أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)















المزيد.....

القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 20:50
المحور: قضايا ثقافية
    


تعزيزًا إلى ما ذكرنا في مقالات سابقة، نؤكد هنا بأن القولبة الفكرية تُعدّ من أخطر العوائق التي تهدد جودة الحوار الثقافي، لا لأنها تُعبّر فقط عن انغلاقٍ في الرؤية أو انحيازٍ مسبق، بل لأنها تُفرغ الحوار من معناه الجوهري: التفاعل الحي بين العقول المختلفة. فالحوار الثقافي بطبيعته يقتضي الانفتاح على الآخر، واستعدادًا للاستماع، وتقبّلًا للاختلاف كجزء من ثراء التجربة الإنسانية، لا كتهديد لها. ولكن حين يتورط طرف أو أطراف في القولبة الفكرية، أي في حبس الآخر داخل قوالب جاهزة من التصورات النمطية والأحكام المسبقة، فإن الحوار يفقد روحه، ويتحوّل إلى مبارزة عقيمة بين تصنيفات جامدة لا تسعى للفهم بل للإلغاء.
وحين نُدرك أن القولبة الفكرية ليست مجرّد موقف، بل آلية نفسية وثقافية تتسرّب إلى التفكير والسلوك، نفهم أنها لا تُهدّد فقط الحوار الثقافي، بل تهدّد الثقافة ذاتها في قدرتها على التطور. فالثقافة، لكي تبقى حيّة، تحتاج إلى صراعٍ خصب بين الأصوات، لا إلى تجانسٍ زائف قائم على إقصاء المختلف. القولبة تُفرِغ هذا الصراع من محتواه، وتجعل من الثقافة مجرّد إعادة إنتاج لمفاهيم مكرورة، تخدم سلطات فكرية أو أيديولوجيات قائمة، وتخنق الأسئلة الجديدة قبل أن تولد.
وبالتالي يصبح نقد القولبة الفكرية ليس مجرّد موقف أخلاقي، بل ضرورة إبستمولوجية (معرفية). لأنه كلما زاد وعي الفرد والمجتمع بآليات التصنيف والانغلاق، زادت قدرتهم على تجاوزها نحو فضاءٍ أكثر رحابة. ولعلّ ما يفاقم الخطر هو أن هذه القولبة كثيرًا ما تتغذى على روافد خفيّة: التعليم التقليدي، الإعلام المؤدلج، الخطاب الديني المتشدد، والسياسات الثقافية الانتقائية. جميعها تساهم، بطريقة أو بأخرى، في إنتاج وعي قطيعي، يطلب الطمأنينة على حساب الفهم، ويُفضّل البساطة على تعقيد الواقع، ويختبئ وراء "اليقين" هربًا من مسؤولية التفكير.
وكأمر حتمي نجد في المجتمعات التي تتسم بالتعدد الديني أو العرقي أو السياسي، تصبح القولبة الفكرية أكثر فتكًا، إذ إنها تغذّي الانقسام بدل المصالحة، وتُعمّق الصور النمطية بدل تفكيكها، وتحوّل الحوار إلى ساحة للاشتباه المتبادل، لا للثقة التبادلية. فحين لا يرى السنّي في الشيعي إلا مذهبًا منحرفًا، والعكس أيضًا صحيح، ولا يرى العربي في الكردي إلا انفصالياً، ولا يرى المسلم في المسيحي إلا امتدادًا للغرب، فإننا لا نتحدث عن خلاف ثقافي، بل عن انهيار في منطق العيش المشترك.
القولبة هنا لا تؤدي إلى سوء الفهم فحسب، بل إلى رفض وجود الآخر من الأساس، واعتباره خطأ في الوجود يجب تصحيحه أو تجاهله أو محوه. وهذا ما يجعل الحوار الثقافي في مثل هذه الأوساط لا يُنتج اتفاقًا أو حتى خلافًا ناضجًا، بل يُنتج اصطفافات قائمة على التهوين أو التهويل، كلاهما بعيد عن الموضوعية والمعرفة الحقيقية.
وما يزيد الطين بلة، هو أن القولبة الفكرية كثيرًا ما تتزيّن بلغة العقل والمنطق، فتُخفي تحيّزها خلف قشرةٍ من التحليل أو المصطلحات الفلسفية، بينما تظل في جوهرها موقفًا مغلقًا، لا يسعى للفهم، بل لتأكيد ما يعتقده مسبقًا. ولهذا السبب، فإن القولبة لا تختصّ بطرف دون آخر: فقد نجدها عند المثقف كما نجدها عند الجاهل، عند الديني كما عند العلماني، عند المحافظ كما عند التقدمي. إنها لا تُفرّق بين الأيديولوجيات، بل تستوطن جميعها حين يغيب النقد الذاتي.
ولو أردنا كسر القولبة الفكرية، فالأمر يتطلّب شجاعة وجودية أكثر من كونه مهارة خطابية. شجاعة أن تواجه نفسك، أن تراجع يقينك، أن تُعيد النظر في روايتك المفضلة للعالم. يتطلّب شجاعة أن تقبل بأن الآخر لا يشبهك، لكنه ليس عدوك. أن تدرك بأنك لا تمتلك الحقيقة كاملة، وأن من حق غيرك أن يُفكّر بطريقةٍ مختلفة دون أن يُحاكم بنواياك أو معاييرك.
أما الحوار الثقافي الحقيقي لا يقوم على تشابه العقول، بل على تَسامُحها، لا على محو الفوارق، بل على احترامها. ولهذا، فإن الخروج من القولبة لا يعني ضياع الهوية أو التخلّي عن المبادئ، بل يعني الدخول في هوية أعمق، أكثر إنسانية، تتشكّل لا من الخوف من الآخر، بل من الرغبة في فهمه، ومشاركته، والاعتراف بحقه في أن يكون مختلفًا… ومع ذلك جديرًا بالحوار.
بهذا المعنى، فإن القولبة الفكرية ليست فقط خطرًا على الحوار الثقافي، بل هي نقيضه الجوهري، لأنها تُبقينا أسرى لصدى صوتنا، غير قادرين على الإصغاء لما هو خارج الجدار. والذين لا يسمعون إلا أصواتهم… لا يصنعون ثقافة، بل فقط جدرانًا أعلى، وعزلةً أعمق.
ولتوضيح أكثر بقول: إن القولبة الفكرية لا تتولد من فراغ، بل هي نتاج ثقافات مغلقة، أو تربية قائمة على الثنائية الحادة: "نحن" مقابل "هم"، الحق مقابل الباطل، الإيمان مقابل الكفر، النقاء مقابل الدنس، الأصالة مقابل الانحراف. هذه الثنائية تُنتج وعيًا مسطّحًا لا يرى في الآخر سوى تهديد، ولا في الاختلاف سوى خطأ. حين تُمارس هذه العقلية داخل الحوار الثقافي، فإنها تشلّ قدرته على التقدّم، لأن كل طرف يحاكم الآخر من داخل قوقعته الفكرية، دون محاولة للنفاذ إلى تعقيداته الداخلية أو احترام سياقاته.
والخطر الأكبر للقولبة يكمن في أنها قد تُمارَس دون وعي، حيث يظن المرء أنه منفتح، لكنه في الحقيقة يُعيد إنتاج صورٍ ذهنية مشوّهة عن الآخر، سواء كان هذا الآخر مختلفًا دينيًا أو إثنيًا أو فكريًا أو حتى أسلوبيًا في التعبير. فالشخص الذي يُنصّب نفسه وصيًا على “الصحيح” و"المنطقي" و"الموضوعي" في النقاش، كثيرًا ما يقع في فخّ القولبة حين يُواجه أطروحة لا تنسجم مع أفقه الذهني أو مزاجه الثقافي.
وفي ظل هذا المناخ، يتحوّل الحوار إلى حالة من الدفاع والهجوم، لا إلى تقاطع رؤى أو إثراء أفكار. كل طرف يُكرّس جهده لإثبات صحة موقفه، لا لفهم دوافع الآخر أو معايشة منطقه الداخلي. في مثل هذا السياق، تغيب الأسئلة الكبرى، ويغيب التفاعل النقدي الحقيقي، وتصبح النتيجة تكرارًا عقيمًا لمواقف جاهزة، لا تُنتج معرفة ولا تُبني جسورًا بين المختلفين.
الحوار الثقافي السليم لا يحتاج فقط إلى معلومات، بل إلى وعي ذاتي نقدي يُراقب ميولنا إلى التعميم والتبسيط والشيطنة. فالأفكار الحية لا تُختصر في يافطات، ولا تُستوعَب من خلال انطباعات عابرة أو ردود فعل عاطفية. وكل محاولة لتصنيف الآخر بشكل نهائي هي في جوهرها رفضٌ للحوار معه، حتى وإن اتخذت شكل الكلمات الهادئة أو المجاملات السطحية.
وربما يسأل سال: هل ثمة خروج يلوح في الأفق، من فخ القولبة الفكرية؟
الجواب: نعم. الخروج من فخ القولبة الفكرية ويبدأ من الاعتراف بوجودها داخلنا، لا فقط عند "الآخرين". يبدأ من التواضع المعرفي، ومن التعامل مع الحوار لا كمنصة للانتصار، بل كمجال لتوسيع الإدراك وتكسير المسلمات. فالاختلاف لا يُهدد الهوية، بل يُنضجها. واللقاء مع أفكار مغايرة لا يُضعف الثوابت، بل يُعري ما فيها من هشاشة أو يُقوّيها بما يُعيد اختبارها.

في نهاية المطاف، القولبة الفكرية ليست فقط عائقًا أمام الحوار الثقافي، بل هي نوع من الاستعمار الذهني، حين نفرض على الآخر أن يكون كما نريده نحن، لا كما هو. وهي إعلانٌ ضمنيّ بأننا لسنا مستعدّين للتعلّم، ولا للتماسّ الحقيقي مع تعدد العالم. ولذلك، فإن تجاوزها ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة ملحّة لإنقاذ الحوار من الانغلاق، ولتحرير الثقافة من التحجّر، ولإعادة الاعتبار للإنسانية المشتركة التي لا تنكشف إلا حين نكفّ عن تصنيف الآخر، ونبدأ في الإصغاء إليه.
مراجع المقال:
1.مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، منشورات دار الفكر، سنة الطبع 2000م.
2. مشكلة الإنسان - د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر ط1، القاهرة، 1969م.
3. في العلم والأخلاق والسياسة، تولستوي، منشورات آفاق، ترجمة يوسف نبيل، الطبعة الأولى 2019.
4. علي حرب. نقد النص. دار الطليعة، بيروت، 1993 .



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)


المزيد.....




- أصالة في بيروت وأحمد حلمي وعمرو يوسف يخطفان الأنظار بحفل للـ ...
- ميكرفون مفتوح يلتقط لحظة حديثه مع ماكرون عن بوتين.. ماذا قال ...
- ترامب بعد لقائه بزيلينسكي: -التوصل إلى وقف إطلاق النار ليس ش ...
- بصفقة دواك.. ليفربول يتخطى 227 مليون إسترليني من بيع لاعبيه ...
- زفاف جندي إسرائيلي مبتور الساقين: حقيقة أم مجرد دعاية؟
- -الجميع يترقب نهاية الحرب-.. هل بات وقف إطلاق النار بغزة وشي ...
- مصر تحقق المليون السكاني الأخير بأبطأ وتيرة منذ سنوات
- ترامب يوضح موعد حسم الضمانات الأمنية لأوكرانيا لتأمين اتفاق ...
- أمن الدولة تخلي سبيل ماهينور المصري بكفالة 50 ألف جنيه في ال ...
- بعد توتر مع فرنسا وأستراليا.. نتنياهو يعقد اجتماعا طارئا بشأ ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)