أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - تيه الذات واستعادة الكينونة دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية ( ياسمين سومري) للكاتبة والشاعرة السورية سمر الديك بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي















المزيد.....



تيه الذات واستعادة الكينونة دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية ( ياسمين سومري) للكاتبة والشاعرة السورية سمر الديك بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي


عبير خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 17:54
المحور: الادب والفن
    


في عالمٍ يضج بالخذلان والفقد، تكتب سمر الديك روايتها "ياسمين سومري"، لا لتروي حكايةً بالمعنى التقليدي، بل لتلتقط أنفاس الذات في لحظات انكسارها القصوى. رحلة غائرة في الداخل، حيث الألم مادة خام للكتابة، والبحث عن هوية مهدورة يتحوّل إلى نداء خافت في ممرّات الذاكرة.
ننتقل إلى التحليل الذرائعي لرواية "ياسمين سومري" من خلال دراسة المستويات الذرائعية التالية:
• البؤرة والخلفية الأخلاقية
رواية "ياسمين سومري" تدور حول رحلة إنسانية نفسية أكثر منها حكاية أحداث سطحية.
تُقارب الرواية تجربة الإنسان المعاصر مع الضياع والخسارة بلغة شاعرية وسرد وجداني لا يعترف بالخطّية الزمنية، بل يُراهن على تيار الوعي والانفعال المباشر. في "ياسمين سومري"، لا نبحث عن قصةٍ مكتملة، بل نُلامس قلبًا نابضًا في غابة من الرماد.
البؤرة الأخلاقية للرواية تتمثّل في استعادة الذات رغم التهشيم، في عالم متشظٍّ تتكالب فيه الخسارات والأوجاع.
من البداية، هناك إحساس عميق بالاغتراب الداخلي والبحث عن هوية مفقودة وسط ركام الذاكرة والمكان.
تقول الراوية في إضاءتها على الرواية :
"سطرتُ على الورق بعض تلك الدهاليز المعتمة التي مرّ بها الكثيرون، ودفعوا ضريبة المضي بوقار ثمنًا باهظًا"
هذه الجملة تُلخّص الإحساس بالخوف والتيه الذي يغلف الرواية.
الأخلاقية العامة في الرواية ليست وعظية، بل سردية نابعة من الألم الحقيقي، وكأن الكاتبة تقول:
"رغم كل شيء، علينا أن نحمل ذواتنا المكسورة ونكمل."
• المستوى البصري :
يُعدّ المستوى البصري أحد أهم العناصر في النقد الذرائعي، حيث يرتبط بالجانب المرئي للنص وما يعكسه من دلالات تساعد على تشكيل وعي القارئ واستيعابه للأحداث. يتضمن المستوى البصري في الرواية تحليل المكونات النصية والبصرية مثل العنوان، الإهداء، التصدير، الإضاءة، والمتن الروائي.
1) العنوان: كمكوّن رمزي بصري نصّي ونافذة للرواية:
يقدّم العنوان صورة رمزية قوية؛ "ياسمين" يشير إلى النقاء، الجمال، والأصالة، بينما "سومري" يرتبط بالموروث التاريخي والحضاري لبلاد الرافدين.
الجمع بين "ياسمين" و"سومري" يخلق تناقضًا بصريًا ودلاليًا، حيث يلتقي الحاضر (ياسمين) بالماضي العريق (سومري)، ما يثير تساؤلات عن صراع الهوية والبحث عن الذات.
وظيفته البصرية:
العنوان بسيط ومباشر، يجذب الانتباه بصريًا ويدعو القارئ للتساؤل عن العلاقة بين النقاء الحاضر(ياسمين) والبعد الحضاري والتاريخي (سومري).
الدلالات المحتملة:
1. الياسمين كرمز لسوريا .
الجمال والأصالة: ياسمين، كشخصية أو رمز، تمثل سوريا بجمالها الطبيعي وتاريخها العريق.
الهشاشة والقوة معًا: تمامًا كما أن زهرة الياسمين رقيقة لكنها دائمة التجدد، فإن سوريا تُظهر الهشاشة بسبب الأزمات، لكنها تمتلك قوة داخلية تجعلها صامدة وقادرة على البقاء.
2. العلاقة مع "سومري"
السومري كرمز للتاريخ: إضافة "سومري" إلى "ياسمين" يربط الحاضر السوري بماضيه العريق الممتد إلى حضارة سومر، مما يعزز الشعور بالهوية الثقافية والتاريخية العميقة.
الاستمرارية الزمنية: هذا المزج بين الياسمين وسومري يعكس استمرار سوريا كجسر حضاري بين الماضي والحاضر.
3. الصراع الرمزي
إذا كانت الرواية تتناول صراعات داخلية وخارجية، فإن "ياسمين" كرمز لسوريا ربما تواجه تحديات تعكس الأزمات التي تمر بها البلاد، مثل محاولات قمع هويتها، تمزيق نسيجها الاجتماعي، أو صراعها مع قوى خارجية.
فالعنوان، إذن، ليس مجرد تسمية، بل يحمل رسالة وطنية ووجودية واضحة.
بصريًا، "ياسمين سومري" يلفت الانتباه بتباين بسيط لكنه دلالي بين الكلمتين، مما يجذب القارئ للتفكير في المعاني العميقة وراءهما.

2) التصدير :
التصدير هو نص افتتاحي (اقتباس، حكمة، أو جملة تمهيدية) يقدم رؤية عامة للعمل أو يثير تساؤلات. أوردته الكاتبة في هذه الرواية اقتباسًا عن أشهر من كتب في الفلسفة الوجودية :
" هل لاحظت أنّ الموت وحدَه هو الذي يوقظ مشاعرنا؟ وكيف أننا نحب الأصدقاء الذين غادرونا لتوّهم؟ "
ألبير كامو
والتصدير يساعد القارئ على إدراك البعد الفلسفي أو الفكري للرواية.
بصريًا: يأتي التصدير في بداية الرواية بخط مختلف أو ضمن إطار بصري منفصل، مما يجعله لافتًا للانتباه
نصيًا: يفتح نافذة على البؤرة الفكرية للرواية، ويثير انتباه القارئ لثيمة العمل.
يحمل دلالات عميقة تتعلق بطبيعة الوعي الإنساني بالمشاعر والعلاقات.
أبرز الدلالات التي يوحي بها التصدير:
وعي متأخر بقيمة الآخر: لا ندرك عمق محبتنا أو أهمية الأشخاص في حياتنا إلا بعد فقدهم. كأنّ الموت يكشف فجأة عن مشاعر كانت كامنة أو مهملة.
الموت كمحفز للوعي الإنساني: الموت ليس مجرد نهاية، بل حدث يهز الإنسان من بلادة مشاعره اليومية، ويفرض عليه مواجهة حقيقة الفقد والعاطفة.
النقد الخفي للنسيان أو الاعتياد: يعيش الإنسان غالبًا غارقًا في الاعتياد، لا يشعر بحيوية علاقاته حتى تضيع منه، فيحضر الندم والحب متأخرًا.
فلسفة العبث الوجودي: وهي فكرة محورية عند كامو؛ فالحياة تمضي بلا معنى ظاهر، والموت يكشف هشاشة الروابط والمعاني التي نظنها راسخة.
هو انتقاء موفق من الكاتبة يهيئ القارئ نفسيًّا للدخول إلى عالم من الحزن، الندم، واستحضار المشاعر المدفونة. كما أنه يوحي بطبيعة السرد الروائي النفسي التأملي المهتم بالعمق الداخلي للشخصيات أكثر من الأحداث الخارجية. اقتباس من ألبير كامو ( رمز العبثية والفكر العميق) يعطي الرواية وزن فلسفي وإنساني منذ البداية، ويعزز القيمة الجمالية والفكرية للنص الروائي.
3. الإضاءة
تمثّل الإضاءة مقدمة أو مدخلًا يقدم ملخصًا أو رؤية مختصرة للقصة، غالبًا ما يكون في بداية الكتاب.
في الرواية، تُستخدم الإضاءة لتوضيح أهداف الكاتبة من العمل أو لتعريف القارئ بالإطار العام للرواية.
وظيفتها البصرية والنصية:
بصريًا: عادةً ما تكتب الإضاءة بأسلوب مميز، مثل الخطوط المائلة أو داخل إطار خاص.
نصيًا: تسهم في تمهيد القارئ للأفكار المطروحة وتساعده على فهم السياق دون الكشف عن كل التفاصيل.

4. الإهداء
إلى ...
من آمنوا بي
وملؤوا محبرتي
بنورهم الذي لا ينطفئ في قلبي
وكلما كان الليل يعلن سيادَتهُ
كان الفوزُ لشمسهم التي أنارت دربي
أسرتي ، زوجي نزار، أولادي زاهرن وقمر، ومجدي
الذين تحمّلوني، وآمنوا بي كروائية، وشاعرة، وناقدة
وكانوا حريصين على إبداء رأيهم بكلّ ما اكتبه بمنتهى الموضوعية والشفافية بعيدا عن العاطفة...

يمثّل الإهداء عنصرًا بصريًا يعبّر عن توجهات الكاتبة ورؤيتها العاطفية والأخلاقية. الإهداء جاء بلغة شاعرية، مشحونة بالصور النورانية (النور، الشمس، إنارة الدرب)، مما يعطيه طابعًا وجدانيًا عاطفيًا، ويُظهر امتنان الكاتبة العميق لمن حولها.
تهدي الكاتبة عملها إلى أسرتها، وتحديدًا إلى زوجها وأبنائها، وهو إهداء شخصي جدًا، يدل على أن الروابط العائلية في حياتها ليست فقط سندًا عاطفيًا، بل أيضًا سندًا إبداعيًا وفكريًا.
وظيفته البصرية والنصية:
بصريًا: عادةً يُكتب الإهداء بخط مميز أو منفصل عن باقي النص، مما يمنحه مكانة خاصة في التلقي.
نصيًا: يعبر عن دلالات عاطفية تمهّد لأجواء الرواية وتضع القارئ في حالة تواصل مع الكاتبة.

5. المتن الروائي
تحليل البنية البصرية للمتن:
الفصول والتقسيم: الرواية مقسمة إلى فصول، عشرون فصلًا وفصل أخير، بلا عناوين. س
التنوّع البصري:
استخدام النصوص الشعرية أو الرسائل ضمن السرد. كالقصيدة في الصفحة 79-80، وكذلك التي في الصفحة 88-89، كذلك في الصفحة 95-96، 103- 104- 105، 122- 123.
الانتقال بين الحوارات والوصف بطريقة تسهم في إبقاء القارئ متفاعلًا.
وظيفته البصرية والنصية:
بصريًا: البنية تساعد على إبراز الجوانب الزمنية أو الانتقال بين الأحداث.
نصيًا: المتن يحتوي على العمق الدلالي الذي يعكس البؤرة الفكرية للرواية.
المستوى البصري في رواية "ياسمين سومري" يعكس أهمية التفاصيل النصية والبصرية في إيصال الفكرة العامة.
يمكن اعتبار العنوان، الإهداء، التصدير، والإضاءة كعناصر تمهيدية تسهم في بناء العلاقة بين القارئ والنص، بينما يبقى المتن الروائي العنصر المركزي الذي يُظهر براعة الكاتبة في السرد.
رؤية الياسمين كرمز لسوريا تجعل الرواية تأخذ أبعادًا أكثر عمقًا، حيث تصبح "ياسمين سومري" رحلة لاستكشاف العلاقة بين الوطن وهويته عبر الزمن. هذا الربط يجعل الرواية لا تتحدث فقط عن فرد، بل عن أمة بأكملها، مما يعزز الرسائل الفكرية والأخلاقية التي تقدمها.
• المستوى اللغوي:
المستوى اللساني (أي كيف تُبنى اللغة نفسها: اختيار المفردات، التراكيب...).
المستوى الجمالي (أي البعد الفني للتعبير: الصور البلاغية، الإيقاع، الانزياحات...).
التقنيات الأسلوبية (أي الحيل البلاغية واللغوية التي استخدمتها الكاتبة لتمييز أسلوبها).
أولًا: المستوى اللساني
تقوم اللغة في "ياسمين سومري" على بناء وجدان لغوي داخلي أكثر مما تقوم على الحكي التقليدي.
اللسان المستخدم أقرب إلى النثر الشعري، مع ميل واضح إلى:
اختيار كلمات ذات شحنة شعورية عالية: (خوف، ظل، خراب، صمت، نزيف، غياب...)
اعتماد تراكيب مفتوحة ومكسورة عن عمد، لتعكس تشظي النفس.
مثال لغوي واضح:
" أصبح الجميع في قبضة هذا الموت الزاحف إليهم بسرعة، آن للشمس أن تغيب عن هذه الأرض التي استعدت لتستقبل ليلًا طويلًا." ص 50
لاحظ هنا أن الكاتبة تتعمد كسر السرد التقليدي لصالح الجملة الشعورية. وهذا يقودنا إلى مفهوم " اللغة المشروخة"، فما هي اللغة المشروخة؟
مفهوم "اللغة المشروخة":
في التحليل النقدي لرواية "ياسمين سومري"، وُصف أسلوب الكتابة بأنه يقوم على لغة مشروخة، وهو تعبير نقدي يرمز إلى حالة لغوية خاصة، حيث لا تأتي اللغة منمقة أو مصقولة أو متماسكة بالشكل الكلاسيكي، بل تبدو مكسورة ومهتزة ومتناثرة عمدًا.
الشرخ اللغوي هنا لا يعني ضعفًا، بل هو تقنية جمالية مقصودة:
تُظهر اللغة بعثراتها وانقطاعاتها وتشظيها الداخلي، محاولة التعبير عن النفس المجروحة والتجربة الإنسانية المنهكة التي تعيشها البطلة.
الجمل القصيرة، حذف أدوات الربط، التراكيب المتوترة، الإيقاعات المقطوعة، كلها تساهم في خلق هذا الشعور بأن الكلمات نفسها تشارك الشخصية أزمتها. بهذا الشكل، تتحول اللغة من مجرد وسيلة للحكي إلى جسد جريح يُنقل الألم عبر بنيته، لا عبر معانيه فقط، مما يزيد من قوة التأثير العاطفي للنص على القارئ.
سمات المستوى اللساني:
غلبة الجمل القصيرة.
حضور أفعال الحركة والانهيار (أركض، أنزلق، أغيب).
قلة الحوارات، وزيادة الحكي الداخلي.
ثانيًا: المستوى الجمالي
جماليات الرواية تقوم على عدة أركان:
1. الصورة البلاغية
تستخدم الكاتبة صورًا مشحونة بالعاطفة، غالبًا تعتمد على الاستعارة والتشخيص.
مثلاً تصور الذات كظل مكسور، أو الحنين كريح تعصف بها.
مثال بلاغي:
"ما أبشع أن تبدأ صباحك بواقع مرعب يزرع الخوف في روحك." ص 48
هذه الصورة تلخص الانهيار الداخلي بجمالية عالية.
2. الانزياح اللغوي
تمارس الكاتبة الانزياح (أي خروج اللغة عن سياقها المعتاد) لخلق دهشة أو ألم إضافي.
مثال على الانزياح:
"داهمتها رائحة الياسمين، وقد ملأت أرجاء غرفتها، فانفتحت أسارير روحها، وكانها كانت بحاجة ماسّة إلى هذه الكمية من العطر." ص 52
اللغة هنا تتجاوز التعبير المباشر لتخلق إحساسًا بالثقل العاطفي الهائل.
ثالثًا: التقنيات الأسلوبية
سمر الديك تتبع أسلوبًا واضح الملامح، يقوم على عدة تقنيات بارزة:
1. التوازي والتكرار
تكرر تراكيب محددة لإحداث إيقاع داخلي يحاكي الإلحاح الشعوري.
مثال:
"كتمتُ صرختي داخل صدري.. مزّقتُ أحلامي وما بقى من عمري.. لا أنت معي ولا أنت مغادر"
التكرار هنا يعزز الإحساس بالضياع المستمر.
2. حذف أدوات الربط
كثيرًا ما تحذف أدوات الربط ("و"، "ثم"، "لكن") لجعل الجمل تتدفق بسرعة وتعبّر عن حالة الذهن المشوش.
مثال:
"كتمتُ. مزّقتُ."
هذا الأسلوب يوحي بحالة من التوتر الداخلي المستمر.
3. الأسلوب الحلمي
بعض المقاطع تُكتب كأنها رؤى حلمية ضبابية، مما يزيد الغموض ويعبر عن التباس الزمن والمكان.
مثال:
"كان السكون يُخيّم على البيت، وإذا برجل الياسمين يتقدّم منها وهي مستلقية فوق سريرها، اقترب منها كثيرًا حتى أحسّت بأنفاسها تخترق رئتيها..." ص 56
اللغة في "ياسمين سومري" ليست مجرد أداة للسرد، بل هي نفسها كائن شعوري ينبض، ينكسر، وينزف.
على المستوى اللساني: اختارت الكاتبة مفردات مشحونة، وتراكيب مشظاة تناسب ألم الشخصية.
أما على المستوى الجمالي: فاعتمدت الاستعارة والانزياح لتغليف الحزن بوشاح فني رقيق.
فيما تشكّل التكرار، وحذف الروابط، والأسلوب الحلمي، التقنيات الأسلوبية التي منحت النص إيقاعه الخاص، وجعلته يبدو وكأنه مونولوج داخلي مفتوح على الريح.
يمكننا القول إن سمر الديك، في "ياسمين سومري"، لم تستخدم اللغة كوسيط محايد، بل جعلت منها انعكاسًا مباشرًا للحالة الشعورية التي تسكن النص.
وهذا بالضبط ما تسعى إليه القراءة الذرائعية: أن تجد أن كل عنصر لغوي أو جمالي أو أسلوبي، مرتبطٌ عضويًا بالبؤرة الأخلاقية والوجدانية الكبرى التي ينبني عليها النص.
• المستوى الديناميكي:
الرواية ليست محكومة بسرد خطي تقليدي، بل بالأحرى بتيار وعي، تتنقل فيه الشخصية بين ذكريات، ومشاعر، وأفكار بدون ترتيب زمني. كلما تقدمت في الرواية، تشعر أن الواقع والحلم والذكرى يتشابكون بلا فواصل واضحة.
الشخصيات
هيفاء:هي الشخصية المركزية.
مكتوبة بلغة شفافة، شخصيتها غير متمردة بشكل فج، بل مُنهكة، تحاول النجاة رغم هشاشتها.
الكاتبة جعلتها مرآة لكل الخيبات، دون أن تحصرها في نموذج نمطي.
الشخصيات الثانوية:
حضورها خافت جدًا، وكأن العالم اختُصر في ألم هيفاء.
(ملاحظة: الرواية ليست مهتمة بتقديم شخصيات معقدة كثيرة، بل تركّز على السرد الداخلي لشخصية واحدة.)
غرائبية شخصية "رجل الياسمين" في رواية "ياسمين سومري"
بين الحضور الطاغي للذات المنهكة في الرواية، ينبثق "رجل الياسمين" ككائن غامض، غير محدد الهوية،
وكأنه ظلٌ عابر بين الواقع والحلم، بين الذاكرة والوهم.
غرائبيته لا تأتي من أفعال خارقة، بل من طريقة وجوده الهلامي في النص، حيث يظهر تارة كملاذ، وتارة كخدعة شعورية.
كيف تظهر غرائبية "رجل الياسمين"؟
1. عدم وضوح حقيقته:
"رجل الياسمين" لا يقدم بملامح دقيقة، ولا يُعطى اسمًا أو ماضٍ حقيقي.
إنه مُتخيَّل بقدر ما هو محسوس، أشبه بفكرة أكثر منه شخصًا فعليًا.
تقول البطلة في موضع مؤثر:
"تفكّر بهذا الرجل الذي سقط ميتًا وهو يلوح لها بزهرة الياسمين، وسرعان ما تذكرته، إنه هو ذاك الرجل الذي أعاد شجرة الياسمين المقطوعة إلى مكانها، نعم هو رجل الياسمين، فأطلقت عليه رجل الياسمين." ص26
مما يعني أن حضوره مرتبط بنقص داخلي تعيشه البطلة، لا بحقيقة خارجية.
2. التقاطعات مع الحلم والأسطورة:
كل ظهور لرجل الياسمين يكتسي بطابع حلمي أو أسطوري:
يظهر فجأة دون مقدمات. يحضر بصفات مثالية أو خرافية. يختفي كأن الأرض ابتلعته دون أثر. كأن الكاتبة تستعير من تقنيات الأدب الفانتازي ولكن بصيغة وجدانية.
تقول الساردة:
"... فالتفت إليها مبتسمًا، فاخترقت بسمته هذه شغاف قلبها، ثم أدار وجهه وغادر مختفيًا عن أنظارها وهي تلاحقه بنظرات تجهل كنهها." ص 22
3. رمزية الياسمين:
الياسمين هنا رمز للبراءة المفقودة، للحلم الذي تلوثه الحياة.
رجل الياسمين ليس مجرد شخص، بل هو استعارة لكل ما فقدته ياسمين في رحلتها الطويلة مع الألم.
الياسمين يرتبط بالحنين والصفاء في المخيلة العربية، ومع ذلك هنا يصبح الياسمين مشوبًا بالحزن، لأنه حلم لا يمكن الإمساك به.
لماذا هذا الغرائبية مهمة؟
تعزّز شعور القارئ بأن الرواية ليست سردًا لوقائع، بل غوص في العوالم الداخلية الممزقة.
تجعل "رجل الياسمين" شبيهًا بـ"صديق الطفولة الوهمي" الذي يظهر ليعوض الفقدان، لكنه في النهاية لا ينقذ.
تخدم فكرة أن الخلاص في الرواية ليس عبر الآخرين، بل عبر المصالحة مع الذات.
في رواية "ياسمين سومري"، لا يظهر "رجل الياسمين" كشخص من لحم ودم، بل كظلٍ هش، كطيفٍ يزور البطلة بين الوهم واليقظة.
غرائبيته لا تأتي من قوى سحرية، بل من كونه انبعاثًا للحنين والخذلان معًا.
إنه لا يحل عقدة البطلة، ولا ينقذها، بل يضاعف وعيها بأنها وحيدة، وأن الحلم وحده لا يكفي لبناء واقعٍ جديد.
هكذا تكتمل مأساة الرواية، بوجود رجلٍ مصنوعٍ من الياسمين، ومن الألم ذاته.
تداخل الأجناس الأدبية (السرد والشعر)
واحدة من أجمل ميزات رواية "ياسمين سومري" هي تداخل السرد مع الشعر.
سمر الديك لم تلتزم بجنس السرد الخالص، بل دسّت بين طيات الرواية قصائد قصيرة تحمل نبرة شعرية صافية، فتخلق نوعًا من الهارموني الداخلي بين السرد والشعر.
1. وظيفة القصائد داخل النص: لم تأتِ القصائد للتجميل أو التزيين فقط، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن حالات نفسية حرجة تمر بها البطلة.
القصائد تشكل محطات وجدانية، تحكي ما تعجز عنه الجملة السردية النثرية أحيانًا.
مثال من إحدى القصائد التي أدرجتها الرواية:
" أتمدّد صوب الشمس
أرنو إلى الشجر
أودّع بقايا صورٍ وردية ذهبية
أتكئُ على كتف الظلام
أطاول بلهفة أعناق الغمام
ومع المدارات أدورْ " ص 88
هذه القصيدة الصغيرة تأتي لتعبر عن تيه الذات وانكسار العلاقة مع الزمن والمكان.
2. طبيعة اللغة الشعرية:
اللغة المستخدمة في هذه القصائد مكثّفة، محملة بالصور البلاغية والانفعالات الداخلية.
تُظهر القصائد تأثّر الكاتبة بجماليات القصيدة الحرة: غياب الوزن التقليدي، والاعتماد على الإيقاع الداخلي والصور المفتوحة.
3. أثر تداخل الأجناس:
يجعل النص أكثر تنوعًا وإيقاعًا، فيخفف من وطأة السرد الثقيل.
يمنح القارئ فرصة للتوقّف والتأمّل في عاطفة اللحظة، بدلًا من الجري وراء الأحداث.
يدمج العاطفي بالقصصي بطريقة سلسة.
بكلمات أخرى، الشعر في "ياسمين سومري" ليس زينة إضافية، بل هو نسيج أصيل من نسيج الرواية.
سرد الحرب في رواية "ياسمين سومري":
كيف حضرت الحرب في النص؟
هل جاءت الحرب كحدث خارجي أم كانت حاضرة بشكل نفسي داخلي؟
كيف أثّرت الحرب على السرد والشخصيات والأسلوب؟
في "ياسمين سومري"، جاءت الحرب كظل نفسي لا كحدث مباشر
لا تسرد سمر الديك الحرب بشكل تقريري أو وثائقي. ليست هناك مشاهد مباشرة للمعارك أو القنابل أو الجبهات.
الحرب هنا تحضر بطريقة غير مباشرة، كـظل ثقيل يُخيّم على البطلة وعلى العالم المحيط بها.
كل شيء في الرواية يتصرف وكأن الحرب خلفه:
الحزن العام.
التهدم الداخلي.
الاغتراب.
فقدان الإيمان بالمكان والزمان.
مثال:
"... أقفلت الباب بإحكام، لقد تبدّلت الحياة في هذه البلاد، وغادرتها طيور السلام، وانتشرت في سمائها غربان السوء، وانفجّ الغضب في كل مكان ..."ص 49
هذه الجملة لا تذكر قذيفةً أو انفجارًا، لكنها مشبعة بإحساس الدمار، وكأن الدمار صار حالة داخلية لا مشهدًا خارجيًا فقط.
الحرب كتشظٍ داخلي:
من الناحية الذرائعية، نلاحظ أن الكاتبة جعلت الحرب تتسرب إلى بناء الشخصية نفسها.
هيفاء ليست ضحية قذيفة، بل ضحية حرب نفسية أطاحت بداخلها. فقدت علاقتها بالمكان. تهشمت ذاكرتها.أصبحت تبحث عن نفسها في أرض غريبة لا تعترف بها.
" كل واحدة منهن قدّمت كثيرًا من التنازلات، وعددًا من القرابين من أجل الوطن، الوطن الذي رفض وجودهن وجعل منهن لاجئات في بلاد الغربة ..." ص 64
هنا نلاحظ أن الحرب لم تغيّر المشهد فقط، بل غيرت هوية الشخصية نفسها.
الحرب وانهيار الزمان والمكان:
من نتائج الحرب في الرواية:
تشظي الإحساس بالزمن (لا ماضٍ واضح، ولا مستقبل مأمول).
تدمير الحميمية مع المكان (المدينة، البيت، الطرقات لم تعد تحضن البطلة بل تنفرها).
كل سرد الزمن في الرواية يبدو مضطربًا، مشوشًا، وكأن الحرب قد قطعت خيط الزمن إلى أشلاء.
الحرب كلعنة ثقيلة
لا تقدم سمر الديك تفسيرًا سياسيًا للحرب، ولا تبحث عن الجناة والضحايا وفق سردية مباشرة.
بل تعالج الحرب باعتبارها لعنة إنسانية عامة، لا خلاص منها بسهولة.
"لمَ تُغتال الثورات التي يقوم بها الشعب ضد الظلم والطغيان والديكتاتوريات؟! ولمَ يظل الشعب هو الضحية؟" ص67
السؤال هنا أكبر من تفاصيل الحرب؛ إنه سؤال وجودي عن معنى البقاء بعد كل ما تهدم.
يمكننا أن نقول إن سمر الديك ابتعدت إلى حدّ معقول عن المباشرة السردية في تناول الحرب، واختارت أن تجعل الحرب حاضرة عبر:
اللغة المشروخة.
المشاعر المبتورة.
الأمكنة المهدمة نفسيًا لا هندسيًا.
الشخصيات التي فقدت معالمها قبل أن تفقد بيوتها.
بهذا الأسلوب، جاءت الحرب في "ياسمين سومري" حربًا نفسية داخلية أكثر منها حدثًا خارجيًا، مما زاد من عمق النص وجعل السرد متماهيًا مع الانهيار الإنساني الكلي.
هكذا نجحت الرواية في بناء عالم ما بعد الحرب دون أن تحتاج إلى سرد مشاهد دموية، مكتفية بزرع الحرب في نسيج الروح واللغة والمكان.
البناء السردي:
في "ياسمين سومري"، تداخلت تقنيات تيار الوعي (Stream of Consciousness ) أكثر منه سرد أحداث مترابطة، مع الاستبطان الداخلي، ما خلق جوًّا داخليًا نابضًا بالصدق والعفوية، دون حاجة لسرد خطي أو حبكة تقليدية. ليست"حبكة تقليدية" (بداية – ذروة – نهاية)، بقدر ما هي مسار وجداني، كأننا نرافق ياسمين في رحلة نزول وصعود داخلي.
الانتقالات بين الأزمنة والأمكنة سلسة وجدانيًا لكنها قد تُربك القارئ الذي يبحث عن سرد كلاسيكي
لقد أدركت سمر الديك بوعيٍ فنيّ أن السرد الصافي لم يعد كافيًا وحده للتعبير عن تعقيد التجربة الإنسانية المعاصرة.
في عالم تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة والمشاعر، صار الأدب نفسه مطالبًا بأن يخلط بين الأجناس ليعكس هذا التشظي والثراء معًا.
اعتمدت الكاتبة على المشاهد الكثيفة بدلًا من الإطالات التفصيلية، فكانت كل لقطة كأنها طعنة شعورية قصيرة وقاسية، تترك أثرها دون الحاجة إلى شرحٍ طويل.
وجاء إدخال القصائد الشعرية داخل المتن السردي ليكمل هذا البناء الفني، حيث أصبحت القصيدة متنفسًا عاطفيًا في اللحظات الأكثر وجعًا.
لم تبدُ القصائد دخيلة أبدًا، بل التحمت بالسرد كما يلتحم النفس بالروح، مضيفةً بعدًا إيقاعيًا وحسًّا وجدانيًا عميقًا.
وهكذا تحققت في الرواية تلك الحالة الأدبية الحديثة التي يسعى إليها كثيرون اليوم:
أن يكون النص الأدبي مساحة حرة تتلاقى فيها الأجناس دون حواجز صلبة، ليكون أكثر صدقًا مع حالة الإنسان المعاصر.
في النهاية، يمكن القول إن رواية "ياسمين سومري" لم تكن فقط نصًا سرديًا، بل كانت حالة شعورية متكاملة، استطاعت بذكاءٍ أن تستخدم الأدوات الفنية كلها: السرد، والشعر، والتدفق الداخلي، لرسم خريطة حزن إنسانية شديدة الخصوصية.
• المستوى النفسي:
المستوى النفسي في الرواية: كيف بُني العالم الداخلي للشخصيات وكيف انعكست نفسيتها على النص؟
التساؤلات: كثافة الأسئلة الداخلية وكيف تخدم رؤية الرواية.
التناص: أي الروابط النصية مع نصوص أخرى (دينية، شعرية، ثقافية...) داخل الرواية.
المستوى النفسي، التساؤلات، والتناص في رواية "ياسمين سومري"
المستوى النفسي في "ياسمين سومري" هو العمود الفقري الحقيقي للنص.
الرواية بأكملها تقريبًا هي غوص داخلي في الاضطراب النفسي لشخصية ياسمين، التي تعيش حالات متواصلة من:
التيه الذاتي: البحث عن الذات وسط عالم محطم.
الانفصال العاطفي: انقطاع المشاعر مع المحيطين بها.
الانسحاب الداخلي: اللجوء إلى داخلها للهروب من قسوة الواقع.
الكاتبة نجحت في أن تجعل القارئ يعيش داخل نفسية ياسمين، لا يراقبها من الخارج.
مثال نفسي عميق:
" بقي في أعماقها فراغ هائل لم تتمكّن من ردمهوالتخلص من تبعاته التي حوّلت حياتها إلى حياة شبه كارتونية فارغة، لقد أصبحت الغربة شيطانًا مرعبًا يرسل جيوشه عليها في كل ليلة " ص 114
التفسير النفسي:
هذا يعبر عن تفكك الهوية بعد تجربة الحرب والخسارات، حيث لم تعد الشخصية تثق بذاتها أو بعالمها.
ثانيًا: التساؤلات كأداة سردية
من اللافت في الرواية أن البطلة كثيرًا ما تتحدث بصيغة الأسئلة المفتوحة:
الأسئلة تتكرر كوسيلة تعبير عن الحيرة الوجودية، وليس للبحث عن إجابات جاهزة.
مثال تساؤلي:
مثال:
"كم أشعر برغبة جامحة في أن أحطّم بنيته... أن أدفنه تحت التراب رخيصًا ... ولكني ما ألبث أن أعود إلى صوابي... وأتساءل:
ماجدوى ذلك؟! وأولادنا ؟! واستقرارنا؟! واستسلامنا للقدر؟! ص 116- 117
الدلالة:
هذه التساؤلات لا تنتظر جوابًا، بل تؤكد ضياع البطلة وسط مشهد نفسي خرب.
التساؤل هنا يتحول إلى تكنيك سردي نفسي، يجعل النص مفتوحًا ومتذبذبًا مثل الذهن المضطرب.
التناص داخل الرواية:
التناص يعني وجود نصوص أخرى داخل النص الروائي بشكل ظاهر أو خفي.
في "ياسمين سومري"، نجد عدة مستويات من التناص:
1. تناص شعري
كما رأينا سابقًا، هناك قصائد كثيرة داخل النص، تشبه قصائد النثر الحديثة.
هذا يخلق تناصًا مع روح القصيدة العربية الحرة.
2. تناص ثقافي
هناك إشارات عامة إلى مفاهيم ثقافية معروفة (الغربة، المنفى الداخلي، خراب المدن...)، دون اقتباس مباشر، مما يجعل النص متشابكًا مع الذاكرة الثقافية الجماعية، خصوصًا في سياق الحرب السورية أو الحروب الحديثة.
نفسيًا: تسبح الرواية في أعماق اضطراب الشخصية، مع بناء مشهدي للعزلة والتيه والضياع.
سرديًا: تتحول التساؤلات إلى نوافذ مفتوحة على الفراغ، مضيفةً جوًا من التوتر الداخلي الدائم.
فنّيًا: يتشابك النص مع تناصوص( جمع تناص) شعرية وثقافية، تزيده غنىً وتجذرًا في الذاكرة الإنسانية العامة.
ملاحظة نقدية: مفهوم "التناصوص" في القراءة الأدبية
يُعد مصطلح "تناصوص" امتدادًا لمفهوم "التناص" الذي ظهر في النقد الحديث، وهو يشير إلى تعدد وتداخل النصوص داخل نص أدبي واحد، بحيث ينفتح النص الجديد على شبكة من الإحالات الثقافية والأدبية والدينية.
في رواية "ياسمين سومري"، يتجلى التناصوص عبر عدة مستويات:
تناص ديني مع مفاهيم مثل الخلاص والبعث.
تناص شعري مع جماليات القصيدة الحرة الحديثة.
تناص ثقافي مع سرديات الاغتراب والحرب والضياع.
التناصوص هنا لا يظهر كمجرد زخرفة ثقافية، بل يأتي بوظيفة ذرائعية واضحة:
يعمق المعنى النفسي للنص، ويربط التجربة الفردية للبطلة بتجارب جماعية إنسانية كبرى، مما يمنح الرواية أبعادًا رمزية وشعورية تتجاوز حدود الحكاية الشخصية.
وبهذا يتحول النص إلى مساحة حرة تتقاطع فيها أصوات متعددة، مما يزيد من ثرائه الداخلي ويعزز ارتباطه بالذاكرة الإنسانية العامة.
ملاحظة نقدية إضافية: الفرق بين التناص الظاهر والتناص الخفي
في النقد الحديث، يُميز الباحثون بين نوعين رئيسيين من التناص داخل النصوص الأدبية:
التناص الظاهر:
وهو التناص الذي يَظهر بوضوح أمام القارئ، إما عبر اقتباس مباشر، أو عبر الإشارة الصريحة إلى نص آخر أو إلى شخصية ثقافية أو دينية معروفة.
مثال على ذلك: عندما تذكر الرواية شخصية "مريم العذراء" بالاسم، أو تستدعي آية أو بيتًا شعريًا معروفًا دون مواربة.
التناص الخفي:
وهو التناص الذي يتسلل إلى النص بشكل غير مباشر، عبر استحضار معانٍ أو أجواء أو رموز مأخوذة من نصوص أخرى، دون التصريح بها علنًا.
يظهر التناص الخفي عبر الإيحاء، الأجواء الشعورية، أو إعادة بناء أفكار ثقافية مألوفة بصيغة جديدة.
مثل أن تتحدث الرواية عن فكرة "البعث" و"القيامة الداخلية" دون ذكر ديني صريح، لكنها تحرك في ذهن القارئ صدى النصوص الدينية والثقافية القديمة.
في رواية "ياسمين سومري"، يحضر التناص الخفي بشكل أكبر من الظاهر، ممّا يعزز الطبقة الشعورية العميقة للنص دون أن يثقل بنيته الفنية.
هكذا تحقق "ياسمين سومري" نصًا متشظيًا لكنه مشبع بالحياة، بالأسئلة، وبالبحث الدؤوب عن خلاص مفقود.
أما التناص، فقد شكل طبقة خفية أخرى من التعبير الذرائعي:
التناص الديني أضفى على التجربة أبعادًا روحية مبهمة.
التناص الشعري منح النص طابعًا وجدانيًا نابضًا بالإيقاع الداخلي.
التناص الثقافي ربط التجربة الفردية بذاكرة جماعية كبرى عن الحرب والضياع الإنساني.
في النهاية، يظهر واضحًا أن سمر الديك لم تكتب رواية عن قصة محددة، بل كتبت عن حالة إنسانية ممزقة، واستخدمت اللغة، الصور، التساؤلات، والتناصوص، كوسائط متعددة لترجمة هذا التمزق.
وبهذا تحقق النص الذرائعي بشكله الأعمق: نصٌ يُقرأ من الداخل، عبر آلامه واهتزازاته وتناقضاته، لا عبر حبكته الظاهرة فقط.
دراسة التجربة الإبداعية
تبدو رواية "ياسمين سومري" وليدة تجربة إبداعية ذاتية عميقة، أكثر منها مشروعًا روائيًا تقليديًا.
من خلال اللغة المشحونة، البناء المشظى، الإلحاح العاطفي، نستطيع أن نستنتج أن الكاتبة سمر الديك تكتب من داخل الألم، لا من خارجه.
النص ينبض بطاقة وجدانية غير مصطنعة، ويشي بأن الكاتبة لم تلجأ إلى الخيال وحده، بل استدعت وجعًا ذاتيًا داخليًا، ربما مزيج من تجربة شخصية أو تجربة إنسانية قريبة من روحها.
ملامح التجربة الإبداعية كما نراها في النص:
الصدق الشعوري: لا توجد جمل مزينة أو أحداث مصطنعة. كل شيء يبدو نابضًا بالألم الحقيقي.
الكتابة كنوع من التطهير (Catharsis): النص يبدو كأنه محاولة للتخفف من ثقل الذكرى والخسارات.
الرغبة في استعادة الذات عبر الحكي:
الكتابة هنا ليست للمتعة أو الترف الثقافي، بل فعل بقاء.
تقول الكاتبة برسالة تركها السومري للبطلة :
"الكتابة هي عزاؤكِ الوحيد، وسلوتك في هذه الحياة التي تلقي بأمواجها عليك بين مدّ وجزر، تصالحي مع ذاتك ما دامت هي الشيء الوحيد الذي لن يستطيع القدر أن يسلبَها منك" ص 120
هذا التصريح يكشف بشكل عميق عن جوهر التجربة الإبداعية.
في منظور ذرائعي، نستطيع القول إن التجربة الإبداعية هنا تتجسد في:
تحويل التجربة الشعورية العنيفة إلى نص مفتوح، مليء بالتشظي الجمالي واللغوي، لكنه مُحكم في صدقه الداخلي.
ختامًا:
في روايتها "ياسمين سومري"، تمضي سمر الديك بعيدًا عن السرد التقليدي نحو تخوم النفس الإنسانية المتعبة، مستعينة بلغة مشروخة وجماليات شعرية وتناصوص ثقافية وروحية، لنسج عالم مأزوم يعكس آثار الحرب النفسية على الفرد
لم تكن الحرب مجرد خلفية للأحداث، بل كانت شبحًا داخليًا يهيم على النص بأكمله، محطمة الزمان والمكان والهوية.
جاء "رجل الياسمين" ككائن غرائبي يحرس حلمًا مكسورًا، وجاءت الأسئلة المتتابعة كوسيلة لصنع موسيقى داخلية تترجم الحيرة والتيه.
تجلّت التجربة الإبداعية للكاتبة في قدرتها على تحويل الفقد الداخلي إلى كتابة نابضة، وعلى مزج الأجناس الأدبية بسلاسة، وعلى بث روح وجدانية عميقة في النص دون الوقوع في المباشرة أو الخطابية.
هكذا تكتب سمر الديك شهادة ذاتية عن الانكسار الإنساني، متجاوزة التفاصيل الصغيرة إلى التعبير عن ألم جماعي يتردد صداه في قلب كل قارئ.
"ياسمين سومري" ليست مجرد رواية عن الألم، بل هي مقطع موسيقي داخلي مكتوم، نسمعه أكثر مما نقرأه، ونشعر به أكثر مما نفهمه.
#دعبيرخالديحيي الاسكندرية – مصر 28/ 4 / 2025



#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تتغير الأصداء: هل تحيا الرسالة خارج زمكانها؟ بين الذرائع ...
- سرد الأحلام : آلية للتحوّل النفسي والتمرّد الاجتماعي في رواي ...
- الساحل السوري بين المؤامرة والانقلاب: حين كشف الغبار الحقيقة
- سوريا.. معركة الوحدة في مواجهة رياح التقسيم والعقوبات والتحر ...
- سوريا بين فكي العاصفة: تحديات الداخل والخارج
- بين المبدأ والانتهازية.. الفن حين يكشف الوجوه الحقيقية
- تجليات العزلة والاعتراف في السرد الوجداني : قراءة في بناء ال ...
- مي سكاف: نجمة الحرية التي أبت أن تنطفئ
- حسن نصر الله: زيف إيران الذي احترق بنيران الحقيقة
- أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية ...
- اغتيال الحريري: الرصاصة التي فجّرت لبنان
- (ألفيّة القس جوزيف إيليا) بين هندسة الشكل وجمالية القيَم في ...
- مجزرة حماة 1982: إبادة جماعية بأوامر الأسد وجرح لم يندمل
- الروح الضائعة في اللحن المكسور : بين الشغف والتضحية دراسة ذر ...
- مأساة الأطفال المختطفين من أبناء المعتقلين في سوريا: جريمة إ ...
- النقد وأدب الذكاء الاصطناعي
- الميتاقص- أساليبها وتمظهراتها في قصة / رسول الشيطان/ للقاص ا ...
- ديستوبيا الماسونية الجديدة في رواية (العوالم السبع) للأديب ا ...
- أدب الرسائل عند الأديبة حياة الرايس (رسائل أخطأت عناوينها) د ...
- قراءة في رواية / جبل الزمرد/ للروائية المصرية منصورة عز الدي ...


المزيد.....




- مصر.. رفض دعاوى إعلامية شهيرة زعمت زواجها من الفنان محمود عب ...
- أضواء مليانة”: تظاهرة سينمائية تحتفي بالذاكرة
- إقبال على الكتاب الفلسطيني في المعرض الدولي للكتاب بالرباط
- قضية اتهام جديدة لحسين الجسمي في مصر
- ساندرا بولوك ونيكول كيدمان مجددًا في فيلم -Practical Magic 2 ...
- -الذراري الحمر- للطفي عاشور: فيلم مأخوذ عن قصة حقيقية هزت وج ...
- الفلسطيني مصعب أبو توهة يفوز بجائزة بوليتزر للتعليق الصحفي ع ...
- رسوم ترامب على الأفلام -غير الأميركية-.. هل تكتب نهاية هوليو ...
- السفير الفلسطيني.. بين التمثيل الرسمي وحمل الذاكرة الوطنية
- 72 فنانا يطالبون باستبعاد إسرائيل من -يوروفيجن 2025- بسبب جر ...


المزيد.....

- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - تيه الذات واستعادة الكينونة دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية ( ياسمين سومري) للكاتبة والشاعرة السورية سمر الديك بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي