أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)















المزيد.....

المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 10:03
المحور: قضايا ثقافية
    


في مباحث سابقة، ذكرنا مَن هو المثقف المقولب، ورسمنا ملامحه، واعطينا أوصافه الفكرية، والآن نحدد مشكلة أخرى في المثقف المقولب، مشكلة ليست في معلوماته أو ثقافته الواسعة، بل في أن منظومة وعيه محكومة بسقفٍ لا يتجاوزه، وأطرٍ لا يخرج منها. والتالي، هو يعتقد أنه حرّ، لكنه يتحرك في حقل مغناطيسي من الأفكار الجاهزة، التي زرعتها فيه المؤسسة الثقافية، أو الاجتماعية، أو الدينية، أو حتى الأيديولوجية. إنّه يعيش داخل قوالب جاهزة: ما يجب التفكير فيه، وما يجب تجاهله، ما يجب الدفاع عنه، وما يجب إنكاره. وهذه القوالب تُقدَّم له ليس كاحتمالات، بل كحقائق مكتملة، لا تقبل التفاوض.
في هذا الجو المشوب، تصبح الثقافة التي يحملها هذا المثقف مجرّد أداة لتأكيد ما هو موجود، لا لتفكيكه أو مساءلته. وهنا يكمن الخطر. المثقف المقولب قد يكون خطيبًا بارعًا، أو كاتبًا لامعًا، أو حتى ناقدًا حادًا، لكنه نادرًا ما يخالف البنية الكبرى التي تربّى في ظلها. هو لا يطرح الأسئلة الجذرية، بل الأسئلة المحسوبة، ولا يحفر عميقًا في الأسباب، بل يراوح على سطح الظواهر، وغالبًا ما ينخرط ـ بحماسة ـ في الدفاع عن المفاهيم السائدة، ولو بحلّة فكرية حديثة.
وإذا ما صادف المثقف المقولب رأيًا صادمًا، أو قراءة مغايرة لما اعتاده، فإنه لا يمارس معه النقد، بل يصدر عليه الحكم. لأنه محكومٌ هو ذاته بثنائيات جامدة: صح وخطأ، إيمان وكفر، وطن وخيانة، تراث وتغريب، وهذه الثنائيات لا تسمح له أن يرى العالم في طيفٍ رماديّ واسع، بل تُلزمه أن يُصنّف كل شيء ضمن تلك الخانات الضيقة.
في المقابل، المثقف الحر لا يعمل داخل القالب، بل يتجاوزه، لا ليهدمه فقط، بل ليعيد تشكيله بما يتناسب مع معطيات الحاضر، وبأسئلة غير تقليدية. وهذا لا يعني أنه ينفي تراثه أو مجتمعه أو سياقه، بل يعني أنه يعامله كموضوع للفكر لا كمسلمة. المثقف الحر لا يبدأ من اليقين، بل من الشك. لا يخاف من المجهول، ولا يرتعب من تناقضات الواقع، لأنه يعرف أن التفكير الحقيقي لا يولد إلا من فوضى الأسئلة، لا من انتظام الإجابات.
وإذا تأملنا المشهد الثقافي في العالم العربي، وجدنا أن كثيرًا من الأصوات التي تُوصف بـ"النخبة" هي في الحقيقة تعيد إنتاج الخطاب المهيمن، حتى حين تزعم الخروج عليه. تلبس لباس التمرد، وهي في جوهرها محكومةٌ بنفس اللغة، ونفس الخوف من الخروج الكامل. فكم من مثقف يرى نفسه تنويريًا، لكنه يعادي كل فكر لا يشبهه؟ وكم من كاتب يُجاهر بحرية العقل، لكنه يسكت حين يصل الأمر إلى المسلمات الكبرى؟. هذا التناقض ليس سهوًا، بل نتيجة مباشرة لقولبة الوعي، بحيث يصبح من المستحيل تقريبًا أن يرى المثقف ذاته من خارج مرآة الجماعة.
هنا لا بد من طرح السؤال الجوهري: هل نعيش تنوعًا في الفكر، أم تكرارًا في أنماطه؟. الإجابة مرهونة بقدرتنا على رصد المساحات التي تُتاح للفكر كي يكون حرًا، لا تلك التي يُسمح له أن يتحرك فيها تحت وصاية المؤسسات. ما لم نكسر القوالب من الداخل، سنبقى نظن أن المثقف هو من يحمل الكتب، بينما هو في كثير من الأحيان، لا يختلف في وعيه العميق عن ذلك الذي يرفض القراءة لأنه "يخاف أن ينحرف".
عقلا ومنطقا، التحرر من القولبة لا يعني التمرد الأجوف، بل يبدأ من الاعتراف بها أولًا. من الشجاعة أن نقول: نحن أيضًا كنّا مقولبين، وأن وعيَنا ليس معصومًا. فالتفكير فعل أخلاقي قبل أن يكون فعلاً معرفيًا. إنه مسؤولية تجاه الذات، وتجاه الآخر، وتجاه الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة، أو محرجة، أو صادمة.
وحين ندرك ذلك، فقط حينها، يبدأ المثقف في التحوّل من مجرّد ناقلٍ للأفكار إلى مُنتِج لها. ومن تابعٍ لأدوات غيره، إلى صانع لأدواته. ومن فردٍ محكومٍ بمن حوله، إلى ذاتٍ تفكر بحرية، وتسائل، وتخترق، وتكتب لأن الصمت لم يعد ممكنًا.
وهذا التحوّل، بطبيعته، ليس سلساً ولا مريحاً، بل مؤلم وقلق، ويشبه نوعاً من الولادة الجديدة. المثقف حين يخرج من قوقعته المقولبة لا يجد أمامه أرضاً جاهزة يسير عليها، بل فراغاً مفتوحاً عليه أن يعبّده بخطواته هو. وهو في ذلك يغامر، لا بمكانته فقط، بل أحياناً بسلامه الداخلي، لأنه يختار المواجهة بدل الانسجام، والتساؤل بدل الراحة، والشك بدل التسليم. هذه المغامرة لا تليق بالجبناء، ولا تُحبّذ في مجتمعات ترضع أبناءها الطاعة منذ المهد، وتربط النجاة بالتطابق، وتوزع الشرعية الفكرية بناء على القرب من "الحق" المتخيّل.
والمثقف الذي يجرؤ على كسر القوالب، ليس خارقاً، بل فقط صادقًا مع ذاته. لا يريد أن يخدع نفسه أكثر، ولا يريد أن يكون واحداً ممن يزينون أقفاصهم ويظنونها قصوراً. هو يعرف الثمن، ويعرف أنه لن يُصفق له كثيرون، وأن الوحدة قد تكون نتيجة حتمية لرحلته. لكنه مع ذلك يمضي، لأن الحقيقة عنده ليست سلعة، بل حاجة، والصدق مع الذات ليس ترفاً، بل خلاصاً.
لقد صار واضحاً، لمن ينظر بتجرد، أن القولبة لا تصيب العامة فقط، بل تمتد للمثقفين، للذين يُفترض أنهم روّاد السؤال. والمؤسف أن بعضهم تحوّل إلى جزء من جهاز التثبيت، يعيد إنتاج الهيمنة من داخلها، ويقف حاجزاً أمام أي خرق في الجدار. هؤلاء، رغم أناقة لغتهم، ومظاهر التحرر في خطابهم، لا يختلفون كثيراً عن أي تقليدي متشدد، لأن كليهما يخاف الخروج من القطيع. الفارق فقط أن الأول يُلبس القيد ثوب الحداثة، والثاني يُصرّح به باسم الأمان العقدي أو الاجتماعي.
الرهان اليوم لا يجب أن يكون فقط على المعلومات، بل على آلية التفكير. ليس المهم أن تعرف كثيراً، بل أن تعرف كيف تشكك، وكيف تُعيد تفكيك ما عرفت. لأن المعرفة التي لا تُربكك، لا تُحرّرك. ولأن المثقف الذي لا يتغير، ليس مثقفاً، بل حافظ. والحافظ لا يصنع فكراً، بل يكرّر صدىً باهتاً لأصوات سبقته، سواء وعى ذلك أو لم يعِه.
علينا أن نعيد النظر في مفهوم "المثقف"، لا باعتباره مجرد شخص يقرأ أو يكتب أو يظهر في المنصات، بل كمن يملك الشجاعة ليفكر خارج المألوف، ويزعج السائد، ويُحرج النمط، ويقف أمام الموروث لا على هيئة تلميذ، بل كمحاور نِدّي، يسأل دون وجل، ويُعيد التقييم كلّما تغيّر المعطى.
وبالتالي، المثقف المقولب خطرٌ صامت. لا لأنه عدو للتفكير، بل لأنه يُقنّع التقليد بلغة التنوير. ولأنه يُعيد تثبيت المسلمات باسم الدفاع عن الهوية أو القيم أو المصلحة. والمجتمع الذي لا يفرّق بين المثقف الحر والمثقف المقولب، سيفشل في التقدم، لأنه سينتج نسخة جديدة من الجمود، مغلّفة بزينة الحداثة.
والنتيجة، فإن دعوتي هنا ليست للتحرّر الكامل من كل شيء، بل فقط: دعوة لإعادة التفكير، بجرأة، بلا قيد، وبلا خوف. أن نقرأ كل شيء، ونشك في كل شيء، وننقّب في كل شيء، وأن نحتمل عواقب وعينا، مهما كانت. لأن الوعي الحقيقي لا يُرضي الجميع، ولا ينسجم مع كل ما حوله. لكنه، في النهاية، السبيل الوحيد لنكون أحراراً بالفعل، لا بالشعارات.
مراجع المقال:
1. محمد عابد الجابري – “المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية” مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة: الأولى، 1995
2. المراقبة والمعاقبة – ميشيل فوكو، ترجمة الزواوي بغورة، دار محمد علي للنشر، 2001.
3. الحداثة السائلة – زيغمونت باومان، ترجمة فواز طرابلسي، دار الساقي، 2015.
4. ما بعد الحداثة والتفكيك – أحمد يوسف، دار رؤية للنشر، 2007.
5. المدينة في تفكير الغرب – شحاتة صيام، دار قباء، 2011.
6. في نقد الحاجة إلى الإصلاح – حسن حنفي، دار الفكر المعاصر، 1999.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)


المزيد.....




- الحرائق تدمر آلاف الهكتارات من الغابات في إسبانيا
- - لن تنتصر-.. بن غفير يهدد الأسير الفلسطيني مروان البرغوثي ف ...
- لماذا لا تدين دول البريكس الإبادة الجماعية الجارية في غزة؟
- مالي: المجلس العسكري يتهم -قوى أجنبية- بالتخطيط لزعزعة استقر ...
- مفاوضات جنيف تفشل في التوصل إلى اتفاق ملزم لمكافحة تلوث البل ...
- ماذا تغير سياسيا وأمنيا بأفغانستان بعد 4 سنوات من حكم طالبان ...
- ترامب يحذر بوتين من -العبث- قبل اجتماعهما بألاسكا
- مسلحون يهاجمون آلية للجيش السوري في ريف اللاذقية
- نائب ترامب يثير احتجاجات السكان المحليين بعد زيارته لهذه الق ...
- بوتين يشيد بترامب لـ-جهوده الصادقة- لإنهاء الحرب.. شاهد ما ق ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)