أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)














المزيد.....

تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 12:03
المحور: قضايا ثقافية
    


تبدأ أفكارنا في الغالب كتراتيل موروثة لا وعي بها. نولد ونحن نردد ما قيل لنا، كأننا أجهزة تسجيل تستهلها عبارات الأجداد، طُرق التفكير الموسومة في عقولنا قبل إدراكنا حتى لمن يمليها. نعيش طويلاً محمولين على سخاء منحي للمعرفة، لا نعرف أنه من مشاعل العصمة، ولا نعرف أن المعرفة يجب أن تُزرع فيّا، لا تُلقى عليَّ. وحين تبدأ الشكوك بالتبلور، وتخترق الإطار الآمن، يصير الوعي فعلًا عنيفًا. تبدأ الصور القديمة بالتفتُّت، ويبدأ العالم الداخلي بالنفاد. السؤال الأول لا يُسمع بالضرورة، لكن حين ينبثق، يصبح ثورة. "من قال هذا؟"، "لماذا أؤمن بذلك؟"، "هل هذه الفكرة لي؟"- يمكن لتلك المفردات البسيطة أن تخلق فجوة خطيرة داخل المراقبة الاجتماعية للعقل. ذلك السؤال، يكشف أننا لا نفكر إلا حين نفكر في فكرة التفكير نفسها.
الاعتراف، هنا، يصبح لحظة تمرّد لطيف. أن تقول: "لقد تلقّيت هذا"، أو أن تقترح: "وهذا أريد أن أعيه الآن". الاعتراف ليس مذابح لغوية، بل هو فتح باب الحيرة على نفسه. هو لحظة مواجهة بين الذات والماضي التلقيني، بين قناعات غُرست فيها وأفق جديد يشق طريقه بصعوبة. في تلك اللحظة، يتوقف الخطاب الداخلي عن أن يكون نسخة طبق الأصل، ويصبح فعل إنساني متجدد.
لكن البيئة لا ترحب بالتشكك. المجتمعات تبني أطرها على قِيَم لا تُساءل تحت ذريعة صالح الكل. التفكّر، هنا، يُعدّ خروجًا عن الإجماع، تهديدًا للصورة الموحدة. المثقف الذي يمارس الشك لا يُستعاد إلا كخارج عن الشاشة، أو «منحرف فكري»، لا كمن يساهم في تطوير الحواس العقلية للمجتمع.
الوعي ، من جانبه، أمر تطوعي، لكنه أشدّ عنفًا عندما يُمارس داخليًا. إنه يفرض على صاحبه أن يراجع، ويعيد الصياغة، ويُخترق في قاعه الذاتي مئات المرات. ومهما وصل إلى من استنتاجات، يعود دائمًا إلى نفسه، يسأل: هل كتبت هذا لأنّي رأيت المعنى أم لأنني كنت أؤسس له فقط؟.
هنا تصبح الحرية الفكرية أمر لازم، أي ليس أن نخرج عن السياج، بل أن نصعد على الحاجز، نسقطه، ونقف من داخله مرة أخرى، لكن هذه المرة كمن يرى الأرض من الأعلى، لا كأحد يتحرك داخل القفص المُحكم. بل هي أن تعترف بأنك لم تبنِ كل زوايا فكرك بنفسك، لكنك تسعى لذلك. وأنك لا تهرب من التنافر، بل تطعنه في ظهره ليفكّر في نفسه. هذه هي الأولوية الأولى للذات، في زمن بات فيه التسليم أبسط طريق… وأعمق السجون.
لكن الإنسان لا يكتمل وعيه دفعة واحدة، بل يأتيه الإدراك على شكل خيبات، وارتطامات، وأسئلة تتكرر حتى تصبح غير قابلة للسكوت. تبدأ رحلة التفكيك لا بإجابات حاسمة، بل باللايقين. في هذه المنطقة الرمادية يولد الوعي ككائن هشّ، بلا يقين ولا انتماء نهائي، لكنه قادر على الرؤية دون وسطاء. وهنا، يبدأ الانفصال التدريجي عن ما تلقّاه، ليس لأن ما تلقّاه كان خطأ بالضرورة، بل لأنه لم يكن خيارًا، بل قيدًا.
الفكرة الحقيقية لا تُستعار، إنها تُنتج، تُلد من عمق الصراع الداخلي، من المواجهة مع الذات والبيئة والمقدس والعرف. كثيرون يظنون أنهم أحرار لأنهم يعيدون قول ما قيل بلغة جديدة، أو يهاجمون تقاليدهم بنبرة أكثر جرأة، لكنهم لا يفعلون أكثر من استبدال قيد بآخر، وسيدٍ بسيدٍ جديد. الحرية الفكرية ليست خروجا من الموروث إلى نقيضه، بل هي الخروج من أسر التقليد، أياً كان مصدره، إلى مساحة تسمح بإعادة النظر في كل شيء.
بالمقابل، في مجتمعاتنا، تُغلف التبعية الفكرية باسم الوفاء، ويُكافأ الخنوع المعرفي باسم الثبات على المبدأ، ويُحتفى بالذاكرة الجماعية أكثر من العقل الفردي. لا يُطلب منك أن تفكّر، بل أن تكرّر، لا أن تكتشف، بل أن تحفظ، لا أن تناقش، بل أن تطيع. ولهذا فإن الوعي الحر، حين يوجد، يُنظر إليه كتهديد، ويُحاصر لا بقوة القمع فقط، بل بقوة النبذ الاجتماعي، والشعور بالذنب، وتأنيب الضمير الذي تمت برمجته منذ الطفولة ليكره الخروج عن الجماعة.
لكن الفكرة، حين تنبثق من داخلك لا من حولك، تصبح كائناً حيّاً لا يمكنك إنكاره. تشعر أنك لا تملكها فقط، بل أنها أصبحت أنت. لا تعود مجرد رأي، بل بصمة وجود. ومن هنا، لا يمكنك أن تعود كما كنت، لأنك إن فعلت، فإنك تنكر التجربة التي شكلتك. وهذا ما يجعل الوعي الفعلي فعلاً لا رجعة فيه، وعبوراً لا يمكن التراجع عنه دون أن تفقد نفسك.
أن تشكّ ليس خيانة، وأن تفكّر ليس كفراً، وأن تعيد قراءة المسلمات لا يعني أنك ضدها، بل ربما تحاول لأول مرة أن تفهمها حقًا. كل فكرة لا تقبل المراجعة، لا تستحق أن تكون جزءاً من وعي حر. وكل خطاب يطالبك بالإيمان دون فهم، هو خطاب يخاف منك، لا عليك.
في المحصلة النهائية، تشكيل الأفكار لا يكون فعلاً واعيًا إلا حين نعيد هندسة ما تلقّيناه، نجرّده من سلطته الرمزية، ونسمح له أن يخضع للامتحان. الفكرة التي تنجو من المحاكمة تبقى، والتي تنهار تحت السؤال لا تستحق أن تُحمل أكثر. وبين هذا وذاك، يبدأ الإنسان في التحوّل من مخلوق لغوي تلقّى الحياة جاهزة، إلى كائن حرّ يصنعها من جديد.
مراجع المقال:
1.العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر – عاطف العراقي؛ دار قباء للطباعة والنشر – القاهرة، الطبعة الأولى 1998،
2. نقد الفكر الديني – صادق جلال العظم؛ دار الطليعة – بيروت، طبع أول 1969
3.الفكر الحر – أندريه ناتاف؛ دار نشر غير محددة، الطبعة 2022.
4.الحرية الفكرية والدينية – د. يحيى رضا جاد؛ دار نشر غير محددة، الطبعة 2014.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)
- تماثل الأفكار: هل يفقد المثقفون صمتهم؟(9)
- التفكير المقيّد: مأساة الفكر المقولب(8)
- زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
- المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
- الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة


المزيد.....




- قد تكبده غرامة.. مخالفة يرتكبها وزير الخارجية البريطاني خلال ...
- مثل -راتاتوي-.. مهندسة تصمّم فأرًا روبوتيا كربطة رأس -يتحكّم ...
- قابلهم 48 مرة.. إليك تفاصيل لقاءات بوتين السابقة مع رؤساء ال ...
- السودان: عشرات الوفيات في دارفور جراء الكوليرا ومنظمة أطباء ...
- احتجاجات في واشنطن بعد إعلان البيت الأبيض انتشار قوات فيدرال ...
- غَرق قارب مهاجرين قبالة لامبيدوسا يُوقع 26 قتيلاً على الأقل ...
- مصدر رسمي: الأردن رفض مرور مساعدات إسرائيلية للسويداء عبر أر ...
- باكستان تنشئ قوة جديدة للإشراف على الصواريخ بعد الصراع مع ال ...
- اشتباكات متصاعدة في صربيا بين معارضي الرئيس ومؤيديه
- 100 منظمة إغاثية تتهم إسرائيل بعرقلة دخول المساعدات لغزة


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)