أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - من أندلسِ تطوان إلى نبضِ بغداد: شهرزاد الركينة… نشيدُ الفنّ العابر للضفاف














المزيد.....

من أندلسِ تطوان إلى نبضِ بغداد: شهرزاد الركينة… نشيدُ الفنّ العابر للضفاف


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 08:33
المحور: قضايا ثقافية
    


في زقاقٍ ضيّق من أزقة تطوان، كانت الحمامة البيضاء ترفرف بأجنحة من موسيقى وشذى ياسمين، تمدّ خيوط الضوء من نافذة أندلسيّة إلى قلبِ القصبة القديمة، وتحوّل كلّ خطوة إلى نغمة، وكلّ صمت إلى لحنٍ يتجوّل بين حجرٍ وحنين. هناك، حيث البحر الأبيض المتوسّط يتوسّد جبال الريف، وتخفت ضوضاء العالم أمام نقر العود على ركبتي طفلةٍ وُلدت لتغنّي، وتُغنّى.
تطوان… يا ابنة التاريخ المطرّز بماء الزهر، يا قصيدة مستعارة من زمن طليطلة، ويا جارية أندلسيّة خرجت من بيت الشعر وراحت ترقص في الأعراس الشعبيّة بين النوافير والبوّابات الملوّنة. تطوان، تلك التي كانت تمودة في البدء، وارتدت الحصن الروماني مثل تاج على مفرق الجبل، ونامت بين جبل درسة وسلاسل الريف كما تنام الأمّهات على ترانيم الزمن. في تلك المدينة التي تُنسج من الريح والماء والحكايات، وُلدت شهرزاد الركينة، ابنة العود والأمسيات الدافئة، ابنة الفنّ حين يتشكّل في رحم مدينة، وحين يخرج من البيت بصوت امرأةٍ صادحة تحاور الوتر والكلمة.شهرزاد، وليس من الغرابة أن يكون اسمها كذلك، فهي لا تروي حكاية ألف ليلة وليلة فحسب، بل تعزفها، وتغنيها، وتضع ألحانها لتبقى معلّقة في ليلٍ طويل لا ينتهي. من والدتها "أعشوشة زروالة" أخذت المفاتيح الأولى، مفاتيح العود الذي لا يُعزَف فقط، بل يُربّى كما يُربّى النخل في الصحراء، فكبرت الطفلة وفي يديها وتر، وفي صوتها مقام تطوانيّ لا يشبه سواه. عزفت على ركبتيها كما يعزف الحالم على صدرِ الحنين، وتعلّمت الكمان على يد عبد الواحد النتيفي، حتى صار الكمان جزءًا من حنجرتها لا من أوتارها فحسب.ولم تكن بداياتها إلا تمرينًا على المجد. يوم غنّى عبد الصادق شقارة "بنت بلادي" كانت شهرزاد هناك، تلازمه لا كمرافقة بل كروح موازية، تتشرّب من مدرسته، وتأخذ عنه نُبلَ الغناء الأندلسيّ. وما أجمل تلك اللحظات التي غنّى فيها التطوانيون والإسبان في مهرجانات البحر الأبيض، حيث كانت العازفة والمطربة تقف بشموخٍ بين الثقافتين، مزهوّةً بإرثها العربيّ وممتنةً لنوافذ إسبانيا التي فتحت لها أبواب العزف والكلمة والحضور.شهرزاد لم تكن صوتًا عابرًا في حفلة، بل كانت وما زالت حالة فنيّة شاملة. انخرطت في التمثيل، فشاركت في أفلام إسبانية ومغربية، واقتُبِل صوتها كموسيقى تصويريّة في أعمالٍ سينمائية وصلت إلى مهرجانات القاهرة، بل إن موسيقاها التصويريّة للفيلم الإسباني "سوسانا" وُصفت بأنها لحن ذاكرة… شهادةٌ كتبها عنها خبير الموسيقى الإسباني نبريطي، الذي رأى فيها ملحنةً لا تُقلّد، بل تؤسّس.هي التي لحّنت وغنّت ومثّلت، ونسجت في أعمالها حكاياتٍ موسيقية كما تنسج العنكبوت بيتها في الصباحات الهادئة. عملت إلى جانب المغني الشهير "أنطونيو أوروسكو"، وغنّت في إعلانات سيارات، وجالت بين إيطاليا، والبرتغال، وفرنسا، وإسبانيا، وبقي صوتها يختزن عبق "سويقة" في تطوان، وهمس "باب العقلة"، وعبور "واد مرتيل" إلى حيث تبدأ القصيدة ولا تنتهي.ولأنها ابنة الشعر، لم تكتفِ بالغناء والعزف، بل كتبت، وزجّلت، وحوّلت المائدة إلى فنٍّ آخر من أطياف الإبداع. حتى المطبخ عندها صار لونًا من ألوان الفنّ، إذ كانت تحبّ الطبخ والحلويات، تمزج النكهات كما تمزج المقامات، وتنثر البهارات كما تنثر القوافي. كانت، وهي تكتب أو تطهو، تمثّلُ في السرّ مشهدًا من المسرح المدرسيّ الذي أحبّته يوم كانت تلميذة في "المعهد الحرّ" بتطوان، تُحيّي فيه أساتذتها وأيامها الأولى كأنها تُحيي مدينةً كاملة في قلبها.
وحين تغنّي شهرزاد اليوم من تطوان لبغداد، فإنها لا تقف على حدود الجغرافيا، بل تعبرُ الأزمنة، وتختصر في صوتها أوجاع أمّة وأحلامها. صوتها نداء من جبل درسة إلى دجلة، من وادي مرتيل إلى شط العرب، من ضفائر النساء في القصبة إلى نظرات العيون العراقية التي تُدمن الغناء.شهرزاد الركينة ليست فنانةً من تطوان فقط، بل سفيرة أرواحٍ أندلسية هجّرتها الرياح وأعادها العود، امرأة تسكن في تقاطع الموسيقى والشعر، وتُطل من شرفات الفنّ على العالَم بنظرة واثقة وحسّ إنسانيّ نبيل. في كلّ عزف لها، تطوان تحكي، وفي كلّ غناء، الريف يتنفس، وفي كلّ سفر، تفتح حدودًا بين الشرق والغرب، بين العرب والإسبان، بين الحنين والانتماء.
من كانت أمّها تعزف على العود، لا بد أن تكبر وهي تعزف على أوتار الوجدان البشريّ. ومن بدأت في المعهد الحرّ، لا يمكنها أن تكون إلا حرّةً في الفنّ، حرّة في التعبير، حرّة في الأمل.
وها هي اليوم، لا تزال تروي حكايات الليل، وتُطيل عمر الأغنية، وتفتح للحن مكانًا على طاولة الشعوب. اسمها شهرزاد، ومقامها الركينة، لكنّ أثرها… هزيمُ وترٍ لا يهدأ.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -أنا الحرف الذي لا يركع… هذا بعض ما كنته يا سائلين عن حامد ا ...
- -اخوتنا درع العراق… حين يكون العراقي ظلاً لأخيه-
- من دفتر فكتوريا... حيثُ تنوح الأرقام وتبكي الدولة.
- تَجَلّيات الحضارة الإغريقية بين وهج البدايات ومرآة التأثير ا ...
- ضحكة التريليون… وبكاء الخدعة الكبرى
- ملحمة جلجامش أقدم من تراتيل أنخيدوانا… ولكن لكل بداية معراجه ...
- إنخيدوانا وصوت الأدب الأول من معابد العراق
- عباس الويس.. لوكس التحدي في عتمة السرد
- حين احترقنا.. كان المسؤول يُهدي -لكزس- لعشيقته
- بُكاءُ الجَمرِ في نُزولِ المطرِ المُتَرب
- العراق حين يقصف قلبه: من يقصف الكرد
- تحت الطاولة... فوق الأعناق: حين تفاوض إيران على رقاب عشاقها
- حمورابي حين خطّ القانون على صخرة العدالة
- -حين انطفأت شمعة بغداد ونام الجمل في الظلام-
- الحسينُ بين دمعِ الخلود... وبدعِ الجهالة
- -غريبٌ في دفتر الوطن-
- -حينَ يتقاضى الغريب وتُسلب يدُ الحارس خبزَها-
- خرابٌ بني على الوهم: سردية الفوضى ومأساة الدولة الموءودة
- -حين يكتب القيدُ البيان: الإعلام العربي بين بوق السلطان وصرخ ...
- -كردستان.. نداء القلب الواحد-


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يعترض سفينة -حنظلة- المتجهة إلى غزة
- أستراليا وبريطانيا توقّعان معاهدة شراكة نووية تمتد لـ50 عاما ...
- تصعيد بالمسيرات بين روسيا وأوكرانيا وقتلى مدنيون من الطرفين ...
- حزب بريطاني يهدد بفرض إجراء تصويت للاعتراف بدولة فلسطين
- بحثا عن الأطعمة الفاخرة والأرباح على ساحل غرب أفريقيا
- لقاء سوري-إسرائيلي رفيع بباريس: تهدئة مشروطة أم بداية تطبيع؟ ...
- حزب بريطاني يهدد ستارمر بطرح مشروع قانون للاعتراف بفلسطين
- زعيم كوريا الشمالية يتعهد بالانتصار في المعركة ضد أميركا
- الشرطة الهندية توقف رجلا يدير سفارة -وهمية-
- صحافي روسي ينجو بأعجوبة من هجوم بمسيرات أوكرانية


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - من أندلسِ تطوان إلى نبضِ بغداد: شهرزاد الركينة… نشيدُ الفنّ العابر للضفاف