أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)















المزيد.....

المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8437 - 2025 / 8 / 17 - 20:23
المحور: قضايا ثقافية
    


المثقف كما هو واضح، في خضمّ ما تُنتجه المجتمعات من نظم رمزية، وقيم سائدة، ومقولات جاهزة، عالقًا بين خيارين: إما أن يكون الصانع الواعي لتلك القوالب الفكرية واللغوية والاجتماعية، أو أن ينزلق، من حيث لا يدري، إلى موقع الضحية؛ فيردد ما يُطلب منه، ويسهم - ولو بنوايا نبيلة - في تكريس أنماط التفكير ذاتها التي يُفترض به أن يُسائلها. وفي لحظة ما، قد يبدأ المثقف مشروعه من موقع المقاومة: يسائل السلطة، يتحدى العُرف، يُربك اللغة الجاهزة، ويفضح الخطابات التي تُشرعن الظلم أو تُخدّر الوعي. لكن مع الزمن، وتحت إغراء التأثير أو الخوف من التهميش، قد يتحوّل هو نفسه إلى منتِج لقوالب جديدة، تغدو مع الوقت مغلقة ومطلقة كالتي سبقتها. فالقالب لا يكمن فقط في المحتوى، بل في طريقة التفكير، في الاستعارات المهيمنة، في اللغة التي لا تُفكر خارج نفسها. وهنا، يُصبح المثقف صانعَ قفصٍ ذهبيّ، حتى وإن توهّم أنه يفتح الأبواب.
وفي الحال هذه، أخطر ما يواجهه المثقف ليس الرقابة المفروضة عليه من الخارج، بل الرقابة التي يُمارسها داخله باسم "المقبول"، و"المعقول"، و"الشرعي"، و"المُجدي". حين يبدأ المثقف بتصفية أفكاره قبل أن يُفصح عنها، ويرتّب مواقفه حسب ردود الأفعال المتوقعة، لا يعود ذاتًا حرة مفكرة، بل مرآة مشروطة لمزاج الجماعة، أو سلطة الدولة، أو تقلبات السوق الثقافي.
نعم، قد يُساهم المثقف – من حيث لا يحتسب – في تثبيت صور جاهزة عن الوطن، أو الهوية، أو المرأة، أو الدين، حين يُقدّم نفسه كمتحدّث رسمي باسم “الصوت العاقل”، في مقابل ما يُعتبر "غلوًا” أو “تفريطًا”. وهكذا، دون أن يُدرك، يتواطأ مع المركز ضدّ الهامش، ويُعيد إنتاج الثنائيات الساذجة: معتدل/ متطرّف، وطني/ خائن، عقلاني/ فوضوي. وكلما ازداد حرصه على "القبول"، صار أقرب إلى أن يكون صدىً لما يُتوقّع منه لا لما يؤمن به.
لكن الوجه الآخر للمأساة أن المثقف قد يُصبح، رغم مقاومته، ضحيةً لقوالب لم يصنعها، بل فُرضت عليه مسبقًا. يُنتظر منه أن يُجسّد نمطًا معينًا من "المثقف"، بنبرة محددة، بلغة معيّنة، بقاموس "نقدي" محفوظ. فإذا تجرّأ وخالف النمط، اتُّهِم بالتفاهة أو الخيانة أو السطحية. وإذا صمت، قيل إنه جبُن. وإن كتب بلغة واضحة، اتُّهِم بالتبسيط، وإن كتب بلغة معقدة، اتُّهِم بالاستعراض. إنه في حالة حصار دائم، بين توقّعات المجتمع، ومتطلبات السلطة، وسوق الثقافة الذي يبيع ويشتري الأسماء كما يُسوّق البضائع.
وفي عالم تتكاثر فيه المنصات، وتُختصر فيه المواقف في جمل سريعة قابلة للمشاركة، صار المثقف مهددًا بأن يتحوّل إلى "مُحتوى"، إلى شخصية قابلة للتوظيف في صناعة الرأي، لا في مساءلته. وهنا يُصبح القالب ليس فقط ما يُقال، بل كيف يُستقبل، وكيف يُقاس تأثيره. لم يعد المعيار هو عمق الفكرة، بل عدد الإعجابات، ومدى التفاعل. وهكذا، حتى المثقف الذي يقاوم القوالب، قد يُحاصر بقالب "المثقف الجريء"، فيُختزل دوره في إثارة الجدل، لا في إثارة التفكير.
فهل المثقف، إذًا، قادر على الإفلات من هذه الثنائية: صانع أو ضحية؟.
ربما الحل ليس في الفكاك التام، ولا في التسليم الكلي، بل في وعي المثقف بذاته ككائن تاريخي، يتشكّل ويُشكّل في الآن ذاته. وعيه بأن كل موقف، وكل نص، وكل خطاب، هو في ذاته فعلٌ رمزيّ يحتمل التواطؤ كما يحتمل التحرر. لا عصمة لأحد، ولا طهرانية في الحقل الثقافي، لكن يمكن للمثقف أن يختار كل مرة أن يُصغي لصوت النقد الداخلي، لا لهتاف المصفّقين أو صراخ الغاضبين.
وبالتالي فالأمر، لا يكمن خطر القوالب في أنها تمنع الكلام، بل في أنها تجعل كل ما يُقال يبدو مألوفًا، مقبولًا، لا يحرّك شيئًا. والمثقف الحقيقي ليس من يصرخ أكثر، ولا من يُصفق له الجميع، بل من يزرع الشكّ حيث استقرّ اليقين، ويُثير الأسئلة حيث اعتاد الناس على الإجابات. هو من يعي القالب، لا ليخضع له، بل ليحطّمه من الداخل، كلمةً بكلمة، وصمتًا بصمت.
لكن تحطيم القوالب ليس مهمة سهلة، ولا بطولية دائمًا. أحيانًا، يبدو المثقف أقرب إلى منقّب في الأنقاض: يبحث عن حقيقة صغيرة وسط الركام، يدرك أن عليه أن يتكلم بلغة الناس، دون أن يذوب فيهم؛ أن يكتب وهو يعلم أن معظم من يقرأه يريد أن يتأكد من أفكاره، لا أن يتحداها. هو في موقع محفوف بالمخاطر، بين أن يُسكت صوته خوفًا، أو أن يرفعه عبثًا، فلا يُسمع.
إنّ الصراع الذي يخوضه المثقف مع القوالب ليس خارجيًا فقط، بل داخليًا أيضًا. فحتى أكثر العقول تمرّدًا تحمل في داخلها بقايا مما تمرّدت عليه. فاللغة التي نكتب بها، والمفاهيم التي نستخدمها، والطريقة التي نعرض بها أفكارنا، كلها مشبعة بإرثٍ طويل من الخطابات السابقة، من التقاليد، من الذوق الجماعي، من منطق "ما يمكن قوله" و"ما لا يمكن". وهنا تتجلّى المأساة: المثقف يحاول أن يهدم بيتًا يسكنه، أن يعيد تشكيل أدواتٍ لا يملك سواها، أن يقول "لا" بصوتٍ صُنع من "نعم" قديمة.
ويزداد هذا التحدي عمقًا في المجتمعات التي تتداخل فيها السلطة الدينية مع السلطة السياسية، وتتماهى فيها القيم الاجتماعية مع الأعراف القهرية. في مثل هذه البيئات، لا يُنظر إلى المثقف باعتباره طرفًا في نقاش، بل باعتباره تهديدًا. كل فكرة تُخالف السياق العام تُقابل بالريبة، وربما بالتحريض. يصبح التنوير ترفًا، والنقد خيانة، والتفكير خارج الجماعة نوعًا من الردة الفكرية. وهنا لا يُطالَب المثقف بأن يصمت فقط، بل بأن يُعيد قول ما قيل، وأن يُكرّر نفس الصيغ، وأن يخدم - من حيث لا يدري - نفس النظام الرمزي الذي خرج ليعارضه. ومع ذلك، فإن للمثقف، وسط هذا الانغلاق، نافذة لا تُغلق: الوعي. الوعي ليس فقط بمعنى المعرفة، بل الوعي بالذات، بالموقع، بالخطورة، بالاحتمالات، وبحدود الدور. فالمثقف ليس نبيًّا، ولا قائدًا مخلّصًا، بل هو حاملُ سؤالٍ دائم، ورغبة في كشف الزيف، وإيمانٌ عنيد بأن ما هو سائد ليس قدرًا أبديًا.
حين يتوقف المثقف عن طرح الأسئلة ويبدأ في توزيع الإجابات، يتحوّل من صانع للمعنى إلى موظف في جهازٍ أكبر منه. وحين يتوهّم أنه يعلو على الناس، لا يخدمهم، يسقط في فخّ النخبوية المعزولة التي لا تصنع أثرًا. الصراع هنا دقيق: أن تكون في قلب المجتمع لا ذائبًا فيه، وأن تقاوم من داخله دون أن تنقلب عليه، وأن تظل حرًا، حتى حين تُطالَب بالاصطفاف.
وربما لا يكون المثقف، في النهاية، صانع قوالب ولا ضحية لها فقط، بل شيئًا ثالثًا: ذلك الكائن القادر على كشف القالب، واللعب عليه، وتفجيره من الداخل. لا بالضجيج، بل بالفكرة الدقيقة. لا بالشعارات، بل بالمعنى الجديد. إنه "المفسد" بمعناه النبيل: من يفسد على السلطة اطمئنانها، وعلى الجماعة انغلاقها، وعلى السوق ربحه السهل، وعلى نفسه وهم الراحة.
في عصر تُباع فيه المواقف، ويُشترى فيه الصمت، ويُصنّف كل شيء بسرعة، يبقى المثقف - الحقيقي - ذلك الذي يُربك التصنيفات، ويُزعج القوالب، ويصمد في الهامش حتى حين يُغريه المركز. لأنه يعرف أن الحرية لا تأتي في قالب، وأن التفكير الحرّ لا يُصنع في قاعات الاستقبال، بل في المساحات التي لا تخاف من السؤال، حتى لو لم تجد جوابًا.
مراجع المقال:
1. النظرية النقدية – تودوروف، ترجمة ريمون حنوش، دار النهضة، 2007.
2. تاريخ الفلسفة الإسلامية – هنري كوربان، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الطليعة، 1988.
3. التغير الاجتماعي في العالم العربي – إدوارد سعيد، دار الساقي، 2009.
4. السياسة والهوية – تشارلز تايلور، ترجمة حسين مؤنس، المركز العربي للأبحاث، 2014.
5. علم الإنسان الثقافي – فرانز بواس، ترجمة مروة صالح، دار الفكر، 2006.
6. الذات والآخر – إيمانويل ليفيناس، ترجمة خالد سليم، دار التنوير، 2011.
7. العقلانية والتنوير – يورغن هابرماس، ترجمة ناصر عبد الكريم، دار الثقافة، 2015.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)
- كيف تُصنع القوالب فكرا موحدا؟(11)
- المثقف والتبعية الفكرية: خيانة الوعي وتمتثل الخطاب(10)


المزيد.....




- ماذا قال بوتين عن نجل مسؤول بـCIA مات في أوكرانيا خلال القتا ...
- أول تعليق لأمريكا بعد اعتراض إسرائيل لـ-أسطول الصمود-
- إسرائيل تواجه إدانات دولية عقب اعتراضها -أسطول الصمود العالم ...
- بعد الاشتباه بارتباطه بـ-أسطول الظل- الروسي.. قبطان ناقلة ال ...
- ما خيارات إيران المتاحة للرد على العقوبات الأممية؟
- الاحتلال يقتل أبا وأبناءه الأربعة ويواصل استهداف المجوّعين ب ...
- فرنسا تعتقل 100 مناصر لغزة وألمانيا تحاكم أشخاصا بتهمة العما ...
- قيادي بحماس: ردنا على خطة ترامب لن يتأخر ولا نقبل التهديدات ...
- الحرب على غزة مباشر.. غارات عنيفة على القطاع وحماس تعد برد ق ...
- بعد العنف: -جيل زد- يشدد على السلمية وأخنوش يفتح باب الحوار ...


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)