أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - داود السلمان - هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟














المزيد.....

هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 10:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في كل مرة نحاول أن ننظر إلى العراق بعين الحاضر، نصطدم بماضٍ لم يُدفن بعد، ومستقبل ما زال يقف عند مفترق التيه. الظلام الذي خيّم على بلاد الرافدين منذ أكثر من عقدين، لم يكن ظلامًا سياسيًا فحسب، بل كان ظلامًا روحيًا، ثقافيًا، معرفيًا. لم تنطفئ المصابيح في الشوارع وحدها، بل خفتت المصابيح في النفوس. صار العراقي يعيش في العتمة، لا لأنه لا يرى، بل لأن ما يراه لا يبشّر بضياء.
اقتصاد مشلول، تعليم منهك، صحة منهارة، سياسة مشوّهة. وكل ذلك يُفضي إلى سؤال واحد: هل بقي ما يمكن التمسك به؟، هل بقي شيء من تلك الحضارة التي أنجبت الكتابة وسنّت أولى القوانين، وعلّمت البشرية أولى أبجدياتها؟.
لكن العتمة، على سطوتها، ليست قدرًا أبديًا. فهي دومًا - كما يخبرنا التاريخ - تنكفئ حين يتقدم الوعي، ويظهر نوع من التفلسف. وكل نهضة تبدأ بلحظة: لحظة غضب على هذا الظلام، لحظة وعي بأنه ليس من صنع الآلهة ولا لعنة الأقدار، بل نتيجة اختيارات بشرية، وجُبن اجتماعي، وتآمر ممنهَج.
العراق، الذي تهاوى اليوم، ما زال يختزن في جوفه بذور الحياة، رغم قسوة ما يمر به. كم مرة ظنّ الناس أنه انتهى، ثم عاد؟ كم مرة هدموه، فنهض من تحت الركام؟. هذه الأرض لم تكن يومًا مجرد تراب، بل كانت نصًا مقدسًا في سجل الإنسان، ولا تموت النصوص التي كتبها الأوائل بدم القلب.
ربما ما نعيشه اليوم ليس النهاية، بل الذروة في حبكة تراجيدية طويلة، يتبعها الانقلاب على السرد. وها هي ملامح ذلك الانقلاب تلوح، حيث صوت الشباب يرتفع، وحيث يضيق الصدر الشعبي من كل شعار زائف وكل تكرار لتاريخ خائب.
ليس لليأس مكان في قلب من وعى التاريخ. الظلام لا ينهزم بالسلاح وحده، بل بفكرة، وبكلمة، وبوقفة حقّ. فكل شعاع نور يبدأ من عقل لم يرضَ بالظلام، ومن قلب لم يخضع للبرد. وهكذا، حين تسمع أجراس النهاية، فإنها لا تُعلن موت وطن، بل نهاية عهد الظلم، وبدء ولادة أخرى، أكثر وجعًا، لكنها أوفى للإنسان.
العراق سينبثق… ليس لأن ذلك حتمية زمنية، بل لأن ذلك خيار من اختار أن يرى، ويكتب، ويقول: يكفينا ظلامًا.
العراق… ليس مجرد وطن أنهكته الحروب، بل فكرة إنسانية كبرى تعثرت كثيرًا دون أن تنهار كليًا. هذا البلد الذي تنبض تحته أعصاب التاريخ، والذي تُروى على أرضه أولى الحكايات عن الخلق والكتابة والقانون، لا يمكن أن يظل أسيرًا لليلٍ طويل لا ينقضي. لأن العتمة مهما طال أمدها، لا تمتلك حق البقاء إذا وُجد من يجرؤ على الحلم.
الإنسان العراقي، المُنهك من دوائر الخراب، لم يعد يحلم بيوتوبيا وردية، بل فقط بـ”عادي طبيعي” لا تُلوّثه طائفية، ولا تخنقه بيروقراطية، ولا تقهره اللامبالاة. ما يريده الناس اليوم ليس سوى الحد الأدنى من الكرامة: فرصة، عدالة، أمل في مستقبل لا يُرهن بالكامل لماضٍ مشوه ولا لحاضر مخنوق.
لقد مرّ العراق بحروب كثيرة، لكنه في كل مرة كان يتعافى لأنه كان يمتلك مشروعًا: مشروع دولة، أو مجتمع، أو ثقافة. أما في العقدين الأخيرين، فقد تعطّلت حتى الفكرة. تحوّل البلد إلى مسرح عبثي، تتكرر فيه الوجوه ذاتها، وتُعاد فيه المسرحية نفسها، فيما الجمهور لا يصفّق، بل يتحسر بصمت.
لكن الغريب – والمذهل أيضًا – هو أن العراق لا يزال ينبض. من قلب هذا الركام تولد أغانٍ وأشعار ومبادرات. في الأزقة المكتظة بالتعب، لا يزال طفلٌ يقرأ، وامرأة تناضل، ورجلٌ يكتب. تلك التفاصيل الصغيرة هي علامات حياة، وهي التي تقول، دون صراخ: “لسنا ميتين بعد، ولسنا مهزومين بالكامل”.
العراق لا يُضيء مرةً واحدة؛ بل يعود إلى النور ببطء، كما تفعل النجوم البعيدة عندما تبدأ أول وميض لها في سماء كثيفة الغيوم. وما يبدو اليوم صمتًا خانقًا، قد يكون صمت ما قبل التحوّل.
سيأتي النور، حين تتحوّل معاناة الناس من حزن إلى سؤال، ومن سؤال إلى موقف. سيأتي حين يكفّ المواطن عن انتظار المخلّص، ويبدأ في خلخلة هذا الخراب بوعيه ورفضه وصوته، حتى وإن ظنّه الآخرون ضعيفًا أو عبثيًا. فكل التحولات الكبرى في التاريخ، بدأت من مجازفة فرد، أو تمرد صامت.
العراق، بوعيه المتراكم، وبذاكرته الحضارية التي لم تُمحَ رغم كل التشويه، لا بد أن ينبثق. سينهض من جراحه، لا لأنه بلا جراح، بل لأنه لا يعرف كيف يعيش مهزومًا. فهو الذي تعوّد أن يُكتب من جديد، كلما حاولوا محو اسمه من الكتب والخرائط والقلوب.
الظلام الذي حل بارض الرافدين، خلال العقدين الاخيرين، القى بظلاله على جميع مناح الحياة، فعمت هذه الظلمة الدامسة ربوع العراق، وشلت كل حراكه بما فيها الحراك الاقتصادي وهو الشريان الابر الذي يغذي جسد البلاد، فصار خاويا تذروه الرياح ويعصف الدمار به من كل مكان، فما عاد الانسان العراقي يعثر على قبس ولو ضئيلا من نور يهتدي به الى طريق سوي ودرب معبد، حيث انطفئ آخر بقايا بريق. لكن ليس لليأس مكان في قلب الانسان الذي يعي، ويشعر بما يدور من حوله، والذي يحلم بعودة النور ليقشع ثورة الظلام الداكنة ويعلن النصر عليها، وهي نهايات طبيعية درج عليها الظلام وتعلمها من التاريخ، فصورة التاريخ لا تزال شاخصة امام الجميع، وتنذر بالنهاية الحتمية، وهذه النهاية اقتربت فلم يبق الا ساعات بحساب الزمن، وستعلن صافرة الانذار أنهاء حقبة ظلامية زرعت الرعب والخوف في كل مكان، وترك نائحة تبكي فقيدها الذي ضاع في وسط ركام الفوضى السياسية العارمة. وها أنا اكتب هذه السطور واسمع قرع اجراس النهاية يغازل اذنيّ ويدغدغ مشاعري منبها اياي بالفرج المرتقب، على أن الظلام سيسقط على ارض الهزيمة مضرجا بسيوف النور التي احاطت به من كل مكان.
بالنهاية، فأن هذا المقال هو بمثابة عبرة واعتبار، هو ذكرى وتذكير للأجيال القادمة، الاجيال التي لم تكن قد شاهدة هذه الكوارث التي مر بها العراق، ليكون هذا المقال، علامة مضيئة تهدئ بها الأجيال، وسترى بأمي عينيها، من هو الذي دمروا بلاد الرافدين، ومن هم الذين سعوا لخرابه، ومن هم تآمروا ضده، لصالح أعداء حقدوا على هذا البلد الجميل، وسعوا إلى تدمير حضارته، وطمس ثقافته.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد


المزيد.....




- مفاوض الكرملين يوضح لمراسل CNN -ما يتفهمونه- بالعلاقات الأمر ...
- تحليل.. خدعه بوتين مرة أخرى؟.. خطاب ترامب يوحي بإمكانية ذلك ...
- لقاء بوتين ترامب.. تضامن أوروبي مع أوكرانيا تشدد روسي وغموض ...
- فصائل فلسطينية: تجاوبنا مع كل مقترحات وقف العدوان وندعو لاجت ...
- غارات إسرائيلية على حاصبيا وجزين جنوبي لبنان
- عاجل | الأمين العام لحزب الله: لن نسلم سلاح المقاومة وسنخوض ...
- ما الأهمية الإستراتيجية لمكان انعقاد قمة ترامب وبوتين؟
- الحرائق تدمر آلاف الهكتارات من الغابات في إسبانيا
- - لن تنتصر-.. بن غفير يهدد الأسير الفلسطيني مروان البرغوثي ف ...
- لماذا لا تدين دول البريكس الإبادة الجماعية الجارية في غزة؟


المزيد.....

- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - داود السلمان - هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟