أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)















المزيد.....

المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 19:40
المحور: قضايا ثقافية
    


الحدود الفكرية ليست قيودًا فحسب، بل مؤشرات. هي التي تكشف، بطريقة أو بأخرى، عن مستوى الحريات في المجتمع، وعن طبيعة السلطة: هل هي سلطة معرفية تحتكم إلى العقل والتعدد، أم سلطة أيديولوجية تُنتج الطاعة والامتثال؟ حين يُمنع المثقف من مساءلة ثوابت معينة، أو يُقصى بسبب طرحه لأسئلة غير مرغوب فيها، فإن هذه الحدود تتحوّل من كونها خطوطًا للمساءلة المعرفية إلى جدرانٍ للعزل والرقابة. وهنا يتخذ الموقف من هذه الحدود بعدًا أخلاقيًا بقدر ما هو معرفي.
لكن لا بد من الاعتراف بأن هذه الحدود ليست دائمًا مفروضة من الخارج فحسب، بل أحيانًا يُعيد المثقف إنتاجها داخل ذاته. الخوف من الرفض، من الخسارة، من العزلة أو حتى من الفهم الخاطئ، يجعل بعض المثقفين يرسمون بأنفسهم حدودهم الخاصة، فيكتفون بدور الناقل، أو المروّج لما هو مقبول مسبقًا، ويتخلّون عن مسؤولية الإبداع النقدي. في مثل هذه الحالات، يصبح المثقف حارسًا غير معلن لتلك الحدود التي يُفترض به أن يتخطاها.
إن رسم الحدود الفكرية قد يتم باسم الدين، أو العرف، أو الوطنية، أو "المصلحة العامة"، أو حتى باسم الأكاديمية والاختصاص. وفي كل حالة من هذه الحالات، نجد أن المسألة لا تتعلق بالمضمون بقدر ما تتعلق بالموقع: من يملك سلطة رسم الحدود؟ من يُحدّد المسموح والممنوع؟ وهل تلك السلطة قائمة على شرعية معرفية، أم على منطق القوّة والتحكّم؟ حين يفرض النظام السياسي، أو الجماعات الدينية، أو حتى النخب الثقافية نوعًا من الرقابة على السؤال، فإنهم لا يفعلون ذلك بدافع الدفاع عن الحقيقة، بل غالبًا ما يكون دافعهم حماية مصالحهم وامتيازاتهم الرمزية.
ولا يخلو الأمر من مفارقة عميقة: فبعض المثقفين، حين يواجهون هذه الحدود، يتبنّون خطابًا يقدّم نفسه على أنه "تقدمي" أو "تحرّري"، لكنه يبقى مشروطًا بما هو مقبول داخل الدائرة التي ينتمي إليها. فيخوض في نقد الدين مثلاً لكنه يتحاشى نقد العَلمانية السلطوية، أو ينتقد الدولة لكنه يصمت عن فساد الجماعة. في هذه اللحظة يتحوّل المثقف من باحث عن الحقيقة إلى لاعب سياسي مقنّع، يخضع لحدود الجماعة، وإن كانت جماعة تدّعي أنها ثورية أو تحررية.
والمثقف الذي يريد أن يظل أمينًا لجوهر دوره، لا بد له من أن يتعامل مع هذه الحدود كأفق للمساءلة لا كجدارٍ للمنع. ليست المسألة أن يخرق كل الحدود على نحو فوضوي، بل أن يختبر مشروعه الفكري أمام هذه الحدود. هل يعيد إنتاجها أم يتجاوزها؟ هل هو أسير السياق أم ناقد له؟ هنا تظهر أهمية ما يُسمى بـ"الاستقلالية الفكرية"، لا بمعناها النخبوي، بل بمعناها النقدي، حيث يمتلك المثقف حريته الأخلاقية في التفكير، حتى لو كلّفه ذلك الإقصاء أو التخوين أو العزلة.
إن سؤال "كيف تُرسم الحدود الفكرية؟" لا ينفصل عن سؤال "كيف يُعرّف المثقف ذاته؟". هل هو صوت ضمير، أم لسان حال؟ هل هو من يكتب ليحافظ على موقعه، أم من يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يُفكّر؟ إن المجتمعات التي تُبقي حدودها الفكرية مغلقة هي مجتمعات لا تنتج معرفة بل تنتج انتماءً أعمى. والمثقف الحقيقي لا يرضى أن يكون شاهد زور على هذا الانغلاق، بل عليه أن يكون صوتًا في العاصفة، حتى لو كان الصوت الوحيد.
وفضلا عن كل ذلك، نقو: إذا كان من وظيفة المثقف أن يقول ما لا يُقال، أو أن يضع إصبعه على الجرح المفتوح الذي اعتاد الآخرون تغطيته بالمسكّنات، فإنّ الاصطدام بالحدود الفكرية يصبح لحظة اختبار لا مفر منها. تلك اللحظة التي يتقرّر فيها إن كان المثقف سيبقى في خانة المراقب، أم سينخرط في الفعل النقدي بوصفه ممارسة أخلاقية ومعرفية على السواء. ولعلّ ما يُميز المثقف الأصيل عن "المثقف المقولب" أو "المقلوب" كما وصفه بعض المفكرين المعاصرين، هو هذه القدرة على تحمّل ثقل التوتر بين ما يجب أن يُقال وما يُسمح بقوله.
ولأن هذه الحدود لا تُرسم دائمًا بخطاب مباشر، بل غالبًا ما تكون مُضمَرة، فإن المثقف الواعي لا يكتفي بتجاوزها، بل يكشف وجودها أصلًا. هو لا يقف عند حاجز المنع، بل يفضح آليات المنع ذاتها، ويُسائل شرعيتها، ويُعرّي بنيتها السلطوية. إنّ الصمت عن الحدود ليس حيادًا بل تواطؤ، وتجنّب الاصطدام بها ليس حكمة دائمًا، بل في كثير من الأحيان شكل من أشكال الخضوع المغلّف.
إن الأخطر من الحدود المفروضة، هي تلك التي تُمارَس تحت شعار التقديس أو الوطنية أو حتى الحصافة العقلانية. فحين يتحوّل الإجماع إلى قيد، والمقدّس إلى أداة تحصين ضد النقد، تغدو الساحة الفكرية سجنًا مؤثثًا بالألقاب والجوائز والكلمات الرنّانة. في مثل هذه البيئات، يموت الفكر تحت وطأة المجاملات، وتُختنق الأسئلة في أدراج الصمت الجماعي.
لكن هل المثقف مطالب دومًا بالمواجهة؟ أم أن بعض أشكال الصمت قد تكون استراتيجية؟ هنا يظهر الفارق بين الصمت الحكيم والصمت الجبان. فالأول قد يكون تأملًا، أو تريثًا قبل طرح السؤال في توقيته المناسب، أما الثاني فهو صمت انتهازي، يحفظ المصالح ويؤجّل الحقيقة إلى أجل غير مسمّى. والمثقف الحقيقي يعرف متى يصمت ومتى يصرخ، لكنه لا يبيع صمته كما لا يساوم على صوته.
كل سلطة – سياسية كانت أو اجتماعية أو دينية – تسعى بشكل واعٍ أو لا واعٍ لرسم حدود التفكير. لكن المجتمع لا يتطوّر إلا حين يملك من بين أفراده من يملك الشجاعة الكافية لاختبار هذه الحدود، ومساءلتها، وتوسيعها إن لزم الأمر. المثقف لا يُقيم خارج هذه المعركة، بل هو في صميمها، شئنا أم أبينا. فإما أن يكون فاعلًا فيها أو ضحية لها، صانعًا للفكر أو مكرّسًا للجمود.
وهكذا، فإن رسم الحدود الفكرية لا يجب أن يكون نهاية التفكير، بل بدايته. والمثقف، إن لم يكن حارسًا للمسافة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، فقد دوره وتحوّل إلى مجرد واجهة رمزية. إن مهمته ليست أن يُرضي، ولا أن يُهادن، بل أن يُفكّر بصوتٍ عالٍ، حتى حين يرتجف الصوت. فكرٌ لا يصطدم بالحدود، هو فكر لا يحفر في العمق. والثقافة التي لا تسائل نفسها، تتحوّل إلى ديكورٍ في صالة السلطة، أو طقوسٍ للزينة لا للمعرفة.
وأخيرًا، فإن كل مجتمع يرسم حدوده الفكرية بحسب ما يسمح به وعيه الجمعي، لكن المثقف الحق هو من يرسم له أفقًا، لا جدارًا. لأنه لا يعيش داخل القفص ليُحسّن منظره، بل ليبحث عن مفتاحه.
المصادر:
1. مجلة "أزمة المثقف العربي" في موسوعة هنداوي ترصد مفهوم المثقف، التحديات التي يواجهها، وأزمة الإصغاء للحداثة المحلية، وتُعرف المثقف بأنه "إنسانٌ صانعه الأفكار، يحملها ويؤمن بها، ويريد تغيير الواقع".
2. مقال "اللاإنتاجية الفكرية كإشكالية المثقف العربي" في الجزيرة ينبه إلى أن مأزق المثقف هو عدم قدرته على توليد فكر خاص بمجتمعه، بل يكرر طرح الآخر دون خلق رؤية محلية تتوافق مع خصوصية البيئة العربية.
3. في مقال "الاحتباس الفكري… ظاهرة المثقف العربي الراهن"، يُقدَّم مصطلح الاحتباس الفكري ليبيّن كيفية تجمّد الفكر العربي أمام ثنائيات شديدة الحدة (دين-سياسة)، ما يفرغ الخطاب النقدي من عمقه وتحيله إلى توجهات سطحية.
4. الكُتاب في "أزمة العقل العربي في علاقة المثقف بالجمهور "يبرزون فجوة الاتصال بين المثقف والجمهور، وكم يتراجع صوت المثقف أمام خطاب العاطفة والمخاوف الجماهيرية المبسّطة.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)
- ذاكرة بلا قيود… مَن قتل الإيرانيين؟
- هل المثقف المقلوب ناقد ام منقذ؟(16)
- قولبة الثقافة: تأثير على حرية المثقف(15)
- المثقفون والامتثال: فقدان صوت المستقبل(14)
- الأفكار الملقنة هل تصنع الابداع؟(13)
- صراع المثقف مع القيود: بحثًا عن الهوية(12)


المزيد.....




- احتجزوها خلال تصوير.. شاهد ما فعله ضباط الهجرة بأمريكا بمؤثر ...
- الكرملين: بوتين أطلع ولي العهد السعودي على نتائج محادثاته مع ...
- ترامب يعد بتعديل نظام الانتخابات بعد شهادة بوتين أنه تعرض لل ...
- القبض على عصابة حاولت سرقة ماسة وردية نادرة بـ 25 مليون دولا ...
- بدلة زيلينسكي ومدح زعماء أوروبيين لترامب.. أهم وأطرف المواقف ...
- بدءا من الخامسة صباحا.. نائبة مصرية تقترح تعديل مواعيد العمل ...
- جون بولتون: لماذا يُعد ترامب أسوأ مفاوض في العالم؟
- هل تنجح تركيا في فرض -نيكست سوشيال- كمنصة وطنية للسيادة الرق ...
- طموح مها الأكاديمي ينهار أمام الجوع والحصار في غزة
- ارتفاع عدد الشهداء في القطاع والاحتلال يقتل 28 طفلا يوميا


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)