أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - رانية مرجية - التوحد: بين دهشة الاختلاف وجمالية التنوع الإنساني














المزيد.....

التوحد: بين دهشة الاختلاف وجمالية التنوع الإنساني


رانية مرجية

الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 12:09
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


مقدمة وجدانية
منذ اللحظة الأولى التي نلتقي فيها بطفلٍ لا ينظر في أعيننا، لا يرد التحية، ولا يلعب كما اعتدنا، يتسرب إلينا شعور غامض... ليس بالشفقة، بل بالتساؤل: "ماذا يرى؟ ماذا يشعر؟ من أي كون أتى هذا الكائن الذي يشبهنا لكنه لا يتكلم لغتنا؟"
إنه التوحد، أو كما أحب أن أسميه: سيمفونية الصمت والاختلاف.
في هذه الدراسة، لا أتناول التوحد كـ"اضطراب"، بل كنافذة مشرعة على عالم آخر، عالم يُدهشنا بفرادته، ويعيد تشكيل فهمنا للوجود، والتواصل، والمعنى.
أولاً: التوحد – المعنى العميق خلف الاصطلاح
1.1 التسمية والتحول المفاهيمي
التوحد (Autism) لم يكن يومًا مجرد تشخيص سريري، بل هو مرآةٌ عاكسة لتبايناتنا كبشر. نكتشف اليوم أننا نقف أمام "طيف" لا حدود له، وأننا جميعًا -بدرجة أو أخرى– على هذا الطيف.
التحول من مصطلح "الاضطراب" إلى "الاختلاف العصبي" ليس لغويًا فحسب، بل فلسفيًا وأخلاقيًا.
1.2 جذور التشخيص
منذ "ليو كانر" و"هانز أسبرجر" حتى علماء الأعصاب المعاصرين، تغيّر فهم التوحد من كونه انغلاقًا على الذات إلى كونه طريقة بديلة لفهم العالم... طريقة لا تقل شرعية أو روعة.
ثانيًا: أصول التوحد – الوراثة، الدماغ، والبيئة
2.1 الجينات كحكاية مكتوبة بحبر خفي
التوحد ليس خطأ جينيًا، بل تباين جيني. تتداخل أكثر من مئة منطقة جينية في تشكيل الدماغ التوحدي، فتنتج عنها شبكة أعصاب تعمل بتردد مختلف.
نحن لا نتعامل مع "خلل"، بل مع بنية دماغية متفردة، تستحق الاحترام، لا الشفقة.
2.2 البيئة كوشم على الحواس
ما يحدث في الرحم، ما تستنشقه الأم، ما تلمسه، بل حتى ما تحلم به، قد يكون جزءًا من قصة هذا الطفل التوحدي.
لكن رغم الأبحاث، تظل الأسباب غامضة، كأن الطفل التوحدي جاء ليعلّمنا أن العلم لا يستطيع تفسير كل شيء.
ثالثًا: ملامح الطيف – سلوكيات أم رموز؟
3.1 التواصل المختلف
هم لا يتهربون من التواصل، بل يختارون شكله. النظرة في العين قد تُربكهم، لكنها لا تعني اللامبالاة. بعضهم يتحدث ببلاغة، وآخرون يتواصلون بالصمت، باللون، أو حتى بإيماءة تُغني عن ألف كلمة.
3.2 التكرار: طقوس لا بد منها
هل رأيت طفلًا يدور حول نفسه؟ لا تسخر. ربما هو يحاول ضبط إيقاع داخلي مضطرب، أو يحاكي دوران الأرض حول الشمس!
في سلوكياتهم النمطية حكمة، وفي عزلاتهم دهشة خفية.
رابعًا: التوحد عبر أعين العلم والعاطفة
4.1 من الدماغ إلى الروح
التصوير بالرنين المغناطيسي كشف اختلافات في مراكز العاطفة والإدراك في دماغ التوحديين، لكن لم يكشف لنا ما يشعرون به حقًا.
العلم يرسم لنا خريطة، لكن وحده القلب يصل.
4.2 الأدوية: مهدئات أم أقنعة؟
تُستخدم أدوية لتقليل القلق أو فرط النشاط، لكنها لا تُعلّم الحب، ولا تزرع الثقة، ولا تفتح بابًا للحوار. ما يحتاجه المصاب بالتوحد ليس فقط العلاج، بل الاحتواء.
خامسًا: التدخل المبكر ليس إنقاذًا بل لقاء
5.1 التحليل السلوكي – بين الجدوى والجدل
طريقة ABA قد تنجح أحيانًا، لكنها تحتاج لتوازن، فالغرض ليس جعل الطفل "يشبهنا"، بل مساعدته ليكون هو نفسه، بأفضل نسخة ممكنة.
5.2 التربية الفردية: خريطة لكل نجم
لكل طفل توحدي خريطة لا تشبه غيرها. التعليم لا يجب أن يكون قالبًا جامدًا، بل مساحة تنبت فيها فرادته. بعضهم عباقرة في الرياضيات، وبعضهم يرسم العالم دون أن يتكلم.
سادسًا: الأهل – جنود الضوء في معركة الصبر
في كل بيت يحتضن طفلًا توحديًا، ثمة معركة يومية مع المفاهيم، والمجتمع، والتعب، وثمة أم تبكي في صمت، وأب يصلي ألا يُرفض ابنه في الحضانة.
لذلك، فإن تمكين الأهل ودعمهم النفسي ليس ترفًا، بل حق إنساني لهم ولأبنائهم.
سابعًا: التوحد في المرايا الاجتماعية
7.1 وصمة أم جهل؟
يُنظر إلى التوحد في بعض المجتمعات كمصيبة أو لعنة، لا كاختلاف طبيعي. الإعلام عليه مسؤولية، والمدارس عليها أن تفتح الأبواب لا أن ترفع الأسوار.
7.2 من التهميش إلى التمكين
يجب أن ننتقل من خطاب "الرعاية" إلى خطاب "الحقوق". الأطفال التوحديون ليسوا عبئًا، بل طاقة إن أُتيح لها المجال ستفاجئ الجميع.
ثامنًا: التوحد والعبقرية – حين يرقص العقل على نغمة مختلفة
في التوحد، غالبًا ما نجد "متلازمة الموهوب" (Savant Syndrome). بعضهم يحفظ خرائط المدن من أول نظرة، وبعضهم يعزف مقطوعة كاملة بعد سماعها مرة واحدة.
هم لا "يتعلمون" كغيرهم، بل يتوهجون من الداخل.
تاسعًا: فلسفة الاختلاف – من الشفاء إلى القبول
التوحد لا يحتاج إلى "علاج" دائمًا، بل إلى تفهم. إلى نظرة لا تُقيمه بمقياس "الطبيعي"، بل تحترم إيقاعه المختلف.
مفهوم "الاختلاف العصبي" يغيّر المعادلة: لست ناقصًا، بل أنت نسخة فريدة من الكمال.
خاتمة: التوحد هو نحن... إن تجرأنا على الإصغاء
في النهاية، لست أكتب عنهم فقط، بل عنا جميعًا.
عن قدرتنا على التعدد، على الانفتاح، على تقبّل الآخر لا كظل لنا، بل كضوءٍ آخر في فسيفساء الوجود.
التوحد ليس ظاهرة طبية فقط، بل مرآة وجودية تسألنا: هل نعرف كيف نصغي لمن يتحدث بلغة مختلفة؟
هل نملك شجاعة الاحتضان دون شروط؟
نعم، التوحد صعب... لكنه جميل أيضًا، لأنه يعيد إلينا دهشة الإنسان.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقمّص الأرواح: ما بين سرّ الوجود وحكمة التكرار
- سحر خليفة تُضيء -مصابيح أورشليم-: رواية تكتب الوجع المقدسي ب ...
- بين التعميم والتضليل والتحريف... حين تُغتال الحقيقة بأيدٍ نا ...
- **الحرية الحقيقية: تأملات فلسفية في جوهر الوجود**
- غسان كنفاني... حين تصبح الكلمة بندقية واللاجئ نبيًّا
- الأدب الفلسطيني بين 1995 و2024: بين النزيف والنهوض
- أمام الله، بكل قوتي-
- الفوضى التي تصنعنا ، كيف تُهندس الصدمات ملامح أرواحنا ،
- “لأنني لا أملك رفاهية الصمت”
- في حضرة التقاعد: خمسة أصوات تتداخل في مرآة رجل واحد
- كن إنسانًا أولاً… ثم حدّثني عن الدين
- “أصابع اليد… وأوهام الصحاب”
- الساخر الذي فضح المأساة: نبيل عودة قلمٌ من نار ومرآة من ضمير
- أيمن عودة… حين يُقصى الصوت الحر من كنيست الاحتلال
- “بيني وبين الدبلوماسية ألف ميل وميل” أكتب بوضوح… لا أتملق
- نحن مسيحيون ولسنا نصارى
- الحمد لله على نعمة الإنسانية
- “الإبداع لا يُختَصر في جماعة: دعونا نتحرر من الشليلة”
- سوريا… وترتيلةُ الدم في كنيسة مار إلياس
- ✦ مسيحيو الشرق: ملح الأرض ونورها


المزيد.....




- الأزرق يطغى على إطلالات أميرة موناكو شارلين ولمسات عربية حاض ...
- مصر: فيديو ما فعله شخصان بـ3 سيدات أثناء خروجهن من المنزل.. ...
- هجوم بطائرة مسيّرة يعلّق العمليات في حقل نفطي بإقليم كردستان ...
- إمبراطورية إيلون ماسك في خطر والسبب مغامراته السياسية
- واشنطن توقف مراقبة سيناء.. ومسؤول إسرائيلي: -انتهاك خطير لمع ...
- خبراء أمميون ينددون بالتضييق على المحامين في تونس
- كمائن الأسر.. المقاومة تعيد هندسة القرار العسكري
- مظاهرة في باريس رفضا للعنصرية وللتضامن مع القضية الفلسطينية ...
- أوروبا تواصل التفاوض مع واشنطن بشأن الرسوم الجمركية
- متنفسهم ومصدر رزقهم.. بحر غزة ممنوع على أهلها بأمر من الاحتل ...


المزيد.....

- عملية تنفيذ اللامركزية في الخدمات الصحية: منظور نوعي من السو ... / بندر نوري
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - رانية مرجية - التوحد: بين دهشة الاختلاف وجمالية التنوع الإنساني