أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)















المزيد.....

التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 21:55
المحور: قضايا ثقافية
    


حين يتحول العقل إلى قوالب مسبقة، ويتحول الفكر إلى نسخة مكررة من غيره، فإن أول ضحايا هذا الانغلاق هو المثقف، الذي يُفترض به أن يكون صوت الاختلاف، ونافذة التجديد، ومرآة لأسئلة الواقع لا لأجوبته الجاهزة. إن التفكير النمطي ليس مجرد سلوك ذهني سطحي، بل هو خطر بنيوي يهدد جوهر الوعي الثقافي ويُضعف قدرة المثقف على الإبداع والتجاوز، لأنه يضعه داخل أنساق فكرية مغلقة، ويمنعه من الخروج على المألوف، ومن مساءلة المسلمات. والمثقف الأصيل لا ينمو في بيئة مكررة، ولا يتغذى على التكرار، بل ينبثق من رحم التساؤل، والقلق المعرفي، والشك المنهجي. أما التفكير النمطي، فيغذيه الاستقرار الزائف، والتوافق المريح، والانسياق وراء ما اعتاد الناس على قوله وتصديقه. وحين يستسلم المثقف لهذا النمط من التفكير، يتحول إلى ناقلٍ لا مُنتج، إلى تابعٍ لا مُبادر، وإلى موظف في مصنع الأفكار المستعملة، لا صانع للمعنى.
إن أخطر ما في التفكير النمطي أنه يُخدّر الضمير الثقافي، ويُصنّع الوهم داخل قوالب مألوفة، ويوحي بأن الجواب موجود سلفًا ولا حاجة للبحث. وهكذا يتحول المثقف من باحث عن الحقيقة إلى حارس لها، كما لو كانت ملكية خاصة لا تتحرك. فتذوب خصوصيته، وتتلاشى فردانيته، ويصبح مجرد تكرار لصدى الجماعة التي ينتمي إليها. ولعل هذا ما يفسر لماذا نجد كثيرًا من الخطابات الثقافية اليوم تتشابه، تتكرر، وتبدو كما لو أنها كُتبت بلغة واحدة وعقل واحد. ما يجعل المثقف مثقفًا هو قدرته على الخروج من الجماعة عندما تحتاج الفكرة إلى عزلة، وعلى الوقوف في مواجهة التيار عندما تمسّ الحقيقة، لا حين تهدد المكانة. بينما التفكير النمطي يدفعه إلى العكس تمامًا: أن يندمج، أن يُهادن، أن يعيد إنتاج ما يُرضي المحيط، حتى ولو كان ذلك ضد قناعاته، أو ضد حريته في التعبير. وهنا تتحول الثقافة من مساحة حرية إلى قفص من التكرار، ويصبح المثقف شاهد زور على قضايا لا يملك تجاهها لا الجرأة ولا الصدق.
السياق العربي تحديدًا، يظهر أثر التفكير النمطي بشكل واضح في المواقف الثقافية من القضايا السياسية والاجتماعية. فبدلًا من طرح أسئلة جديدة، يلجأ كثير من المثقفين إلى الشعارات المألوفة، والمواقف الآمنة، وكأن دورهم هو ضمان استمرارية السرديات الكبرى، لا تفكيكها. هذا التماهي مع الفكر السائد، أو ما يُعرف أحيانًا بـ"القطيع الثقافي"، لا ينتج إلا خطابًا ميتًا، مهما بدا قويًا في الظاهر. والمشكلة لا تتعلق فقط بالمثقف الفرد، بل أيضًا بالمؤسسات الثقافية التي تعزز هذا النمط من التفكير، حين تحتفي بمن يُجيد التكرار، وتقصي من يُجرؤ على الاختلاف. وهكذا، تُصنع هالة زائفة حول أسماء تُلمّعها الجماعة، لا لأنها تُنتج فكرًا أصيلًا، بل لأنها لا تُربك النظام، ولا تُعكّر صفو السائد.
التفكير النمطي لا يُبقي المثقف في مكانه فقط، بل يعيده إلى الوراء. إنه يحوّله إلى تابع للزمن، لا مشارك في صناعته، ويحوّل الثقافة إلى ماضٍ مكرر، لا حاضر متجدد. لذلك، فإن مقاومة هذا النوع من التفكير ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لأي مثقف يريد أن يحافظ على أصالته، وعلى حريته في أن يفكر كما يشاء، لا كما يُنتظر منه.
إن المثقف الذي يستسلم للتفكير النمطي، حتى دون وعي، يُخلي موقعه للمؤدلج، أو للمؤجَّر، أو للمقلّد. بينما المثقف الحقيقي هو الذي يظل يقظًا، يرفض الاستسلام، ويخوض صراعه مع الأسئلة مهما كلّفه ذلك من عزلة، أو صمت، أو إقصاء. لأنه يعرف أن ما يُبقي المثقف حيًّا، ليس صوته فقط، بل صدقه. وما يحفظ أصالته، ليس مكانته، بل قدرته على أن يُفكّر خارج القطيع.
وقد ذكرنا، في أكثر من مرة، القول: المثقف لا يُقاس بعدد ما كتب، ولا بعدد من صفق له، بل بقدر ما خالف السائد عندما كان السائد عائقًا أمام الحقيقة. وإن كانت الثقافة هي روح الأمة، فالمثقف النمطي لا يزيد عن كونه صدًى باهتًا، بينما المثقف الأصيل، هو ذلك الصوت النادر الذي يُحدث الفرق، ويُقاوم الفقد، ولو بكلمة.
لذلك، في عالم يُعاد فيه إنتاج الأفكار ذاتها تحت أغطية جديدة، تبقى معركة المثقف الحقيقي هي معركة وجود لا معركة رأي. لا يملك المثقف رفاهية أن يكون مكررًا، أو خائفًا، أو تابعًا لما يرضي الجمهور أو السلطة أو الجماعة. عليه أن يكون حارسًا للمعنى، لا بوقًا للشعارات، وأن يحمي أصالته كما يُحمى القلب من الخدر. لأن الثقافة التي تُبنى على النسخ لا تلد إلا العجز، والمجتمع الذي يعتاد التفكير النمطي يتحول تدريجيًا إلى كتلة صمّاء، ترفض التغيير وتموت كل يوم دون أن تدرك.
إن أعظم ما يمكن أن يفعله المثقف هو أن يظل مختلفًا، حتى حين لا يُفهم. أن يكتب خارج الإجماع، حتى حين يُعزل. وأن يتمسك بحقه في أن يشك، في زمن يُكافأ فيه من يُردد. فكما قال الفيلسوف الإسباني أونامونو: "لا تُجادل لتقنع، بل لتقول الحقيقة". وهذه، في النهاية، هي مهمة المثقف الأصلية: أن يقول الحقيقة، ولو بصوت مكسور.
وإذا كانت الحقيقة ثقيلة، والشك طريقًا محفوفًا بالوحدة والخذلان، فإن المثقف الأصيل لا يرى في ذلك ضعفًا، بل يرى فيه شرطًا للحرية. لأن الأصالة لا تولد من الوفرة، بل من العزلة. ولا تخرج من رحم الإجماع، بل من رحم التوتر مع السائد. فالمثقف الذي يختار السير عكس التيار، لا يفعل ذلك نرجسيةً أو عبثًا، بل لأنه يعرف أن التيارات العامة – في أغلب الأحيان – تقود إلى السكون، لا إلى النهضة.
إذن التفكير النمطي لا يقتل الإبداع فحسب، بل يُصيب الضمير الثقافي بالشلل. والمثقف حين يعتاد هذا النمط، يُطبع ذهنه على التكرار، وتذبل فيه طاقة الانبهار بالعالم، ويُصبح حضوره مجرد روتين لغوي لا أثر له. بينما المثقف الحقيقي يظل مستفَزًّا من الواقع، يلاحق المعنى، ويخترق الأسئلة، ويصنع مساحته الخاصة للتفكير خارج ما هو جاهز ومستهلك. إنه لا يقبل أن يُختزل في موقف سياسي، أو يُختطف لصالح سردية جماعية، أو يُستدعى فقط كشاهد صامت على الأحداث. بل يُعيد تشكيل العالم بالكلمات، ويُقاوم بالتأمل، ويمارس قلقه كفعل خلّاق لا كعُقدة وجودية.
مراجع المقال:
1. تيودور أدورنو، صناعة المثقف، ترجمة محمود عثمان، تاريخ النشر 2009.
2. باري غلاسر، صناعة الخوف، ترجمة فاضل جتر، تاريخ النشر 2013.
3. هارولد لاسويل، آليات الثقافة، ترجمة أحمد يوسف، تاريخ النشر 2006.
4. ميلتون روكيتش، صدام القيم، ترجمة فؤاد زكريا، تاريخ النشر 1995.
5. أرنست غلنر، الثقافة والمجتمع المدني، ترجمة هشام عبد الكريم، تاريخ النشر 2000.
6. توماس ناغل، العقل والثقافة، ترجمة د. محمد الشقحاء، تاريخ النشر 2014.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
- قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
- المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
- صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
- المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
- قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)


المزيد.....




- إصابة 5 جنود في إطلاق نار بقاعدة فورت ستيوارت للجيش الأمريكي ...
- عراك في داخل البرلمان العراقي.. ما حقيقة الفيديو المتداول؟
- إهانة للذاكرة الجماعية في باريس.. توقيف رجل بعد أن أوقد سيجا ...
- بسبب النفط الروسي.. ترامب يفرض ضرائب إضافية بنسبة 25% على ال ...
- انقسام حاد داخل إسرائيل حول خطة احتلال قطاع غزة
- وزير الصحة الأميركي يوقف تمويلًا فيدراليًا بقيمة 500 مليون د ...
- زيارة نادرة.. بوتين يستقبل ملك ماليزيا في الكرملين
- ماذا بعد رفض حزب الله تسليم السلاح؟ وماهي التداعيات المتوقع ...
- ماكرون يطالب -بمزيد من الحزم- حيال الجزائر ويعلق إعفاء حاملي ...
- مصرع وزيرين بارزين في تحطم مروحية بغانا


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)