أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - ملحمة جلجامش أقدم من تراتيل أنخيدوانا… ولكن لكل بداية معراجها














المزيد.....

ملحمة جلجامش أقدم من تراتيل أنخيدوانا… ولكن لكل بداية معراجها


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8410 - 2025 / 7 / 21 - 13:35
المحور: قضايا ثقافية
    


في فجر الإنسانية، حين كانت الأرض لا تزال تصوغ وعيها الأول، وحين كانت الشمس تكتب سطورها على ألواح الطين، نهضت بلاد الرافدين حاملة مشعل الأدب الأول، تتهادى بين دجلة والفرات بوجدان خصبٍ، وأفقٍ تتشقق فيه الحروف من رحم الآلهة والملوك والكهنة. هناك، حيث ابتدأت الحكاية، لم يكن الأدب مجرد ترفٍ لغوي أو عبثٍ جمالي، بل كان صلاةً مدوّنة، ونبوءةً محبوكةً على إيقاع الطوفان والجفاف والدموع، وكان صوتًا يصدر عن روح تبحث عن الخلود والهوية.إن تأريخ الأدب في حضارات الرافدين لا يمكن أن يُقرأ كبابٍ جامد في موسوعة، بل يجب أن يُستعاد كنبضٍ حيّ في جسد الزمان، يعبر من الطقوس إلى القصيدة، ومن السرد إلى النشيد. كانت البدايات في سومر، أقدم حضارة مدنية عرفتها البشرية، حيث سُطرت الألواح الطينية باللغة السومرية، وفيها كُتبت الصلوات، والملاحم، والشرائع، والأساطير، قبل أن تذوب السومرية في الأكادية، وتواصل الألفاظ رحلتها مع بابل وآشور، صاعدة في سلم التعبير، وموغلة في عمق المعنى.
في هذا الأفق، تبرز شخصيتان تلتحمان بأصل الأدب الرافديني، هما أنخيدوانا، الكاهنة الكبرى لآلهة القمر "نانا"، والمرأة الأولى التي دوّنت باسمها نصوصًا شعرية خالدة، وجلجامش، الملك الذي صار رمزًا للقلق البشري والسعي وراء الخلود. ولو قدّر للدهر أن ينطق لقال إن كليهما لم يكن شخصًا فقط، بل كان لحظة مفصلية في وعي الإنسان بذاته وبالكون.أنخيدوانا، التي عاشت في النصف الثاني من القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد (حوالي 2285-2250 ق.م)، كانت ابنة سرجون الأكدي، فاتح سومر وباني أول إمبراطورية موحدة. لكن مكانتها لم تنبع فقط من نسبها، بل من صوتها الشعري الطافح بالعاطفة والعقيدة والهيبة، إذ جمعت بين السلطة الدينية والموهبة الفنية، وكتبت تراتيل عظيمة لإلهة الحب والحرب "إنانا". في قصائدها نجد صوت الأنثى الأولى التي وقفت أمام آلهتها حافية من الزيف، تقول فيها:
"أنا، أنخيدوانا،
رفعت صوتي لكِ،
سيدة السماوات، إنانا،
أيتها النور الذي يُبدّد الظلمة."
كانت نصوصها صلوات غاضبة أحيانًا، حانية أحيانًا أخرى، لكنها دائمًا صادقة، ممهورة باسمها، لتصبح بذلك أول كاتبة في التاريخ نعرفها بالاسم، وأول من جعل من الشعر خطابًا شخصيًا وكونيًا في آنٍ معًا.أما جلجامش، فهو ملك أوروك الذي عاش على الأرجح في النصف الأول من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتحول لاحقًا إلى بطلٍ أسطوري في نصوص خالدة. أولى القصص التي تناولت مغامراته تعود إلى نحو عام 2100 ق.م، وهي مكتوبة بالسومرية، وكانت عبارة عن مشاهد منفصلة، تصور نزال جلجامش مع أنكيدو، أو سفره إلى أرض الأحياء. لكن الصيغة الملحمية الأشمل، تلك التي توصف عادة بأنها "أول ملحمة أدبية في التاريخ"، كُتبت بالأكادية في بابل لاحقًا، واكتملت أجزاؤها المعروفة في نسخة نُسخت حوالي 1200 ق.م، ووجدت منقوشة على ألواح نينوى في مكتبة آشور بانيبال.
في ملحمة جلجامش، نقرأ نصًا لا يقل وجودًا عن الإلياذة، ولا يقل عمقًا عن سفر أيوب. هو نصٌ يحكي عن السلطة، والصداقة، والحزن، والتوبة، والخلود، والتصالح مع الفناء. يقول جلجامش، وقد تكسّرت به السُبل:
"سأموتُ أنا أيضًا،
أليس هذا هو المصير؟
لمَ يتكبّر الإنسان؟"
تطرح المقارنة بين أنخيدوانا وجلجامش سؤالًا مركزيًا: أيّ النصين أقدم؟ من أيهما ولدت الكتابة الأدبية أولًا؟ الحقائق تشير إلى أن نصوص أنخيدوانا سبقت أقدم النصوص السومرية عن جلجامش بفارقٍ زمني بسيط، فبينما كتبت أنخيدوانا شعرها حوالي 2250 ق.م، ظهرت أولى القصص السومرية عن جلجامش بعد ذلك بنحو قرن ونصف، أي في حدود 2100 ق.م. لكن شخصية جلجامش كانت موجودة قبل أن تُكتب عنه الملاحم، وربما تدور عنه الأساطير منذ أزمان شفهية سابقة.وبين الأقدمية الزمنية والأسبقية النوعية، تتوزع الريادة بين الاثنين. فأنخيدوانا كانت أول من جعل من الكتابة فعلًا ذاتيًا، وصوتًا نسائيًا شخصيًا صريحًا في حضارة ذكورية، بينما كانت ملحمة جلجامش أول عمل أدبي شامل يحمل بنية سردية متكاملة، ويتضمن ثيمات وجودية لازالت تُستعاد في أدب البشرية إلى يومنا هذا.إن أنخيدوانا هي شاعرة الروح، بينما جلجامش هو شاعر الجسد الباحث عن الروح. أنخيدوانا صعدت إلى الآلهة تناجي، وجلجامش هبط إلى أعماق البحر ليلتقط نبتة الحياة. وكل منهما خطّ في طين الرافدين اسمًا لا يُمحى، ليكونا معًا بداية كل أدبٍ نعرفه.وهكذا، حين نتحدث عن الأدب في بلاد الرافدين، فإننا لا نحكي عن مجرد نشأة، بل عن تجلٍّ أول للإنسان في لحظة إدراكه للغة، وللوحدة، وللخوف، وللحب، وللموت. في كل بيتٍ من ترانيم أنخيدوانا، وفي كل سطرٍ من ألواح جلجامش، وُلدت القصيدة الأولى، لا لتُمجّد الآلهة فقط، بل لتفسّر ما لا يُقال، وما لا يُطاق، وما لا يُنسى.تاريخ الأدب في بلاد الرافدين، إذن، هو تاريخ خروج الإنسان من الكهف إلى الكلمة، من الصوت إلى المعنى، من التضرع إلى الفن. هناك، عند ضفاف الفرات، كتبنا الحرف الأول، ومنه بدأت الحكاية.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنخيدوانا وصوت الأدب الأول من معابد العراق
- عباس الويس.. لوكس التحدي في عتمة السرد
- حين احترقنا.. كان المسؤول يُهدي -لكزس- لعشيقته
- بُكاءُ الجَمرِ في نُزولِ المطرِ المُتَرب
- العراق حين يقصف قلبه: من يقصف الكرد
- تحت الطاولة... فوق الأعناق: حين تفاوض إيران على رقاب عشاقها
- حمورابي حين خطّ القانون على صخرة العدالة
- -حين انطفأت شمعة بغداد ونام الجمل في الظلام-
- الحسينُ بين دمعِ الخلود... وبدعِ الجهالة
- -غريبٌ في دفتر الوطن-
- -حينَ يتقاضى الغريب وتُسلب يدُ الحارس خبزَها-
- خرابٌ بني على الوهم: سردية الفوضى ومأساة الدولة الموءودة
- -حين يكتب القيدُ البيان: الإعلام العربي بين بوق السلطان وصرخ ...
- -كردستان.. نداء القلب الواحد-
- انتفاضة الظل على صانعه: العراق بين احتضار النفوذ وولادة القر ...
- حين يُدفن الحرف حيًّا... مرثية التعليم في العراق
- -الريح تهدر من الجنوب... هل آن أوان النهاية-
- العزف على وتر الدم... حين تتحول المواكب إلى نارٍ تأكل الوطن
- وهج الدم الهادر… دروس الحسين التي لا تموت
- -رقصة النهاية في ميدان الدخان: أوكرانيا بين أنياب الدب وأطيا ...


المزيد.....




- تحطم طائرة عسكرية في مدرسة ببنغلاديش
- خبيرة تغذية جزائرية تتهم شركة غذائية باستخدام مواد مسرطنة وم ...
- عطل تقني يتسبّب بتوقّف رحلات -ألاسكا إيرلاينز- لثلاث ساعات ...
- أردوغان يتّهم إسرائيل بعرقلة -مشروع الإستقرار- في سوريا: -لن ...
- البرهان يجدد رفض التدخلات الخارجية ويؤكد: قادرون على دحر -مل ...
- زمن الكريبتو في أمريكا.. سياسات ترامب خلقت 15 ألف مليونير جد ...
- روسيا تستبعد إجراء محادثات قريبة مع أوكرانيا وبارو يقول أن ف ...
- بين أنتيغون وإيدن في مهرجان أفينيون... الفرنسية العراقية تما ...
- محلل إسرائيلي: حماس لن ترفع الراية البيضاء وجيشنا يهدم ولا ي ...
- لماذا حصر عدد قتلى الكوارث أمر صعب على الصحفيين؟


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - ملحمة جلجامش أقدم من تراتيل أنخيدوانا… ولكن لكل بداية معراجها