أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حمورابي حين خطّ القانون على صخرة العدالة














المزيد.....

حمورابي حين خطّ القانون على صخرة العدالة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8405 - 2025 / 7 / 16 - 17:22
المحور: قضايا ثقافية
    


لم يكن حمورابي ملكًا عابرًا في التاريخ، ولا رقماً في لائحة الملوك الذين مرّوا على عرش بابل، بل كان زمناً بحدّ ذاته، مرحلةً من الوعي السياسيّ والإداريّ والتشريعيّ. ملكٌ تفوّق على عصره، وجعل من السلطة مؤسسة، ومن الدولة كيانًا، ومن القانون نهجًا يُكتب على الحجارة ليُقرأ إلى الأبد.ولد حمورابي في زمن كانت فيه بلاد الرافدين تعاني من التجزئة والانقسام، حيث كانت المدن كجزرٍ متناحرة، لكل منها إلهٌ وجيشٌ وقانون. ورث مملكة صغيرة، محاصرة بين قوى كبرى تطحنها الحروب، لكنه لم يرضَ بأن يكون تابعًا. راقب بدهاء الجغرافيّة، وفهِم لعبة السياسة، وسار بخطى واثقة نحو وحدةٍ شاملة لم تشهدها بابل من قبل.لقد بدأ حمورابي ببناء القوة لا من فوهة السيف فقط، بل من عُمق الإدارة. وحين امتدّت مملكته من الخليج العربي جنوبًا إلى أعالي دجلة شمالًا، لم يتركها فريسة للفوضى، بل غرس فيها بذور النظام، وسنّ القوانين، ووحّد العرف والمبدأ والعقوبة والمكافأة. لم تكن وحدته فتحًا بالسلاح فحسب، بل فتحًا بالشريعة، وكان ذلك هو التأسيس الحقيقي للدولة.في تلك اللحظة المفصلية من التاريخ، ظهرت "مسلّة حمورابي"، كتجسيد رمزي وفلسفي للدولة التي تقوم على القانون لا على الهوى، على التنظيم لا على الفوضى. لقد أمر حمورابي بنقش قانونه على صخرة من البازلت الأسود، بارتفاع مترين ونصف، نقشها كتّاب ماهرون، وسُجّلت بأكملها بلغة ساميّة بابلية على هيئة عمود قانوني شامخ، يقف في المعبد لا في القصر، في دلالة أن العدالة مقدّسة، لا خاضعة للسلطان.المسلة لم تكن مجرد قائمة قوانين، بل بيان هوية، وعقد اجتماعيّ، وأداة توحيد ثقافي بين شعوب مختلفة داخل دولة واحدة. حمورابي عرف أن الأقاليم المفتوحة لا تُدار بالقوة وحدها، بل بحاجة إلى لغة مشتركة، وأهمها لغة العدالة. فجاءت قوانينه التي بلغت أكثر من 282 مادة، لتشمل العلاقات الاجتماعية، والديون، والضرائب، والسرقة، والطب، والزراعة، وحتى الغرامات والميراث، بأسلوب يُظهر فهمًا عميقًا لطبيعة المجتمع وتعقيداته.
لقد ألّف حمورابي دولة بالمعنى الحقيقي، قائمة على ثلاث ركائز: الأرض الموحّدة، المسلّة المدوّنة، والشريعة العادلة. ولم يكن القانون عنده مجرد زجر وردع، بل بُعد تربوي، يخلق الإحساس بالمسؤولية. ومهما كانت القوانين في بعض تفاصيلها قاسية في أعيننا المعاصرة، إلا أنها كانت، حينها، ثورة في وعي الدولة، وانتقالاً من حكم الغلبة إلى نظام الحقوق.
وهكذا، فإن أهمية توحيد الدولة في عهد حمورابي لا تكمن في توسعة الرقعة الجغرافية فحسب، بل في توحيد الرؤية والمرجعية، في جعل الناس يشعرون أنهم ينتمون إلى سلطة عادلة تنظمهم جميعًا بقانون واحد. وكان التشريع، في تلك اللحظة، أداة سياسية وحضارية واقتصادية في آن، إذ أصبح هو الحاكم الصامت الذي لا يميل، والحارس اليقظ الذي لا ينام.
إن مسلّة حمورابي اليوم، وهي تقف في متحف اللوفر بباريس، لم تعد مجرد حجر أثري، بل شهادة حيّة على أن القانون هو روح الدولة، وأن أي سلطة بلا عدالة مصيرها التآكل والسقوط. لقد علّمنا حمورابي أن من يريد بناء وطن، لا يبدأ بترسانة السلاح، بل بمسلة تُنقش فيها العدالة، ليقرأها الناس بعيونهم وقلوبهم معًا.
وفي زمنٍ تتداعى فيه الدول وتتفتت الهويات، ما أحوجنا إلى حمورابي جديد… لا يفتح المدن، بل يفتح العقول، يوحّد المختلفين بشريعة لا تفرق، ويؤسس لمسلة جديدة من نور، تكون دليلًا لجيلٍ يُريد وطناً لا تفتك به القوانين المتعددة، ولا تُمزقه الولاءات المتفرقة.
حمورابي لم يمت… إنه هناك، في كل حجر بابل، في كل حرف قانون، في كل محكمة تسعى للعدل. وإن كنا قد فقدنا المسلّة جسدًا، فإن روحها لا تزال تنتظر من يحملها من جديد.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -حين انطفأت شمعة بغداد ونام الجمل في الظلام-
- الحسينُ بين دمعِ الخلود... وبدعِ الجهالة
- -غريبٌ في دفتر الوطن-
- -حينَ يتقاضى الغريب وتُسلب يدُ الحارس خبزَها-
- خرابٌ بني على الوهم: سردية الفوضى ومأساة الدولة الموءودة
- -حين يكتب القيدُ البيان: الإعلام العربي بين بوق السلطان وصرخ ...
- -كردستان.. نداء القلب الواحد-
- انتفاضة الظل على صانعه: العراق بين احتضار النفوذ وولادة القر ...
- حين يُدفن الحرف حيًّا... مرثية التعليم في العراق
- -الريح تهدر من الجنوب... هل آن أوان النهاية-
- العزف على وتر الدم... حين تتحول المواكب إلى نارٍ تأكل الوطن
- وهج الدم الهادر… دروس الحسين التي لا تموت
- -رقصة النهاية في ميدان الدخان: أوكرانيا بين أنياب الدب وأطيا ...
- طعنة غُربة
- حين تُطوى الراية قبل أن تذبل... عن إعادة رسم خرائط القوة بين ...
- الفنان العراقي.. صوت الوطن المنفي
- -حين يصير المجد تهمة... ويُؤخذ التاريخ من مأتمٍ لا ينتهي-
- -حين تعزف الدولة على لحن فنائها: عزاءٌ لوطنٍ يُقصف من داخله-
- العراق… صندوقٌ فارسيُّ الأختام
- الطبيب الذي خلع عباءته… وصار جزارًا في معطفٍ أبيض .


المزيد.....




- محكمة استئناف فرنسية تقضي بالإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله ...
- من هي الجماعات المسلحة المتصارعة في سوريا؟
- الجيش السوري ينسحب من السويداء.. الشرع يؤكد أن الدروز جزء أس ...
- سوريا ـ انسحاب قوات الحكومة من السويداء وتكليف الدروز بحفظ ا ...
- أوبر تفتح أبوابها للتاكسي الصيني ذاتي القيادة.. والشرق الأوس ...
- الولايات المتحدة ترحّل مهاجرين لدولة أفريقية وسط مخاوف حقوقي ...
- لماذا تغيب روسيا عن التطورات الأخيرة في سوريا؟
- كيف تربح أميركا من حرب روسيا على أوكرانيا؟
- إصابة 5 جنود إسرائيليين والقسام تعلن عن عمليات في غزة
- لا يسكنها أحد.. كيف أصبحت عشرات القرى البلغارية خالية؟


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حمورابي حين خطّ القانون على صخرة العدالة