|
صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 11:31
المحور:
قضايا ثقافية
طالما عالمنا هذا، عالم تغمره المعلومات – بشتى صنوفها - وتتسابق فيه المنصات لاحتلال العقل، لم يعد توجيه العامة أمراً معقداً كما في الأزمنة الماضية، بل أصبح علماً قائماً بذاته، تُستثمر فيه المليارات ويُصاغ في دوائر القرار الكبرى. لكن الملفت، وربما الأخطر، هو أن أدوات هذا التوجيه لم تعد تكتفي بجموع الناس أو "الرأي العام"، بل باتت تستهدف المثقفين أنفسهم. فهؤلاء الذين يُفترض أنهم قادة الرأي وروّاده، أصبحوا هم أيضاً موضوعاً لعمليات صناعة الاتجاهات، بطريقة دقيقة، ناعمة، أحياناً خفية، وأحياناً مدهشة بوضوحها وجرأتها. حيث المثقف، بطبيعته، لا يتلقى الفكرة كما هي، بل يعيد تشكيلها، ينتقدها، يمحصها، ثم يُنتج رأيه منها. لكنه – في زمن الفوضى الرقمية والسيطرة الرمزية – قد يجد نفسه منخرطاً في منظومة أفكار لم يخترها بوعيه الكامل، بل تسللت إليه عبر قنوات تبدو بريئة، أو ذات بعد "فكري". هكذا، يتم تشكيل اتجاهه، لا عبر القمع أو الفرض، بل من خلال التكرار، والإيحاء، وتقديم القضايا في قوالب تبدو عقلانية، لكنها تحمل انزياحاً تدريجياً في منظومته القيمية. ولعلّ من أبرز وسائل صناعة الاتجاهات لدى المثقفين هي "المساحات الرمادية". فيتم ضخّ أفكار أو مفاهيم غير محسومة، تتراوح بين النقيضين، فتُغري المثقف بالنقاش والجدل، بينما الغاية الحقيقية ليست الوصول إلى الحقيقة، بل استهلاك طاقته النقدية في مساحات لا تنتهي. وهنا تصبح المعركة فكرية – ظاهرًا – لكنها في جوهرها انحراف ممنهج عن القضايا المركزية، وتوريط للنخبة في قضايا ثانوية أو مؤدلجة سلفاً. وثمّة منهج آخر في توجيه المثقف هو خلق "النماذج الملهمة" التي يُراد تعميمها. يُسلَّط الضوء على مثقف معيّن، يروَّج له كصاحب فكر "مختلف" أو "حر" أو "ثوري" أو مقاوم"، لكنه في الحقيقة لا يمثل سوى نسخة محسّنة من الاتجاه المرغوب تمريره. فينجذب المثقف العادي إلى هذه النماذج، يرى فيها رمزية للتحرر أو الجرأة أو الحداثة، ويبدأ، دون أن يدري، بمحاكاتها. وما إن تتكرر النماذج، حتى يصبح التيار المصنوع يبدو وكأنه قد نشأ من القاعدة، بينما هو في الأصل قد صُنع في القمة، ثم هبط إلى العقول. وفي هذه المعمعة يبرز الإعلام الثقافي، وهذا بدوره يؤدي وظيفة مركزية في هذا التوجيه. فالمجلات والمنصات الفكرية، وحتى الصفحات الثقافية في الصحف الكبرى، غالباً ما تكون بوابات توجيه ناعم. لا تُمارس الرقابة الكلاسيكية، لكنها تمارس "الانتقاء الصامت"، بحيث تُبرز الأصوات التي تخدم توجهًا ما، وتُهمِّش ما سواها. وبهذا، لا يتم إسكات المثقفين المخالفين، بل يُتركون يتحدثون في الفراغ، دون صدى. وإذا كانت السلطات التقليدية (السياسية أو الدينية أو العسكرية - مليشيات) قد أخفقت في تطويع المثقف أو كبحه، فإن السلطات الجديدة – الرمزية، الاقتصادية، التكنولوجية – قد أحرزت تقدماً مذهلاً في استيعابه. فالمثقف، الذي كان في ما مضى يهرب من المؤسسة، أصبح اليوم هو ذاته "منتجاً مؤسسياً”، من حيث لا يدري. تُملى عليه القضايا التي ينبغي مناقشتها، وتُحدَّد له ساحات الاشتباك، ويُمنَح صك الشرعية حين يلتزم بالإطار، أو يُجرَّم حين يتمرّد. لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن المثقف المعاصر، حتى حين يعارض أو يرفض أو يتمرّد، فإنه يفعل ذلك غالباً من داخل الأطر المصنوعة له. فيبدو مختلفاً في الظاهر، لكنه يسبح في المساحة التي حُددت له مسبقاً. ويغدو "التمرّد المراقَب" هو الشكل المثالي للمثقف المطلوب: يتكلم كثيراً، يبدو متوتراً، يعبّر عن غضب الجمهور، لكنه لا يهدد البنية القائمة، بل يؤكدها. ولعل المفارقة الأكبر، أن كثيراً من المثقفين يستهزئون بمقولة "نظرية المؤامرة"، بينما هم أنفسهم، ضحايا لمؤامرة أعقد من أن تُشرح بخريطة: إنها مؤامرة ناعمة، تتسلل عبر الثقافة لا العنف، عبر الجاذبية لا الإكراه، وعبر الحرية الظاهرة لا الرقابة. إنها مؤامرة صناعة الاتجاهات لا قتل الاتجاهات، ونحت الرأي لا قمعه، واستدراج القلم لا كسره. فهل يُمكن للمثقف اليوم أن يُعيد اختراع حريته؟ هل يستطيع أن يتلمّس المساحة التي لم تُصنع له بعد، وأن يسكنها؟ وهل يجرؤ على الانسحاب من المنصة، ولو مؤقتاً، ليراجع موقعه الحقيقي؟ أم أن اللعبة قد أُحكمت إلى حد لم يعد فيه من منفذ؟. أسئلة تُطرح في زمن، يبدو فيه المثقف أكثر ضجيجًا من أي وقت مضى، لكنه – للأسف – أقل حرية. إلّا أن المثقف الذي يُفترض أن يكون حاملًا للسؤال، ناقدًا للمألوف، ومتمردًا على القوالب الجاهزة، يجد نفسه — دون أن يدري أحيانًا — داخل شبكة ضخمة من التوجيه غير المباشر. يتم ذلك من خلال اختيار المواضيع "الرائجة"، وتحديد من يحق له الظهور، ومن يبقى في الظل، وتلميع خطابٍ معين باعتباره "اللحظة المناسبة"، مقابل تهميش الخطابات الأخرى أو وصفها بالرجعية أو التطرف أو حتى الجنون. وهذا النوع من الطرح قد يفتح المجال واسعًا أمام المثقفين الذين يتحدثون ضمن ما هو مرغوب، دون الحاجة إلى أوامر صريحة أو رقابة مباشرة. فيتم ترويجهم، ومنحهم المنصات والجوائز، ودعوتهم إلى المؤتمرات، حتى يعتادوا هذا النمط من "الشرعية"، ويميلوا - دون شعور - إلى إعادة إنتاجه. وفي المقابل، يتم تهميش أو كتم الأصوات التي تخرج عن السياق المطلوب، بحجج شتى: عدم الواقعية، خطاب الأزمة، تعقيد اللغة، أو حتى "قلة التفاعل". هذا لا يعني أن كل من يظهر على المنصات هو مثقفٌ مُوجَّه بالضرورة، ولا أن كل من تم تهميشه هو صاحب حق مطلق. القضية أعقد من ثنائية الأبيض والأسود. فالنظام المعقَّد الذي تصنعه الاتجاهات، يجعل من الصعب أحيانًا حتى على المثقف نفسه أن يدرك متى بدأ بالتنازل، ومتى تحوّل من فكرٍ حرّ إلى مجرد مرآة تعكس ما يُراد له أن يعكسه. والحق يقال أن الخطورة الحقيقية لا تكمن في إسكات المثقف، بل في جعله يتحدث كثيرًا دون أن يقول شيئًا حقيقيًا. وفي تحويله من ناقدٍ إلى مُبرّر، ومن مفكرٍ إلى فنان استعراض. وهنا يتحول "التنوير" إلى تسلية، و"التحليل" إلى طقسٍ استهلاكي، و"الاختلاف" إلى مجرد شكليات لا تلامس جوهر الأزمة. وعليه نعتقد إنه تُصنع هذه الاتجاهات غالبًا عبر أدوات "ناعمة" لكنها فعالة: الترند، الشبكات الاجتماعية، آليات النشر والظهور، قوانين الدعم والتمويل، وحتى عبر خطاب "الحياد" الزائف الذي يُطالِب الجميع بالتوازن بينما يختل كل شيء. وفي وسط هذا المشهد المتشابك، تصبح مهمة المثقف الحُرّ أكثر تعقيدًا، لكنها أكثر أهمية من أي وقت مضى. أن يقول ما لا يُقال، أن يحفر في العمق، أن يرفض أن يُختزل في خانة، أو يُستخدم كصوتٍ تجميلي. أن يظل يقظًا، يتفحّص اللغة والمعنى، ولا يُسلّم بسهولة لأي سردية تُقدَّم له باعتبارها نهائية. وموقف المثقف الحقيقي ليس مناهضًا دائمًا، لكنه أيضًا ليس مطواعًا. هو الذي يعرف متى يصمت لأن الكلمة خائنة، ومتى يتكلم لأن الصمت جريمة. يعرف أن كثرة الأتباع ليست برهانًا، وأن العزلة أحيانًا دليل عافية. يعرف أن السلطة الأشد فتكًا، ليست التي تُلوّح بالسلاح، بل التي تُربّت على الكتف وتقول له: "قل هذا… بطريقتك"، وهذا هو المثقف المقولب. إذن أصبحت لدينا صناعة، وصناعة خطرة، لا تقل أهمية عن صناعة الأسلحة (المحظورة وغيرة المحظورة التي هدفها تدمير البشر والبنية التحتية)، وثمة من يشتغل عليها آناء الليل وأطراف النهار. لذلك، في عصر "صناعة الاتجاهات"، لا يكفي أن يكون المثقف قارئًا جيدًا للواقع، بل عليه أن يكون أيضًا ناقدًا للشروط التي يُفرض بها هذا الواقع. أن يقف على مسافة من الضجيج، لا ليصمت، بل ليصوغ صوته الحرّ بعيدًا عن الضغوط، حتى لو كلّفه ذلك المكان، أو المجد، أو "المكانة الرمزية". فالعقل المُستقلّ ثمنه العزلة، والمثقف الحقيقي ليس مَن يقول ما يريده الجمهور، ولا ما تريده السلطة، بل ما يجب أن يُقال… مهما كلّف الأمر. مراجع المقال: 1. التشيؤ والوعي الاجتماعي – جورج لوكاش، ترجمة: فالح عبد الجبار، دار الجمل، 2004. 2. نقد العقل الثقافي – علي حرب، دار الساقي، 2000. 3. إنتاج الفوضى – فواز طرابلسي، دار الريس، 2012. 4. أسئلة الهوية في الرواية العربية – عبد الحميد أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011. 5. سوسيولوجيا الثقافة – سعيد بنكراد، دار توبقال، 2009. 6. السلطة الرمزية – بيير بورديو، ترجمة: حسن أحجيج، دار توبقال، 2003.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
-
التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
-
ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
-
هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
-
قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
-
المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
-
الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
-
صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
-
كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
-
المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
-
تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
-
التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
-
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
المزيد.....
-
بعد توقيعهما -اتفاق سلام-، ما هي جذور الصراع بين أرمينيا وأذ
...
-
كندا تُعلن خطة إنفاق عسكري ضخمة لمواجهة التهديدات وتحقيق أهد
...
-
تعقب العلماء وتفكيك الدفاعات.. كيف نفذ الكوماندوز الإسرائيلي
...
-
الخطة الإسرائيلية للسيطرة على غزة
-
الحكومة السورية تهاجم مؤتمر الحسكة -الطائفي- وترفض الاجتماع
...
-
الحكومة السودانية ترحب ببيان مجلس السلم والأمن الأفريقي
-
إسرائيل تسارع في شرعنة 22 مستوطنة وبؤرة استيطانية بالضفة الغ
...
-
إعلام إسرائيلي: حماس ستقاتل حتى آخر رصاصة ونتنياهو سيحمّل زا
...
-
الإمارات.. فيديو حركة لبوتين مع شخص بوفد محمد بن زايد بمراسم
...
-
من يدعم خطة نتنياهو في غزة وماذا تعني للفلسطينيين؟
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|