|
التحوّلات السيسيولوجية والتمظهرات النسوية في أدب الحرب رواية / الفناء الخلفي / للأديبة السورية لميس الزين نموذجًا بحث ذرائعي بقلم د. عبير خالد يحيي
عببر خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 09:11
المحور:
الادب والفن
نبذة تعريفية: عبير خالد يحيي دكتورة في طب الأسنان وجراحتها، وباحثة متخصّصة في الدراسات النقدية للأدب المعاصر، مع التركيز على النقد الذرائعي. عضو اتحاد كتّاب مصر، ومساهمة فعّالة في مجال البحث والنشر العلمي على منصّتَي Google Scholar ResearchGate &. نُشرت أبحاثي ودراساتي النقدية الذرائعية في مجلات أكاديمية محكمة في كل من العراق والجزائر، حيث حازت على تقدير واسع من قبل الأكاديميين والمتخصّصين. مبتكرة لجنس أدبي جديد يحمل اسم "الحوارية السردية"، الذي تمّ تحكيمه وإقراره في المؤتمر الدولي المشترك بين جامعة قناة السويس وجامعة دمنهور، ونُشر في العدد السادس والعشرين لعام 2017 من مجلة سرديات التابعة للجمعية المصرية للدراسات السردية. عضو اللجنة العلمية في المؤتمر الدولي "الإسهامات العربية في تجديد البلاغة وتحليل الخطاب: قراءة في أعمال الدكتور عماد عبد اللطيف"، المنعقد في مدينة فاس، المغرب، بتاريخ 7 مارس 2020، تحت رعاية المركز الإقليمي للدراسات الثقافية والأبحاث التربوية. نُشرت ورقتي البحثية الخاصة بالمؤتمر بعد تحكيمها في كتابه العلمي. شاركت في المؤتمر العلمي الرابع عشر بجامعة سوهاج، المنعقد في 26-27 مارس 2022، بعنوان "اللغة والهوية في التعليم العربي"، تحت رعاية جمعية الثقافة من أجل التنمية وجامعة سوهاج بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي، حيث نُشر بحثي في كتاب المؤتمر. قدّمت ندوات نقدية ضمن فعاليات معرض الكتاب الدولي في القاهرة لعامي 2018 و2019، ونُشرت دراساتي ضمن كتب المعرض الجامعة: دمشق البريد الإلكتروني: [email protected] ملخص البحث: يتناول البحث رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة السورية لميس الزين من منظور نقدي ذرائعي، يركّز على محورَي الرواية الرئيسيين : 1. محور الحرب: توظّف الرواية الحرب السورية كإطار زماني ومكاني لتحليل التحولات الاجتماعية والنفسية العميقة التي طرأت على المجتمع السوري بين عامي 2011 و2018. تُقدَّم الحرب في الرواية كعامل ديناميكي يعكس صراعات الأفراد والمجتمع، ممّا يجعل الرواية "نموذجًا للسرد الهادف الذي يربط بين الإنسان والوطن". 2. المحور السوسيولوجي: تستعرض الرواية التحوّلات الكبرى في بنية المجتمع، ودورها في إعادة تشكيل "الهوية الفردية والجماعية" مع تركيز خاص على تمظهر القضايا النسوية على كلا المحورَين. الرؤية العامة: تشكل الحرب السورية نموذجًا لتحولات اجتماعية ونفسية عميقة تؤثر على كافة جوانب الحياة. تأتي رواية "الفناء الخلفي" كعمل أدبي يسبر أغوار هذه التحوّلات، مستخدمة الحرب كخلفية لاستكشاف أثرها على الفرد والمجتمع. الرواية تُظهر أنّ الحرب ليست مجرّد صراع عسكري، بل هي " ظاهرة اجتماعية" تكشف عن التناقضات والقيم الكامنة في المجتمع. أهداف البحث: دراسة التحوّلات الاجتماعية والنفسية الناتجة عن الحرب، مع التركيز على الزمكانية والقضايا النسوية. المنهج النقدي "المنهج الذرائعي" والمنهج الذرائعي هو إطار نقدي يعتمد على استكشاف النص الأدبي من خلال تحليل مستويات متعدّدة تهدف إلى كشف الدلالات الإيحائية والرمزية والنفسية والاجتماعية والجمالية. يتميّز المنهج بالتعمّق في البنية النصّية لكشف الأبعاد الفكرية والإنسانية الكامنة. خصائص المنهج الذرائعي: 1. استكشاف القيم الأخلاقية والدلالات العميقة: يركز على المعاني المخفية في النصوص، ويسعى إلى استنباط رسائلها الإيحائية والفكرية. 2. تحليل متعدّد" المستويات": المستوى البصري: دراسة العناصر التي تُثير الحواس، مثل الغلاف والعنوان. المستوى الديناميكي: فحص حركة السرد والشخصيات. المستوى اللساني والجمالي: التركيز على اللغة والأسلوب، بما يشمل التشويق والرمزية. المستوى النفسي: تحليل الحالة النفسية للشخصيات وتأثير الأحداث عليها. منهجية التحليل: يعتمد البحث على المنهج الذرائعي، الذي يتيح استكشاف النص من خلال: 1. المستوى البصري: تحليل العناصر الحسّية مثل العنوان والغلاف لتسليط الضوء على الرمزية البصرية. 2. المستوى الديناميكي: دراسة الأحداث وتحليل الحركية التي تسهم في تطوّر الشخصيات. 3. المستوى اللساني والجمالي: استكشاف استخدام الكاتبة للّغة (مثل المزج بين الفصحى والعامية)، والرمزية، والمفارقة. الأهداف والأسئلة البحثية الأهداف: تحليل رواية "الفناء الخلفي" باستخدام المنهج الذرائعي. استكشاف تأثير الحرب على التحوّلات الاجتماعية والنسوية. الأسئلة البحثية: 1. كيف توظّف الرواية الحرب كإطار للحدث؟ 2. ما هي مظاهر التحوّلات الاجتماعية والنفسية؟ 3. كيف تظهر القضايا النسوية في الرواية؟ 4. ما دور الزمان والمكان في تحريك السرد؟ التحليل النقدي 1. الزمكانية كعنصر ديناميكي الزمان: الفترة بين 2012-2016، وهي ذروة الحرب في حلب السورية. المكان: مدينة حلب، حيث الحرب تشكّل الخلفية الدرامية. الكاتبة لم توثّق وقائع الحرب مباشرة، بل استخدمتها كإطار لاستكشاف التحوّلات الاجتماعية. مثال: "سوق المدينة الصغيرة" يعكس التأثير العميق للحرب على الاقتصاد اليومي الخلاصة: تُبرز الزمكانية كأداة ديناميكية تسهم في تعميق فهم الشخصيات وتحليل الصراعات. 2. التحوّلات الاجتماعية والنفسية التحوّلات الاجتماعية: تراجع بعض الطقوس الاجتماعية (مثل حفلات الزفاف) بسبب الحرب. بروز قضايا مثل الطبقية والهوية. التحولات النفسية: أثر الحرب على الشخصيات: التوتر، الانعزال، محاولات التأقلم. مثال: "الأب الذي يشرب لينسى زواج ابنته" يعكس الصراع النفسي مع التقاليد. الخلاصة: توثيق الرواية يعكس العلاقة بين الفرد والمجتمع في ظل التحولات الكبرى. 3. القضايا النسوية في الرواية تحليل شخصيتي "شمس" و"ناهد" كممثلين للمرأة في مواجهة الحرب: شمس: رؤية متطوّرة للحب والتمرّد على الأعراف. ناهد: ضحية التقاليد والصراع مع السلطة الذكورية. مثال: ترى شمس الحبَّ تكاملًا بين الروح والجسد، ما يعكس بحثها عن الحرية الشخصية. الخلاصة: تظهر القضايا النسوية كعنصر محوري يعكس صراع المرأة مع الحرب والتقاليد. 4. التقنيات السردية والأسلوب التنوّع اللغوي: المزج بين الفصحى والعامية لتجسيد الطبقات الاجتماعية. الرمزية: "الفناء الخلفي" رمز للمساحات المنسية في المجتمع. السخرية والمفارقة: تكشف السخرية التناقضات الاجتماعية والمفارقة تعمّق الشعور بالدهشة. مثال: "رائحة الجوارب القاتلة" تعكس الفجوة بين التوقعات والسلوكيات الواقعية. الخلاصة: تعزّز التقنيات السردية البنية الجمالية للرواية وتجعلها أقرب للقارئ. الخاتمة الحرب في الرواية ليست مجرد حدث، بل خلفية تبرز التحوّلات الاجتماعية والنفسية. تعكس الرواية جدلية العلاقة بين الهوية الفردية والجماعية في ظلّ الأزمات. أظهر المنهج الذرائعي قدرة النص على دمج المستويات التحليلية المختلفة لتحقيق تجربة سردية متكاملة. النتائج: تُعدّ الرواية إضافة نوعية إلى أدب الحرب، إذ تقدّم رؤية عميقة للتوتّرات الاجتماعية والنفسية بأسلوب يجمع بين السرد الجمالي والتحليل السوسيولوجي. الدراسة التحليلية: سأبدأ بالدراسة التحليلية ابتداء من أول مستوى من المستويات الذرائعية، المستوى البؤري الأديولوجي: البؤرة الفكرية الثابتة : في رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة لميس الزين، يظهر التحوّل الاجتماعي العميق الذي أحدثته الحرب السورية كدافع رئيسي لاكتشاف التوتّرات الاجتماعية والجوانب الإنسانية المخبوءة في المجتمع السوري. هذه التوتّرات تتجسّد في الرواية كأحد التّجلّيات الفكريّة العميقة، والتي تكون بمثابة البؤرة الفكرية الثابتة للراوية. من خلال هذه البؤرة الفكرية، تتداخل الذرائعية مع النّص عبر تسليط الضوء على الصراع الداخلي بين الفرد والمجتمع، وعلاقة الأيديولوجيا بالتحوّلات الاجتماعية التي قادتها الحرب. المستوى الذرائعي الإيديولوجي ينطلق من تحليل الكلمة والأفكار المخبّأة في النص، حيث تتيح الذرائعية تحليل النصوص بصورة تكون أكثر دقّة في الكشف عن القيم والأيديولوجيات التي قد تكون موجودة بشكل ضمني أو غير مرئي. فالرواية، من خلال محورَي الحرب والسوسيولوجيا، تسلّط الضوء على إعادة تشكيل الهوية الاجتماعية والفردية للمجتمع السوري في سياق الحرب. في هذا الإطار، تنبثق البؤرة الفكرية الثابتة للراوية، التي تتمحور حول التساؤل عن العلاقة بين الحرب والهويّة الاجتماعية، ومدى تأثيرها على الشخصيات والمجتمع ككل. من خلال هذا الفهم، تبرز الذرائعية في تحليل النص كشكل من أشكال الكشف عن هذه الإيديولوجيا العميقة المخفية تحت سطح النص، مما يعزّز قدرة الرواية على تقديم نقد اجتماعي فلسفي يرصد التغيّرات الفكرية والإنسانية التي طرأت على المجتمع في زمن الحرب. بعد هذا المستوى البؤري المركزي، ننطلق لدراسة المستويات الذرائعية المدارية التى تتحرّك حول ذلك المركز البؤري، وأوّل هذه المستويات: مستوى المكوّنات النصّية البصرية : مستوى المكوّنات البصريّة النّصّيّة في المنهج النقدي الذرائعي يركّز على العناصر التي تثير الحواس، وخاصّة البصر، والتي تُعتبر جزءًا أساسيًا من كيفية تفاعل القارئ مع النص. في رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة لميس الزين، يتجسّد هذا المستوى في كيفية استخدام الكاتبة للأوصاف البصرية، الرمزية، والإيحاءات البصرية لترسيخ أفكار الرواية. أوّل تلك المكوّنات : 1- الغلاف : على المستوى البصري: - التصميم الفنّي: الغلاف يظهِر لوحة تجريدية تُركّز على هيئة بشرية في وضعية انطواء أو تأمّل. هذا التّكوين يعكس حالة من العزلة أو التأمّل العميق، مما يرتبط مباشرة بعنوان الرواية "الفناء الخلفي". الألوان المستخدمة هي درجات من الرمادي والأسود، مما يضيف جوًا دراميًا وغامضًا يعزّز الشعور بالانطواء والتأمّل. - التوازن البصري: يتميّز التصميم بتوازن جيّد بين العناصر الفنيّة والعنوان، مما يجذب الانتباه ويوجّه القارئ مباشرة إلى النّص. على المستوى النّصّي: - العنوان: اختيار "الفناء الخلفي" كعنوان يحمل دلالات مزدوجة. الفناء الخلفي قد يُشير إلى مكان غير مرئي أو غير مُقدَّر عادةً، مما يفتح الباب أمام التفسيرات الرمزية التي تتناول الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات. - النص الخلفي: الفقرة المكتوبة على الغلاف الخلفي توحي بالصراع الداخلي والتساؤلات الإنسانية العميقة، مما يُثير فضول القارئ لمعرفة المزيد عن هذه الشخصيات وقصصها. التداخل بين النّص والبصر: - الانسجام بين النّص والصورة: اللوحة التّجريدية على الغلاف تدعم العنوان والموضوع المكتوب. الفناء الخلفي كرمز للمخفي وغير المكشوف يتطابق مع الشخصية المرسومة التي تبدو وكأنها تتجنّب المواجهة أو تنطوي على نفسها. - الدلالة الرمزية: هناك انسجام بين النّصوص البصرية والنّصوص المكتوبة في التّعبير عن فكرة البحث عن الذّات والتّساؤل عن المعنى، مما يعكس نهجًا فلسفيًّا وجوديًّا للرواية. الجانب الذرائعي: الغلاف يحقّق هدفًا مزدوجًا: - إثارة فضول القارئ عن طريق النّصوص الرمزية والبصرية التي تعكس أجواء الرواية. - جذب الانتباه من خلال التّصميم الجمالي الذي يتسم بالبساطة والغموض. الاستنتاجات: - وظيفة الغلاف: يعبّر الغلاف عن جوهر الرواية بطريقة بصريّة ونصّيّة متكاملة، مما يجعله جزءًا لا يتجزّأ من تجربة القراءة. - التأثير النفسي: العناصر البصرية والنّصّية تثير مشاعر الانطواء، الغموض، والتساؤل، مما يعكس مضمون الرواية. - القيمة الجمالية: يعتمد الغلاف على البساطة والتّجريد لتحقيق تأثير قوي، مع انسجام بين الصورة والعنوان. بهذا التحليل، يظهر الغلاف كمكوّن محوري في إيصال رسالة الرواية وتعميق ارتباط القارئ بمضمونها قبل حتى أن يبدأ بقراءتها. 1) العنوان : "الفناء الخلفي" يُعدّ العنوان عنصرًا حاسمًا في توجيه القارئ نحو الفهم الأوّلي للنص ودلالاته العميقة. في رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة لميس الزين، يُعتبر العنوان بمثابة مفتاح لفهم مكوّنات النّص البصرية والإيحائية، ويُستخدم بشكل متقن للإشارة إلى البنية الاجتماعية والإنسانية التي ستُستكشف داخل الرواية. - الرمزية البصرية في "الفناء الخلفي": الفناء الخلفي كعنوان يثير في الذّهن صورة مكانيّة مرتبطة بالمنزل أو المسكن، ولكنّه يشير إلى المنطقة المهملة أو المنسيّة. الفناء الخلفي هو المساحة التي عادة ما يتمّ تجاهلها أو إخفاؤها، وهو ما يعكس الوضع الاجتماعي الذي يتمّ تكريسه في الرواية؛ أي الحيّز الذي تختبئ فيه الأسرار والتوتّرات الاجتماعية التي لا يُراد الكشف عنها في المجتمع. هذه الصورة البصرية تُثير فكرة القمع والإخفاء، كما تعكس السياق الذي تمّ فيه إخفاء العيوب المجتمعيّة تحت سطح الحياة اليوميّة. - إحالة العنوان إلى الحرب والتحولات الاجتماعية: يمكن أن يُفهم "الفناء الخلفي" أيضًا كإشارة إلى التحوّلات العميقة التي طرأت على المجتمع السوري بفعل الحرب. الحرب التي تأخذ في النص شكلًا من أشكال العنف المستتر، تكشف عن تلك المساحات المخفيّة والمظلّلة في المجتمع، سواء كانت اجتماعيّة أو نفسيّة، تمامًا كما أنّ الفناء الخلفي يُعتبر المكان الذي يعكس الحالة الداخلية للمنزل والعائلة. من خلال هذه الصورة البصرية، يتشكّل فهم أكبر للمعاناة والدمار الذي تكشفه الحرب، وهي المعاناة التي كانت مختبئة من قبل في تلك "الأماكن الخلفية" من المجتمع. - التّناقض بين الواجهة والفناء الخلفي: العنوان يخلق أيضًا نوعًا من التوتّر بين الواجهة التي تُمثل ما هو ظاهري، والفناء الخلفي الذي يمثّل ما هو مخفي أو غير مرئي. هذه الصّورة تُظهر التّناقض بين الحياة اليوميّة التي يراها المجتمع، وبين الواقع الاجتماعي والإنساني المدفون في أعماق المجتمع نفسه. هذا التّناقض يمثّل نقطة مركزية في الرواية التي تسلّط الضوء على القضايا الاجتماعية المخفية والتي تتفاقم في فترة الحرب. - العنوان كدلالة على العزلة والانكشاف: يمكن اعتبار العنوان "الفناء الخلفي" أيضًا إشارة إلى العزلة التي يختبرها الأفراد والمجتمعات في وقت الحرب، حيث يصبح كلّ شيء في الواجهة محكومًا بالانكشاف، بينما الفناء الخلفي يُظلّل بالظلام والعزلة. هذا يمثّل فكرة النبذ الاجتماعي أو التهميش الذي يتعرّض له بعض الأفراد أو الفئات في المجتمع السوري بسبب ظروف الحرب. من خلال هذه المكوّنات البصرية التي يتضمّنها العنوان، يعزّز النص فكرة أنّ الحرب ليست مجرّد صراع على الجبهات، بل هي أيضًا حرب تتكشّف في الأماكن المخفية أو المظلمة من المجتمع، ما يُعطي العنوان دلالات أعمق وأكثر تعقيدًا، ويجعل منه نقطة انطلاق لفهم البنية الفكرية والنفسية للرواية. النص الداعم: ".... عالم من السكينة والنقاء، تقف فيه أشجار السرو شاهدًا وحيدًا على صمت مهيب، عالم ينضح بالسلام، لا تصله ضوضاء البشر الملازمة للواجهة المزخرفة الصاخبة ". هذا الوصف يتناغم تمامًا مع العنوان "الفناء الخلفي"، حيث يشير إلى عالم هادئ ونقي، بعيد عن صخب الحياة اليومية والضوضاء الاجتماعية. في هذه الصورة، نجد تماهيًا بين الفناء الخلفي كمساحة هادئة ومعزولة عن الواجهة المزدحمة والمزخرفة، وبين الانفصال عن الفوضى الاجتماعية التي تطغى على السّطح في ظلّ الحرب. الفناء الخلفي يصبح المكان الذي يحتوي على السكينة، والذي يفتقر إلى الضوضاء التي تصاحب الحروب والصّراعات في المجتمع. يُعكس هذا التماهي بين العنوان والوصف في كيف أن الفناء الخلفي يمثل العالم النقي الذي يظل بعيدًا عن التداعيات العميقة التي تُحدِثها الحروب والصراعات الاجتماعية. فكما أن الفناء الخلفي هو المساحة التي تختبئ فيها العديد من الأسرار والهمسات المخفية، كذلك المجتمع في الرواية يعكس تلك القيم والتحدّيات المخفية تحت الواجهة الاجتماعية، التي لا تُرى إلا عندما تغيب ضوضاء الحياة اليومية. وبناءً على هذا، يشير هذا الوصف إلى أن العنوان ليس مجرّد مكان مادي بل هو رمز يعكس صراعًا بين الفوضى والسكينة، الحرب والسلام، العنف والنقاء. ويعمل العنوان كمدخل لفهم العمق الدلالي للنص، حيث يشير إلى أن الحرب، مع كل ما تحمله من تدمير، لا تقتصر على ما هو ظاهري، بل تؤثر أيضًا على المساحات الداخلية الأكثر هدوءًا، مما يفتح المجال لفهم التحولات الاجتماعية والنفسية العميقة في الرواية. العنصر البصري الثاني في هذه الرواية هو: 3. المتن الروائي: يتألّف النّص الروائي من 16 فصلًا غير معنونة تمتدّ على 240 صفحة، مما يعكس اختيارًا فنيًا يترك للقارئ حرية استكشاف السياق السردي دون تأثير مباشر من عناوين موجهة. الكاتبة اعتمدت أسلوبًا بصريًا وسرديًا يتّسم بالدّقّة والتّنظيم، حيث أظهرت وعيًا بنيويًّا في توظيف أدوات الترقيم بشكل مثالي مع الحدّ الأدنى من الأخطاء الطباعية. هذا الإتقان يُبرز وعيًا فنيًا عميقًا يسهم في جعل النّص مرنًا وسهل القراءة، مما يدعم استيعاب القارئ لأفكار النص وتحولاته السردية. - المكوّنات البصرية في النص: ضمن المنهج الذرائعي، تُعتبر العناصر البصرية للنص جزءًا أساسيًّا من البناء الفنّي، وتتجلّى في: تنظيم الفصول: غياب العناوين يضفي شعورًا بالتدّفق الطبيعي للأحداث ويعزّز الطابع التأمّلي، حيث ينصبّ التركيز على المحتوى السردي بدلًا من التوقّف عند العناوين. استخدام الترقيم والمسافات النّصّية: الكاتبة استخدمت الترقيم بطريقة ذكية ومنظّمة، مما يجعل الانتقال بين الفقرات والأفكار سلسًا ومنهجيًا، ويساهم في التقليل من التشويش البصري أثناء القراءة. التقسيم المدروس للفقرات: النّص يحتوي على فقرات متماسكة ومحددة، ممّا يدعم المستوى الديناميكي، حيث يُبرز حيوية السرد واستمراريته. الدور الذرائعي في تحليل المتن الروائي: عند تطبيق المنهج الذرائعي، تبرز العناصر البصرية كعامل دلالي وداعم لفهم النص: استراتيجية التعضيد: توظيف الترقيم والمسافات النصية يعزّز تجربة القارئ، حيث يتمّ تقديم النّص بشكل بصري مريح يدعم تدفّق الأفكار ويسمح بفهم التحولات الزمنية والمكانية بسلاسة. المستوى البصري: تنظيم الفصول وهيكل النّص يخدم المستوى البصري بشكل كبير، ممّا يساعد القارئ على الانخراط في السرد دون إحساس بالتشتّت. المستوى الديناميكي: الترتيب الواضح للفقرات والفصول يجعل النّص أكثر مرونة وديناميكية، مما يعكس حسًّا فنيًا في التّعامل مع البنية النّصية. الخلاصة النّص الروائي، بتكوينه البصري المتقن وتدفّقه السردي، يعكس تداخلًا عميقًا بين الشّكل والمضمون، حيث تتجلّى المكوّنات البصرية كجزء أساسي من المنهج الذرائعي، ما يعزّز تأثير النّص وارتباطه بالقارئ على مستوى بصري ونفسي عميق. ربط هذا المستوى ( البصري) بالتحليل الذرائعي عبر : - استراتيجية الاستقطاع: يظهر النّص اهتمامًا خاصًّا بالتركيز على عناصر جديدة ومختلفة، مثل الفناء الخلفي كرمز أساسي للسلام النفسي والاجتماعي. - المستوى البصري والديناميكي: يتجلّى ذلك في توظيف المكوّنات النّصّية بشكل يعزّز التجربة البصرية والذهنية للقارئ. - استراتيجية التحليل: يظهر ذلك في الطريقة التي وظّفت فيها الكاتبة الترقيم وتقسيم الفصول لتعميق فهم القارئ للسرد. الاستنتاج : من خلال العنوان والتّكوين البصري للنّص، أظهرت الكاتبة لميس الزين قدرة إبداعية على استثمار العناصر الشكلية والدلالية لتحقيق التفاعل العاطفي والفكري مع القارئ. العنوان "الفناء الخلفي" يفتح بابًا دلاليًا غنيًا يعكس حالة الهروب من فوضى الحرب إلى فضاء نفسي آمن، في حين أنّ التنظيم البصري للنّص عبر تقسيم الفصول وتوظيف الترقيم بدّقّة يدعم قراءة مرنة وسلسة. في إطار المنهج الذرائعي، تتجلّى فاعلية هذه العناصر ضمن المستويات البصرية والديناميكية، ما يجعل النّص متماسكًا في هيكله وجاذبًا في مضمونه. هذه الاستراتيجيات تعزّز من قوّة النّص الأدبية والنقدية، إذ تحقّق غاية الرواية في الجمع بين التجربة الإنسانية العميقة وتحليل التحوّلات المجتمعية. إنّ التفاصيل البصرية لم تكن مجرّد مكوّنات شكليّة، بل أدوات نقدية فاعلة تسهم في إيصال رسالة الرواية بفعالية وقوّة. المستوى اللساني والجمالي: في المنهج الذرائعي، يُعدّ المستوى اللساني والجمالي أحد أهمّ المحاور التحليلية التي تُظهر قدرة النّصّ على بناء خطاب فنّي ودلالي متكامل. في رواية "الفناء الخلفي"، تتجلّى المكوّنات اللسانيّة والجماليّة في البنية اللغوية للنّص، وتوظيفها لتقديم رؤية عميقة للتحوّلات الاجتماعية والنفسية التي يمرّ بها المجتمع السوري أثناء الحرب. 1. المستوى اللساني: اللغة السردية: الكاتبة لغة سردية متينة ومباشرة تجمع بين البساطة والعمق، حيث تتنقل بين الحكي والوصف بسلاسة. تميّزت اللغة بقوّتها في التعبير عن العواطف والمشاهد دون الوقوع في التكلّف، مما يجعلها قريبة من القارئ، ومحفّزة للتفاعل مع النّص. الدلالات والإيحائية: توظّف الكاتبة كلمات محمّلة بالرمزية والإيحاء، مثل "الفناء الخلفي"، الذي يحمل في طيّاته دلالات عن المساحات المهملة والمخفيّة في المجتمع. هذا يُظهر قدرة اللغة على تجاوز الوظيفة الإخبارية إلى وظيفة إيحائية تثير التساؤلات والتأمّل. التّكرار والتّناغم الصوتي: استخدمت الكاتبة التّكرار والتناغم الصوتي لتعزيز الإيقاع السردي وإبراز المعاني العميقة. على سبيل المثال، تُكرّر بعض العبارات للتأكيد على مفاهيم أساسية مثل الخوف، الخراب والتمرّد. تنويع الأساليب اللغوية: سأركّز على هذا الجانب لأهميّته. تميّز النّصّ بمزيج من اللّغة الفصحى التي تحمل طابعًا أدبيًّا واللّغة اليومية التي تعكس واقع الشخصيات وظروفها. هذا التنوّع يعكس الحالة الطبقية للشخصيات وتفاوتها الثقافي والاجتماعي، ممّا يدعم التحليل السيسيولوجي. تكتب لميس الزين بأسلوب أدبي متعدّد المستويات، حيث تتنقّل بين الأسلوب الإخباري المباشر والأسلوب الإنشائي المنزاح نحو الجمال والرّمز. يُظهر هذا التنوّع قدرة الكاتبة على التفاعل مع النّص من زوايا مختلفة، مما يعكس بُعدًا فكريًّا وجماليًّا متماسكًا. - الأسلوب الإخباري المباشر: اعتمدت الكاتبة هذا الأسلوب في نقل الأحداث والحقائق بشكل واضح ودقيق، دون زخارف بلاغية. يتمثّل ذلك في استخدام اللّغة البسيطة الخالية من الرّموز والمجازات، كما في استعراضها للأحداث المأخوذة من الأخبار أو الوثائق التاريخية (أو (وصف سوق المدينة). يُظهر هذا الأسلوب البعد التسجيلي للنّص، ممّا يعزّز واقعيته، خاصّة في ربط الرواية بالواقع الاجتماعي والسياسي السوري. مثال: الخبر عن (نبش قبر الشيخ النبهاني)، الذي يعكس تقاطعًا بين النّص الأدبي والتّوثيق الواقعي. - الأسلوب الإنشائي المنزاح نحو الجمال والرمز: في المقابل، وظّفت الكاتبة أسلوبًا إنشائيًا غنيًا بالصّور البلاغية والانزياحات اللغوية لإبراز الأبعاد الرمزية للنّص. هذا الأسلوب يفتح أفق التّأويل ويُعنى بإثارة المشاعر وتحفيز الخيال لدى القارئ. مثال: "أزهرت سماء الليل نجومًا تعزف ألحان الأمل فوق صمت القلوب المرهقة." هنا، نرى كيف يُظهر الانزياح الجمالي بُعدًا خياليًا ووجدانيًا يتجاوز المعنى السطحي للكلمات. وظيفة الأسلوبين في النص: - الدّمج بين الأسلوبين: تناوب الكاتبة بين الأسلوبين الإخباري والإنشائي يعكس ديناميّة النّص، حيث يتيح للقارئ الانتقال بين الواقعية الموضوعية والتجربة الجمالية العميقة. هذا الدمج يخدم غرضين: 1) نقل الوقائع وإيصال الأفكار بدقّة. 2) تعزيز الأثر النّفسي والعاطفي من خلال الصّور والرّموز الجمالية. - توظيف الثقافة الاجتماعية: من خلال الأسلوب الإخباري، استطاعت الكاتبة توثيق الجوانب الثقافية والاجتماعية للمجتمع الحلبي، مثل وصف سوق المدينة أو طقوس المجتمع. أما الأسلوب الإنشائي، فقد أتاح فرصة لاستكشاف العمق النفسي والوجداني للشخصيات. الخلاصة : 1. التوازن بين الأسلوبين: استطاعت لميس الزين أن تحقق توازنًا بين الأسلوب الإخباري الذي يعكس واقعية النّص، والأسلوب الإنشائي الذي يضفي عليه جماليات أدبية، ما يعكس تمكّنها من أدواتها اللغوية والفنية. 2. تأثير المنهج الذرائعي: يظهر تأثير المنهج الذرائعي في تحليل النص عبر ربط الأسلوبين بمستويات النّص المختلفة، حيث يعمل الأسلوب الإخباري في مستوى السلوك والتوثيق، بينما يخدم الأسلوب الإنشائي مستويات التحليل النفسي والجمالي. 3. تعزيز تجربة القارئ: هذا التنوّع في الأسلوب يجعل النّص أكثر جاذبية، إذ يمنح القارئ فرصة للتّفاعل مع النّص على مستويات متعدّدة، من الفهم الموضوعي إلى الاستمتاع الجمالي. 4. الأثر الأدبي والاجتماعي: ساهم استخدام هذين الأسلوبين في تحقيق هدف الرواية الأساسي، وهو المزج بين التوثيق الواقعي ورصد التحوّلات المجتمعية والنفسية في سياق الحرب السورية. بهذا التناوب الأسلوبي، تقدّم الكاتبة نصًّا أدبيًّا يوازن بين التّوثيق والتّحليل، بين المباشرة والجمال، ما يجعل روايتها نموذجًا غنيًا يُبرز التأثير العميق للحرب على الواقع النفسي والاجتماعي. المنهج الذرائعي هنا يظهر كأداة فعّالة في تفسير هذا التفاعل بين الأسلوب والمضمون. الاستنتاج: المستوى اللساني في "الفناء الخلفي" يُبرز براعة الكاتبة في توظيف اللغة كأداة سردية تعبّر عن أبعاد الرواية المختلفة. عبر التّكامل بين الوضوح اللّغوي والجماليات الفنّية، يتمكّن النّص من تحقيق تواصل فعّال مع القارئ، مما يجعله أكثر قدرة على استيعاب الرؤية النقدية والتحوّلات الدلالية في الرواية. 2. المستوى الجمالي • الصور الفنية: اعتمدت الكاتبة على الصّور البلاغية بشكل مكثّف، مثل التشبيهات والاستعارات التي تُجسّد المعاني في صور بصرية مؤثّرة. على سبيل المثال، يتمّ تصوير الحرب كجُرح غائر في جسد الوطن، مما يعزّز من البعد العاطفي للنص. • إيقاع السرد: يتميّز النّص بتوزيع متوازن بين المشاهد الحركية (الأحداث) والمشاهد الوصفية (التأمّلات)، مما يخلق إيقاعًا سرديًا متناغمًا. هذا التوازن يدفع القارئ للتّفاعل مع النّص دون أن يشعر بالملل أو الإرهاق. • توظيف الجماليات البصرية في اللغة: الجماليات البصرية في النّص تتجلّى في وصف الأماكن والشخصيات والمواقف. الوصف الدقيق يجعل القارئ يرى المشاهد كأنّه يشاهد لوحة، ممّا يعزّز من تجربة القراءة ويقرّب القارئ من عالم الرواية. • الثنائية الجمالية (الجمال والقبح): تمزج الكاتبة بين الجمال والقبح في تصويرها للواقع الحربي، حيث تنعكس مآسي الحرب في صور بصرية قاتمة، ولكنها تُقابل بلمحات من الأمل أو الحنين إلى الماضي. هذا التّداخل يضيف عمقًا جماليًا للنّص، حيث يُبرز الصراع الداخلي للشخصيات والمجتمع. • تقنيات اللّغة المجازية في النّص: استخدمت الكاتبة لميس الزين تقنية اللغة المجازية بفاعلية في أسلوبها الإنشائي، موظّفةً عناصر مثل التشبيه، الاستعارة، الكناية، والمبالغة، لإبراز الأبعاد النفسية والجمالية للنّص. 1) التشبيه Simili: في جملة: "بدت الحقول المشجّرة متماسة مع خلفية البناء، وكأنه يحملها على ظهره، كما تحمل النساء البدويّات أطفالهن على ظهورهن حين ينزلن إلى المدينة للتسوق." يُبرز التشبيه العلاقة الحميمة بين الطبيعة والإنسان، حيث تُصور الطبيعة كجزء من الحياة اليومية البسيطة، مما يعكس الأثر النفسي للمكان على الشخصيات. 2) الاستعارة والكناية: في جملة: "هدوء آسر خالٍ من كلّ ما يلوّث السمع، وحدها الطبيعة تتكلّم..." تظهر الطبيعة هنا ككيان حيّ يتحدّث ويعبّر، ممّا يخلق شعورًا بالألفة والسلام. هذه التقنية تجعل المكان شخصية فعّالة في السرد، ما يعمّق ارتباط القارئ بالمشهد ويثري الدلالة الرمزية للنص. 3) المبالغة Hyperbole "ليبقى السكون هو الصّوت الأعلى." تعكس المبالغة تضادًا فلسفيًا بين السكون والصوت، مما يضفي بعدًا تأمّليًّا يدفع القارئ للتفكير في قوّة الصمت كوسيلة للتواصل والإيحاء. 4) تقنية التوازي: اعتمدت الكاتبة تقنية التوازي كأداة بنيوية وجمالية لتعميق الدلالات النّصّية. - التوازي الموضوعي: في جملة: "الوجوم يخيّم على أشجار كُسرت أغصانها لتصير حطبًا، فخلعت ما تبقّى من خضرتها احتجاجًا، الوجوه هي الأخرى خلعت ابتساماتها، فأمست باهتة بلا ملامح." هنا، يظهر التوازي بين الطبيعة والبشر في وصف مشترك للاحتجاج والصمت، مما يُبرز علاقة رمزية بينهما، ويعكس وحدة المصير بين الإنسان وبيئته. - التوازي البنيوي: يتجلّى في الجمل المتوازية نحويًّا: "الوجوم يخيّم على أشجار كُسرت أغصانها....." "الوجوه هي الأخرى خلعت ابتساماتها." هذه البنية الموازية تعزّز الانسجام النّصّي وتخلق إيقاعًا داخليًا يجذب القارئ. • الربط بالمنهج الذرائعي: المستوى اللساني والجمالي: يظهر في استخدام الصور البلاغية والتراكيب الموازية التي تساهم في بناء تجربة بصرية ووجدانية فريدة. المستوى النفسي: اللّغة المجازية والتوازي يدعمان التحليل النّفسي للشّخصيات، حيث يعكسان مشاعرها الداخلية وعلاقتها بالمكان والبيئة. استراتيجية التفسير: تُبرز الكاتبة رسائلها الضّمنيّة عبر المجاز والتوازي، مما يُتيح للقارئ الغوص في أعماق النّص وتأويله. بالنتيجة: تُظهر لميس الزين براعة في استخدام اللغة المجازية وتقنية التوازي لتكثيف الدلالات النّصّية وربط الإنسان بالطبيعة والمكان. وفق المنهج الذرائعي، تعمل هذه التقنيات على تعزيز المستوى النفسي والجمالي للنص، مما يجعل القارئ متفاعلًا مع الأبعاد الفكرية والعاطفية التي يقدّمها العمل. توفّر هذه الأدوات النّصية تجربة قراءة متكاملة تمزج بين الإيحاء الجمالي والتفسير النقدي، مما يُبرز الرواية كنموذج إبداعي يعكس الواقع بعمق وتحليل. من التقنيات الأسلوبية أيضًا: 5) تقنية السخرية اللفظية: السخرية اللّفظية هي نوع من السخرية الأدبية التي تعتمد على استخدام الكلمات أو العبارات للإيحاء بمعنى مختلف أو معاكس للمقصود الظاهر. غالبًا ما تُستخدم لإبراز التناقضات أو للتعبير عن الانتقاد بطريقة مبطّنة، تحمل طابع الفكاهة أو التهكّم. وتعتمد السخرية اللّفظية على التّلاعب بالألفاظ والعبارات لإيصال رسائل نقدية، ساخرة، أو فكاهية. مثال: "صالح أستاذ المدرسة الابتدائية كان ممن يروون نكتة انقرضت مع الديناصورات، يبدأها بإطلاق ضحكة تزيدها شعورًا بالأسى بدل الابتسام." السخرية: العبارة تسخر من ضعف قدرة الأستاذ على إلقاء النكتة وإضحاك الآخرين، لدرجة أن نكاته توصف بأنّها قديمة جدًّا "انقرضت مع الديناصورات". كما أنّ الضحكة التي يُفترض أن تضيف البهجة تأتي بنتيجة معاكسة تمامًا (شعور بالأسى بدلًا من الابتسام). التحليل: الكاتب هنا يستخدم السخرية اللفظية لانتقاد شخصية صالح بطريقة خفيّة ومرحة، حيث يتمّ تقديم نقص مهاراته الاجتماعية بشكل يجعله يظهر بشكل كوميدي في عين القارئ، مع تضخيم التناقض بين توقُّع الضحكة (التي يجب أن تكون مصدرًا للفرح) والنتيجة المترتبة عنها (الأسى). خصائص السخرية اللفظية: 1. التلاعب بالمعاني: قول شيء وإيحاء معنى مختلف أو معاكس. 2. التناقض بين المتوقع والواقع: تُستخدم غالبًا للإشارة إلى تناقض في المواقف أو السلوكيات. 3. النبرة الساخرة: تُعبّر عن استهجان أو نقد ولكن بأسلوب مرح وغير مباشر. 4. الإيحاءات الخفيّة: تُضيف للنّص عمقًا يجعل القارئ يكتشف المعنى المبطّن بنفسه. دور السخرية اللفظية في النص الأدبي: 1. إضفاء الطابع الفكاهي: تجعل النّص أكثر متعة وتفاعلًا مع القارئ. 2. النقد الاجتماعي: تُستخدم للتعبير عن نقد للمواقف أو الشخصيات أو المفاهيم السائدة بطريقة غير مباشرة. 3. إبراز المفارقات: تسلّط الضوء على التناقضات البشرية أو الاجتماعية. 4. إغناء النص: تزيد من طبقات المعنى وتجعل القارئ يتأمل في الرسائل الخفية. 6) تقنية المفارقة الظرفية المفارقة الظرفية هي تناقض بين ما يتوّقع حدوثه وبين ما يحدث فعلًا، حيث تكون النتائج غير متوقّعة أو مناقضة للتوقّعات المنطقية. وتُستخدم هذه التقنية لإثارة الدهشة أو السخرية أو لإبراز تناقضات معيّنة في الطبيعة البشرية أو السلوكيات الاجتماعية. تُبرز عادةً مفارقات الحياة اليومية أو النواحي الغريبة من السلوك الإنساني. المثال الأول: "نوار أخو زوجة أخيها، الذي حضر مع أخته شتاء، ما إن خلعوا أحذيتهم لدخول غرفة الضيوف الممدودة سجادًا، حتى اكتشفت أن رائحة جواربه قاتلة، وحين غسل يديه جفّفهما بملابسه." المفارقة: في هذا المثال، هناك تناقض بين الموقف المتوقع في ظروف اجتماعية (مثل لقاء الضيوف واحترام قواعد اللياقة) وبين السلوكيات الواقعية التي تعكس انعدام التهذيب أو الوعي بالآداب العامة. التوقع: أن يكون الضيف محترمًا لقواعد النظافة واللياقة الاجتماعية. الواقع: تصرفاته تُظهر استهتارًا واضحًا (رائحة الجوارب، وتجفيف يديه بملابسه). التحليل: المفارقة هنا تُبرز تناقضًا ساخرًا بين المظهر الاجتماعي المقبول والتّصرفات غير اللائقة، مما يخلق إحساسًا بالفجوة بين الواقع وما يُفترض أن يكون. الكاتب يهدف إلى انتقاد انعدام الذّوق الاجتماعي أو تسليط الضوء على هذه السلوكيات غير المتوقّعة. المثال الثاني: "علاء قريب زوج صديقتها نجلاء، فمن كأس شاي في لقاء يتيم، عرفت أنه من الذين يلعقون ملعقة السكر قبل إعادتها إلى السكرية، مطلية بلعابهم." المفارقة: المفارقة تحمل رسالة ضمنيّة حول عدم توافق المواقف الاجتماعية مع التّصرفات التي تُفترض كأدنى معايير للسلوك الحضاري. التوقّع: أن يكون تصرّف الشخص طبيعيًّا في موقف بسيط كتناول الشاي في لقاء اجتماعي. الواقع: سلوك منفّر وغير متوقّع مثل لعق الملعقة وإعادتها إلى السكرية. التحليل: المفارقة هنا تثير السخرية من الفجوة بين المظهر الاجتماعي (اللّقاء اللطيف) والسلوكيات الغريبة التي تبرز انعدام الذّوق والنّظافة. وظيفة المفارقة الظرفية في السرد: 1. إبراز التناقضات: تسلط الضوء على الفجوة بين المظهر والواقع، مما يعمّق فهم القارئ للشخصيات أو المواقف. 2. إثارة الفكاهة أو السخرية: تضيف عنصرًا كوميديًا أو ساخرًا للنص، مما يجعل القارئ يتفاعل معه عاطفيًا. 3. النقد الاجتماعي: تُستخدم أحيانًا كوسيلة لانتقاد السلوكيات أو القيم السائدة في المجتمع. 4. إضافة عنصر الدهشة: تُبقي القارئ مشدودًا وغير متوّقع لتفاصيل الأحداث. الاستنتاج: السخرية اللفظية والمفارقة الظرفية هما تقنيتان مهمّتان في الأدب، تلعبان دورًا في بناء النصوص التي تجمع بين النقد الاجتماعي والفكاهة. السخرية اللفظية تُستخدم لإظهار تناقضات الأفراد والمواقف بطريقة مرحة وتهكمية، بينما تُظهر المفارقة الظرفية التباين بين التوقعات والواقع بطريقة تثير الدهشة والسخرية. وبالتالي، يعزّز كلا الأسلوبين من قدرة النص على التأثير في القارئ من خلال إبراز التناقضات والتساؤل عن الواقع الاجتماعي والإنساني. وظّفت لميس الزين ثقافتها العامة والمتنوّعة، مثل : 1- الثقافة الاجتماعية التقليدية التراثية السائدة في المجتمع الحلبي في مواضيع : توظّف لميس الزين في روايتها ثقافة المجتمع الحلبي التقليدية والتراثية لتبرز العادات الاجتماعية التي تحكم مختلف جوانب الحياة، مثل مراسم الزواج، الولائم، والسلوكيات الموروثة المتعلقة بالعائلة والشرف. تستخدم الكاتبة هذه الطقوس كأداة لتعكس الصراع بين التقاليد والواقع المعاصر الذي يواجهه المجتمع بسبب الحرب والتغيّرات الاجتماعية. فيما يلي تحليل لتوظيف الثقافة الاجتماعية في النص: 1. طقوس الزواج: تعرّض الكاتبة لطبيعة الطقوس المرتبطة بالزواج في المجتمع الحلبي من خلال تفصيلها لمراسم عقد القران للرجال، وحفلة عرس للنساء، ولعقد القران طقوسه الاحتفالية، يطلقون عليه لفظة ( كتب الكتيب الشاهرلي) يقدّم فيه شراب اللّوز وتقديم الضيافات الفاخرة التي ترمز إلى الترف والاهتمام بالتفاصيل الاجتماعية. على سبيل المثال، تصف الكاتبة تقديم "الراحة بالفستق الحلبي" في علب باذخة تُعد رمزًا للفخامة والتقاليد العريقة في المجتمع. تقول: " يحكي لها عن ( كتب الكتيب الشاهرلي)، ناولها بحزن صرّة (الملبس) التي توضع عادة في علب عادية، واختار أهل سامي أن توضع في صحون صغيرة من الكريستال البلجيكي، لتبقى لاحقًا عند كل من حضر، تحفة فنية صغيرة، ذكرى لتلك المناسبة". وفيه يُقدّم العريس مصاغ يدعى ( المليك) يتم انتقاؤه من قبل أم العروس " قطعًا لا فصوص فيها، لأنها تنزع في حال البيع وتخسر ثمنها" التحليل: تكشف الكاتبة من خلال هذه التفاصيل عن أهمية المظاهر الاجتماعية في المجتمع الحلبي، وتصوّر كيف يُنظر إلى التقاليد كجزء لا يتجزّأ من الهوية الاجتماعية، حيث يصبح تقديم الهدايا والضيافات ذا طابع رمزي يتجاوز الجانب المادي إلى بعد ثقافي. لكن الكاتبة تُدخل عنصرا من المفارقة هنا عندما تضيف أن العائلة اختارت وضع الضيافة في صحون كريستالية بدل العلب التقليدية، مما يعكس اهتمامًا مبالغًا في الفخامة. 2. الطقوس الاجتماعية المتعلّقة بالعرس: تتّضح المفارقة في رواية لميس الزين عندما تضطّرّ العائلة لتغيير ترتيب حفل العرس بسبب ظروف الحرب. حيث تقترح العائلة إلغاء الحفل النسائي وتعويض العروس بقطعة ذهبية تضاف إلى "المليك" بدلًا من الاحتفال المعتاد. تقول الكاتبة: "صعوبة إقامة عرس نسائي في صالة أفراح، ثم عرضت على حرم الحاج بكري الاكتفاء بعقد القران، على أن تعوّض العروس بقطعة ذهب تضاف لذهب (المليك)، بدل حفل العرس الذي ستحرم منه، وهو حق لها" التحليل: هذا المثال يعكس بشكل جلي تأثير الحرب على التقاليد والعادات الاجتماعية. الكاتبة تعكس تناقضًا بين التوقّعات الاجتماعية لحفل زفاف فاخر والتغيّرات المفاجئة التي تفرضها الظروف. المفارقة تكمن في أنّ العروس تُحرم من الاحتفال التقليدي الذي يمثّل جزءًا كبيرًا من سعادتها، ولكن تُعوّض بمجوهرات مادية (قطعة ذهب)، مما يبرز كيف أنّ التقاليد تتكيّف مع الظروف المتغير. 3. السلوكيات الاجتماعية الموروثة: تستعرض الكاتبة المواقف الاجتماعية الموروثة، مثل تفاعل الأب أو الأخ مع زواج الابنة. تُظهر الكاتبة كيف أنّ الأب لا يُفترض أن يظهر الفرح بزواج ابنته. تقول: "لأن ابنته، عرضه وشرفه، ستنام اليوم مع رجل غريب، وتحصل بينهما أمور يصعب على الأب تخيّلها" ثم تُظهر سلوكًا مغايرًا، حيث يلجأ البعض إلى الشرب ليتمكنوا من "نسيان" واقع هذه الليلة. تقول الكاتبة: "أن البعض كان يذهب مع أصدقائه للشرب، كي يسكر وينسى، فلا يفكر بما سيكون تلك الليلة مع أخته أو ابنته" التحليل: هذه السلوكيات تكشف عن التوتّرات النفسية التي يشعر بها الأب أو الأخ بسبب التقاليد الصارمة التي تحكم مفهوم الشرف، مع حالة التناقض بين الفخر الاجتماعي والمشاعر الشخصية. الكاتبة تسلط الضوء على كيف أن بعض الشخصيات تلجأ إلى آليات الهروب مثل الشرب لتجنب مواجهة الحقيقة الصعبة، مما يعكس تضاربًا بين القيم الاجتماعية المتوارثة والواقع العاطفي الذي يعيشه الفرد. 4. التّراث الغذائي: تشير الكاتبة إلى غنى التّراث الغذائي الحلبي من خلال الحديث عن الولائم. كما تصف الكاتبة تقديم القهوة برائحة الهيل والقطر، وتُظهر كيف أن هذه المأكولات تُعد جزءًا أساسيًّا من الحياة الاجتماعية في المجتمع الحلبي، قائلة: "أخيرًا، حضرت القهوة فوّاحة برائحة الهيل والمسكة، وقد صُبّت بالفناجين المذهبة المصفوفة بنسق واحد في صينية ستنالس مفروشة ب الدانتيل ..." التحليل: الولائم في هذه السياقات تصبح أكثر من مجرّد تناول الطعام، بل هي مساحة للاحتفاء بالهويّة الاجتماعية والتقاليد. الأطعمة الفاخرة تمثّل التقدير والاحترام في المجتمع الحلبي، وكذلك تسلّط الضوء على التّوزيع الطبقي داخل هذه الاحتفالات، حيث يتمّ تحضير الطعام وتقديمه بشكل فاخر ومتقن، مما يعكس العلاقة بين الطعام والكرامة الاجتماعية. الاستنتاج: من خلال توظيف لميس الزين لهذه الطقوس الاجتماعية في سياق الأحداث، تُظهر العلاقة بين التقاليد الاجتماعية والظروف المعاصرة في المجتمع الحلبي. الكاتبة تعكس كيف أن القيم والمفاهيم الاجتماعية تتأثّر بالتغيّرات السياسية والاقتصادية، مثل تأثير الحرب على العادات. كما أن تحليل السلوكيات والعادات الموروثة، مثل مفهوم الشرف والعلاقات الأسرية، يعكس الصراع الداخلي الذي يواجهه الأفراد داخل هذا السياق الاجتماعي المعقّد. 2- توظيف الثقافة الفنّية والتراثية: توظّف لميس الزين في روايتها، وبشكل رائع، الثقافة الفنية والتراثية التي تنتمي إلى المجتمع الحلبي، مما يعزّز من الواقعية السردية ويغني النص بالرموز الثقافية المتجذّرة في الذاكرة الجماعية. 1. الأغاني التراثية : على سبيل المثال، في وصلة من القدود الحلبية يصدح بها صوت الفنان صباح فخري، تبرز الكاتبة أبعادًا عاطفية وحسّية في مشهد عشاء لعروسين: "خمرة الحب اسقنيها.. همّ قلبي تنسنيه.. عيشة لا حب فيها .. جدول لا ماء فيه" التحليل: يُظهر النّص كيف أن الكاتبة تستغلّ الفنّ الشعبي والحساسيات الثقافية في تعميق جوهر الأحداث. هذه الأبيات تعكس مشاعر الحب والحزن وتُغني الرواية بنبرة سريالية تجعل القارئ يربط بين العاطفة والموسيقى كجزء من السياق الثقافي لحلب. 2. توظيف الأمثال الشعبية: إضافة إلى الأغاني، توظّف الرواية الأمثال الشعبية لإبراز التناقض بين الحكمة المتوارثة وسياقات الحرب الحديثة، مثل المثل: "البعد جفا، والبعيد عن العين بعيد عن القلب". التحليل: من خلال هذا المثل، يُعبّر عن فكرة الفراق والبعد التي تؤثّر على العلاقات الإنسانية. ( البعد جفا) الذي يعكس عواقب الغربة والانفصال الإنساني الناجم عن النزوح والتشرّد. ( بعيد عن العين بعيد عن القلب) في هذا السياق، يمكن اعتبار أن الكاتبة تعكس توترات العلاقات العاطفية بين الشخصيات، مما يعزز من البُعد العاطفي للرواية ويجعل القارئ يتواصل بشكل أعمق مع السياق الشخصي لكل شخصية 3. التوظيف الأدبي للأبيات الشعرية: أدرجت الكاتبة أبياتًا من قصائد شعريّة معروفة، مثل: "انكسرتْ كمئذنة، ونامت في الطريق على تقشّف ظِلّها" ، من قصيدة محمود درويش. التحليل: بإدراج هذه الأبيات، تُبرز الكاتبة البُعد الفلسفي للواقع الذي تعيشه الشخصيات، وتوظّف الشعر العربي الذي يعبر عن معاناة الإنسان ومواضع التصدّع في الحياة. هذا يضفي على الرواية عمقًا أدبيًا ويعكس ارتباط الشخصيات بالأدب والشعر كوسيلة للتعبير عن معاناتهم. 4. الحوارات: البنية اللغوية للحوارات: تتراوح الحوارات في الرواية بين الجمل القصيرة والمتوسطة، ما يجعلها سريعة وحيوية. تتألّف غالبية الحوارات من جمل سؤال تليها إجابات مختزلة، مما يعكس التفاعل اليومي السريع بين الشخصيات. مثال على ذلك: "هات .. هات .. نوّرنا" وفي الحوار باللهجة العامية الحلبية: "نعيمًا أبوس روحك ما أحلاك، عقبال عندك يا روح عمتك. ايمت بدنا نفرح فيك؟" التحليل: الحوارات القصيرة والواقعية تُظهر الحياة اليوميّة وتضفي على الشخصيات طابعًا إنسانيًّا حيويًّا. استخدام هذه الحوارات يجعل الرواية أكثر تقبّلًا لدى القارئ، حيث تصبح الشخصيات قريبة من الواقع المعيش. الحوارات الطويلة ذات الطابع الوعظي: هناك حوارات طويلة ذات طابع فكري وفلسفي، مثل الحوار بين شمس وسامي حول( الزواج والجنس) التحليل: هذه الحوارات تتناول موضوعات عميقة وتطرح قضايا أخلاقية واجتماعية حيوية. رغم أهميتها، فإن الكاتبة تحتاج إلى دمجها في السياق السردي بشكل طبيعي لتجنّب شعور القارئ بأنها محورية أو مفروضة بشكل زائد. يجب أن تظل هذه الحوارات جزءًا مكمّلًا للدراما الداخلية للشخصيات، وليس منفصلًا عن مجرى الأحداث. اللّهجة العامّيّة: استخدام الكاتبة للّهجة العامية الحلبية يساهم في إبراز الطابع المحلّي، مما يجعل الحوارات أكثر واقعية وتصل إلى قلب القارئ. التحليل: من خلال هذا التنوّع بين اللغة الفصحى والعامية، تُقدّم الكاتبة الرواية بشكل يعكس تباين الحياة الثقافية واللغوية داخل المجتمع الحلبي، مما يعمّق التجربة السردية. الألفاظ البذيئة: كما لوحظ في الحوارات على لسان ناهد، هناك استخدام للألفاظ البذيئة بشكل متكرّر. مثال: " ابن الحرام، الشاوي، بدل ما يبعت مصروف لابنه، ينفق ماله لإسعاد الشرموطة" التحليل: استخدام هذه الألفاظ قد يعكس الواقع الاجتماعي والنفسي للشخصية، حيث تشير إلى طبيعة البيئة التي تعيش فيها ناهد. لكن، إذا تمّ استخدامها بشكل مفرط، قد تفقد هذه الألفاظ تأثيرها السردي وتُصبح مزعجة للقارئ، لذا يجب توظيفها بحذر لتجنّب أن تصبح عنصرًا مزعجًا غير مبرّر. الاستنتاج: التنوع اللغوي: الكاتبة تنجح في توظيف اللّغة بشكل متنوع بين الفصحى والوسيط والعامية، مما يُضفي على النص بُعدًا ثقافيًا محليًا غنيًا. تنوّع الأسلوب يعزّز من واقعية الشخصيات ويسهم في بناء هويّاتهم الاجتماعية والنفسية. سرديًّا: الاختيار بين الجمل القصيرة والمتوسطة في الحوارات، مع نمط السؤال والجواب المختزل، يساهم في خلق حوار سريع وواقعي يتناسب مع التفاعلات اليومية. بينما تُضفي الحوارات الطويلة التي تحمل طابعًا فكريًا ووعظيًا عمقًا فنيًّا وأخلاقيًّا للرواية. دور الألفاظ البذيئة: تكرار الألفاظ البذيئة على لسان ناهد يمكن أن يعكس واقعًا نفسيًّا واجتماعيًّا معيّنًا، لكن من المهم استخدامها بشكل يتناسب مع تطوّر الشخصية ولا يؤدّي إلى تشويش أو عرقلة تدفّق الأحداث. يجب أن تكون مبرّرة سرديًا. أثر الحوارات على تطوّر الشخصيات: الحوارات تلعب دورًا محوريًّا في الكشف عن خصائص الشخصيات الداخلية والصراعات النفسية التي يمرون بها، مما يعزز تفاعل القارئ مع الرواية. هذه الحوارات تساهم في بناء الشخصيات وإعطاء الرواية طابعًا أكثر قربًا من واقع الحياة. الخلاصة: من خلال تحليل الحوارات في الرواية، نجد أن الكاتبة قد نجحت في استخدام الأسلوب اللغوي المتنوع كأداة قوية لتطوير الشخصيات وتعميق الصراع الداخلي والخارجي. توظيف اللغة المحلية والفصحى، واستخدام الحوارات ذات الطابع الفكري، يساهم في تقديم نص سردي متكامل وأكثر واقعية، مما يعزز من تفاعل القارئ مع النص ويجعل القضايا الاجتماعية والفكرية المحورية في الرواية أكثر تأثيرًا. 3- توظيف ثقافة دينية : طقس الصلاة النارية الذي دعت إليه الجارة أم فراس بعد صلاة العشاء على نيّة الإفراج عن ابنها، وكلما زاد عدد المشاركات، كان إنجاز الدعاء أسرع: "توضّأت النسوة، ووضعن أغطية الصلاة البيضاء على رؤوسهن ووُزّعت السبحات، وأُعطيت لمن لا تحفظ الصلاة النارية قصاصات كتب عليها: « اللّهمّ صلّ صلاة كاملة، وسلّم تسليمًا تامًا، على سيدنا محمد الذي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب، وتقضى به الحوائج، وتُنال به الرغائب وحسن الخواتيم، ويستسقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين» دعاء ينبغي أن يقرأ أربعة آلاف وأربعمئة وأربع وأربعين مرّة...." التحليل اللغوي لطقس الصلاة النارية: 1. اللغة وأسلوب السرد: اللغة البسيطة والدقيقة: استخدمت اللغة وصفًا مباشرًا وسلسًا، ممّا يسهّل على القارئ تصوّر المشهد والشعور بروحانية الطقس. الاعتماد على المفردات الدينية: مثل "توضّأت النسوة"، "أغطية الصلاة"، "السبحات"، "اللّهمّ صل صلاة كاملة"، والتي تضفي طابعًا إيمانيًا قويًا يعكس قدسية اللحظة. 2. البنية السردية: وصف الطقس خطوة بخطوة: التدرج في السرد (التوضؤ، تغطية الرؤوس، توزيع السبحات، قراءة الدعاء) يجعل المشهد حيًا ومنظمًا، ويمنح القارئ إحساسًا بالمشاركة. الإشارة إلى الجماعية: عبارة "كلما زاد عدد المشاركات، كان إنجاز الدعاء أسرع" تعكس أهمية التكاتف الجماعي في المعتقد الشعبي لتحقيق الفرج. 3. الدّعاء المستخدم: بلاغة النّص الدعائي: يحتوي الدعاء على بنية متوازنة وتكرار للتّوكيد، مما يجعله سهل الحفظ والتّرديد. رمزية الألفاظ: "تنحل به العقد"، "تنفرج به الكرب"، "تُنال به الرغائب" تُظهر رغبة النسوة في إيجاد الحلول للمشكلات الحياتية من خلال التّضرّع إلى الله. 4. دلالة العدد (4444) يُظهر الاعتقاد بقدسية الأرقام ودورها في تحقيق البركة والتأثير الروحي. هذا الجانب يعكس ثقافة دينية شعبية فيها امتزاج بين الدين والتقاليد. الاستنتاجات: 1. انعكاس الثقافة الشعبية: يظهر الطقس مدى تأثير الدين في تشكيل المعتقدات والممارسات الشعبية، حيث يتمّ استخدام الطقوس كوسيلة للتعبير عن الإيمان وتعزيز الأمل. 2. الجماعية والتّكاتف: يبرز المشهد أهمّية التضامن الاجتماعي، حيث تجتمع النساء لمساعدة "أم فراس"، مما يعكس دور الدين كحافز للتواصل الإنساني. 3. الأبعاد النفسية: طقس الصلاة النارية يعبّر عن محاولة النساء للتغلّب على العجز في مواجهة المصاعب من خلال التّمسّك بالإيمان والطقوس الروحية. 4. التأثير السردي: إضافة الطقس للنّص يمنحه طابعًا روحيًّا وثقافيًّا، ممّا يعزّز واقعية السرد ويقرّب القارئ من البيئة الاجتماعية للشخصيات. كما يُظهر الطقس دور الإيمان في تقديم بارقة أمل للشخصيات، بغض النظر عن نتيجة الدعاء. الاستنتاج الذرائعي: وفقًا لنظرية الذرائعية التي تركّز على استثمار الأبعاد المختلفة للنص الأدبي (اللغوي، النفسي، الاجتماعي، والجمالي) وتحليلها في إطار وظيفتها وتأثيرها، يمكن استنتاج الآتي: 1. البعد اللغوي: اللغة كوسيلة تأثيرية: النّص يوظّف لغة دينية سهلة ومتداولة، مما يعزّز فهم القارئ ويربطه بالمشهد عبر قوة المفردات المستخدمة. التكرار في النّص الدعائي (مثل "تنحل العقد"، "تنفرج الكرب") يرسّخ التأثير النفسي ويوحي بقوّة الإيمان. قدرة اللغة على خلق الانتماء: النّص يستهدف مشاعر الجمهور الديني أو من ينتمي لهذه الثقافة الشعبية، ممّا يجعل النّص يتماشى مع الخلفيات الثقافية للقارئ. 2. البعد النفسي: التأثير العاطفي: النص يبرز مشاعر "أم فراس" اليائسة، ما يدفعها إلى اللجوء للدين كمصدر للأمل، بينما يُظهر النساء المشاركات كمصدر للدعم والتضامن، مما يعكس دور الطقوس في تخفيف الضغط النفسي والجماعي. التّأرجح بين الأمل واليأس: الطقس يضع القارئ في حالة توتّر نفسي، ينتظر نتائج الدعاء، مما يعكس تأثير الصراعات الداخلية والخارجية على الشخصيات. 3. البعد الاجتماعي: وظيفة الطقس في تعزيز الجماعة: يبرز النّص كيفيّة توظيف الدين كأداة لبناء مجتمع متكاتف، حيث يجتمع النسوة على طقس مشترك يرمز للاتحاد والقوة الجماعية. الموروث الثقافي والديني: النص يُظهر التفاعل بين الدين والتقاليد الشعبية، مثل الاعتقاد بأهمية الأعداد (4444) لتحقيق الفرج، ممّا يعكس تمازج الدين بالثقافة المجتمعية. 4. البعد الجمالي: الرمزية في السرد: الطقس نفسه يمثّل رمزًا للإيمان العميق، لكنّه أيضًا يبرز صراعًا إنسانيًا بين السعي للتغيير والاعتماد على القدر. الجمال في البساطة: النص يعتمد على وصف بسيط ومباشر، لكنه يحمل أبعادًا عميقة تعكس الروحانية والإنسانية. 5. البعد الوظيفي: تحريك الحبكة: توظيف الصلاة النارية يدفع الحبكة إلى الأمام عبر بناء الترقّب لما ستؤول إليه الأمور. إثراء الشخصيات: يُظهر النص تفاصيل مهمّة عن شخصيات النسوة وأدوارهن الاجتماعية والنفسية في مواجهة الأزمات. الخلاصة : طقس الصلاة النّارية ليس مجرد عنصر ديني في النص، بل هو وسيلة سردية متعدّدة الوظائف تعكس أبعادًا نفسية واجتماعية وثقافية. النص يوظّف هذا الطقس لتعميق الشخصيات، وإبراز التفاعل الاجتماعي، وإبقاء القارئ في حالة ترقّب نفسي. بالتالي، يعكس النص رؤية شمولية تمزج بين المعتقد الديني والثقافة الشعبية لتقديم تجربة سردية مؤثّرة. الاستنتاج الذرائعي حول المستوى اللساني والجمالي في رواية لميس الزين: من خلال التحليل الذرائعي للمستوى اللساني والجمالي، يمكننا أن نستنتج أن الكاتبة قد حقّقت تكاملًا بين الأساليب اللغوية، الثقافية، والفنية، مما جعل النص غنيًا وديناميكيًا. توظيفها للغة المتنوعة، البنية السردية المتقنة، والأبعاد الثقافية العميقة يسهم في إثراء التجربة القرائية وجعل النّص أكثر تأثيرًا. على المستوى المتحرك: على المستوى الديناميكي، يتمّ التركيز على الحركية في الرواية من خلال الأحداث المتسارعة، والتحوّلات في الشخصيات، والتفاعل بين الزمان والمكان في سياق سردي يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي المتأثّر بالحرب. هذه الحركية لا تقتصر فقط على تسلسل الأحداث أو تطوّر الشخصيات، بل تتداخل مع الزمان والمكان لتشكيل بنية سردية تتحرّك وفقًا لقوانين معينة، كالعلاقة بين الأحداث والمكان الذي يجرى فيه هذا التحرّك. 1- على مستوى الحكاية : إنّ البطولة في رواية الحرب تتراوح بين الحرب نفسها، وضحاياها، وأماكنها، وسائر عناصر العالم المرجعي الذي تحيل إليه. وشرحًا للمحاور التي أتيتُ على ذكرها في مستوى البؤرة، قامت الرواية في بنائها الفني على زمكانية الحرب السورية الأخيرة، التي شكّلت ديباجة فنية هامّة للكثير من المتون الروائية لكتّاب سوريين وغير سوريين من الذين استثارتهم تلك الحرب، منهم من اهتمّ بتوثيق وقائعها فقط، فجاءت رواياتهم تسجيلية بالمجمل، لكن، مع لميس الزين، لم يكن الهدف الحرب بذاتها، ولم تذكر وقائعها بقصد التوثيق، وإنّما وظّفتها كديباجة استخدمت فيها تقنية فنّية تشكّل عنصرًا رئيسيًّا من عناصر البناء الفني السردي، وهي: 1) الزمكانية (Setting) كعنصر ديناميكي: في رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة لميس الزين، لا يُستخدم الزمان والمكان كخلفية ثابتة للأحداث فقط، بل كعنصرين ديناميكيين يساهمان في تحريك الرواية وتوجيه مساراتها. 1. الزمان والمكان: الزمان: تدور أحداث الرواية بين عامي 2012-2016، وهي فترة الحرب السورية، حيث تشكّل هذه السنوات إطارًا زمانيًا حيويًّا للأحداث. المكان: تقع أحداث الرواية في مدينة حلب، التي أصبحت رمزًا للصراع والخوف. لكن الكاتبة لم تركّز على تفاصيل الحرب بشكل مباشر، بل وظفتها كديباجة تعكس القضايا الاجتماعية والنفسية للمجتمع الحلبّي. 2. مثال على التوظيف: يظهر توظيف المكان في وصف الحياة اليومية البسيطة التي تشكل جزءًا من الواقع الحربي، كما في المثال: "جلس الحاج قدري بقامته النحيلة وبشرته البيضاء خلف الطاولة الخشبية التي تتصدّر المحل الصغير، فمحلّات سوق المدينة صغيرة المساحة..." هذا الوصف يُعرف القارئ بسوق المدينة في حلب ويقدم إحساسًا بالزمان والمكان دون التركيز على تفاصيل الصراع بشكل مباشر. 3. الاستنتاج الذرائعي يعكس استخدام الكاتبة للزمكانية كعنصرين ديناميكيين توظيفًا فنيًا عميقًا. يظهر ذلك في: تأثر الشخصيات بالبيئة الاجتماعية والمكانية المحيطة. التوترات المجتمعية التي تشكل جزءًا من الواقع الحربي. بهذا، تقدم الرواية رؤية ديناميكية تربط بين المكان والزمان والشخصيات، مما يعزّز من تأثير الحرب في تشكيل بنية المجتمع السوري 2) العاطفة ( ثيمة الحب) : تعدّ العاطفة عنصرًا أساسيًا في بناء الحدث السردي للرواية، لكن في سياق الحرب، تصبح هذه الثيمة متغيّرة ومعقّدة بسبب التحوّلات السيسيولوجية التي تطرأ على العلاقات الإنسانية. كما أنّ الحرب تضيف جدارًا إضافيًا من الصعوبات والمفارقات، ويشكّل الحب عنصرًا محوريًّا في فهم تلك التحوّلات في الشخصية. حب شمس واعتباراته في سياق الحرب: شمس، الشخصية المحورية في الرواية، تطوّر مفهومًا خاصًّا عن الحب يختلف عن المفاهيم التقليدية في المجتمع. هذا المفهوم يرتكز على الجمع بين الروح والجسد، لكن في زمن الحرب، تصبح هذه العلاقة أكثر تعقيدًا بسبب الحواجز النفسية والاجتماعية المتمثّلة في العادات والمجتمع. في بداية الحرب، دخلت شمس في علاقة افتراضية مع الشاعر يوسف، حيث كان يقتصر مفهومه عن الحب على البعد الروحي فقط، عبر وسائل التواصل الافتراضي. يقول يوسف: "أكيد لا .. لكنها أسوأها" عندما سألته إن كانت الحرب هي الجدار الوحيد بينهما، وعندما سألته عن الجدران الأخرى، أجابها: "الجدران التي نبنيها حولنا بأيدينا، لننتبه بعد حين أننا صرنا سجناء داخلها، العادات، المجتمع..." هذا الحوار يكشف عن التأثير الكبير للحرب على العلاقات الإنسانية، حيث تضيف الحرب جدارًا نفسيًّا إضافيًّا يعزل الأفراد عن بعضهم البعض. شمس، من جهتها، ترى أنّ الحبّ لا يكتمل إذا كان مقتصرًا على بعد واحد. ففي تفاعلها مع يوسف، تعتبر العلاقة الجسدية جزءًا أساسيًا من الحب، وتؤمن أنّه إذا كان الحبّ يقتصر على الروح فقط فهو غير مكتمل. تقول: "إذا اقتصر على بعد واحد لكان مبتورًا، لا حظ له بالاستمرار والاكتمال" . هذا الموقف يعكس محاولة شمس أن تبقى وفيّة لمفهومها الشخصي عن الحب، الذي يدمج الروح والجسد في علاقة متكاملة. المفارقة المدمّرة في العلاقة: بعد فترة، عندما قرّرت شمس لقاء يوسف في النصف الشرقي من حلب، اعتذر عن الارتباط بها بصكّ الزواج حفاظًا على عائلته وسمعته، وطلب منها الاكتفاء بحب روحي عذري. يقول: "تكفيني روحك، لا أريد جسدًا". كان يوسف يخشى من نظرة المجتمع له إذا تزوّج من امرأة أخرى أثناء الحرب، ويستند في موقفه إلى معايير اجتماعية صارمة. هذه المفارقة بين مفهوم الحبّ عند شمس ومفهوم يوسف تُبرز تأثير الحرب على المفاهيم الشخصية والعلاقات الإنسانية، حيث تجعلها أكثر تعقيدًا وأكثر هشاشة. المفارقة تتجسّد في أن شمس كانت تؤمن أنّ الحرب قد تفتح الفرص لتجدّد العلاقة بينهما، لكن في النهاية، يؤدّي التحوّل التكنولوجي في العلاقات إلى تسهيل إنهاء الحب. تقول: "أن الحب الذي صار أسهل عندما قرّبت وسائل التواصل البعيد، صار إنهاؤه أيضًا أسهل، ... اليوم ضغطة زر، أو لمسة على شاشة باردة، صارت كافية لنسف ما كان". هذا يعكس مدى هشاشة العلاقات في عصر التكنولوجيا، حيث أصبحت العلاقات العاطفية تعتمد على الوسائل الافتراضية التي قد تكون غير قادرة على الصمود أمام التحدّيات النفسية والاجتماعية التي تفرضها الحرب. رسائل الوداع: استخدمت لميس الزين عبر الشخصية المحورية شمس، تقنية رسائل الوداع المقرونة بنهاية كل علاقة عاطفية. بعد أن أُنهيت علاقة شمس مع يوسف، أرسلت له رسالة وداع تعبّر فيها عن مشاعرها العميقة تجاهه: "ها أنا الآن أحوج ما أكون لإغلاق قضية قلبي معك، ولا أعرف كيف أفعل، أتخيّلني أضع رأسي على كتفك، وأبكي طويلًا، لكن الطريق إلى حضنك بعيدة، وأكوام الكبرياء تقطع الدروب إليها". هذه الرسالة تكشف عن الصراع الداخلي لشمس، الذي يجمع بين الكبرياء والحب والألم النفسي نتيجة انتهاء العلاقة. الاستنتاج: إنّ العاطفة في رواية الفناء الخلفي تُظهر التأثير العميق الذي تتركه الحرب على العلاقات الإنسانية، حيث يتحوّل الحبّ والعلاقات إلى مساحات مليئة بالمفارقات والصراعات الداخلية. الحبّ هنا ليس مجرّد عاطفة بين فردين، بل هو حالة معقدة تأخذ أبعادًا جديدة بسبب الحرب. شمس تكشف عن تفاعل معقّد مع الحب، الذي يتأرجح بين الروح والجسد، بين الوهم والواقع، بين الفقدان والاستمرار. وفي النهاية، يظهر أنّ الحبّ الحقيقي هو الذي يتجاوز تحدّيات الحرب والتكنولوجيا والمجتمع، ليصبح قوّة حقيقية قادرة على منح الأمل والسعادة حتى في أحلك الظروف. 3) الحدث السردي كدافع ديناميكي: الحدث السردي الأول الذي تبدأ منه الرواية هو وصول "سامي" بعد غياب، ما يخلق عنصرًا ديناميكيًا حاسمًا في تحريك الأحداث وتحديد مسار السرد. العلاقة بين "سامي" ووالده "الحاج قدري" تنطوي على صراع اجتماعي وعائلي يُظهر الديناميكية الحركية التي تطرأ على الشخصيات بسبب الحرب والمشاكل العائلية. مثال: "ألقى سامي السلام، وقبّل يد والده الذي كتم غيظه إلى أن انصرف الجار..." هذا الحدث يُظهر تفاعلًا بين الشخصيات ويعمل على دفع السرد قُدمًا، حيث يُمهّد لدور "سامي" في الرواية وتداخل علاقته مع الأحداث الاجتماعية والسياسية. الاستنتاج الذرائعي: تفاعل الشخصيات مع الأحداث من خلال المحرّكات النفسية والاجتماعية، مثل العلاقة المتوتّرة بين "سامي" ووالده، يعمل على تحفيز الصراع الداخلي والتطوّرات الاجتماعية. هذه الديناميكية تساهم في تعزيز الحبكة السردية وتحريك الشخصيات نحو آفاق جديدة. الاستنتاج العام: من خلال التحليل الذرائعي للمستوى الديناميكي في الرواية، نجد أن الكاتبة توظّف الزمان والمكان كعناصر حركية تساهم في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية من خلال تفاعل الشخصيات مع البيئة المحيطة. هذه الديناميكية تظهر من خلال الأحداث السردية التي تدفع الشخصيات نحو مواجهات داخلية وخارجية، ممّا يعزّز من الصّراع والتطوّر في النص. باختصار، تُعتبر الحركية عنصرًا محوريًّا في بناء الرواية، حيث تسهم في تشكيل الأحداث والتفاعلات بين الشخصيات والواقع الاجتماعي والسياسي المتأزّم. 4) تقنية التشويق تقنية التشويق هي إحدى الأساليب السردية التي اعتمدتها الكاتبة لتعميق تأثير الأحداث وزيادة تفاعل القارئ مع الشخصيات والصراعات. يُظهر السرد في الرواية كيف أن الكاتبة تبني التّصعيد العاطفي عن طريق تقطيع الأحداث وتوزيعها على فصول متعدّدة، ما يخلق توتّرًا مستمرًّا يجعل القارئ في حالة ترقّب دائم. يبرز ذلك بشكل خاص في الطريقة التي بدأت بها الرواية بمشهد معين ثم أعادت طرحه بعد فترة زمنية طويلة، ممّا يعزّز التشويق ويُبقي القارئ في حالة من التساؤل والتوتّر حول تطوّر الحدث. التقنيات السردية المتبعة لتعزير عنصر التشويق: 1. السرد التراتبي المتصاعد: يبدأ السرد بترتيب تصاعدي للأحداث، مما يعزّز التشويق، حيث يتمّ تقديم الأفعال الأولى في الرواية بشكل تدريجي، مثلما يظهر في المشهد الافتتاحي عندما يتمّ اكتشاف البقعة الحمراء على رقبة سامي. هذا الحدث يُثير التساؤلات في ذهن القارئ حول السبب وراء تلك البقعة، مما يزيد من فضول القارئ لمعرفة التفاصيل. مثال: "نهض سامي مكتفيًا بحصّته من التوبيخ والتقريع الذي صبّه الحاج قدري على رأسه، فانكشفت ياقة قميصه عن بقعة حمراء على رقبته...". هذا التقديم المبكّر للبقعة الحمراء هو نوع من التشويق، إذ يدفع القارئ للبحث عن تفسير لهذه البقعة ومعرفة علاقة سامي بها، لكنّ الكاتبة تؤجّل الإجابة حتى فصل لاحق، ما يخلق حالة من التوتّر المستمر. 2. تقنية الاسترجاع (Flashback): بعد بناء الحدث الأولي، تتحوّل الرواية إلى تقنية الاسترجاع، حيث يعيد الراوي الحديث عن الحدث في وقت لاحق. هذا الأسلوب يُعزّز من التشويق عن طريق تأخير الكشف عن الحقيقة وإعطاء القارئ لمحات من الماضي المرتبط بالأحداث. مثال: لم تعد الكاتبة لاستئناف ذاك المشهد( البقعة الحمراء) إلّا في الفصل التاسع في الصفحة (ص148). هذه التقنية تضاعف من عنصر التشويق، حيث لا يُقدَّم تفسير الحدث بشكل مباشر، بل يتمّ التمهيد له على مدار فصول الرواية ممّا يزيد في توتّر في القارئ. 3. تقنية الذّكريات (Memories): بالنسبة للشخصية الأنثوية (شمس)، تعتمد الكاتبة على استرجاع ذكريات قديمة تظهر تدريجيًّا عبر فلاش باك، ما يعمّق من فهم القارئ لماضي الشخصية وتأثيره على حاضرها. هذه التقنية تُظهر الصراع النفسي الداخلي الذي تعيشه شمس، وهو صراع مرتبط بأحداث طفولتها وتخيّلات ماضية. مثال: "كابوسًا مروّعًا لتلك الصخرة سدّت منافذ الطريق إلى الروضة..." هذا المشهد يعكس الصراع الداخلي لشمس، ويُظهر كيف أن الماضي المخبّأ تحت طبقات الذّاكرة يؤثّر بشكل عميق على سلوكها الحالي. 4. اختلاف تقنيات السرد بين الشخصيات: تجدر الإشارة إلى أن الكاتبة استخدمت أساليب سردية مختلفة بناءً على هويّة الشخصيات. ففي حالة "سامي"، تسيطر تقنية الاسترجاع على السرد، وهي أسلوب مفضَّل عند الشخصيات الذكورية لتقديم الأحداث بشكل مختصر ومثير. بينما في حالة "شمس"، تميل الكاتبة إلى تقنية الذّكريات، وهي أكثر توسّعًا وتحمل مزيدًا من العمق العاطفي، ما يتناسب مع الشخصية الأنثوية التي تحتاج إلى فضاء أوسع لتسرد ماضيها وأحلامها. الاستنتاج: من خلال التقنيات السردية المتنوّعة التي اعتمدتها الكاتبة، يتّضح أنّها استخدمت كل تقنية لخدمة تطوّر الشخصيات ولتعميق التشويق في النص. التركيز على تقنية الاسترجاع في السرد الذكري يعكس ميل الشخصيات الذكورية إلى الاختصار والسرعة في سرد الأحداث، في حين أن استخدام تقنية الذّكريات في السرد الأنثوي يعكس طبيعة الشخصيات الأنثوية التي تتطلّب مساحات أوسع للإفصاح عن مشاعرها وتجاربها. عليه، يُمكن الاستنتاج أن الكاتبة قد توصّلت إلى تحقيق نوع من التوازن بين تقنيات السرد وتوظيفها بشكل متقن لدفع القارئ إلى مزيد من التفاعل مع تطوّرات الأحداث والتعرّف على الصراعات الداخلية لكل شخصية. ومن خلال ذلك، تنجح الكاتبة في خلق رواية مشوّقة تتنقل بين الماضي والحاضر، وتبني توتّرًا سرديًّا يعزّز من تأثير الأحداث، ويجعل القارئ في حالة من الترقّب المستمر. 2- على مستوى المضامين : 1) تقنية الثيمة كعنصر ديناميكي: استخدمت الكاتبة الثيمة (الموضوعات والأفكار) لتشكيل حركيّة دلاليّة عبر تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والطبقية التي يعاني منها المجتمع. كان لهذه الثيمات تأثير ديناميكي في دفع الشخصيات للتفاعل مع هذه القضايا، ما يُظهر كيف تؤثّر الأوضاع الراهنة في الأفراد والمجتمع ككل. الحرب ليست هدفًا بذاتها في الرواية، بل هي الأداة التي من خلالها تتفاعل الشخصيات مع هذه القضايا وتكشف عن العوار في المجتمع. مثال: العوار الفكري والثقافي والاجتماعي والديني لمجتمعها، أي القضايا أو المواضيع أو المضامين التي تنوي تشريحها ضمن أبعاد هذا العنصر الفني. هذا يبرز أن الحركيّة ليست مجرد أحداث متسارعة، بل هي أحداث ذات أبعاد اجتماعية ودينية تسير جنبًا إلى جنب مع تحوّلات الشخصيات. نرصد هذا التوازي الحركي بين الأحداث وتحوّلات الشخصيات من خلال: التوازي بين الأفراد والبنى الاجتماعية: تحاول الكاتبة تحليل العلاقة بين التحوّلات الفردية والتغيّرات الاجتماعية، حيث تستخدم الأسرة كأنموذج رئيسي. في رواية لميس الزين، نجد أن العائلة تُظهر دور السلطة الأبوية في تشكيل مصائر الأفراد داخل سياق اجتماعي معين. شخصية الحاج قدري: تمثّل الأب التقليدي الذي يتصرّف بتسلّط على أفراد أسرته ويطبّق أفكاره المتزمّتة. هذه السلطة تظهر من خلال تصرّفاته القمعية تجاه أبنائه، وخاصة تجاه سامي. فعندما يعاقب الحاج قدري سامي بسبب ذكر أسماء النساء في العائلة، يظهر كيف أن السلطة الأبويّة تتجاوز مجرّد السيطرة الاجتماعية إلى مستوى السيطرة على الأفكار والتصرّفات الشخصية لأفراد الأسرة. مثال: "...ومحاضرة في العيب والشرف وعدم إفشاء أسرار البيوت وبالذات أسماء العمّات والبنات". (ص 39) هنا يعاقب الحاج قدري ابنه سامي على تصرّفه الطفولي البريء الذي يتعلّق بذكر أسماء بعض النساء في العائلة، مما يعكس قيود السلطة الأبوية الصارمة التي تُلزم الأفراد بأن يسيروا على الطريق الذي يحدّده الآباء وفقًا للأعراف الاجتماعية التي تُعطي قيمة كبيرة لسمعة الأسرة. شخصيّة سامي : يشكّل سامي نموذجًا للتحوّل السوسيولوجي الذي يمكن أن يحدث داخل الأسر التقليدية. تُظهر الكاتبة كيف يتعرّض سامي لتغيير جذري في وعيه، عند انخراطه في المظاهرات الشعبية. كان هذا التمرّد بداية لتغيير في تفكيره الشخصي، حيث بدأ يرفض الانصياع للسلطة الأبوية الصارمة والقيود المفروضة عليه. هذا التمرّد لم يكن مجرّد رفض لوالده، بل كان بداية لاكتشافه لذاته المفقودة والمضطهدة. مثال: تطوّر من الطّاعة إلى التمرّد: المظاهرات الشعبية كانت أولى مظاهر الرفض التي أيقظت التمرّد في عقل سامي من سبات دخله مجبرًا منذ الطفولة. " شعور لم بختبر شيئًا يشبهه قبلًا؛ لقد فعلها، فعل أمرًا خارج تقاليد الأسرة وقوانينها" في وقت لاحق، يتّخذ سامي قرارات تتناقض بشكل صارخ مع الأعراف الاجتماعية، مثل زواجه من شمس التي تكبره بأكثر من اثني عشر عامًا. هذا الزواج يعكس تمرّده الكامل على العادات والتقاليد التي فرضتها عليه عائلته، وتحديدًا على الفكرة القائلة بأن المرأة يجب أن تكون أصغر سنًّا من الرجل في الزواج. لم يكن ذلك مجرّد تحدٍّ للسلطة الأبوية، بل كان أيضًا تحديًّا للأعراف المجتمعية التي تُقيّد العلاقات بناءً على معايير عمرية ثابتة. شخصية أنس: يُظهر أنس شخصية ثانية تتأثّر بشكل عميق بالقيم الدينية والعائلية السائدة. أنس، الذي تعرّض في طفولته للاعتداء الجنسي من قِبل مدير مكتبة في المدرسة، لم يجد أي دعم أو حماية من عائلته بسبب خوفه من تأثير ذلك الاعتداء على سمعة العائلة. ولذلك، يكبت أنس صدمته النفسية طوال حياته، مما يؤدّي إلى تدميره داخليًّا ويجعله يحاول الهروب من مأساته عبر الانضمام إلى المسلحين أثناء الحرب. مثال: التأثير العائلي الديني على الشخصية: أظهر أنس، الذي ألجمه الخوف على سمعة أسرته المتديّنة من البوح باسم مدير المكتبة الذي اعتدى على عفّته وهو تلميذ صغير لا حول له ولا قوة. " تذكّر التقريع والتعنيف، الذي ناله أخوه سامي لجرم، كان حتمًا أخفّ من جرمه، فتخيّل ما الذي سيقولونه عنه. أيّ خزي وأي عار! الأمر المعيب الذي حصل كان غلطته، وإلّا لماذا اختاره الأستاذ دونًا عن بقية التلاميذ" يُظهر هذا المثال كيف أن عادات الأسرة قد تساهم في تعميق معاناة الفرد، حيث يخشى أنس التحدّث عن الاعتداء بسبب خوفه من تأثير ذلك على سمعة الأسرة. هذا يشير إلى كيف تؤثّر القيم الأسرية على حياة الأفراد بشكل غير مباشر، مما يقيّد حرّيتهم في التعبير عن أنفسهم. شخصية حمزة: يُظهر حمزة نموذجًا آخر من الأبناء الذين لا يهتمّون بالقيم الأسرية، بل يستخدمونها لتحقيق مصالحهم الشخصية. بعد هجرته إلى تركيا، يُظهر حمزة كيف يمكن أن يستغلّ الشخص أو يستفيد من القيم العائلية لخدمة مصالحه الشخصية. فهو يستولي على ثروة والده ويسجّل كلّ الممتلكات باسمه، مما يعكس استهتاره بمبادئ الأسرة ويُظهر تباينًا كبيرًا بين ما يُفترض أن يكون في هذه القيم وبين تصرّفات حمزة. مثال: التسلّط على القيم العائلية: حمزة كان كما يراه سامي: "ضابط أمن أخلاق البيت،...، فهو القيّم على تنفيذ قوانين الأسرة حسب توجّهات الإدارة العليا، الممثّلة بوالديه وبقانون الحرام والعيب... " في هذا المثال، يشير سامي إلى حمزة باعتباره "ضابط أمن الأخلاق"، ممّا يعكس كيف يتمّ تقدير الشخصيات داخل الأسرة وفقًا لدرجة التزامهم بالقيم السلوكية المتزمّتة، بينما في الواقع يُظهر حمزة استفادة كبيرة من القيم التي يُفترض أن يطبّقها. شخصية خديجة: تسلّط الكاتبة الضوء على التناقضات في الأسر التقليدية من خلال شخصية خديجة. رغم أن والدها كان يفرض سلطته القويّة على الأسرة، مثل تحريمه للأغاني والموسيقى، إلّا أن خديجة تمكّنت من تحدّي هذه القيم بشكل خفي. تُظهر لنا الكاتبة كيف أن القيود الأسرية لم تمنع خديجة من التمرّد على تلك القيم، حيث كانت تغنّي في سريّة، ممّا يبرز التناقض بين الظاهر والباطن في القيم الدينية والاجتماعية. مثال: التمرّد الخفي في العائلة المتشدّدة: "تترنّم بأغاني عبد الحليم حافظ، تسمعها خلسة وتدندن بها، لكن ليس على مسمع من أبيها، فالأب ما كان ليقبل أن يكون في بيته شيء من مزامير الشيطان..." تُظهر هذه الجملة كيف أن الأيديولوجية الأسرية الصارمة لم تنجح في السيطرة على رغبات خديجة، ممّا يبين كيف أنّ الأفراد في المجتمعات التقليدية قد يجدون طرقًا للتخلّص من القيود الاجتماعية. مثال آخر: استغلال تلك القيود من قبل أحد الأولاد ومقايضتها على (بوسة) مقابل أن يحجم عن إخبار أمّها أنها نزلت الماء دون حجاب. " اخفضي صوتك، ستسمعك أمك، وتعرف أنّك نزلت الماء دون حجاب، لن أسمح لك بالخروج إلا ببوسة" هنا نجد صورة أخرى لتمرّد خديجة الخفي، حيث كانت تتعرّض لمساومات حتى في تلك الأوقات التي كانت تحاول فيها الهروب من القيود المفروضة عليها. شخصية ناهد: تمثّل انعكاسًا للضغوط الاجتماعية على المرأة في ظل ّالحرب. يمكن ملاحظة تحوّلها النفسي من امرأة تخضع للتقاليد إلى شخصية تسعى للتمرّد على الهيمنة الذكورية، مما يعكس التوتّر بين الفرد والجماعة في سياق اجتماعي مضطرب. الخلاصة من خلال تحليلات هذه الأمثلة والشخصيات، نجد أن الكاتبة لميس الزين استخدمت أسلوبًا سوسيولوجيًّا متميّزًا للكشف عن تأثير الحروب والصراعات الاجتماعية على الأسر السورية. لقد أظهرت كيف أنّ الفرد يمكن أن يكون محرّكًا للتغيير داخل بنية اجتماعية أكبر. ومن خلال شخصيات مثل سامي، أنس، حمزة، وخديجة، وناهد. استطاعت الكاتبة أن تقدّم دراسات حاليّة لمظاهر التمرّد الاجتماعي داخل الأسر السورية، مع التركيز على التناقضات الكبيرة بين القيم المجتمعية المعلنة والواقع المخبّأ. الاستنتاج : تُظهر الثيمة الصراع الاجتماعي والطبقي كعنصر ديناميكي، ما يجعل الأحداث تتطوّر عبر التفاعل بين هذه القضايا والتطوّرات في شخصية كلّ فرد. إن العوار والتابوهات المسكوت عنها تنشط وتطفو في هذه الظروف القاسية، ما يعكس التوتّرات التي تؤدّي إلى تحوّلات ديناميكية في الرواية. في رواية الفناء الخلفي، نجد أنّ الكاتبة تنهج أسلوبًا سوسيولوجيًا عميقًا لرصد التغيّرات الاجتماعية التي لحقت بالأسرة والمجتمع السوري في سياق الحروب والصراعات الاجتماعية. توظّف الكاتبة تقنية التوازي ببراعة، حيث تسلّط الضوء على تطوّر الأفراد وتحوّلات البنى الاجتماعية الكبرى (الأسرة، المدينة، المجتمع السوري ككل) في سياق الحرب. يظلّ الفرد في هذه الرواية هو محور التحوّلات والآثار الاجتماعية. تجسّد الكاتبة كيف أنّ التغييرات في الفرد تطرأ على البنى الأكبر، بينما تؤثّر القوى الاجتماعية الكبرى في التغييرات الفردية. 2) الثيمة النسوية في رواية "الفناء الخلفي": 1. تسليط الضوء على القضايا النسوية: تتناول الرواية قضايا نسوية محورية من خلال شخصياتها، لا سيما "شمس" و"ناهد"، مقدّمة دراسة معمقة لتأثير الثقافة الذكورية والحرب على تصوراتهن وهوياتهن 2. شخصية شمس: النشأة في بيئة ذكورية: شمس ضحية لبيئة قمعية يهيمن عليها الأب والأم والأخوة، حيث كانت الأم ترى أنّ "أقصى أمنياتها أن تراها مستورة في بيت زوج"، مما عكس ثقافة ذكورية تفرض أدوارًا محدّدة على النساء. أزمة الهوية: عانت شمس من عزلة نفسية واجتماعية، بسبب اختلافها عن مجتمعات النساء اللواتي يختلفن عنها في الطباع، مما يُبرز أزمة الهوية في مجتمع يفرض قيودًا ثقافية صارمة. التحوّل من الضحية إلى الواعية: بدأت شمس "إغراق نفسها بالكتب دراسة ومطالعة"، وهو ما يمثّل بداية تحولها نحو وعي ذاتي واستقلال فكري. علاقتها بسامي، رغم كونها مفروضة في البداية بسبب "حاجة الجسد ضمن إطار شرعي"، تطورّت إلى "علاقة تشاركية واعية". ما يعكس فهمها الجديد للشراكة بين الرجل والمرأة. التحديات الاجتماعية: تعرّضت شمس لتنمّر من جيرانها ووُصفت بأنها "أكثر مما تستحق". ممّا يعكس الواقع الاجتماعي القمعي. صراعها مع أسرة سامي يبرز رفض المجتمع لاستقلال المرأة، حيث واجهت رفضًا لاختلاطها بالرجال وعملها. 3. شخصية ناهد: النضال ضد زواج غير متكافئ: تعرّضت ناهد لخيانة زوجها وزواج غير متكافئ، ما أدّى إلى طلاقها وتحملها مسؤولية تربية ابنها المراهق المتمرّد. التحدّيات الجسدية والاجتماعية: يُبرز النص صراعها مع رغباتها الجنسية، حيث تصف الرواية هذا الصراع بعبارة: "جوع الجسد للجنس" ، متزامنًا مع "نباح الحرب" ، ممّا يعكس العلاقة بين الرغبة الفردية والواقع المجتمعي القاسي. تساءلت ناهد: "أي رجل سيرضى أن يتزوّج من امرأة لديها ابن أطول منها؟" ممّا يُبرز معاناة المرأة المطلّقة في مجتمع ذكوري يوصم النساء. 4. الأبعاد الذرائعية في تحليل الثيمة النسوية: أ. على المستوى الاجتماعي: تُظهر الرواية القمع الاجتماعي الذي تواجهه النساء عبر توقّعات الزواج، رفض عمل المرأة، والتمييز ضد المطلقات. ب. على المستوى النفسي: شخصية شمس: بدأت كضحية، لكن وعيها تطور عبر القراءة، مما مكّنها من تحدي الأعراف الاجتماعية. شخصية ناهد: صراعها بين الرغبات الجسدية والقيود المجتمعية يُبرز تأثير الحرب على العقل الباطن. ج. على المستوى الأخلاقي: تنتقد الرواية الأخلاق المزدوجة في المجتمع، مثل "التشدّد بالحلال" و"الحرمان من حقوقهن الجنسية" باعتبارها أدوات لقمع المرأة. د. على المستوى الفلسفي: يظهر تزامن بين "نباح الحرب" و"جوع الجسد"، حيث يتحول الجسد إلى أداة للاحتجاج على القمع والهيمنة. 5. الهدف الذرائعي للرواية: تهدف الرواية إلى رفع وعي القارئ بالقضايا النسوية وتقديم دعوة للتفكير في أشكال القمع والمقاومة التي تواجهها النساء. النص يُقدم رؤية شمولية لمعاناة المرأة، ويحث القارئ على تبني موقف يدعو إلى التغيير الاجتماعي. 6. الاستنتاج: الرواية ليست مجرد طرح لقضايا نسوية، بل هي نص أدبي تحليلي يعكس أبعادًا نفسية، اجتماعية، وأخلاقية لمعاناة النساء. باستخدام المنهج الذرائعي، تقدم الرواية رؤية عميقة للتشابك بين الأبعاد المختلفة لتجربة المرأة، مما يجعلها أداة لإثارة الوعي وتحفيز التغيير. 3) ثيمة الجسد: في كتابه ( الجسد في رواية الحرب السورية ) ، يقتبس حسان عباس، مؤلّف الكتاب، عبارة لفريد الزاهي تقول:" الجسد يتدخّل بشكل مباشر في عملية إنتاج النّص وكتابته، ويشكّل المخزون الذاتي للذّات المؤلّفة التي تثوي، بشكل أو بآخر وراء النص، وينقل اللّغة من التواصل الشفوي إلى صورتها المكتوبة". فالجسد، بهذا الدور، يحمل محاور تاريخية وثقافية ودلالية، لأنه ينتمي إلى مجتمع بشري يحمل ثقافته ويعكس فيه سلوكيّاته وأفعاله، فهناك علاقات متداخلة بين الجسد الروائي والجسد الاجتماعي. ويُحسب للميس الزين أنّها كانت واعية تمامًا لهذه الثيمة، على اعتبارها تلك العلاقات المتداخلة بين الجسد بوصفه بعدًا فنيًّا روائيًّا، وبين الجسد كسياق اجتماعي، والحرب كمتغيّر زمكاني طارئ يمكنه أن يحدث تغييرًا في البناء الطبقي للمنظومة الاجتماعية، أو في وظائفها السياسية والاقتصادية، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية لأفراد المجتمع، أو في كلّ ما ذكر. تتناول لميس الزين في روايتها "الفناء الخلفي" ثيمة الجسد كعنصر رئيسي في بناء الرواية وفهم تحوّلات الشخصيات. هذا الجسد ليس مجرّد أداة بيولوجية، بل هو مساحة دلالية وفكرية تعكس التغيّرات الاجتماعية والنفسية التي تمرّ بها الشخصيات في سياق الحرب. الجسد هنا يمثّل التداخل بين السياق الاجتماعي، الثقافي، والنفسي، ويتحوّل إلى رمز للصراع الداخلي والتغيّرات التي تطرأ على هويّات الشخصيات نتيجة ظروف الحرب. الجسد كدلالة اجتماعية وثقافية: في بداية الرواية، تقدّم لميس الزين صورًا دقيقة للجسد في سياق اجتماعي قاسي، حيث يعكس الجسد معاناة الأشخاص بسبب الحرب. تظهر النساء اللواتي يذهبن إلى الجمعية الخيرية بحثًا عن المعونات في صورة جسدية تدلّ على الفقر والحرمان. تقول الزين: "غالبية النوع الأول، كنّ من النساء المحجّبات، يرتدين مانطو طويل، يدلّ قماشه الرخيص والألوان الباهتة، على قدومهنّ من حارات شعبية فقيرة. ربما كنّ من عائلات بدأت بالنزوح من قرى الريف الشرقي". هذه الصورة تعكس كيف يمكن للجسد أن يكون مؤشّرًا على الطبقات الاجتماعية المتأثّرة بالحرب، حيث تتحوّل الأجساد إلى دلالة على التهميش والبطالة، ما يعكس تأثير الظروف الاجتماعية على الأفراد. الجسد في السياق الديني والقيود الاجتماعية: يبرز الجسد أيضًا في سياق ديني صارم، حيث يرتبط بالقيود الأخلاقية والاجتماعية التي تفرضها البيئة السلفية التي نشأ فيها بعض الشخصيات. في حالة "أنس"، يعكس الجسد تمزّقًا داخليًّا بسبب الاعتداء الجسدي تعرّض له في الطفولة من قبل "وضاح" مدير المكتبة، وهو ما لم يُعالج بسبب القيم الدينية التي تحظر أيّ تلامس جسدي. تقول الرواية: "لم تدفن حادثة اعتداء (وضاح) أمين المكتبة على عفّته وهو طفل في مقبرة النسيان، وإنّما ركدت ركودًا فقط، إلى أن جاءت الحرب التي وجد فيها خلاصًا شرعيًّا" . هذا المثال يعكس العلاقة المعقّدة بين الجسد والمعتقدات الدينية الصارمة، حيث يصبح الجسد مكانًا للتخفّي والإنكار. الحرب هنا لا تقتصر على القتال الخارجي، بل تحوّل الجسد إلى ساحة من الصراعات النفسية والوجدانية. الجسد كأداة للتحوّل في العلاقات الشخصية: في سياق العلاقات الشخصية، يبرز الجسد كأداة للتحوّل النفسي والوجداني. شخصية "سامي" تمثّل هذا التحوّل، إذ نشأ في بيئة تحظر التلامس الجسدي، ليجد نفسه فجأة في مواجهة مع جسد المرأة في علاقة جديدة. تقول الرواية: "مدّت يدها تصافحه، وجد سامي نفسه يمدّ يده، وهو الذي اعتاد ألّا يصافح النساء. شعر بقشعريرة تسري بيده من لمسة الأصابع النحيلة والباردة". هذا التفاعل الجسدي يظهر كيف أنّ الجسد يصبح أداة لاكتشاف الهوية والحرية الشخصية، متجاوزًا الحدود المجتمعية التي كانت تقيّد الشخصيات. التحوّل الجسدي هنا ليس فقط تغييرًا في العلاقات الشخصية، بل هو أيضًا مؤشر على التغيير النفسي الذي يمرّ به سامي. الجسد والحروب الداخلية: التحوّلات الجسدية تظهر أيضًا في سياق الصراع الداخلي، حيث يُستخدم الجسد كرمز للحاجة الإنسانية التي تسعى إلى إشباعها. شخصيات مثل "شمس" و"ناهد" تظهران طرقًا مختلفة للتعامل مع أجسادهن، حيث تسعى "شمس" إلى إشباع حاجتها الجسدية في إطار الزواج الشرعي، بينما تبحث "ناهد" عن إشباعها من خلال علاقة غير شرعية، ولكنها تفشل في الحفاظ على هذه العلاقات. تقول ناهد: "شمس انطلقت من نظرتها لنفسها، ماذا لو كانت طبيعتها تختلف عن طبيعتي؟ حاجتها للآخر أقل، رغباتها أقل؟" . هذا المثال يظهر كيف يمكن للحرب أن تؤثّر في فهم الفرد لاحتياجاته الجسدية والنفسية، حيث تصبح الحروب المدمّرة عاملًا في تغيير رغبات الأفراد وتوجّهاتهم تجاه الجسد. تأثير الحرب على الاستقرار الاجتماعي والجسدي: الحرب في الرواية تمثّل تدميرًا للمفاهيم الثابتة في الحياة الاجتماعية والعاطفية، بما في ذلك العلاقات الجسدية والعاطفية. "هل هناك صلة بين الحروب المجنونة وقلوب باتت على قيد الخيبات والخيانات؟" تطرح الرواية هذه الأسئلة لتوضّح كيف أنّ الحرب لا تدمّر الأجساد فقط، بل تؤثّر أيضًا على الروابط الإنسانية والعاطفية. في السياق الاجتماعي المأزوم، يُصبح الجسد ضحية جديدة للحرب، حيث يفقد الأفراد استقرارهم العاطفي والجسدي. تقول الرواية: "هل نالت الحرب من الحبّ أيضًا؟ أم أنّ لحظة الفرح التي حملتها إلينا فردة حذاء سندريللا، وهي تناسب قدمها دون كلّ الأقدام... إنّ النهايات السعيدة مرتبطة بوجود جنّية لا وجود لها" . هذا السؤال يربط بين الحرب والحب، ويظهر كيف أنّ الأوطان المأزومة بالحروب لا تستطيع توفير الاستقرار الداخلي للفرد. الاستنتاج: من خلال هذه الأمثلة والتحليلات، يتّضح أنّ الجسد في رواية لميس الزين ليس مجرّد عنصر مادّي، بل هو مساحة دلالية تعكس التحوّلات النفسية والاجتماعية في ظلّ الحرب. الجسد في هذه الرواية يُمثّل صراعًا داخليًا بين الأفراد وواقعهم الاجتماعي والديني والسياسي، ويصبح مرآة للتغيّرات التي تطرأ على هويّة الشخصيات. كما يُظهر أنّ الحرب لا تقتصر على تدمير البنية المادية للمجتمع، بل تشمل أيضًا تدمير الروابط الإنسانية والعاطفية، ممّا يؤدّي إلى تفكّك الاستقرار الجسدي والنفسي. بناءً على ذلك، يمكن القول إنّ الجسد في الرواية يُظهر كيف أنّ الحرب تؤثّر على الفرد بشكل شامل، ليس فقط من خلال التدمير المادي ولكن من خلال تدمير الهويّة والرّوح. كما أكّد حسّان عبّاس في كتابه "الجسد في رواية الحرب السورية"، فإنّ الجسد لا يمكن فصله عن السياقات الثقافية والاجتماعية، وهو يعكس التوتّرات التي تطرأ على الشخصيات في ظروف الحرب. 4) ثيمة النزوح : تعدّ ثيمة النزوح من أهمّ الموضوعات التي تتناولها الكاتبة لميس الزين في روايتها، حيث تفرد لها الفصل السادس لتسليط الضوء على أسبابه المختلفة، وتداعياته النفسية والاقتصادية والاجتماعية. بالنظر إلى سياق الحرب السورية، يعكس النزوح ليس فقط انتقال الأفراد من مناطق الاشتباك، بل أيضًا تدهور الوضع النفسي والاجتماعي لهم. أسباب النزوح وتداعيات الحرب: الحرب في حلب لعبت دورًا مركزيًا في دفع الناس إلى اتخاذ قرار النزوح. وفقًا لرواية الكاتبة، كانت الاشتباكات اليوميّة بين مسلّحي المعارضة والجيش النظامي تتسبّب في تدمير الأحياء وسقوط قذائف عشوائية. تقول الرواية: "صارت الاشتباكات حدثًا يوميًّا قذائف تسقط دون سابق إنذار فتهدم وتدمّر، ورصاص يتطاير فيقتل ويروّع، النزوح لم يعد خيارًا، بل بات ضرورة للنجاة بنفسك ومن معك". هذا النص يعكس الواقع العنيف الذي لا يترك خيارًا آخر أمام السكان سوى الهروب من المناطق التي تكون تحت تأثير الحروب المفتوحة. وكان النزوح يتّسم بظاهرة واسعة لم تقتصر على الانتقال بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والمعارضة فقط، بل شمل أيضًا المناطق القريبة من خطّ التماس التي تحوّلت إلى مناطق ساخنة، مما دفع العائلات إلى البحث عن مأوى في أحياء أقل خطرًا. تقول الرواية: "النزوح لم يقتصر على الانتقال من مناطق سيطرة المسلحين إلى مناطق النظام، المناطق والأحياء القريبة من خط التماس أيضًا تحوّلت إلى مناطق ساخنة". تظهر هذه الفقرة تنوّع أسباب النزوح الذي يتراوح بين الخوف من الاشتباكات العسكرية إلى تدمير المنازل بسبب القصف العشوائي. تفاوت مستويات النزوح بين الطبقات الاجتماعية: رصدت الكاتبة التفاوت بين الطبقات الاجتماعية في تحمل تَبِعات النزوح، فقد كان بعض الناس قادرين على الانتقال إلى بيوت أقاربهم أو إلى منازل فارغة حفاظًا على ممتلكاتهم، بينما كان البعض الآخر مضطّرًا للّجوء إلى المساجد، المدارس، أو حتى الأرصفة. تقول الرواية: "كلّ ولّى وجهه شطر وجهة تأويه، بيت قريب أو نسيب فُتح لاستضافتهم، أو بيوت سافر أصحابها، فعُرضت للسكنى حفاظًا على أثاثها من التعفيش" . يظهر هذا الاختلاف الطبقي في كيفية تأمين مأوى يحقّق الحدّ الأدنى من الراحة، ويجسّد الفجوة الكبيرة بين الفئات الاجتماعية في فترة النزوح. المعاناة النفسية في مسألة التكيّف: أحد الجوانب النفسية البارزة التي تناولتها الكاتبة عبر الشخصية المحورية شمس هو الصراع الداخلي الذي يواجهه النازحون عند الانتقال إلى مكان جديد. تعرض الرواية الوضع النفسي لشخصيات مثل شمس، التي كانت تجد صعوبة كبيرة في التكيّف مع مكان جديد. تقول الرواية: "كانت كالكثيرين الذين لا يدركون مدى توحّدهم مع المكان الذي يعيشون فيه، إلّا حين يغادرونه مرغمين ومكرهين". هذه الجملة تعكس عمق ارتباط الشخصيات بالأماكن التي عاشوا فيها طوال حياتهم، ويصبح النزوح بمثابة فقدان الهويّة والمكان. بالإضافة إلى ذلك، تتناول الكاتبة عبر شمس كيف أن مسألة التكيّف مع بيئة جديدة تصبح أكثر تعقيدًا عندما تتعلّق بتفاصيل شخصية دقيقة، مثل تفضيلات الفرد واحتياجاته اليومية. تقول الرواية: "كيف لها أن تتكيّف في بيت ليس بيتها، وهي التي تمتنع عن تنشيف يدها بغير منشفتها، وتتوتّر من شرب القهوة بغير فنجانها" . من خلال هذه التفاصيل، تنقل الكاتبة مدى عذاب شمس في التكيّف مع بيئة غير مألوفة، وهو أمر يعكس المعاناة النفسية للنازحين الذين يجدون أنفسهم في أماكن جديدة لا يشعرون فيها بالأمان أو الراحة. الاستنتاج: تسلّط لميس الزين الضوء على الأبعاد المتعدّدة لموضوع النزوح في سياق الحرب السورية، وتُظهر كيف أنّ هذه الظاهرة تتجاوز الانتقال المكاني لتصبح أزمة نفسية واجتماعية مركّبة. الشخصيات في الرواية، مثل شمس، تكشف عن عمق الصراع الداخلي الذي يصاحب النزوح، الذي لا يقتصر على فقدان المكان، بل يشمل أيضًا أزمة التكيّف مع مجتمع جديد وبيئة غريبة. وفي النهاية، يعكس النزوح في الرواية تدميرًا للهويّة الفردية والجماعية ويعزّز من ثقل الحرب على الحياة النفسية للأفراد. 5) الثيمة الاقتصادية : خصوصية الوضع الاقتصادي التجاري الحلبي في ظل تلك الحرب: تُظهر لميس الزين في روايتها كيف تتداخل الأبعاد الاقتصادية مع الأبعاد الاجتماعية والثقافية في حلب خلال الحرب السورية، خاصةً فيما يتعلّق بالصراع الطبقي بين سكّان المدينة وأبناء الريف. تتسلّسل الفكرة عبر سلسلة من الأحداث والشخصيات التي تعكس الواقع الاقتصادي والتجاري في تلك الفترة العصيبة. الصراع الطبقي بين أهل المدينة وأبناء الريف: تبدأ الكاتبة بتناول التوتّرات الاجتماعية التي كانت قائمة بين الطبقات المختلفة في حلب، وتحديدًا بين أهل المدينة والتجّار من جهة وأبناء الريف من جهة أخرى. يعكس هذا الصراع الطبقي فكرة "الحقد الطبقي"، حيث يرى أبناء الريف أنّ التجارة في المدينة قد سلبت منهم الفرص والمكاسب، خاصّة في ظلّ الحرب التي تسبّبت في تدمير العديد من المحلّات التجارية والمصانع. في هذا السياق، يروي سامي لشمس: "ولا تنسي أنّ كثيرًا منهم يحقد علينا، ويرى أنّ المكاسب التي حقّقناها بمجهودنا مستلبة من حقّهم الضائع في قراهم البعيدة عن التحضّر والمدنّية". هذه الفكرة تكشف عن العزلة الطبقية بين سكان الريف وأهل المدينة الذين يعتبرون أنفسهم أكثر تحضّرًا وتمدّنًا. ارتباط الحرب بالصراع الطبقي: ثم تتطوّر الفكرة لتشمل دور الحرب في تكريس هذا الحقد الطبقي، خاصة عندما يُحمّل أبناء الريف مسؤولية التدمير الذي لحق بالمدينة بسبب الثورة المسلّحة. في هذا السياق، يقول سامي: "اعلمي أن معظم هؤلاء الذين حملوا السلاح، وقتلوا وفجّروا هم من أبناء الريف. برأيك من له مصلحة في حرق سوق المدينة سوى هؤلاء الممتلئين حقدًا طبقيًّا على التجّار وأبناء المدن؟!" . يُظهر هذا التصوّر كيف أنّ الحرب لم تكن فقط صراعًا بين النظام والمعارضة، بل أيضًا صراعًا اجتماعيًا بين طبقات وفئات مختلفة من الشعب السوري. ورغم ذلك، تسأل شمس سامي عن مسؤولية أهل المدينة في هذا الوضع، فيجيب سامي: "ربّما نكون أسهمنا، أقول ربّما...". هذه الإجابة تفتح بابًا للتساؤل حول مدى تأثير سلوك الطبقات الحضرية في تعزيز هذا الحقد الطبقي، ممّا يعكس تأمّلات الكاتبة في العلاقة المعقّدة بين طبقات المجتمع في ظلّ الحرب. تحوّل نمط العمل: تُقدّم لميس الزين أيضًا قضية "البسطة" والبيع بالوكالة كأحد الحلول الاقتصادية التي تمّ التوجّه إليها في ظلّ انهيار الاقتصاد وتدمير المحلّات التجارية في المدينة. سامي، الذي فقد محلّاته بسبب الحريق، يتّجه إلى التجارة بالبيع على الرصيف، مستعينًا بمساعدة شمس المادية. تشير الكاتبة إلى التحدّيات التي واجهت أصحاب البسطات، مثل تقلّبات الطقس التي كانت تعيق البيع والشراء. تقول الرواية: "كانت تقلّبات الطقس عائقًا للبيع والشراء، لم يجد سامي وسيلة للتغلّب عليها إلا بنصب مظلّة تقي البائع والبضائع من تغيّراته". هذه التفاصيل تسلّط الضوء على المعاناة اليومية للتجار الصغار وكيف أنّ الظروف البيئية القاسية كانت تشكّل تحدّيًّا إضافيًّا لهم. الأثر النفسي والتطوّر الذاتي: لكن في خضمّ هذا التحدّي، تجد الكاتبة أنّ العامل الأهم هو التحوّل النفسي والاجتماعي الذي يصاحب العمل في البسطة. سامي، الذي كان يعمل في متجر والده، يحقّق تطوّرًا ذاتيًّا لم يكن يتوقّعه. تقول الرواية: "خلال بضعة أشهر حقّق سامي إنجازًا أهمّ من الدخل المادّي البسيط، وهو الشعور بالثّقة، والقدرة على إدارة أمور العمل وحده، وهو شيء لم يسبق له أن فعله حين كان يعمل مع أبيه" . هذا التحوّل يظهر كيف أنّ الظروف الاقتصادية المزرية قد تدفع الأفراد نحو اكتشاف قدراتهم الذاتية، وهو ما يعكس القوّة النفسية في مواجهة التحدّيات. استمرار الإنتاج في ظلّ الحرب: ورغم الأوضاع الصعبة، فإنّ الكاتبة تؤكّد أنّ التجّار الحلبيين، الذين وُلدوا في بيئة تجارية، لم يتوقّفوا عن العمل. تروي الكاتبة عن استمرار بعض مصانع الألبسة في العمل، رغم أنّ الظروف كانت قاسية للغاية. تقول الرواية: "البضائع لم تنقطع من أسواق حلب، الكثير من ورشات الألبسة ..... استمرت بالإنتاج، رغم ظروف الحرب القاهرة مستعينة بمولّدات الكهرباء". تُظهر هذه الفقرة صمود تجّار حلب في مواجهة صعوبات الحرب، ممّا يعكس روحًا من الإصرار والعزيمة. الاستنتاج: من خلال هذه الثيمة، تكشف لميس الزين عن تعقيدات الوضع الاقتصادي في حلب أثناء الحرب، حيث يندمج الصراع الطبقي مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة ليُنتج نوعًا من التكيّف الاجتماعي والاقتصادي. ومن خلال شخصية سامي، تُظهر الكاتبة كيف أنّ التجارة الحلبية، التي تأثّرت بشكل كبير بسبب الحرب، كانت تحمل روحًا من الإصرار والمثابرة على الرغم من كافّة التحديات. وبالتالي، يعكس هذا الصراع الطبقي، الذي يعمّق الجراح الاجتماعية، قدرة الأفراد على التكيّف مع الأزمات الاقتصادية وتحويلها إلى فرص للتطوّر الذاتي والمهني. 6) الثيمة السياسية : تتجنّب لميس الزين الخوض في التفاصيل السياسية بشكل مباشر، بل تعرض الوضع السياسي في روايتها من خلال إشارات دلالية تُظهر تأثير السياسة على حياة الناس بشكل غير مباشر. ففي حين أنّ السياسة تظهر في الحديث العام أو في الشاشات الإعلامية، فإنها تبقى مسألة ثانوية بالنسبة للعديد من الشخصيات، مثل التجّار في سوق المدينة الذين يُبدون قلقًا من تأثير الوضع السياسي على أعمالهم، دون أن يتدخّلوا في السياسة نفسها. وتُظهر الرواية هذه الفكرة من خلال هذه الجملة: "لكن دون التدخّل في السياسة، كيف؟ ببساطة، تعويد النفس على الالتزام بسياسة (من يتزوّج أمّي يصبح عمّي)، أمّا السياسة فلا تهمّهم إلا بالقدر الذي قد يؤثّر على أشغالهم من أحوال البلد". هذه الفقرة تُبرز كيف أنّ السياسة تُعامَل كمؤثّر جانبي في حياة هؤلاء الأفراد، فهم يلتزمون بسياسة الانسحاب منها ما دام الأمر لا يتعلّق بمصالحهم الاقتصادية. الإشارات السياسية من خلال وسائل الإعلام: كما تستخدم الكاتبة وسائل سردية مثل نشرات الأخبار في محطات التلفزة المحلية والعالمية لتوسيع الأفق السياسي في الرواية. على سبيل المثال، يظهر أنس وهو يشاهد تقريرًا إخباريًا عن الأستاذ وضّاح أمين المكتبة، الذي أصبح الآن جزءًا من الوفد الحكومي. يُظهر هذا الموقف كيف أنّ الشخصيات في الرواية مرتبطة بالواقع السياسي من خلال مشاهد عابرة على التلفاز، وهذا يترجم مواقفهم تجاه الأحداث السياسية بشكل غير مباشر: "ظهر في لقطة الآن، ضمن وفد حكومي". هذا المشهد يكشف عن تحوّل بعض الشخصيات من جزء من النظام إلى ممثلين رسميين له، ممّا يعكس في الوقت ذاته كيف أنّ البعض قد يتجاهل الماضي المؤلم من أجل الاستفادة من الوضع الجديد. نقد الثورة والسياسة الخارجية: ثم تتناول الكاتبة نقدًا لواقع الثورة من خلال شخصية (عادل)، الذي يظهر في تقرير إخباري على شاشة التلفاز بصفته ناشطًا سياسيًا في المرصد السوري لحقوق الإنسان. يناقش عادل التآمر الخارجي ويحمّل المسؤولية عن فشل الثورة لأولئك الذين "تاجروا واستفادوا" من هذا الوضع، مؤكّدًا أنّ "حجم التآمر الخارجي كان كبيرًا. المتسلّقون هم من تاجروا واستفادوا، الثورة لم تكن همّهم؛ همّهم المال والشهرة". هذا النقد لا يقتصر فقط على الأطراف الخارجية، بل يشير أيضًا إلى الفساد الداخلي الذي أدّى إلى تقويض الثورة. لكن شمس، الشخصية الرئيسية، تتنصّل من هذا النقاش السياسي لتتوجّه نحو قضايا أكثر إنسانية: "غابت بين الأقدام الصغيرة الغائصة في الطين البارد، هؤلاء همّهم حذاء وسقف آمن ورغيف". هذه الكلمات توضّح أن شمس ترى في النهاية أنّ مآسي الشعب السوري لا تتمحور حول الخلافات السياسية بقدر ما تدور حول المعاناة الإنسانية للناس الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وقعوا ضحايا لهذه الصراعات. الاستنتاج: تُظهر لميس الزين في روايتها كيف أنّ السياسة تظلّ تأثيرًا غير مباشر على حياة الناس، خصوصًا أولئك الذين يتعرّضون للدمار بسببها. عبر شخصيات مثل سامي وشمس، تُعبّر الرواية عن حالة من العزلة السياسية التي يعيشها معظم الناس، الذين يعانون من أزمات شخصية واجتماعية، بعيدًا عن الانتماءات السياسية أو الطائفية. إنّ محورية الشخصيات التي تُعاني من الفقر والنزوح تُظهِر تعقيد الوضع السياسي في سوريا، حيث أنّ الاهتمام بالحياة اليومية والمشاكل الإنسانية يغلب على التفكير السياسي في أذهان الشخصيات. تُبدي الرواية موقفًا نقديًا غير مباشر تجاه جميع الأطراف السياسية والطائفية في الحرب السورية، موجهةً الضوء على أولئك الذين يعانون من آثار الحرب دون أن يكون لهم دور فاعل فيها. في هذا السياق، ترتبط الرواية بالوضع السوسيولوجي المعاصر، حيث تُظهر الكاتبة كيف أنّ الحروب والتوتّرات السياسية تقوّض الهويّات الفردية والجماعية، وتُعزّز من العزلة الاجتماعية والنفسية التي يعيشها الأفراد في المناطق المتأثّرة بالصراع. 7) ثيمة الهجرة: تُعدّ الهجرة موضوعًا مركزيًا في رواية لميس الزين، وقد تناولته الكاتبة من زاوية مغايرة للمألوف الواقعي، حيث عرضت تأثيرات الهجرة على المجتمع الحلبي خلال فترة الحرب، موضحة تأثيراتها السلبية على البنية الاجتماعية والطبقية والتركيبة الثقافية للمجتمع. على عكس التصور التقليدي للهجرة المرتبط بازدحام "مراكز الهجرة، وتصديق الوثائق والأوراق الثبوتية" و"ازدهار تجارة تهريب الأشخاص إلى تركيا، ومن هناك إلى اليونان فأوروبا" ، تناولت لميس الزين الهجرة كظاهرة اجتماعية تخلق نوعًا من التوتر والتغيير في الأنساق الثقافية والاجتماعية للمجتمعات المستقبلة. - الهجرة وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية في حلب: تُظهر الرواية كيف أن الهجرة، خاصةً من سكان الريف إلى المدينة، أحدثت تغييرات كبيرة في حياة المجتمع الحلبي. بعد دخول الحرب عامها الرابع، ازداد عدد الراغبين في الهجرة الذين قاموا ببيع ممتلكاتهم أو تأجير بيوتهم لعائلات كثيرة الأولاد، مما أدّى إلى تداخل ثقافات مختلفة وأساليب حياة متباينة. يعكس هذا "التغيّر الديموغرافي" العشوائي تدهورًا في الذوق العام والثقافة الجمعية، حيث ظهرت سلوكيات غريبة وغير مقبولة من القاطنين الجدد: "أصوات صراخ القاطنين الجدد، وارتجاج السقف تحت خبط أقدامهم، كانت أقل الإزعاجات، فمن رمي الأوساخ وماء الغسيل، إلى صوت الأغاني الهابطة الذي يصدح حتى وقت متأخّر..." هذه السلوكيات أزعجت شمس، التي كانت تعيش في بيئة تقدّر الثقافة والأدب، ممّا جعلها تشعر بأنّ ثقافتها المكتسبة طوال حياتها لن تجد مكانًا في هذا الواقع الجديد الذي يعمّه الفوضى. تزداد الحدّة في التباين بين الثقافات عندما تواجه شمس شخصية جديدة تمثل هذه الفجوة الثقافية بوضوح، مثل المرأة التي ترتدي ثوبًا ضيقًا، وتمضغ العلكة، وتجيب على اعتراض شمس بعبارة "يعني إذا ما عندك أولاد، بتمنعي أولاد العالم من اللعب؟". هذه الصورة تُبرز الفرق بين الثقافة السائدة قبل الحرب والتي كانت تقدّر الجمال والأدب، وبين الثقافة التي جاءت مع تدفق الهجرة، حيث تتعرّض القيم الثقافية للمجتمع الحلبي التقليدي للتحدّي. الهجرة إلى الخارج: التأقلم والاندماج تُظهر الرواية أبعادًا متعدّدة للهجرة إلى الخارج، وبالأخص إلى الدول الأوروبية، حيث يواجه اللاجئون السوريون تحدّيات معقّدة تتعلّق بالتأقلم والاندماج. التكيّف مع بيئة جديدة يُبرز صعوبة تعلّم اللّغة بالنسبة لكبار السن، إذ يمثّل "عائق اللّغة أحد أبرز العوائق التي تحدّ من اندماجهم". بالإضافة إلى ذلك، تعكس الرواية التحوّلات الثقافية والدينية التي يمرّ بها بعض اللاجئين، كما يشير سامي لشمس: "عن أشخاص تخلّوا عن دينهم وانضموا للكنيسة، حين وجدوا منها اهتمامًا ورعاية افتقدوها في بلادهم وفي مساجدهم". هذه الملاحظة تسلّط الضوء على كيفية تأثير الهجرة على الهويّات الثقافية والدينية للأفراد، حيث يجد البعض أنفسهم أمام خيارات معقدة تفرضها البيئة الجديدة. الاندماج في المجتمعات الأوروبية تصوّر الرواية بدقّة عملية الاندماج في المجتمعات الأوروبية، موضّحة كيف تُجبر القوانين الصارمة اللاجئين على التكيّف مع الواقع الجديد. تقول الرواية: "الكلّ هنا يحترم القوانين طائعًا أو مكرهًا، حتى أؤلئك الذين كانوا في بلادهم مثالًا للتمرّد واللاانضباط، صار هنا حملًا وديعًا...". هذه السلوكيات الجديدة تعبّر عن التأثير الكبير للسياسات الحكومية التي تُعزّز الانضباط الاجتماعي. ومع ذلك، تبقى هناك توتّرات نفسية واجتماعية ناتجة عن اختلاف الثقافات والقيم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة. خلاصة تحليل المستوى الديناميكي : يكشف التحليل الديناميكي عن براعة لميس الزين في استخدام المكوّنات الديناميكية في الرواية لتصوير التفاعلات المتبادلة بين الشخصيات والبيئة الاجتماعية والاقتصادية المحيطة. يظهر أن التحوّلات في هويّات الشخصيات وعلاقاتها مع المجتمع ليست مجرد تطوّرات داخلية، بل هي انعكاس مباشر لتأثير الظروف الخارجية مثل الحرب، الهجرة، والأزمات الاجتماعية. الرواية تقدّم رؤية عميقة لكيفية تشكيل القوى الخارجية للسلوكيات والقرارات الفردية، مما يُبرز الطبيعة المعقدة لتفاعل الفرد مع محيطه. تتجلّى الديناميكية من خلال التطوّر المستمر للشخصيات، حيث يؤدي التفاعل مع البيئة إلى إعادة صياغة مواقفهم وعلاقاتهم، مما يجعل الهويات والسلوكيات في حالة تغير دائم. هذا التحليل يعكس فهمًا مركبًا للعلاقات بين الفرد والمجتمع، مؤكدًا على أن الشخصيات لا تعيش بمعزل عن بيئتها، بل تتأثّر بها وتؤثّر فيها بشكل دائم. الاستنتاج: تُظهر رواية لميس الزين الهجرة كظاهرة مركّبة لها آثار كبيرة على التكوين الاجتماعي والثقافي للمجتمعات. في حالة الهجرة داخل سوريا، تبرز الفجوة بين الثقافات والممارسات الاجتماعية المختلفة نتيجة للاختلاط العشوائي بين سكان المدينة وسكان الريف، ممّا يؤثّر بشكل كبير على الحياة اليومية والتقاليد الثقافية للمجتمع الحلبي. أمّا في حالة الهجرة إلى الخارج، تتبيّن التحدّيات التي يواجهها اللاجئون في محاولة الاندماج في المجتمعات الجديدة، مع تأثير القوانين والسياسات المحلية التي تسهم في إعادة تشكيل سلوكيّاتهم وهويّاتهم. من خلال هذه التراكمات الاجتماعية والثقافية، تُقدّم لميس الزين صورة معقّدة للهجرة التي لا تقتصر فقط على التنقّل الجغرافي، بل تمتدّ لتشمل تحوّلات عميقة في الهويّات الثقافية والاجتماعية للأفراد. من خلال الرواية، نجد أنّ لميس الزين قد سلّطت الضوء على تأثيرات الحرب والهجرة في تغيير الأنماط الاجتماعية، النفسية والاقتصادية للأفراد، حيث تتداخل هذه التأثيرات مع تطوّر الشخصيات وتحوّلاتها في سياقات متعدّدة. من المنظور الذرائعي: إذا نظرنا إلى هذه التحوّلات من منظور تحليل ذرائعي، نجد أن المستوى الديناميكي للشخصيات يمثّل حالة من التفاعل المستمر مع الظروف الاجتماعية المحيطة، بحيث تؤثّر هذه الظروف في بناء وتشكيل هويّاتهم وسلوكياتهم. 1. التفاعل الاجتماعي والاقتصادي: في الحالة الاقتصادية، يظهر تأثير الحرب على البنية التجارية للمجتمع الحلبي من خلال شخصيات مثل سامي، الذي بدأ حياته كـ "تاجر"، ثم اضطّر بسبب الظروف إلى العمل على "البسطة" ليكسب رزقه. هذا التحوّل يعكس تحوّلًا ديناميكيًا في هويته الاقتصادية، حيث أُجبر على التكيّف مع بيئة اقتصادية جديدة تفرض عليه الاستمرار في العمل رغم الظروف القاسية. هذا التغيير يتناغم مع مفهوم "الديناميكية الاقتصادية" من خلال التفاعل بين القوى الخارجية (الحرب، الأزمة الاقتصادية) والأفعال الفردية (التحوّل إلى البسطة، التكيّف مع متطلّبات الحياة). 2. الهويات الثقافية والطبقية: الهجرة إلى الخارج تمثل تحوّلًا ديناميكيًا آخر، حيث تتشكّل هويات جديدة للفرد بناءً على تفاعلاته مع بيئة مختلفة. في حالة اللاجئين السوريين في أوروبا، يظهر التحليل الذرائعي كيف أن الاندماج في المجتمعات الجديدة أدّى إلى تحوّلات اجتماعية ونفسية. المهاجرون، مثل الشخصيات التي تغيّرت في الرواية (مثل الأشخاص الذين تخلّوا عن دينهم)، يتفاعلون مع البيئة الجديدة ويتكيّفون مع متطلّباتها الثقافية والاجتماعية. التفاعل مع القوانين الأوروبية والسياسات المرتبطة بالاندماج يعكس تحوّلًا داخليًا في الشخصيات، بحيث تظهر دلالات ثقافية جديدة في سلوكياتهم وهويّاتهم. 3. التحوّلات النفسية والشخصية: على مستوى الديناميكية النفسية، يتجلّى في الرواية كيف أنّ الظروف القاسية - مثل الحرب والهجرة - تؤدي إلى تطور نفسي للشخصيات. شخصية شمس، على سبيل المثال، تشعر بصراع داخلي بين الثقافة التي نشأت عليها وسلوكيّات الجيران الجدد، مما يعكس صراعًا داخليًا يعكس تطوّرًا نفسيًّا مرتبطًا بالظروف الاجتماعية المحيطة. هذا التحوّل النفسي يظهر على مستوى الديناميكية الذرائعية من خلال التفاعل بين الداخل والخارج، حيث يؤثر المجتمع المحيط على تغييرات الشخصية الداخلية، مما يخلق نوعًا من التوتّر والتطوّر الدائم. وهذا الاستنتاج ينقلنا للمستوى النفسي: المستوى النفسي : المستوى النفسي الذرائعي انطلاقًا من لاوعي الكاتب يركّز على فهم النص الأدبي باعتباره انعكاسًا أو إسقاطًا للاوعي الكاتب. هذا التحليل يتجاوز الشخصيات والحبكة إلى دراسة الطريقة التي تظهر بها الهواجس النفسية، والصراعات الداخلية، والرؤى اللاواعية للكاتب في نصّه. الغاية من التحليل: الكشف عن الأبعاد النفسية العميقة التي تحرّك الكاتب. ربط النص بتجارب الكاتب وبيئته النفسية والاجتماعية. إبراز العلاقة الجدلية بين الذات الواعية واللاواعية للكاتب. المستوى النفسي الذرائعي يُعنى بتحليل الديناميكيات النفسية التي تحكم سلوكيات الشخصيات في النص الأدبي، ويُعدّ المدخل السلوكي أحد أبرز مداخل هذا المستوى. يتوجّه المدخل السلوكي نحو تحليل السلوكيات باعتبارها انعكاسات لصراعات نفسية داخلية أو استجابات لمؤثرات اجتماعية وثقافية. وبالتالي، فإنّ السلوكيات في هذا المدخل تعتبر "أسئلة" تحتاج إلى تفسير، ولا تقتصر على تفسير دوافع الشخصيات فقط، بل تمتدّ لتفسير تفاعل هذه السلوكيات مع البيئة المحيطة وارتباطاتها النفسية. 1- المدخل السلوكي : المدخل السلوكي الذرائعي: مدخل التساؤلات هو إطار نقدي يعتمد على طرح تساؤلات جوهرية حول سلوكيات الشخصيات في النص الأدبي، مع التركيز على ارتباط هذه السلوكيات بالدوافع النفسية والبيئة الاجتماعية ضمن الإطار الذرائعي. هذا المدخل يهدف إلى الكشف عن ديناميكيات السلوك الفردي والجماعي في النصوص، وتحديد أثرها على الحبكة والرسائل الفكرية التي يسعى الكاتب إلى إيصالها. الأسس الرئيسية للمدخل السلوكي الذرائعي: 1. السلوك كأداة تحليل: السلوكيات ليست مجرّد تصرّفات بل هي نوافذ لفهم الأعماق النفسية والاجتماعية للشخصيات. كل سلوك يُطرح كـ "سؤال" يحتاج إلى تفسير نفسي أو اجتماعي. 2. التفاعل بين الشخصيات والبيئة: كيف تتشكّل سلوكيات الشخصيات بناءً على البيئة الاجتماعية، السياسية، أو الثقافية؟ هل السلوك انعكاس للضغط الخارجي أم تمرد عليه؟ 3. السلوك والسؤال النقدي: يتمّ تحليل السلوك من خلال طرح تساؤلات نقدية مثل: لماذا تصرّفت الشخصية بهذا الشكل؟ ما الذي دفعها لاتخاذ قرار معيّن؟ ما تأثير سلوكها على الأحداث الأخرى في النص؟ 4. السلوك والتحوّل: التركيز على التحوّلات السلوكية للشخصيات من خلال التساؤل: ما الحدث الذي أدّى إلى هذا التحوّل؟ كيف يعكس هذا التحوّل وعي الشخصية أو صراعها؟ آلية التحليل باستخدام مدخل التساؤلات: أ. طرح الأسئلة حول السلوكيات: ما طبيعة السلوك؟: هل هو سلوك متكرّر أم مفاجئ؟ ما دوافعه؟: هل ينشأ من حالة نفسية داخلية أم من تأثير خارجي؟ ما نتائجه؟: كيف أثر السلوك على الحبكة أو الشخصيات الأخرى؟ ب. ربط السلوك بالدوافع النفسية والاجتماعية: هل يعكس السلوك خوفًا، أملًا، أو رغبة في التغيير؟ كيف تُفسر البيئة الاجتماعية (مثل القهر أو الحرية) السلوك؟ ج. التطوّر السلوكي في النص: هل الشخصية ثابتة أم متغيرة في سلوكها؟ ما علاقة السلوكيات بالتحوّلات الفكرية أو النفسية التي تمرّ بها الشخصية؟ د. طرح التساؤلات حول الكاتب: هل يعكس هذا السلوك تجربة شخصية أو موقفًا اجتماعيًا عامًا؟ كيف يوظّف الكاتب السلوكيات لخلق صراع درامي أو إيصال رسالة فكرية؟ أهمية المدخل السلوكي الذرائعي : 1. تعميق الفهم النفسي للشخصيات: يُبرز كيف تتجلى الصراعات الداخلية والخارجية من خلال السلوكيات. 2. إبراز البعد الذرائعي للنص: يوضح كيف تُستخدم السلوكيات لتوصيل رسائل أو تحقيق غايات أدبية واجتماعية. 3. التفاعل مع القارئ: يدعو القارئ للتساؤل والتفكير في أسباب ونتائج السلوكيات، مما يعزّز التفاعل مع النص. 4. تحليل النصوص كديناميكيات نفسية اجتماعية: يقدّم رؤية شاملة لسلوكيات الشخصيات بوصفها انعكاسًا للواقع الاجتماعي والنفسي. أثارت لميس الزين العديد من التساؤلات العميقة على كافة المستويات، سأذكر بعضها مع التركيز على كيفية تفسير سلوكيات الشخصيات عبر تساؤلات ذرائعية وتحليلها نفسيًا واجتماعيًا. هنا بعض الأمثلة المأخوذة من النص لتوضيح كيفية تطبيق المدخل السلوكي: 1. التساؤلات الوجدانية لذات الشخصية (شمس) النص: "لماذا كانت تستعذب الإنصات على البوح؟" . "فلم تجد إجابة أقرب من أنّ ثمّة أحداثًا تخصّها وحدها، لن يفهم حميميّتها سواها" التحليل السلوكي: تتساءل شمس عن دوافع رغبتها في الاستماع للبوح، وهو سؤال يعكس صراعًا داخليًا يتعلّق بحاجة الشخصية للتعبير عن نفسها أو ربّما البحث عن شيء مفقود في عالمها. هذا التساؤل يطرح تساؤلًا نقديًا عن السلوك: لماذا تستمر في الاستماع إذا كانت تبحث عن فهم للذات، ولماذا ترى أنّ حميمية الأحداث لا يفهمها الآخرون؟ هذا السلوك يشير إلى ارتباط شمس بالعزلة النفسية والبحث عن هويّة شخصية، وهو سلوك يعكس حالة من الانغلاق النفسي الذي لا يمكن تفسيره بسهولة دون الرجوع إلى التأثيرات الاجتماعية والثقافية المحيطة بها. الدوافع النفسية والاجتماعية: يظهر في سلوك شمس أنها تعيش صراعًا نفسيًا مع الذات، وربما مع بيئة ترفض أو تفتقر إلى تفهّم عميق لما تمرّ به. هذا يمكن أن يكون نتيجة لتأثيرات اجتماعية ثقافية حيث يُتوقع من المرأة أن تتوافق مع معايير مجتمعية معينة ولا يُسمح لها بالتعبير عن ضعفها أو مخاوفها. 2. التساؤلات حول الحرب وتداعياتها على الأمّهات النص: "ترى ما شعور الأمّهات اللواتي يحبلن ويلدن ويربّين... ليقدّمن الأبناء قرابين لغولة نهمة لا تشبع اسمها الحرب؟" "هي لم تنجب، لذلك سيبقى خيالها قاصرًا عن تخيّل حجم أوجاعهن، ألم لا يعرفه الآخرون ولا تعرفه هي، خُلق خصّيصًا لهنّ" التحليل السلوكي: يتساءل النص عن تأثير الحرب على الأمهات اللواتي يضحّين بأبنائهن، وهو تساؤل يعكس حسًّا بالعدمية والفقدان داخل الشخصيات. يمكن ربط هذا التساؤل السلوكي بفهم دوافع الأمومة في السياق الاجتماعي والسياسي للحروب. يصوّر النص كيف أن الأمهات قد يشعرن بالعجز عن حماية أبنائهن في ظل العنف والحروب، مما قد يعكس صراعًا داخليًّا بين دورهن الطبيعي كأمّهات وبين الواقع القاسي الذي تفرضه الحروب. الدوافع النفسية والاجتماعية: يتضح أنّ سلوك الشخصية في هذا المقطع يعكس التأثير العميق للصراعات الاجتماعية والسياسية على العلاقات الشخصية، حيث تتصوّر (شمس) ما تمرّ به الأمهات من ألم وتضحية. هذه التساؤلات قد تكون انعكاسًا لمشاعر الكاتبة تجاه الحروب وما تتركه من تداعيات نفسية على الأفراد، خاصة في مجتمعات تفرض قيودًا ثقافية على المرأة ودورها في المجتمع. 3. التساؤلات حول العلاقات الزوجية: النص: "كيف يفيض الكيل ببعض الأزواج، ليصل حدًّا يصبح معه الاستمرار مستحيلًا؟ متى ينهار صمّام أمان العلاقة؟ وتصبح عرضة للانهيار، أهي لحظة مباغتة أم نهاية طريق مسدود أصلًا؟" "لا شك أن اختلاف البيئة عامل مهم في فشل العلاقات، بخاصة في مدينة تتحصّن بعاداتها وتقاليدها في كل شيء، بدءًا من المأكل والمشرب إلى طقوس الزيجات نفسها..." التحليل السلوكي: تطرح الكاتبة على لسان شمس تساؤلات حول العلاقة الزوجية والعوامل التي تؤدّي إلى انهيارها، مثل اختلاف البيئة الثقافية والاجتماعية. هذا يشير إلى تساؤل عميق حول سلوكيات الأفراد في العلاقات الزوجية وكيف تتأثّر بالضغوط الاجتماعية والبيئية. التحليل السلوكي يمكن أن يربط هذه التساؤلات بتأثيرات العادات والتقاليد التي قد تكون عائقًا في بناء علاقات زوجية سليمة. الدوافع النفسية والاجتماعية: تتأثّر الشخصيات، وخاصة في السياق المجتمعي المغلق، بما تفرضه العادات والتقاليد من قيود على العلاقات الزوجية. سلوك الشخصيات في هذا السياق يعكس صراعًا اجتماعيًّا ونفسيًّا بين رغبات الأفراد وقيود البيئة التي يعيشون فيها. 4. تساؤلات حول العلاقات العاطفية والصراع الداخلي: النص: "كيف يمكن لشخص واحد أن يبدو ملاكًا وشيطانًا بوقت واحد؟! ملاكًا بعين أهله وأهلها والأقارب ورؤساء العمل والجيران وأولاد الحي، وشيطانًا بعينها هي وحدها؟" "كيف تفرز عين الحبّ لنا الصفات الحسنة، فيما ترينا عين البغض كلّ نقيصة؟!" التحليل السلوكي: يشير النصّ إلى الصراع الداخلي الذي تواجهه الشخصية بين الحبّ والكراهية، وكيف يمكن لشخصية واحدة أنّ تظهر بصورة مختلفة في أعين الآخرين مقارنة بما يشعر به الشخص نفسه. هذه التساؤلات تعكس سلوكًا عاطفيًّا معقّدًا، حيث تتناقض العواطف مع ما يُتوقّع منها اجتماعيًّا. الدوافع النفسية والاجتماعية: يبيّن سلوك الشخصية كيف أنّ الحبّ والكراهية يمكن أن يخلقا انقسامًا في تصوّرات الشخصيات عن الآخرين. تعكس هذه التساؤلات صراعًا نفسيًّا حول الهويّة العاطفية وكيفيّة تأثير هذا الصراع على كيفية تعامل الأفراد مع الأشخاص من حولهم. 5. تأملات فلسفية حول الحياة والموت النص: "أترى كانت شجرة سرو في حياة أخرى، أم أنّها ستكونها في حياة لاحقة؟... ولماذا لا يكون الناس كالأشجار؟" "ما الذي أفدناه من اللغة سوى الكذب والنفاق وحروب الكلام؟" التحليل السلوكي: يُظهر هذا التساؤل سلوكًا فلسفيًا يميل إلى التأمّل في الحياة والموت، وفي الوقت ذاته، يعكس تساؤلات شخصية عن التواصل الاجتماعي واللغة. هذه التساؤلات تدلّ على صراع داخلي مع قضايا الحياة الكبرى مثل الهوية والوجود. الدوافع النفسية والاجتماعية: تتأثّر الشخصية بتجربة داخلية تشكّك في معنى الحياة، مما يعكس سلوكًا معقدًا ينطوي على تساؤلات عن حقيقة الذات ووجودها. يبرز هنا تأثير بيئة مجتمعية قد تكون مليئة بالازدواجية والنفاق، وهو ما يتّضح في رؤية الشخصية للعلاقات الإنسانية. الخلاصة: من خلال الأمثلة المستعرضة، يتبيّن أن المدخل السلوكي الذرائعي يتيح لنا فهمًا أعمق لدوافع الشخصيات وسلوكياتها من خلال طرح تساؤلات تتعلّق بالصراعات النفسية والاجتماعية. هذه السلوكيات تتداخل مع التأثيرات الاجتماعية والثقافية لتشكل شخصية معقّدة تبحث عن هوية ذاتية وفهم للواقع المحيط بها. إنّ التحليل الذرائعي يكمن في فهم كيفية تأثير العوامل النفسية والاجتماعية على السلوكيات التي تُظهر النصوص الأدبية، وكذلك كيف يتداخل النصّ الأدبي مع نصوص ثقافية أو تاريخية سابقة. يمكن لهذه العلاقة أن تفتح أفقًا واسعًا لتحليل النصوص الأدبية من خلال التأثير المتبادل بين "الذاكرة الجماعية"، والتجارب الفردية للشخصيات، والنصوص الموازية التي تساهم في تشكيل الواقع الأدبي. وبذلك ننتقل إلى المدخل النفسي الثاني: 2- المدخل التوليدي العقلاني (مدخل التناص): المدخل التوليدي العقلاني هو إطار نقدي وظّفته الذرائعية مدخلًا ضمن المستوى النفسي، ينظر إلى النصوص على أنّها نتاج لعقل واعٍ يعمل على إعادة تشكيل واستدعاء عناصر من نصوص سابقة من خلال التناص. التناص، في هذا السياق، ليس مجرّد استلهام أو اقتباس، بل هو عملية إعادة إنتاج فكرية وإبداعية تعيد تشكيل النصوص ضمن رؤية جديدة تنبع من عقل الكاتب ومنطقه. التناص في ضوء المدخل التوليدي العقلاني: 1. التناص كمحرّك للإبداع: التناص ليس إعادة تدوير أو نسخًا، بل هو عملية عقلية يولّد فيها النص الجديد معانٍ ودلالات مختلفة عن النصوص التي يستدعيها. الكاتب يستخدم النصوص السابقة كـ"مواد خام" ليبني عليها رؤى جديدة. 2. دور العقلانية في التناص: العقل هو العنصر المهيمن الذي يوجه عملية التناص، حيث يختار الكاتب بعناية الأجزاء التي يستدعيها ويتلاعب بها لتحقيق غايات محدّدة. التناص يصبح وسيلة لترسيخ أو نقد الأفكار الثقافية، الأدبية، أو الاجتماعية. 3. التناص كحوار بين النصوص: النصوص تتفاعل فيما بينها عبر الكاتب الذي يربطها بأبعاد منطقية وفكرية. هذا الحوار يولّد معانيَ جديدة تتجاوز النصوص الأصلية، مما يعزّز البنية الفكرية للنص الجديد. 4. المستويات التناصّية في المدخل التوليدي العقلاني: التناص الظاهر: الاقتباس أو الإشارة المباشرة إلى نصوص معروفة. التناص الضمني: دمج أفكار أو أنماط من نصوص سابقة دون الإشارة إليها بشكل مباشر. التناص التأويلي: إعادة تفسير نصوص سابقة بطريقة عقلانية تخدم فكرة النصّ الجديد. تحاول لميس الزين أن تأخذ مكانًا بين الكتّاب السوريين الذين تناولوا موضوع الحرب السورية الأخيرة ضمن المضمون الاجتماعي والمضمون النسوي، كما تناصّت مع كتّاب الروايات الذين اهتموا بموضوع الجسد ودلالاته في أتون الحروب، وتحديدًا الجسد المقموع جنسيًّا وفكريًّا. تتناص رواية لميس الزين مع العديد من التجارب الأدبية والحياتية، حيث تسلّط الضوء على التجربة السورية، وخاصة في مدينة حلب، التي عاشتها الكاتبة في ظلّ الحرب. هذا التناص لا يقتصر فقط على تجاربها الشخصية، بل يمتدّ ليشمل تجارب الآخرين في سياق الحرب السورية، بما في ذلك تجارب النساء والجسد في أتون الحروب. تتناص رواية لميس الزين مع العديد من الأعمال الأدبية التي تناولت موضوع الحرب والتحوّلات الاجتماعية بشكل عام، حيث تتشابك تجربتها الروائية مع روايات عديدة أبرزت أثر الحرب على الأفراد والمجتمعات. يظهر هذا التناص في توظيفها للمكان كعنصر مؤثر في تشكيل هوية الأفراد والجماعات، وهو ما نجده في العديد من الأعمال التي تناولت الحروب كعامل تغييري يمسّ كيان الفرد وهويته. إضافة إلى ذلك، تتلاقى رواية لميس الزين مع الروايات التي تناولت موضوع الهويّة الفردية والجماعية في سياق الصراعات الكبرى، حيث يُظهر النص الأدبي تشابكًا بين الانتماءات الشخصية والتحدّيات الاجتماعية. يتّضح هذا في عرض الشخصيات التي تعيش صراعًا داخليًّا بين هويّتها الفردية ورغبتها في الانخراط ضمن سياق اجتماعي أوسع، وهو ما يجعل النصّ يقترب من الأعمال التي ناقشت الهويّة كموضوع مركزي. يمكن الإشارة إلى عدد من الأعمال الأدبية التي تتناص معها رواية لميس الزين في تناول موضوع الحرب، التحوّلات الاجتماعية، والهويّة الفردية والجماعية، والجسد والقضايا النسوية، مع مقارنة بسيطة بالتناول بينها وبين رواية "الفناء الخلفي": 1. "سلالم الشرق" لعبد الرحمن منيف تتناول الرواية التحوّلات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية، وتأثير الصراعات على هوية الأفراد والجماعات، مما يجعلها مرجعًا مهمًا لفهم العلاقة بين الحرب والهوية. التشابه: كلتا الروايتين تتناولان تأثير الصراعات والحروب على التحوّلات الاجتماعية والسياسية. تركزان على تأثير التغيّرات الكبرى على الهوية الفردية والجماعية. الاختلاف: "الفناء الخلفي" ترتكّز على الحرب السورية كإطار زمني ومكاني معاصر، بينما "سلالم الشرق" تُظهر صراعات أكثر تجريدية عبر أحداث تاريخية أوسع. رواية الزين تركز على الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات، بينما رواية منيف تتسم بطابع سياسي أشمل. 2. "دار المتعة" لوليد إخلاصي ركّزت الرواية على الجسد في سياق الحروب، وكيف يتمّ قمعه فكريًّا وجنسيًّا، مما يشكل تناصًّا مباشرًا مع قضايا الجسد والانتهاك التي تسلّط عليها رواية لميس الزين الضوء. التشابه: كلتا الروايتين تناقشان قضايا الجسد والانتهاكات المرتبطة بالحرب. يتشابهان في معالجة تأثير القهر النفسي والاجتماعي على الأفراد. الاختلاف: "الفناء الخلفي" توسّع مناقشة قضايا الجسد لتشمل المرأة في ظلّ النظام الذكوري أثناء الحرب، بينما "دار المتعة" تعمّق التركيز على قمع الجسد فكريًّا وجنسيًّا في سياق الحرب. لغة "الفناء الخلفي" أقرب إلى التحليل الاجتماعي والنسوي، بينما "دار المتعة" تعتمد على أسلوب أكثر رمزية. 3. "مديح الكراهية" لخالد خليفة رواية سورية تتناول الحياة في مدينة حلب خلال فترة تاريخية مختلفة، لكنها تُظهر التحوّلات التي تطرأ على الهوية الفردية والجماعية في ظلّ الصراعات، مما يجعلها قريبة من أجواء رواية لميس الزين. التشابه: تشترك الروايتان في تصوير مدينة حلب، حيث تعدّ الخلفية الدرامية في كليهما عنصرًا أساسيًّا في فهم التحوّلات الاجتماعية. كلتا الروايتين تناقشان الانقسامات العائلية والمجتمعية نتيجة الحرب. الاختلاف: "الفناء الخلفي" تتناول فترة معاصرة (2012-2016)، بينما "مديح الكراهية" تستعرض حقبة تاريخية أقدم تتعلّق بصراعات السبعينيات والثمانينيات. الزين تركز على الجانب الإنساني والنسوي بشكل أكثر تحديدًا. 4. "بريد الليل" لهدى بركات الرواية تسلّط الضوء على قصص شخصيات تعيش في ظروف قهرية ناجمة عن الحرب والهجرة، حيث تتشابك قضايا الهوية الفردية والجماعية في إطار سردي يعكس تأثير الحرب على الذات. التشابه: تتشابهان في استخدام الحرب كخلفية تسلّط الضوء على المعاناة الإنسانية والاغتراب. تناقشان قضايا الهوية الفردية والجماعية في سياق النزاعات. الاختلاف: "بريد الليل" تأخذ منحى عالميًا من خلال استعراض الهجرة والنفي القسري، بينما "الفناء الخلفي" تنحصر في دراسة المجتمع السوري. أسلوب السرد في "بريد الليل" أكثر تفكّكًا ويميل إلى التجريب، مقارنة بالسرد المتماسك في "الفناء الخلفي". 5. "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي تستكشف الرواية العلاقة بين الهوية الفردية والاجتماعية في أوقات الأزمات، وتبرز قضايا الجسد والمرأة في سياق اجتماعي وسياسي معقّد. التشابه: تركيز كلا الروايتين على الجسد كمعبّر عن الهوية النسوية. معالجة قضايا المرأة في ظل الأزمات الاجتماعية والسياسية. الاختلاف: "الفناء الخلفي" تُظهر الجسد في سياق الحرب كأداة مقاومة أو كموضوع انتهاك، بينما "فوضى الحواس" تُبرز الجسد كجزء من العلاقة العاطفية والوجودية. المستغانمي تتبنى أسلوبًا شعريًّا رمزيًّا، بينما الزين تعتمد على التحليل الاجتماعي المباشر. 6."خمسون غرامًا من الجنة" لإيمان حميدان رواية لبنانية تُظهر تأثير الحرب على الأفراد، وخاصة النساء، حيث يتمّ تناول الهوية من خلال تجربة المعاناة والصراعات الاجتماعية. 7. "أرواح كليمنجارو" لإبراهيم نصر الله تناقش الرواية موضوع الهوية الجماعية والانتماء من خلال قصص شخصيات عانت من الحروب والصراعات، ممّا يجعلها متداخلة مع موضوعات لميس الزين حول الجسد والهوية. التشابه: تتناول الروايتان موضوع الهوية والانتماء في سياق المعاناة الإنسانية بسبب الحرب. تسلّطان الضوء على التحوّلات التي تطرأ على الشخصيات بسبب القهر والصراعات. الاختلاف: "الفناء الخلفي" تركّز على الحرب السورية وتجلياتها المحلية، بينما "أرواح كليمنجارو" تستعرض تجربة أوسع ذات طابع فلسطيني/عالمي. نصر الله يدمج الجغرافيا الطبيعية (جبل كليمنجارو) كرمز للمقاومة، بينما الزين توظّف مدينة حلب كمكان حاضن للمأساة. الخلاصة: رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة لميس الزين تتناص مع هذه الأعمال في عدة موضوعات أساسية مثل الحرب، التحولات الاجتماعية، وقضايا الهوية، لكنها تتميز بتركيزها على الحرب السورية كإطار خاص، مما يعطيها طابعًا محليًا مع رؤية إنسانية شمولية. تبرز الرواية القضايا النسوية بشكل مركزي، مستخدمة تقنيات سردية مبتكرة لتحليل العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع في أوقات الأزمات. الاستنتاج: "يتجاوز التناص في رواية لميس الزين حدود الاقتباس ليصبح عملية إبداعية تُعيد إنتاج المعاني وتُشكّل حوارًا بين النصوص المختلفة. تُبرز الرواية معاناة النساء واستخدام الجسد كرمز لانتهاك الأفراد في أتون الحروب، مع معالجة قضايا الهوية والصراع في السياق السوري. من خلال استلهام النصوص السابقة ودمجها بتجارب الكاتبة الشخصية، تقدم الرواية قراءة جديدة تعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، وتساهم في تعزيز الوعي الثقافي والاجتماعي حول تأثير الحروب على الهوية والجسد. بالإضافة إلى ذلك، يُستخدم التناص كأداة مقاومة فكرية وثقافية تتحدى السلطة السياسية والاجتماعية، مما يجعل الرواية جزءًا من خطاب أدبي أوسع حول الحرب، المرأة، والهوية." إذن، التناص مع النصوص الأخرى يمثّل تجديدًا للنصوص من خلال التفاعل الإبداعي مع نصوص سابقة مما يشكّل تداخلًا بين الفكر والإبداع، بينما التقمص الوعظي يعزّز هذه التجديدات من خلال تمثيل الشخصيات لأدوار أخلاقية أو اجتماعية تساهم في بناء رسالة أوسع تسهم في تغيير وعي القارئ ما يعكس الدور التربوي الذي يمكن أن تلعبه هذه النصوص في توجيه القارئ لفهم القضايا الاجتماعية والأخلاقية التي يتناولها النص. 3- المدخل التقمّصي: يشير المدخل التقمّصي الوعظي في النقد الذرائعي إلى أسلوب يتيح للقارئ التماهي مع الشخصيات، ممّا يجعلها وسيلة لإيصال رؤى فلسفية أو اجتماعية تحمل طابع الموعظة أو الحكمة. يتجسّد هذا المدخل في النصوص الأدبية من خلال عبارات أو مواقف تلخّص التجارب أو القناعات الشخصية للشخصيات، وتكون محمّلة بمعانٍ وجودية وإنسانية تتجاوز حدود النص. يرتكز المدخل التقمصي الوعظي على فكرة أنّ الشخصيات في الأدب تتقمّص أدوارًا تمثّل تطوّرًا أخلاقيًّا أو روحيًّا، بحيث يمكن أن تصبح أداة للوعظ والتوجيه الأخلاقي للقارئ. في هذا المدخل، تُعتبر الشخصيات الأدبية وسيلة لتمرير رسائل أخلاقية تربوية، بحيث يتمّ عرض حالات تحوّلات الشخصيات من الضياع إلى الوعي، من المعاناة إلى التحرّر، وذلك ضمن إطار اجتماعي أو ثقافي يتوجّه إلى جمهور معين. تحليل الأمثلة الواردة: 1. الطابع الحكمي والمواعظي العبارة: "كل كلام في الحب يبقى كلامًا ما لم توثّقه لمسة حانية" التحليل: هنا يظهر بُعد إنساني عميق؛ فالكاتبة تطرح فلسفة حول أهمّية الأفعال في التعبير عن المشاعر. هذه العبارة تُبرز فكرة أنّ الحب لا يُقاس بالكلمات فقط، بل يتطلّب أفعالًا حقيقية، مما يعكس بُعدًا عمليًّا وإنسانيًّا في العلاقات. العبارة: "قد ينكسر الحب في البلاد المهزومة، لكن السرو يبقى شامخًا". التحليل: استخدمت الكاتبة هنا رمزية "السرو" للتعبير عن الصمود والثبات، حتى في ظلّ الانكسارات الكبرى مثل انهيار الحب في المجتمعات المتأثّرة بالحروب والهزائم. هذا الطرح يشير إلى قدرة الإنسان على الحفاظ على كرامته رغم الأزمات. 2. الموضوعات الإنسانية والاجتماعية: العبارة: "حين تخسر ابنًا أو أخًا تدرك أن يدًا لك بُترت، لن تعيدها معرفة الفاعل" . التحليل: تمثّل هذه العبارة تجربة الخسارة الشخصية المؤلمة، مع التأكيد على عدم جدوى الانتقام أو حتى معرفة الفاعل في استعادة المفقود. الفكرة هنا وجودية، تُبرز عبثية بعض الآلام. العبارة: "جنائز المغمورين صغيرة كأحلامهم المجهضة، فيما تتحوّل جنائز المسؤولين عن إجهاض أحلامهم إلى مهرجانات من أكاليل ورد وغار. لا عدل حتى في الموت". التحليل: نقد اجتماعي لاذع، يُظهر التفاوت الطبقي حتى في لحظة الموت. هذه العبارة تُبرز غياب العدالة، حيث يتم الاحتفاء بالمذنبين بينما تُهمش ضحاياهم. 3. الرمزية العبارة: "كأنّ بعض الموت يأتي متناسبًا مع حياة عيشت بألم مكتوم، فجاء ليخلّصها منه، بالطريقة ذاتها" التحليل: الكاتبة تربط هنا بين الحياة والموت، وتطرح الموت كوسيلة خلاص من معاناة طويلة. هذه العبارة تحمل بعدًا فلسفيًّا حول التقاء الألم بالنهاية، وتبرز العلاقة بين تجربة الحياة والموت كجزء من سياق وجودي أوسع. 4. إحساس بالظلم الاجتماعي العبارة: "لا عدل حتى في الموت". التحليل: اختزال موجز وذكي لحالة الظلم الاجتماعي الشامل. العبارة تكشف عن إحباط الشخصيات من النظام الاجتماعي والسياسي، الذي يُبرز اللاعدالة حتى في أبسط مظاهر الحياة، كالجنائز. الاستنتاج: الكاتبة تُظهر مهارة في استخدام المدخل التقمّصي الوعظي لتقديم رؤى نقدية وفلسفية عن الحب، الحياة، والموت. تتّسم العبارات بنبرة تأملية ومواعظية، مما يعزّز من عمق الرواية ويُضفي عليها طابعًا إنسانيًا يعكس القضايا الاجتماعية. الرمزية المستخدمة والموضوعات المطروحة تُسهم في إبراز التفاوت الطبقي والظلم، مع طرح أسئلة وجودية تدعو القارئ للتفكير. المدخل التقمصي الوعظي هنا لا يخدم فقط غرض الحكمة، بل يعمل على توجيه القارئ لفهم أعمق لتجارب الشخصيات وتفاصيلها، مما يجعله عنصرًا محوريًّا في بناء النص. التجربة الإبداعية للكاتبة في الفناء الخلفي: يمكننا رصد هذه التجربة من خلال الوقوف على النقاط التالية: 1. التناول الجريء لموضوع الحرب: استطاعت الكاتبة معالجة موضوع الحرب السورية بجرأة وعمق، متجنّبة السرد التقليدي والوقوع في فخ الخطاب الشعاراتي أو الدعائي. بدلًا من ذلك، ركّزت على الأبعاد الاجتماعية والنفسية للحرب، مما أعطى الرواية طابعًا إنسانيًا يتجاوز الإطار الزمني أو الجغرافي. نجحت الرواية في تصوير الحرب كعامل مدمّر للبنى الاجتماعية والنفسية، حيث انعكست آثارها على جميع الطبقات الاجتماعية دون استثناء. ركّزت الكاتبة على التغيرات السوسيولوجية التي أصابت الأفراد والجماعات، مظهرةً انقسام المجتمع بين من ظلّوا عالقين في محدودية الفكر ومن اختاروا مواجهة الأزمات بأسئلة وجودية عميقة.. ورصدت الرواية الآثار النفسية العميقة للحرب على الأفراد، خاصةً أولئك الذين عاشوا تحت وطأة الاستلاب والاغتراب النفسي. شخصيات الرواية عكست أزمة الإنسان في بيئة مضطّربة، حيث امتزجت مشاعر الخوف، الأمل، والانكسار بتغيّرات حياتية حادّة. 2. الإبداع في رسم الشخصيات: تتميّز الشخصيات في الرواية بواقعية لافتة، حيث نجحت الكاتبة في استكشاف أبعادها النفسية والفكرية بعمق. الشخصيات ليست مسطّحة أو أحادية البعد، بل تمتلك تناقضات وتطوّرات تعكس تعقيد الواقع السوري أثناء الحرب. 3. التقنيّات السردية المستخدمة: لجأت الكاتبة إلى تقنيات سردية مبتكرة، مثل المزج بين السرد الواقعي والرمزي، ممّا أضفى على الرواية بعدًا فلسفيًّا وتأمليًّا. استخدمت أيضًا التداخل بين الماضي والحاضر لربط تجارب الشخصيات بالتحوّلات الكبرى التي شهدها المجتمع. 4. اللغة الأدبية المتميّزة: تميّزت لغة الرواية بجماليّاتها وقوّتها التعبيرية. تمكّنت الكاتبة من المزج بين أساليب أدبية عديدة، ممّا جعل النصّ ممتعًا للقارئ ومؤثّرًا في الوقت ذاته. اللغة حملت أبعادًا رمزية ومعانٍ عميقة، خاصة في وصف الشخصيات ومشاعرها. 5. توظيف الرمزية في النص: برعت الكاتبة في توظيف الرمزية لتسليط الضوء على القضايا المجتمعية والإنسانية. حيث لم تكتفِ الرواية بوصف الحرب كحدث، بل جعلتها إطارًا رمزيًا لتحليل المجتمع وتحولاته. الحرب لم تكن مجرّد خلفية للأحداث، بل كانت المحرّك الرئيسي الذي كشف عن العيوب المجتمعية والإنسانية العميقة، بما في ذلك التفاوت الطبقي، التسلّط، والانغلاق الفكري. 6.تصوير المرأة كرمز للوطن: صوير المرأة كرمز للوطن في رواية لميس الزين لا يُعد مجرد عنصر سردي، بل هو أداة حيوية لنقل رؤيتها النقدية والتحليلية للواقع الاجتماعي والسياسي. من خلال هذا التصوير، تعكس الكاتبة المشكلات التي تواجهها المرأة في المجتمع، مما يجعلها تحمل بعدًا رمزيًا متعدد الدلالات، حيث ترتبط حركة المرأة بحركة المجتمع وتعكس الصراع الداخلي للوطن. قدّمت الكاتبة صورة معقدة ومتعددة الأبعاد للمرأة، مما يجعلها أكثر من مجرد شخصية روائية تقليدية. في الرواية، المرأة ليست فقط أمًّا أو أختًا أو زوجة، بل هي رمز حي يعكس واقع المجتمع والصراع الداخلي للوطن، مع التركيز على التحديات الاجتماعية التي أفرزتها الحرب. وجدت لميس الزين أن الحرب السورية أثرت بشكل عميق في تشكيل صورة المرأة، فتصوّرها على أنها فاعلة ومنفعلة في آن واحد، تكون الأم، الأخت العزباء، الزوجة، والمطلّقة، ممّا يعكس تعقيد الأدوار التي تلعبها المرأة في هذه الظروف الاستثنائية. من خلال هذه الشخصيات، تبيّن الكاتبة كيف "أن حركة المرأة ترتبط بحركة المجتمع وتحمل رمزًا ثريًّا موحيًا عن الوطن" 7. تناول القضايا الاجتماعية: تميّزت الرواية بقدرتها على استعراض القضايا الاجتماعية المرتبطة بالحرب، مثل التفاوت الطبقي، الاستلاب النفسي، والانغلاق الفكري. عكست الرواية بواقعية تحوّلات المجتمع دون الوقوع في المبالغة أو التبسيط. 8. الرؤية النقدية الشاملة: نجحت الكاتبة في تقديم رؤية نقدية شاملة للحرب وآثارها، متجاوزة الانحياز لأيّ طرف من أطراف الصراع. هذا التوازن جعل الرواية أكثر شمولية وموضوعية، حيث ركزت على معاناة الإنسان بغضّ النظر عن انتماءاته. وكشفت الرواية عن تباين استجابة الطبقات الاجتماعية للحرب؛ فبعض الطبقات بقيت متشبّثة بأفكارها وسلوكيّاتها الجامدة، معتبرة الحرب أزمة مادية فقط، بينما شهدت طبقات أخرى تحوّلات جذرية دفعتها نحو إمّا الانحراف أو البحث عن الخلاص الروحي والنفسي. 9. محدودية الوظيفة الوطنية: رغم إبداع الكاتبة في توثيق الجوانب الاجتماعية والنفسية، إلّا أنّ الوظيفة الوطنية في الرواية كانت أقلّ بروزًا، ما يعكس تحرّرها من القيود التقليدية التي تربط أدب الحرب بتعزيز القيم القومية. فقد تجنّبت الرواية التركيز على تعزيز الروح الوطنية والقومية، وهي سمة لطالما ارتبطت بأدب الحروب التقليدي، ممّا يعكس طبيعة الحرب السورية المعقّدة، التي لم يكن فيها العدو واضحًا أو مختلفًا قوميًّا، ممّا ساهم في تقديم الرواية كعمل نقدي اجتماعي أكثر من كونه أداة للدعاية الوطنية. الاستنتاج الكلّي: تمثّل رواية "الفناء الخلفي" للكاتبة لميس الزين إضافة نوعيّة إلى أدب الحرب المعاصر، حيث وظّفت الحرب كإطار للأحداث بهدف استكشاف التحوّلات الاجتماعية والنفسية التي شهدها المجتمع السوري في ذروة الصراع. أبرزت الرواية التأثيرات العميقة للحرب على الهويّة الفردية والجماعية، مع التركيز على الصراع بين الفرد والمجتمع في سياق الأزمات. الرواية قدّمت رؤية نسوية متقدّمة من خلال شخصيات مثل "شمس" و"ناهد"، اللتين تمثّلان طرفي نقيض في مواجهة التقاليد والسلطة الذكورية، مما يعكس التحولات النسوية في ظل الحرب. إضافةً إلى ذلك، أظهرت الرواية البعد الزمكاني كعنصر ديناميكي، حيث شكّل الزمان والمكان خلفية درامية تدعم السرد وتعمّق فهم الشخصيات وصراعاتها. من خلال المزج بين الأسلوب الجمالي والتحليل السوسيولوجي، عالجت الرواية قضايا مثل الطبقية والهوية، واستخدمت تقنيات سردية مبتكرة كالرمزية، السخرية، والمفارقة. هذا المزج جعل الرواية ليست فقط شهادة أدبية عن الحرب السورية، بل دراسة إنسانية عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية، ما يعزز مكانتها كعمل أدبي استثنائي في أدب الحرب. الخلاصة: تعدّ رواية "الفناء الخلفي" نموذجًا أدبيًا معاصرًا يُبرز العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، مع التركيز على الأبعاد الاجتماعية، النفسية، والنسوية. باستخدام المنهج الذرائعي، يمكن استكشاف مستوياتها المتعددة لفهم تأثير الحرب على المجتمع والأفراد، مما يجعلها مرجعًا هامًا لدراسة أدب الحرب وتحليل الأزمات الإنسانية. المراجع والمصادر 1. الزين، لميس. رواية الفناء الخلفي. رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2022 2. ريكور، بول. الهوية والسرد، تر حاتم الورفلي، دار التنوير للطباعة والنشر، 2009 3. الغالبي، عبد الرزاق عوده، الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي، دار النابغة للنشر والتوزيع- طنطا ط1- 2019 4. الغالبي، عبد الرزاق عوده، الذرائعية في التطبيق - دارالناابغة للنشر والتوزيع، طنطا، ط1، 2019م 5. الغالبي، عبد الرزاق عوده، الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية - دارالناابغة للنشر والتوزيع، طنطا، ط1، 2019م 6. بوتول، جاستون. الحرب والمجتمع، تر عباس الشربيني –القاهرة ، دار المعرفة الجامعية، ط1، 1983 7. نجم، عبد الله، مقالات في النقد الأدبي والظاهرة الأدبية، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2010 8. عباس، حسان، الجسد في رواية الحرب السورية، منشورات المهعد الفرنسي للشرق الأدنى، 2021 9. الزاهي، فريد، النص والجسد والتأويل، الدار البيضاء، دار إفريقيا الشرق، 2003 10. يحيي،عبير خالد، أدب الرحلات المعاصر بمنظور ذرائعي، دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة – مدينة نصر –ط1-2021 11. غزواني، أحمد. الهجرة وقضايا الاندماج: الاتجاهات والنماذج الكبرى للاندماج- مقاربة سوسيولوجية- maarifcenter.ma 2023/ 02/ 01 12. الشقيران، فهد سليمان. المهاجرون في أوروبا: تحدّيات الاندماج وعائق الهوية- مركز المسبار للدراسات والبحوث 2018 / 10/ 10 13. الدين والهجرة : تحدّيات ورهانات، مركز نهوض للدراسات والبحوث، nohoudh-center.com إبريل 13/ 2020 14. الغالبي، عبد الرزاق عوده، الذرائعية والعقل، إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق -بغداد- ط1 عام 2021 15. مجاهد، رباب أحمد أحمد ، البعد الاجتماعي في أدب الحرب مجلة كلية الآداب جامعة بور سعيد، العدد السادس والعشرون ( أكتوبر 2023م) الجزء الثاني 16. نجم، عبد الله، مقالات في النقد الأدبي والظاهرة الأدبية، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2010 17. ليلة، علي، تأثير التحولات الاجتماعية والاقتصادية على بناء الأسرة ووظائفها، جامعة عين شمس، 2004 18. الباردي،محمد، الرواية العربية الحديثة، ط1، اللاذقية، دار الحوار،1993م 19. الجابري، محمد عابد. قراءة في إشكاليات التغيير الثقافي والاجتماعي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005 20. هالبفاكس، موريس. الذاكرة الجمعية، تر نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع، دمشق/ بيروت، 2016
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحلم كفعل مقاومة دراسة ذرائعية في مجموعة (رؤى وأحلام) للشاع
...
-
الأرض شاهدةً لا موضوعًا: دراسة ذرائعية في تطوّر البؤرة الفكر
...
المزيد.....
-
خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب
...
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
-
فيديو صادم.. الرصاص يخرس الموسيقى ويحول احتفالا إلى مأساة
-
كيف حال قرار بريطاني دون أن تصبح دبي جزءاً من الهند؟
-
يجتمعان في فيلم -Avengers: Doomsday-.. روبرت داوني جونيور يش
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
-
كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تن
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|