الزمن الراهن ليس مثقفًا مطمئنًا، بل مثقفًا قلقًا، مشاكسًا، عابرًا للمحرّمات "المحظورات"، مهووسًا بالاحتمالات لا بالحقائق المصمتة. مثقفًا لا يطلب القبول، بل يدفع ثمن الاختلاف. مثقفًا يرى في كل نظام سلطة مشروعًا للنقد، لا فرصة للتقرب. فالمستقبل لا يُصنع بالتهليل للموجود، بل بالبحث عن طريق ثالث، وبالكلمة التي تُقال في اللحظة التي يُراد لها أن تُصمت. ناهيك عن ذلك، إن المثقف الذي يفقد صوته، لا يفقده لأن أحدًا أخذه منه، بل لأنه هو من سلّمه طواعية. والفقد هنا لا يعني الصمت فقط، بل الأدهى: الكلام الذي لا يعني شيئًا. ولأن المجتمعات التي لا تُنصت لنقد مثقفيها، أو تقتل أصواتهم بالترويض، لا تمتلك قدرة على الخروج من أزماتها، فإن فقدان صوت المثقف اليوم هو إعلان مبكر عن غياب المستقبل. وحين يفقد المجتمع صوت مثقفيه، لا يعود الصراع بين التقدم والجمود صراعًا متكافئًا، أبدًا، بل، قد تميل الكفّة تلقائيًا لصالح القوى المحافظة، المتشبثة بالسائد، التي لا ترى في التغيير سوى تهديد لامتيازاتها. لذا في غياب المثقف الحر، القادر على زعزعة القناعات الزائفة، يصبح التاريخ دائرة مغلقة، يُعاد فيها إنتاج الأخطاء نفسها تحت مسميات مختلفة. وتخفت القدرة الجماعية على الحلم، لأن الحلم يحتاج من يطرحه بجرأة، ويمارسه فكريًا كفعل مقاومة ضد الحتميات المصطنعة. وهنا يصبح كل شيء واضحًا، المثقف الممتثل لا يكتب للناس، بل يكتب للسلطة أو لمزاج السوق أو لموقعه في شبكة العلاقات. يختبئ خلف اللغة المنمقة، ويستبدل المعنى بالتلميح، والموقف بالمجاملة، والاحتجاج بالتحفظ. وفي ذلك اختفاء مزدوج: اختفاء الفرد الحر الذي يفكر ويعبّر، واختفاء الصوت الجماعي الذي كان يمكن أن يستند إليه ليصوغ خطابًا بديلًا. يصبح العمل الثقافي طقسًا استهلاكيًا، ترفًا شكليًا، لا يتصل بالقضايا الملتهبة التي تمس حياة الناس وكرامتهم ومصيرهم. ومن المأساوي - وهذا وارد - أن يتحوّل كثير من المثقفين إلى مجرد متابعين لما تقوله السلطة، لا سابقين لها. يبحثون عمّا تقبله لكي يردّدوه، لا عمّا يجب أن يُقال حتى لو رُفض. وبينما يفترض أن يكون المثقف مستشرفًا للغد، يصبح، في صورته الجديدة، مؤرّخًا بائسًا للحاضر. لا يملك جرأة الإعلان، ولا حتى صدق التوصيف. يغرق في التفاصيل الهامشية، وينشغل بالقشور، ويتقن مهارة التهرب من الأسئلة المفصلية. وهكذا، يفقد المجتمع آخر خطوط مقاومته الرمزية، لأن المثقف هو آخر من يجب أن يصمت، وآخر من ينبغي أن يهادن. والنتيجة، فقدان صوت المستقبل لا يعني فقط أن المثقف لم يعد يجرؤ على قول "لا"، بل إنه لم يعد يجرؤ على تخيّل "نعم" أخرى. نعم جديدة للحياة، للعدالة، للحرية، للكرامة، للفكر الحر غير الخاضع. وهذه القدرة على التخيّل هي روح المثقف الحقيقي، ومن دونها يصبح فكره محفوظًا في ملفات أرشيفية لا تهز أحدًا. لذلك، لا يكفي أن يُكتب النص، بل يجب أن يكون له أثر. لا يكفي أن يُنشر الكتاب، بل يجب أن يُقلق، ويُسائل، ويدفع القارئ نحو الرفض أو الإيمان، لا نحو البلادة. في نهاية المطاف، إن الدفاع عن حرية المثقف ليس دفاعًا عن طبقة بعينها، بل عن مستقبل المجتمع بأكمله. فالمثقف، حين يكون حرًّا في صوته وفعله، يكون ضمير الزمن. وإن لم يكن كذلك، صار وجهًا آخر للسلطة، لا فرق بينه وبين من يصنعون أدوات القمع. وحده المثقف الذي لا يخشى العزلة، ولا يطمئن للجماهيرية الرخيصة، ولا يهادن السلطة أو السوق، هو من يملك أن يفتح للناس نافذة على أفق جديد، ويمدّ الجسر نحو مستقبل لا يزال ممكنًا. وإذا كان المستقبل لا يُولد من رحم الصمت، فإن أولى علامات الولادة الحقيقية تبدأ حين يعود المثقف إلى موقعه الطبيعي: شاهدًا لا مرتزقًا، ناقدًا لا ناطقًا رسميًا، حالمًا لا خاضعًا. وحينها فقط، يستعيد المستقبل صوته. مراجع المقال: 1. المجتمع والثقافة – آرنولد توينبي، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 19922 2. فلسفة التنوير – إرنست كاسيرر، ترجمة: إبراهيم أبو هشهش، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019. 3. نظرية الفعل التواصلي – يورغن هابرماس، ترجمة: فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020. 4. في الترجمة: أنظمة وتحولات – أنطوان برمان، ترجمة: فتح الله الشيخ، المركز القومي للترجمة، 2018. 5. سيرة العقل الحديث – بيتر واتسون، ترجمة: عبد الله النجار، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2010. 6. نشأة النظام الأبوي – غيردا ليرنر، ترجمة: فاطمة نصر، المركز القومي للترجمة، 2009. 7. الحس التاريخي – جيرزي توبولسكي، ترجمة: جورج كتورة، دار الحوار، 2007. 8. ما بعد الحداثة – أحمد عبد الحليم عطية، دار قباء للطباعة والنشر، 2010. 9. ثقافتنا في مواجهة العصر – زكي نجيب محمود، دار الشروق، طُبع عدة مرات، أبرزها 1998.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
-
صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
-
كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
-
المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
-
تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
-
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
-
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
-
المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
-
فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
-
حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
-
التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق
...
-
أين نحن من الوجود؟
المزيد.....
-
أمام ترامب.. فيديو ما فعله أحد الخيول بمراسم الاستقبال بلندن
...
-
بعد ضربة قطر.. أمين حزب الله و6 نقاط وجهها إلى السعودية -لفت
...
-
غوتيريش: العالم يجب ألا يخشى ردود أفعال إسرائيل الانتقامية
-
ترامب يواجه البرازيل.. هل يشعل الاقتراب من الصين صداما قريبا
...
-
أردوغان لنتنياهو: لن نعطيك نقش سلوان أو حصاة واحدة من القدس
...
-
ماذا قال ترامب عن -انتهاك- مقاتلات روسية المجال الجوي لإستون
...
-
روسيا تصدر بيانا للرد على مزاعم -انتهاك- مقاتلاتها لأجواء إس
...
-
البرتغال تعترف رسميا بدولة فلسطين الأحد المقبل
-
الجزيرة نت تروي قصة مسجد في الفاشر شهد مجزرة وتحول إلى مقبرة
...
-
تونس: ما أسباب تراجع الزيجات والولادات
المزيد.....
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
المزيد.....
|