أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - إنخيدوانا وصوت الأدب الأول من معابد العراق














المزيد.....

إنخيدوانا وصوت الأدب الأول من معابد العراق


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 11:18
المحور: قضايا ثقافية
    


في بلادٍ كانت الشمس تمشي على ضفاف الفرات، وكانت الكلمة تُولد من طينٍ عَرف معنى التكوين، بزغت أولى إشراقات الأدب الإنساني من رحم الحضارة الرافدية، لا عبر الملوك ولا الفرسان، بل على لسان امرأة؛ كاهنةٌ وسيدةُ الحرف المقدّس، جمعت بين المعبد والقصيدة، وبين صوت السماء وأنين الأرض. كانت تُدعى إنخيدوانا، ابنة سرجون الأكدي، لكنها ابنة اللغة أيضاً، أول من نقشت صوتها في ألواح الطين، أول من قالت "أنا" في زمنٍ كانت فيه الأنا مضمَرةً خلف عروش الآلهة والرجال.
إنخيدوانا، سيدة القوى العظيمة، لم تكن فقط كاهنة عليا في معبد أور، بل كانت ربةً للكلمات، تتوضأ بالشعر وتقدّم تراتيلها قرابين على مذابح الدهشة. كانت ترانيمها تسير على أقدام من نور، تهمس بها للآلهة، لا خائفة بل شغوفة، لا هامسة بل ناطقةٌ ببهاءٍ تزلزل أروقة المعابد وتخرّ لها التماثيل ساجدة. في قصيدتها المدوية "ارتفاع إنانا"، كتبتْ:"يا سيدة القوى العظيمة، عابرة السماء والأرض...أنا أنخيدوانا، الكاهنة المكرسة..."ولم تكن هذه الكلمات مجرد صوتٍ نسائي يترنم للسماء، بل كانت إعلانًا عن وعي أدبي متفرد، عن روحٍ تحترف البوح في زمن الصمت، وتستلهم ألوهتها من ذاتها قبل أن تُلبسها للآلهة.وُلِدت إنخيدوانا في زمنٍ كانت فيه الممالك تُبنى بالسيف وتُخلّد بالمعبد، فجعلت من القصيدة صرحًا لا يُهد، ومن اسمها نقشًا أبديًا في ألواح الخلود. هي ابنة الملك الذي أسس أول إمبراطورية في التاريخ، لكنها وحدها أسّست إمبراطورية اللغة، كتبت لا لتُمجّد والدها، بل لتتوج معاناة الإنسان، لتُدوّن القلق، ولتصوغ الإيمان على هيئة شعر.لم تكن نصوصها ترديدًا لما أملاه الكهنة، بل كانت اعترافًا داخليًا، حديثًا شخصيًا مع الآلهة، نداءً نافرًا من بين جدران المعبد إلى فضاءٍ لا تحدّه العقائد. كتبت لإنانا، آلهة الحب والحرب، وقالت:
"أيّة إلهة تشبهك يا إنانا؟
العالية فوق جميع الآلهة،
القوية بين الأقوياء..."
وفي لحظات ضعفها، كانت تتوجه إلى الإله نانا، أبوها السماوي، بعين المرتجف وبقلب المتعب:
"أنا إنخيدوانا... وضعت أمامك ما في قلبي،
وقلت لك ما يُحزنني،
يا ربة السماء."
هكذا، كانت كتابتها فعل نجاة. كل مقطع هو رجاءٌ مغلف بالشعر، وكل بيت هو وثيقة بقاء ضد النسيان. لم تكن إنخيدوانا مجرد صوت، بل كانت بذرة الفجر في تربة الأدب، وكانت قصيدتها معراجًا صاعدًا من الأرض إلى الأبد.ولم تنحصر عظمة إنخيدوانا في ما كتبت فحسب، بل في ما جسّدته من دور مزدوج: سلطة روحية تؤطرها الكهانة، وسلطة رمزية تصوغها اللغة. كان منصبها في أور استراتيجيًا، إذ جمع بين التقوى والسياسة، بين خدمة المعابد ودعم حكم والدها الأكدي. لكنها لم تستغل منصبها لتأليف المديح الرخيص، بل غرّدت وحدها في ممرات العزلة، وكتبت من داخلها، لا من أجل البلاط.ورغم أن الريح قد بعثرت تفاصيل موتها، إلا أن كلماتها صمدت كأنها تماثيل من حجر الروح، بقيت في ألواح سومرية وأكادية تنبض بالدهشة، وفيها صوتها، ودمعها، ودهشتها، وصراخها العتيق من مدينة أور، تلك المدينة التي لا تزال تُنصت في الليل لكاهنتها العظيمة.إن الأدب في حضارة العراق الأولى لم يبدأ من ملحمة جلجامش، بل من دمعة إنخيدوانا. لقد كانت لحظة التقاء الشعر بالقداسة، والأنوثة بالسلطة، والبوح بالحضارة. وحين نقرأها اليوم، نشعر أن الزمن لم يمحُ أثرها، بل منحها سلطة أبدية تتجاوز كل الملوك وكل الجيوش. وكأنها تقول لنا من بعيد: "أنا بدأت الكلمة، فمن أنتم كي تُغلقوا فمي؟"..من هناك، من بلاد استوت على نار الشمس واغتسلت بماء دجلة والفرات، وُلد الشعر بامرأة، وبقي إلى اليوم يستمد من همسها إلهامه، ومن دموعها عذوبته، ومن صمتها صخبه.لقد مرّ الزمان، وبقيت هي... إنخيدوانا.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عباس الويس.. لوكس التحدي في عتمة السرد
- حين احترقنا.. كان المسؤول يُهدي -لكزس- لعشيقته
- بُكاءُ الجَمرِ في نُزولِ المطرِ المُتَرب
- العراق حين يقصف قلبه: من يقصف الكرد
- تحت الطاولة... فوق الأعناق: حين تفاوض إيران على رقاب عشاقها
- حمورابي حين خطّ القانون على صخرة العدالة
- -حين انطفأت شمعة بغداد ونام الجمل في الظلام-
- الحسينُ بين دمعِ الخلود... وبدعِ الجهالة
- -غريبٌ في دفتر الوطن-
- -حينَ يتقاضى الغريب وتُسلب يدُ الحارس خبزَها-
- خرابٌ بني على الوهم: سردية الفوضى ومأساة الدولة الموءودة
- -حين يكتب القيدُ البيان: الإعلام العربي بين بوق السلطان وصرخ ...
- -كردستان.. نداء القلب الواحد-
- انتفاضة الظل على صانعه: العراق بين احتضار النفوذ وولادة القر ...
- حين يُدفن الحرف حيًّا... مرثية التعليم في العراق
- -الريح تهدر من الجنوب... هل آن أوان النهاية-
- العزف على وتر الدم... حين تتحول المواكب إلى نارٍ تأكل الوطن
- وهج الدم الهادر… دروس الحسين التي لا تموت
- -رقصة النهاية في ميدان الدخان: أوكرانيا بين أنياب الدب وأطيا ...
- طعنة غُربة


المزيد.....




- السعودية.. الداخلية تعلن تنفيذ -حد الحرابة- بحق مصري الجنسية ...
- زلزال قوي قبالة كامتشاتكا وتحذيرات من تسونامي
- إيران تعود إلى طاولة المفاوضات النووية مع -الترويكا الأوروبي ...
- اليابان تختتم مهرجان -هاكاتا جيون ياماكاسا- بسباق عوامات يزن ...
- الإعصار -ويفا- يضرب هونغ كونغ ورياح عاتية تؤثر على أجزاء من ...
- ما القصور الوريدي المزمن الذي شخص به ترامب؟
- مراسل الجزيرة يرصد سفنا متضامنة مع السفينة -حنظلة- لكسر حصار ...
- عاجل | حماس: ما يجري في غزة تطهير عرقي ممنهج يستخدم فيه القت ...
- الإعلام الحكومي بغزة: القطاع يقترب من مرحلة -الموت الجماعي- ...
- معاريف: لسنا قريبين من النصر وحان الوقت لإنهاء الحرب


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - إنخيدوانا وصوت الأدب الأول من معابد العراق