حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8407 - 2025 / 7 / 18 - 18:14
المحور:
قضايا ثقافية
في بلادٍ تتوالدُ فيها المصائبُ كما تتكاثرُ الحشراتُ حول نفاياتِ العقول لا شيء يُثير الدهشة حتى النارُ لم تعد ترفاً درامياً يوقظُ الضمير بل صارت مشهداً متكرراً محفوظاً يُعاد بثّه على شاشاتٍ اعتادت على تسويقِ الدمعِ وتسليعِ الوجع في الكوت لم تكن النيرانُ سوى تكرارٍ موجعٍ لحكايةٍ تُروى ولا يسمعها أحد حريقُ هايبر ماركت ذاك الذي لم يكن إلا مسرحاً للتقاعس للبؤس للتخلي وللوطن حين يغفو خلف ستائرٍ من الشعارات المزيّفة والإعلانات الخاوية لم يكن مبنى بل تابوتاً جماعياً يحتوي على أمهاتٍ يحتضنّ أبناءهن في لحظات الاحتراق كما يحتضن الوطنُ بنيه في لحظات الخيانة تحترق الأذرع والأكباد بينما المسؤول في إجازةٍ أوروبية يتأملُ البحر من شرفة فندقٍ فاخر ويضحك ..هنا ماتت أم وهي تحاول أن تُنقذ طفلها احتضنته كما تفعل كل الأمهات حين تشتدُّ الحرائق ظنّت أن صدرها أقوى من النار أن حليبها سيغلب اللهب لكن النار كانت أسرع من الرجاء وأقسى من الأمومة وخرج الاثنان من الحياة معاً كأنهما اتفقا على موعدٍ مشتركٍ للغياب بلا شاهد ولا توديع سوى جدرانٌ ذائبة وكاميراتٌ توثق والمارّة يصورون لله فليكن المشهد مؤثراً للذاكرة الرقمية لا للضمير فالمكان بلا سيارة إطفاء لا ماء لا أدوات إنقاذ لا ممرّات طوارئ لا مخرج نجاة لا شيء إلا الموت المتاح للجميع بالتساوي ..في هذا البلد نشتري للدولة قاعات انتظار مزخرفة في مطاراتٍ بلا طائرات ونشتري قصوراً للوزراء لا يدخلها إلا من خدمَ حفيد الوزير في نزهةٍ بأبو ظبي نمنح أبناءهم سيارات من فصيلة رولز رويس وبوغاتي ونُقيم أفراحاً يُهدى فيها "لكزس" لعشيقةٍ سهرت مع مسؤولٍ سكران ساعةً ونصف بينما مدينةٌ تحترق ولا تجد مطفأة نار وطفلٌ يموت لأنه فقير وأمه تُقتل لأنها ليست زوجة أحد الكبار ولا قريبة لصاحب امتياز يركب البرادو ويتحدث باسم الوطن ...ما ذنب من احترقوا في الكوت هل كانت جريمتهم أنهم يعيشون في وطنٍ بُني من حجرٍ هش وماءٍ ملوث وضميرٍ نائم هل كان عليهم أن يولدوا في حيٍّ راقٍ كي يأتي الإطفاء فوراً أو أن يتبعوا طائفةً بعينها كي تهبط الطائرات وتُرسل الكاميرات ويصدر البيان الرسمي والمواساة الإلكترونية والوعود التي لا تنفذ إلى متى نحترق بالصمت والسكوت إلى متى يُمنح الغازي لقب الأب الروحي ويُهان الحارس الأمين إلى متى تكون الدولة تاجاً على رؤوس اللصوص وسكيناً في قلب الفقير إلى متى تسقط المدن وتنهار البيوت وتُرفع العمائم لتمجيد الكارثة بدعاء بارد لا يطفئ رماداً ..لماذا لم تصل سيارات الإطفاء لأن الحكومة مشغولة بتبديل سياراتها في المعارض الأوروبية ولأن نفقات تدريب فرق الإنقاذ خُصصت لرحلةٍ استجمامية لأحد النواب في إيطاليا ولأن تجهيز السوق الشعبي بوسائل أمان لا يجلب الأرباح في مناقصة لا تتضمن نسبة للوكيل ولا تسويقاً للوجاهة فالفقير لا يُربح الدولة بل يربكها الفقير يُحترق بسرعة ويُدفن بهدوء ولا يُحرج أحداً أبداً ...هل نحن شعبٌ بلا ذاكرة أم ذاكرةٌ بلا شعب لماذا ننسى ما حدث قبل شهر ثم نعود لنبكي على الأطلال هل صرنا نعشق الحريق لأننا ألفنا لونه ورائحته وصراخه هل غدت النيران جزءاً من نشيدنا الوطني هل صار الدخانُ رمزاً لسيادتنا وهل تحوّل الموت الجماعي إلى هوايةٍ نمارسها موسمياً كالصوم في رمضان والخطابة في عاشوراء ...وحين مات الطفل في حضن أمه لم يتوقف البرلمان عن جلساته ولم تعلّق الحكومة أعمالها ولم تخرج المظاهرات ولم يتغير شيء فقط تابعت كاميرات العالم الحريق وعلّقت المذيعة قائلةً "مأساةٌ في العراق" بينما كان أحد الساسة يفتح زجاجة نبيذ في سهرةٍ فاخرة مع راقصة مستوردة من بيروت ويرد ساخراً على هاتفه حين أُبلغ بالخبر: "يموتون ثم ماذا؟" ثم أغلق الهاتف وأكمل ضحكته ...في تلك اللحظة فقط كان الوطن يحتضر بصمتٍ في عيون من بقوا على قيد الرماد في أرواح من شموا رائحة اللحم المحترق ولم يستطيعوا إنقاذ أحد في آهات من لم يجدوا سوى الماء من عيونهم يسكبونه على وجوه ضحايا لم يعد يُميّز فيها ملامح الأم من الطفل من البائع من الزبون الجميع صاروا رماداً في قفصٍ من الخذلان والحطب الحكومي الرخيص ...فمن يجيب حين نسأل من المسؤول عن هذه المجازر الصامتة من يُحاسَب حين تموت مدن كاملة اختناقاً من يعتذر لمن بقي يتنفس وجعاً وحسرة وخوفاً من حريقٍ قادم لماذا نُمنَح الموت بالمجان ونُمنَع من الحياة بحق من يُفسّر لنا أحدٌ كيف تكون ميزانية العراق الأكبر في الشرق الأوسط بينما لا نجد مطفأة حريق لماذا نُحكم باسم الله ونتعذّب بنار الشياطين لماذا يعيش أولاد المسؤولين في موناكو ونحن نموت في أسواق منسية يحرسها القدر ...لذلك نقولها الآن لا بصوت مكسور بل بحشرجة رجلٍ يرى في الاحتراق خلاصاً من دولةٍ لا تطفئ الحريق ولا تحترم الجثث حين احترقنا لم تنكسر النوافذ بل انكسر ما تبقى فينا من حلم حين احترقنا كنا نبحث عن يدٍ تُطفئ النار لا عن مقطعٍ للتوثيق حين احترقنا كان الوطن منشغلاً بقص شريط فندق جديد في دبي وكان الشعب يصفق للخطيب الذي تحدث عن الصبر في النكبات وهو يركب "الهمر" ويعبر الفقراء كأنهم حفنة غبار حين احترقنا أدركنا أن العتمة ليست ما نخافه بل الضوء الآتي من قصورهم الذي يحرقنا دون أن يضيء شيئاً لنا.
في بلادٍ تتوالدُ فيها المصائبُ كما تتكاثرُ الحشراتُ حول نفاياتِ العقول لا شيء يُثير الدهشة حتى النارُ لم تعد ترفاً درامياً يوقظُ الضمير بل صارت مشهداً متكرراً محفوظاً يُعاد بثّه على شاشاتٍ اعتادت على تسويقِ الدمعِ وتسليعِ الوجع في الكوت لم تكن النيرانُ سوى تكرارٍ موجعٍ لحكايةٍ تُروى ولا يسمعها أحد حريقُ هايبر ماركت ذاك الذي لم يكن إلا مسرحاً للتقاعس للبؤس للتخلي وللوطن حين يغفو خلف ستائرٍ من الشعارات المزيّفة والإعلانات الخاوية لم يكن مبنى بل تابوتاً جماعياً يحتوي على أمهاتٍ يحتضنّ أبناءهن في لحظات الاحتراق كما يحتضن الوطنُ بنيه في لحظات الخيانة تحترق الأذرع والأكباد بينما المسؤول في إجازةٍ أوروبية يتأملُ البحر من شرفة فندقٍ فاخر ويضحك ..هنا ماتت أم وهي تحاول أن تُنقذ طفلها احتضنته كما تفعل كل الأمهات حين تشتدُّ الحرائق ظنّت أن صدرها أقوى من النار أن حليبها سيغلب اللهب لكن النار كانت أسرع من الرجاء وأقسى من الأمومة وخرج الاثنان من الحياة معاً كأنهما اتفقا على موعدٍ مشتركٍ للغياب بلا شاهد ولا توديع سوى جدرانٌ ذائبة وكاميراتٌ توثق والمارّة يصورون لله فليكن المشهد مؤثراً للذاكرة الرقمية لا للضمير فالمكان بلا سيارة إطفاء لا ماء لا أدوات إنقاذ لا ممرّات طوارئ لا مخرج نجاة لا شيء إلا الموت المتاح للجميع بالتساوي ..في هذا البلد نشتري للدولة قاعات انتظار مزخرفة في مطاراتٍ بلا طائرات ونشتري قصوراً للوزراء لا يدخلها إلا من خدمَ حفيد الوزير في نزهةٍ بأبو ظبي نمنح أبناءهم سيارات من فصيلة رولز رويس وبوغاتي ونُقيم أفراحاً يُهدى فيها "لكزس" لعشيقةٍ سهرت مع مسؤولٍ سكران ساعةً ونصف بينما مدينةٌ تحترق ولا تجد مطفأة نار وطفلٌ يموت لأنه فقير وأمه تُقتل لأنها ليست زوجة أحد الكبار ولا قريبة لصاحب امتياز يركب البرادو ويتحدث باسم الوطن ...ما ذنب من احترقوا في الكوت هل كانت جريمتهم أنهم يعيشون في وطنٍ بُني من حجرٍ هش وماءٍ ملوث وضميرٍ نائم هل كان عليهم أن يولدوا في حيٍّ راقٍ كي يأتي الإطفاء فوراً أو أن يتبعوا طائفةً بعينها كي تهبط الطائرات وتُرسل الكاميرات ويصدر البيان الرسمي والمواساة الإلكترونية والوعود التي لا تنفذ إلى متى نحترق بالصمت والسكوت إلى متى يُمنح الغازي لقب الأب الروحي ويُهان الحارس الأمين إلى متى تكون الدولة تاجاً على رؤوس اللصوص وسكيناً في قلب الفقير إلى متى تسقط المدن وتنهار البيوت وتُرفع العمائم لتمجيد الكارثة بدعاء بارد لا يطفئ رماداً ..لماذا لم تصل سيارات الإطفاء لأن الحكومة مشغولة بتبديل سياراتها في المعارض الأوروبية ولأن نفقات تدريب فرق الإنقاذ خُصصت لرحلةٍ استجمامية لأحد النواب في إيطاليا ولأن تجهيز السوق الشعبي بوسائل أمان لا يجلب الأرباح في مناقصة لا تتضمن نسبة للوكيل ولا تسويقاً للوجاهة فالفقير لا يُربح الدولة بل يربكها الفقير يُحترق بسرعة ويُدفن بهدوء ولا يُحرج أحداً أبداً ...هل نحن شعبٌ بلا ذاكرة أم ذاكرةٌ بلا شعب لماذا ننسى ما حدث قبل شهر ثم نعود لنبكي على الأطلال هل صرنا نعشق الحريق لأننا ألفنا لونه ورائحته وصراخه هل غدت النيران جزءاً من نشيدنا الوطني هل صار الدخانُ رمزاً لسيادتنا وهل تحوّل الموت الجماعي إلى هوايةٍ نمارسها موسمياً كالصوم في رمضان والخطابة في عاشوراء ...وحين مات الطفل في حضن أمه لم يتوقف البرلمان عن جلساته ولم تعلّق الحكومة أعمالها ولم تخرج المظاهرات ولم يتغير شيء فقط تابعت كاميرات العالم الحريق وعلّقت المذيعة قائلةً "مأساةٌ في العراق" بينما كان أحد الساسة يفتح زجاجة نبيذ في سهرةٍ فاخرة مع راقصة مستوردة من بيروت ويرد ساخراً على هاتفه حين أُبلغ بالخبر: "يموتون ثم ماذا؟" ثم أغلق الهاتف وأكمل ضحكته ...في تلك اللحظة فقط كان الوطن يحتضر بصمتٍ في عيون من بقوا على قيد الرماد في أرواح من شموا رائحة اللحم المحترق ولم يستطيعوا إنقاذ أحد في آهات من لم يجدوا سوى الماء من عيونهم يسكبونه على وجوه ضحايا لم يعد يُميّز فيها ملامح الأم من الطفل من البائع من الزبون الجميع صاروا رماداً في قفصٍ من الخذلان والحطب الحكومي الرخيص ...فمن يجيب حين نسأل من المسؤول عن هذه المجازر الصامتة من يُحاسَب حين تموت مدن كاملة اختناقاً من يعتذر لمن بقي يتنفس وجعاً وحسرة وخوفاً من حريقٍ قادم لماذا نُمنَح الموت بالمجان ونُمنَع من الحياة بحق من يُفسّر لنا أحدٌ كيف تكون ميزانية العراق الأكبر في الشرق الأوسط بينما لا نجد مطفأة حريق لماذا نُحكم باسم الله ونتعذّب بنار الشياطين لماذا يعيش أولاد المسؤولين في موناكو ونحن نموت في أسواق منسية يحرسها القدر ...لذلك نقولها الآن لا بصوت مكسور بل بحشرجة رجلٍ يرى في الاحتراق خلاصاً من دولةٍ لا تطفئ الحريق ولا تحترم الجثث حين احترقنا لم تنكسر النوافذ بل انكسر ما تبقى فينا من حلم حين احترقنا كنا نبحث عن يدٍ تُطفئ النار لا عن مقطعٍ للتوثيق حين احترقنا كان الوطن منشغلاً بقص شريط فندق جديد في دبي وكان الشعب يصفق للخطيب الذي تحدث عن الصبر في النكبات وهو يركب "الهمر" ويعبر الفقراء كأنهم حفنة غبار حين احترقنا أدركنا أن العتمة ليست ما نخافه بل الضوء الآتي من قصورهم الذي يحرقنا دون أن يضيء شيئاً لنا.
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟