|
المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 16:22
المحور:
قضايا ثقافية
) لا غرو من إن المثقف في أي مجتمع، كان، هو ليس مجرّد حامل للمعرفة أو ناقل للأفكار، بل هو ضمير حيّ، ومرآة قادرة على كشف التناقضات، وتفكيك السائد، وزعزعة الأوهام التي يتم تدويرها باعتبارها مسلّمات، ولا يجوز أن تُنتقد، ويتم تفكيكها. إلا أن هذا الدور الصعب غالبًا ما يضعه في مواجهة مباشرة مع "القالب الاجتماعي"، ذلك الإطار الصلب من العادات والتقاليد والتصورات الجاهزة التي تُنتجها الجماعة وتُعيد إنتاجها باستمرار، بوصفها معايير للأمان والانتماء، وتضفي عليها هالة من القدسية. في هذا السياق، يبدو المثقف وكأنّه الكائن المشاكس، المختلف دائمًا، الخارج عن النسق والمطلوب منه – ضمنيًا – أن يخضع لما يراه المجتمع ثابتًا لا جدال فيه، وبعكسه يُتهم بشتى التُهم. هنا يبرز القالب الاجتماعي، الذي هو ليس بالضرورة سلبيًا، لكنه يتحوّل- تدريجيًا - إلى عائق عندما يتكلّس ويتحوّل إلى منظومة تُجرّم السؤال وتُقدّس التكرار. هنا تبدأ المواجهة الحقيقية، حين يجد المثقف نفسه محاصرًا بما يجب أن يُقال، ومراقبًا فيما لا ينبغي أن يُفكر به، ومهددًا بالنبذ إن حاول كسر حدود القبول العام، لأن رسالة المثقف الحقيقي، هو الهدم والبناء. المجتمع بطبعه يميل إلى الحفاظ على ما اعتاده، ويتوجّس من كل خروج عن المألوف. أما المثقف، فجوهر مهمته يقوم على الخروج، على الخلخلة، على طرح السؤال الصعب، لا ترديده. يُفهم القالب الاجتماعي هنا على أنه ليس فقط مجموعة من العادات أو الموروثات، بل آلية متكاملة تُعيد تشكيل الوعي الجمعي، عبر الأسرة، والتعليم، والإعلام، والخطاب الديني، وحتى القوانين، خصوصا حين تخضع هذه القوانين للأدلجة. وهي آلية تحوّل القيم إلى قوالب جاهزة، والهوية إلى أحادية مفرطة، والفكر إلى شعارات، ليبدو الخارج عنها كمن يخون "الذات الجمعية". ولذلك، يُنظر إلى المثقف غير المنسجم مع هذا القالب ككائن متعالٍ، أو غريب، أو حتى خائن متسلح بأسلحة الفكر الغربي. وهذا ما يجعل كثيرًا من المثقفين يختارون السلامة، فينحازون إلى الصمت، أو يُعيدون إنتاج الخطاب نفسه الذي يفترض أنهم جاءوا لنقده، بتعبير آخر أنهم يخافون على أنفسهم من التصفية الجسدية، أو الأقصاء والتهميش. نعم... الضغط الاجتماعي لا يُمارس فقط بالقوة، بل بالإقصاء الرمزي، بالعزلة، بالتشكيك في النوايا، وبحرمان المثقف من الفضاءات التي يحتاجها للتأثير. إنه نوع من القتل المعنوي البطيء، يجعل الكلمة الناقدة تُفهم باعتبارها استفزازًا، والرأي المختلف يُصنّف كتهديد، والموقف الحرّ يُعامل كخروج على الصف. هكذا يصبح المثقف إما تابعًا، وإما منبوذًا، وإما مفرّغًا من مضمونه. وفي كثير من الأحيان، لا يأتي الخطر من السلطة السياسية فحسب، بل من السلطة الاجتماعية نفسها، من الجماعة التي تُطالب المثقف بـ"التمثيل"، لا بـ"التفكير”، والتي تريد منه أن يكون صدىً لصوتها، لا مرآةً ترى فيها قبحها. وهنا يفقد المثقف أصالته إن هو استجاب لهذا الضغط، ويتحوّل إلى "ناطق باسم القالب"، - القالب الذي أتخذه حسب مقاسه - بدلًا من أن يكون منقذًا منه. ولذلك، لا يمكن الحديث عن مثقف حقيقي دون الحديث عن معركة حقيقية يخوضها، ضد التبسيط، ضد التنميط، ضد السكون الفكري، والتردي الذهني. وفضلا عن كل ذلك، فإن القالب الاجتماعي يُطالب الفرد أن يكون "مثل الجميع"، بينما المثقف يُطالب نفسه أن يكون "مثل ذاته". وشتّان ما بين الاثنين. فالأول يخضع لسلطة الجماعة، والثاني يستسلم لسلطة الضمير، وما يفرضه الواقع الذي يجب أن يكون، لا ما تفرضه الأدلجة. وهذه المسافة بين ما يريده المجتمع وما يراه المثقف صائبًا، هي ما يُنتج التوتر، لكنها أيضًا ما يُنتج الفكر. فلو لم يكن هناك خلل، لما كانت هناك حاجة للتفكير. ولو كان السائد كافيًا، لما كان للثقافة أي ضرورة. لكنّ المثقف ليس خارقًا، ولا منيعًا. هو ابن بيئته، يتأثر بها ويتصارع معها في آن. وقد يسقط، ويضعف، ويتنازل أحيانًا، لكنه يظل في جوهره صوتًا مختلفًا. وفي أزمنة الخوف، حين يصير الصمت فضيلة، يصبح همس المثقف مقاومة ورفض. وفي أزمنة التكرار، حين يتحوّل الناس إلى نسخ متطابقة، يصير اختلاف المثقف شجاعة. وبالمقابل المثقف الذي يذوب في القالب الاجتماعي يفقد صوته، ومن يفقد صوته، يفقد حضوره. ولذلك، فإن مهمة المثقف اليوم، وربما على الدوام، هي أن يقول ما لا يُقال، أن يقاوم سطوة القوالب، أن يكون شاهدًا لا تابعًا، وأن يتكلم حين يختار الآخرون الصمت. ليس لأنه أفضل، بل لأنه اختار أن يكون صادقًا. ومع هذا كله، فإن المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي لا يعيش فقط صراعًا خارجيًا مع المجتمع، بل يعيش أيضًا صراعًا داخليًا مريرًا مع ذاته. فهو مطالب دائمًا بأن يوازن بين مسؤوليته الأخلاقية كصوت للوعي، وبين حاجته البشرية للانتماء، للقبول، وللأمان. كيف له أن يصوغ موقفًا حادًا من مجتمعه، وفي داخله ما يزال جزء من هذا المجتمع، يرتجف أمام فكرة النبذ أو الخذلان؟ كيف له أن يكون صوتًا حرًا، وفي الوقت ذاته لا يخسر جذوره، وذكرياته، وعلاقاته القديمة، وكل ما شكّله كإنسان؟. هذا التوتر هو ما يجعل من المثقف الحقيقي كائنًا قلقًا على الدوام. لا يهنأ بما يعرفه، ولا يطمئن لما حوله. يرى الزيف في المقدس، والجمود في المتوارث، لكنه لا يملك دائمًا القوة لتفكيكها أمام الجميع. ولذلك، فإن مقاومته ليست ثورية دائمًا، بل قد تكون هادئة، ناعمة، عبر الكتابة، أو التعليم، أو الفن، أو حتى الصمت المدروس الذي يترك أثرًا عميقًا في من يراقبه عن كثب. ومع تصاعد خطاب التبسيط، وسطوة الإعلام السريع، وتضخم سلطة "الرأي العام اللحظي"، يصبح المثقف اليوم محاصرًا أكثر من أي وقت مضى. فالمجتمع لا يكتفي بقوالبه القديمة، بل ينتج قوالب جديدة بأساليب حديثة: تسطيح القضايا، شيطنة الاختلاف، وتلميع التفاهة. وهذا يعني أن معركة المثقف لم تعد فقط مع التقاليد، بل مع أدوات تشكيل الوعي الجديد: من المنصات، والشاشات، والهاشتاغات، إلى خطاب الجماهير الجاهز للاستهلاك لا للفهم. وفي مثل هذا الواقع، لا تعود القضية فقط قضية موقف، بل قضية صمود. أن يظل المثقف محتفظًا بنزاهته الفكرية وسط كل هذا الضغط، أن يواصل مساءلة الواقع دون أن يتحوّل إلى آلة تكرار، أن يكتب لا بما يطلبه الجمهور، بل بما يحتاجه، ولو لم يكن يدرك ذلك بعد. لذلك، فإن المثقف الحقّ ليس من يحمل الحقيقة، بل من يطرح السؤال، ليس من يُرضي الجميع، بل من يُقلق الجميع، ليس من يضع نفسه فوق المجتمع، بل من يضع نفسه في قلب النار، كي يضيء قدر ما يستطيع. إنه الغريب الدائم، والضروري الدائم. الغريب لأنه لا ينتمي بالكامل، والضروري لأنه لا يُمكن للمجتمع أن يتطور من دونه. وهنا، تنكشف الحقيقة الكبرى: لا نهضة حقيقية دون مثقفين أحرار، ولا وعي جماعي دون نقد صادق لما هو جماعي، ولا إنسان حر، ما دام المفكر مُجبَرًا على ارتداء القالب ليمرّ. هكذا يظل المثقف، رغم كل شيء، آخر ما تبقى من الحُلم، ومن الشجاعة، ومن النُبل. لا لأنه الأقوى، بل لأنه الأصدق. لأنه يُضيء، ولو لم يرَ أحد. وفي النهاية، لا شيء أكثر عزلة من أن تكون مثقفًا حرًا في مجتمع مغلق، ولا شيء أكثر قوة من كلمةٍ صادقة، خرجت من فمٍ رفض أن يُشكّل على مقاس أحد. مراجع المقال: 1.مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة: 16 لسنة 2021، بيروت – لبنان. 2.برتراند رسل، الحديث عن مشاكل العصر، ترجمة مروان الجابري، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى لسنة 1962. 3. غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات، منشورات مكتبة النافذة، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الأولى لسنة 2014. 4. زكريا ابراهيم، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر من دون ذكر سنة الطبع. 5. أحمد عصمت، ويكيمابيا النفس، تقديم عمر خالد، نؤسسة سما للنشر والتوزيع، لسنة 2016.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
-
ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
-
هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
-
قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
-
المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
-
الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
-
صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
-
كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
-
المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
-
تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
-
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
-
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
المزيد.....
-
بلجيكا تستدعي السفير الإسرائيلي لديها على خلفية -خطة غزة-..
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: تم الصراخ على رئيس الأركان خلال اجتماع
...
-
إدانات أممية وأوروبية لخطة إسرائيل السيطرة على مدينة غزة ودع
...
-
مخصص لكشف الأهداف الجوية.. الجيش الروسي يدمر رادارًا إسرائيل
...
-
إسرائيل تقرّ خطة -للسيطرة- على مدينة غزة
-
قانون دوبلوم: المجلس الدستوري يحظر إعادة إدخال المبيدات المح
...
-
الكونغو الديمقراطية تغازل رجال النفط بتكساس لتطوير قطاع الطا
...
-
سرايا القدس تقصف حشودا للاحتلال جنوبي غزة
-
تقرير -مقلق- للكنيست عن تراجع في عودة الإسرائيليين
-
-ادفع لتصبح محمد صلاح-.. هكذا يتلاعب السماسرة بأحلام ملايين
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|