أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)















المزيد.....

المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 10:52
المحور: قضايا ثقافية
    


اليوم وفي معظم المجتمعات التي تزداد فيها الضغوط السياسية والاجتماعية والدينية، حيث أصبح المثقف في وضع حرج، إذ يجد نفسه موزعًا بين خيارين لا ثالث لهما: إما الانصياع لإكراهات الواقع بكل ما فيها من أنظمة فكرية مهيمنة وسرديات كبرى، أو التمرد عليها، بما يحمله هذا التمرد من أثمان قد تصل إلى العزلة أو الإقصاء أو حتى المحو الرمزي، وربما التصفية الجسدية. وبين هذين القطبين المتنافرين، تتشكل شخصية المثقف ويُعاد تعريف دوره في المجتمع.
إنّ الانصياع الفكري لا يعني دائمًا الجبن أو الرضوخ، بل قد يتخذ صورة أكثر نعومة، مثل التكيّف مع منظومات اللغة السائدة، أو إعادة إنتاج الأفكار الدارجة بصيغة أكثر “أكاديمية”، أو الانخراط في مشاريع الدولة أو المؤسسات الثقافية الرسمية التي تُملي شروطها مقابل ما تسميه "الاعتراف". في هذا الشكل، يبدو المثقف أقرب إلى الموظف الثقافي، يؤدي دوره ضمن منظومة محددة دون المساس بجذورها، مهما بدت فاسدة أو معرقِلة للتغيير.
بالمقابل، التمرد الفكري لا يعني بالضرورة الثورة الصاخبة أو التصادم المباشر، بل قد يكون فعل مقاومة صامتة، يتمثل في إنتاج معرفة مغايرة، أو مساءلة المسلمات، أو الحفر تحت طبقات اللغة والأيديولوجيا بحثًا عن المعنى المغيّب. التمرد هنا يُصبح خيارًا أخلاقيًا ومعرفيًا في آنٍ واحد، لا يستند إلى ردود فعل آنية، بل إلى موقف فلسفي عميق من العالم.
ومما يُعقّد المسألة، ويزيد الطين بلة، أن المثقف لا يتحرك في فراغ، بل داخل شبكات من السلطة، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية. فحين يختار المثقف التمرد، لا يواجه فقط السلطة الرسمية، بل قد يواجه أيضًا "السلطة الرمزية" للجمهور، الذي قد يُدين اختلافه أو يحمّله عبء التماهي مع مزاج عام لا يطيق الأسئلة. في بعض السياقات، يصبح الجمهور ذاته أداة قمع مضادة للفكر الحر، ويُعيد إنتاج الرقابة من الأسفل، لا من الأعلى فقط.
وربما أكثر ما يُربك في هذه الجدلية هو أن المثقف قد يتنقل بين الانصياع والتمرد، بل يجمعهما أحيانًا في آنٍ واحد. فقد يهادن السلطة السياسية لتمرير أفكاره، أو يلبس قناع التمرد لتمرير طموحه الشخصي. هنا تطرح الأسئلة: متى يكون التمرد صادقًا؟ ومتى يكون الانصياع حكيمًا؟ وما حدود البراغماتية المشروعة في سياق يضيق فيه الهامش وتتعثر فيه الإمكانيات؟
من جانب آخر، يُثير هذا التوتر سؤالًا حول طبيعة المثقف نفسه: هل هو حامل مشروع تنويري؟ أم مجرد وسيط معرفي؟ هل مهمته زعزعة الثوابت؟ أم تقريبها من الناس؟ هل يُعبر عن موقف، أم يُنتج معرفة؟. الإجابة على هذه الأسئلة ليست واحدة، لأن المثقف ليس نموذجًا واحدًا، بل أنماط متعددة تتراوح بين النخبوي والجماهيري، بين المشتبك والانعزالي، بين المنتج والمروّج.
كما، لا يمكن اختزال المثقف بين ثنائية الانصياع والتمرد إلا إذا سلّمنا بأن الثقافة هي ساحة صراع، لا حياد فيها. ومع ذلك، فإن القيمة الحقيقية للمثقف لا تُقاس فقط بجرأته أو طمأنينته، بل بقدرته على الحفاظ على استقامته الفكرية، في عالم تتآكل فيه المعايير وتتماهى فيه الأدوار. تمرده ليس بطولة، وانصياعه ليس دائمًا خيانة؛ ما يحدد ذلك هو وعيه بموقعه، وصدقه في مواجهة نفسه أولًا، ثم العالم من حوله. وإذا أردنا تتبّع هذه الثنائية في السياق العربي الحديث، فسنجد أن تاريخ المثقف العربي هو في حد ذاته سجلّ لصراع طويل بين الانخراط والتحفّظ، بين المسايرة والمعارضة، بين أن يكون "صوت السلطة" أو "صوت الضمير". فمنذ نهايات القرن التاسع عشر، حين بدأ التحديث يطرق أبواب الشرق العربي، وجد المثقف نفسه محاصرًا بين مشروع "الدولة الحديثة" من جهة، وبين الإرث الثقافي والديني والاجتماعي من جهة أخرى، فكثيرون انحازوا إلى خطاب السلطة باعتباره بوابة التنمية والنهضة، فيما فضّل آخرون المواجهة المكلفة.
ولم تكن هذه المواجهة مجرد خلاف سياسي أو آيديولوجي، بل صراعًا على تعريف الحقيقة ذاتها. ففي النظم الشمولية مثلاً، يتم اختزال الحقيقة في ما تقرره الدولة أو الحزب، وحينها يُصبح المثقف المعارض عدوًا لا للسلطة فحسب، بل "للحقيقة الرسمية". هذا ما واجهه المفكر السوري ياسين الحافظ عندما رفض الانصهار في الخطاب القومي التبريري، ومال إلى نقد ذاتي للحداثة العربية. وكذلك المفكر جورج طرابيشي الذي تمرّد على السرديات القومية والدينية وسعى لتفكيك البنى اللاواعية للفكر العربي. هؤلاء لم يُعدّوا مثقفين "مرضيين عنهم"، بل طُووا في صفحات الجدل الثقافي، رغم عمق ما قدّموه.
من جهة أخرى، هناك مثقفون انحازوا إلى الدولة لأسباب تتراوح بين المصلحة والانبهار، فصاروا أبواقًا للخطاب الرسمي، يُعبرون عن |المعرفة السلطانية" لا المعرفة النقدية، بل أحيانًا يُستدعون لتبرير القمع وتطهير سياسات الإقصاء. هذا ما نراه في كثير من النخب الجامعية أو الإعلامية التي تبدو مثقفة في الشكل، لكنها في جوهرها تمارس الرقابة من الداخل، وتُعيد إنتاج النظام بدل مساءلته.
لكن الأشد خطرا من كل ذلك هو التمويه؛ حين يتقن المثقف لعبة "المسافة الآمنة"، فيدّعي الحياد، بينما يتواطأ بالصمت، أو يُموّه نبرته ليبدو متمرّدًا دون أن يخسر الامتيازات. وهنا تتجلى أزمة "الوظيفة الثقافية" التي لم تعد ترتبط بالمخاطرة، بل بالإدارة. لم يعد المثقف بالضرورة قلقًا أو ملاحقًا، بل أضحى في كثير من الأحيان، شريكًا في ضبط الفضاء العمومي، و "مُنظّمًا للاختلاف المسموح به".
إن التحدي الحقيقي أمام المثقف اليوم لا يكمن فقط في مواجهة السلطة، بل في مواجهة نمط استهلاكي للثقافة، يُفضّل السطحية على العمق، والنجومية على الفكرة، والتأثير اللحظي على المساءلة الفكرية. لقد تحوّل بعض المثقفين إلى "مؤثرين" أو "نجوم منابر"، يُنتجون خطابًا شعبويًا، يسهل تداوله لكنه عاجز عن تحريك أي وعي فعلي أو إحداث خلخلة في البنية المعرفية السائدة.
وفي هذا المشهد، يبقى المثقف الحقيقي هو من يقف في تلك المساحة القلقة، لا يلتحق بالقطيع، ولا يكتفي بالصراخ من بعيد، بل يمارس شغب الفكر، حتى وإن كان ذلك على حساب شهرته أو راحته. هو الذي يُدرك أن الصمت في بعض اللحظات خيانة، وأن الكلام في لحظات أخرى استعراض. وأن الأمان الفكري هو نقيض الحريّة، وأن الانسجام الدائم مع الموجة هو ضربٌ من الذوبان الكامل.
وبالتالي، التمرد، إذًا، ليس صفة نضالية بالضرورة، بل هو شرط للفكر النقدي. والانصياع، ليس دومًا خيانة، بل قد يكون قراءة واقعية للمرحلة. لكن الفرق الجوهري هو أن المثقف الحقيقي لا يخلط بين التكتيك والمبدأ، ولا بين الذكاء والازدواجية. إنه الذي يعرف متى يصمت، ومتى يكتب، ومتى يُصدم، ومتى يعبر دون أن يستجدي التصفيق.
وفي نهاية المطاف، فإن سؤال: "المثقف بين الانصياع والتمرد" لا يُجاب عنه بمواقف مُعلّبة، بل بتجربة حيّة، يُختبر فيها الفرد في كل لحظة. ومع كل انحناءة أو وقفة، يُعاد طرح السؤال من جديد: هل ما زلت تُفكر بحرية؟ أم أنك، بطريقة ما، صرت تفكر بما يُنتظر منك أن تقول.
مراجع المقال:
1. إدوارد سعيد – “صور المثقف” ترجمة: فواز طرابلسي
دار الآداب، بيروت، الطبعة: الأولى، 1996
2. علي حرب – “من نقد العقل إلى تفكيك الميتافيزيقا” المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، الطبعة: الثالثة، 2003.
3. جورج طرابيشي – “المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي” الناشر: دار الساقي، لندن - بيروت
الطبعة: الثانية، 1993
4. عبد الله العروي – “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” الناشر: المركز الثقافي العربي، الطبعة: الرابعة، 2005
5. ياسين الحافظ – “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”
الناشر: دار الطليعة، بيروت الطبعة: الثانية، 1980
6. عبد الإله بلقزيز – “الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر” الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة: الثانية، 2002
7. محمد عابد الجابري – “المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية” الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة: الأولى، 1995
8. أدونيس – “الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والانقطاع عند العرب” الناشر: دار الساقي، الطبعة: الثالثة، 1993 .



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
- قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)


المزيد.....




- رجال الإطفاء يسيطرون على حريق غابات مهول بعد اندلاعه قرب إحد ...
- حرائق تجتاح أوروبا: دمار واسع وعمليات إخلاء جماعي وسط موجة ح ...
- ابتكار طبي لافت: زرع أنسجة بشرية مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعا ...
- عون للارجاني: لبنان منفتح على إيران في حدود السيادة والاحترا ...
- آخر صانع طرابيش في لبنان..هل تندثر هذه الحرفة التقليدية؟
- 8 شهداء بيوم واحد في مجاعة غزة والاحتلال يستهدف لجان تأمين ا ...
- احتجاج نادر في الصين يكشف تقاعس الشرطة والسلطات المحلية وينذ ...
- نيويورك تايمز: روسيا مشتبه بها في اختراق نظام ملفات المحكمة ...
- كاتب روسي: ازدواجية معايير ترامب بالتعامل مع الدكتاتوريين ته ...
- هل تنهي العدالة الانتقالية في سوريا الإفلات من العقاب؟


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)