أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية -مشاهد- للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي















المزيد.....


بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية -مشاهد- للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي


عبير خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 08:27
المحور: الادب والفن
    


المقدمة
" تعيد رواية مشاهد مساءلة العلاقة بين البنية السردية ومسار التشكّل القيَمي في النصوص الروائية المعاصرة، حيث يُبنى سرد المشاهد كأداة لرصد تحوّل الضمير الإنساني وسط فضاء معَوْلَم متشابك القيم والهويات."
تنطلق الرواية من نبوءة أمومية حالمة، تُلقي على الطفل عند ولادته توقّعًا ببطولة كبرى، سرعان ما تتفكك تحت ثقل الحياة اليومية، ويُكتب مسار البطل من خلال رحلة صامتة من التربية الأخلاقية العميقة.
إنّ "مشاهد" ليست رواية صعود اجتماعي، ولا رواية أحداث كبرى، بل هي رواية تربية الضمير الأخلاقي Bildungsroman، في عصر تُهدّده القيم السائلة والعولمة.
بطلها ليس قائدًا نرجسيًا، بل إنسان عادي شريف، يُعيد بناء قيمه يومًا بيوم، في تفاصيل الحب، الأبوة، العمل، والصداقة، وسط عالمٍ تُنازعه ثقافات متعددة.
تعتمد الرواية أسلوبًا لغويًا هجينًا: بين الفصحى واللهجة المصرية، وبين المحكي والإنكليزية، وتُبنى على مشهدية سردية لا خطيّة؛ حيث تُكتب الحياة كسلسلة "مشاهد" مؤثّرة، لا كحكاية مغلقة.
وتُقدَّم هذه القراءة الذرائعية للكشف عن آليات بناء القيم في الرواية، من خلال تحليل مستوياتها السردية الأسلوبية، الديناميكية، التداولية والبصرية، بما يُعيد وضع مشاهد في سياق الرواية الاجتماعية الأخلاقية المعاصرة .

 المستوى الأول: البؤرة الفكرية والرسالة الأخلاقية

- البؤرة الفكرية: تفكيك حلم البطولة
تُبنى رواية "مشاهد" على مفارقة وجودية دقيقة، تتجلّى منذ لحظة ولادة البطل:
نبوءة أمومية تُقذف في وعي الطفل، حين تحلم أمه أثناء ولادته بصورة عبد الناصر يخطب في الجماهير.
منذ ذلك الحين، يُصبح هذا الطفل حاملًا لتوقّع كبير: أن يكون يومًا ما بطلًا عظيمًا، يُغيّر المجتمع.
غير أن مسار الرواية لا يُعيد إنتاج هذه النبوءة، بل يُفكّكها بحذر:
البطل ينمو إنسانًا عاديًا، بلا كاريزما استثنائية، ولا موهبة قيادية فذّة.
كل ما يُنجزه لاحقًا ليس في سياق تحقيق النبوءة، بل في صقل ضميره الداخلي واختياراته الأخلاقية اليومية.
هكذا تُؤسّس الرواية بُنيتها الفكرية على سؤال:
ماذا يعني أن يكبر إنسان عادي في ظل توقّع بطولة كبرى؟
وهل البطولة الحقّة هي تحقيق النبوءات، أم الحفاظ على الكرامة الأخلاقية في تفاصيل الحياة؟

- مسار التربية الأخلاقية
يُكتب مسار البطل في "مشاهد" كرحلة تربية ضمير:
منذ طفولته، تتشكّل منظومة قيَمه تحت تأثير الأب والأم.
الأب يُقدّم له نموذج العمل الشريف، والأم تُشكّل صوته الأخلاقي الأعمق — الذي يُرافقه حتى في غربته.
حين يُسافر إلى أمريكا، يُصبح الفضاء الجديد ميدان اختبار القيم:
إغراءات المال، حرية العلاقات، تحلّل القيم العائلية، ثقافة السوق المتفلّتة.
غير أن البطل يُظهر صلابة داخلية:
يمتنع عن المعصية رغم المغريات، يُحافظ على قيم الأسرة، ويُقاوم النزعة الاستهلاكية الفجّة.

- التضحية بالحب
تصل التربية الأخلاقية ذروتها في مشاهد الأزمات العاطفية:
1️ مع أندريا:
في البداية حب صادق، لكن حين تبدأ أندريا في الانهيار القيمي — العودة إلى الخمر والملاهي، إهمال الأسرة يُصبح على البطل أن يختار:
هل يُحافظ على زواجه، أم على تربية ابنه في بيئة سليمة؟
فيختار القيم، ويُضحّي بالحب.
2️ مع هدى:
بعد سنوات، حين ينمو حب جديد بينه وبين هدى، يُصطدم بمعارضة ابنه مالك.
يُفضّل مرة أخرى مصلحة الابن على رغبته الشخصية، مؤجّلًا سعادته احترامًا لمشاعر ابنه.

- الأبوة كهوية قيمية:
بهذا المسار، تتحوّل الأبوة إلى جوهر مسار البطل:
ليست "أبوة بيولوجية" ولا "سلطة أبوية"، بل أبوة قيَمية — قائمة على التضحية، التربية، وحماية الأبناء من العالم المنحلّ.
الأب هنا لا يُعيد فقط تربية ابنه، بل يُعيد تربية ذاته، بتجديد القيم في كل موقف أخلاقي.
- Bildungsroman: رواية التشكُّل الأخلاقي
في العمق، تُكتب "مشاهد" كرواية Bildungsroman حديثة:
البداية بـ نبوءة/وعد (عبد الناصر في حلم الأم)، ثم مراحل التربية القيمية، ثم امتحان القيم في الغربة، ثم التضحية بالحب.
ثم النضج الكامل: حين يكبر الأبناء، ويتاح للبطل حب ناضج مستحق.
لكن هنا، النبوءة لا تتحقّق كـ بطولة جماهيرية، بل تتحقّق كـ بطولة الضمير:
أن يُصبح البطل إنسانًا شريفًا صامتًا، أن يُربّي أبناءه وأبناء العاملين عنده على القيم، وأن يُنجز بطولة التفاصيل الأخلاقية الصغيرة.

بهذا، تتجلّى الرسالة الأخلاقية العميقة للرواية:
أن البطولة ليست في تحقيق نبوءات كبرى، ولا في قيادة الجماهير، بل في:
الوفاء للقيم، والصمود الأخلاقي وسط العواصف.
وفي زمن تُهيمن عليه ثقافة الاستعراض والقيم السائلة، تُعيد "مشاهد" الاعتبار إلى الإنسان العادي الشريف:
الذي يختار الخير يومًا بيوم، ويُربّي نفسه وأبناءه على شرف التفاصيل.

 المستوى الثاني: المستوى الأسلوبي
■ الأسلوب اللغوي: بين الحيوية والتفاوت
من السمات اللافتة في رواية "مشاهد" هو أسلوبها اللغوي الهجين:
بين الفصحى في السرد، والعامية المصرية في الحوارات، والإنكليزية في بعض العناوين والمقاطع.
هذا التداخل يعكس هوية البطل المزدوجة: ابن مصر، المغترب في أمريكا، العابر بين ثقافتين.
■ تداخل اللهجة المصرية والفصحى:
الحوارات تُكتب باللهجة المصرية الصافية، وهو خيار مقبول نوعًا ما و:
يُعطي للنص صدقًا شعوريًا، ويُقرّب السارد من القارئ.
غير أن التداخل بين اللهجة والفصحى في السرد أحيانًا يظهر غير مضبوط الإيقاع:
في مواضع يتسرّب التعبير العامّي إلى جُمل السرد بلا تمهيد، مما يُحدث تفاوتًا نغميًا بين فصول السرد.

■ التداخل بين العامية والإنكليزية:
أما إدخال الإنكليزية، فهو:
أحيانًا مبرَّر (في العلاقة مع أمريكا)، وأحيانًا يُقحم بلا مبرر كافٍ — كما في بعض العناوين (Your sincere boyfriend) — مما يُربك هوية النص.
ويُلاحَظ أن الرواية لا تعتمد نمطًا ثابتًا في إدخال الإنكليزية:
تارة في العنوان، وتارة في الحوار، وتارة تُحكى الحوارات الأجنبية معرَّبة تمامًا.

■ مكامن القوة والمآخذ:
من مكامن القوة:
صدق اللهجة، قرب النبرة من القارئ العادي، محاكاة واقع البطل في المهجر.
من المآخذ:
تفاوت النغمة بين السرد والحوار، غياب منطق موحَّد لإدخال الإنكليزية، ارتباك في الانتقال بين المستويات اللغوية.

■ توصية أسلوبية
يمكن تحسين هذا التداخل بضبطه عبر:
تثبيت قاعدة: الحوار باللهجة، السرد بالعربية البسيطة، الإنكليزية حيث تفرضها الضرورة الدرامية.
توحيد منطق العناوين:إمّا أن تُكتب كلها باللهجة العامية أوالفصحى، أو أن يُبرَّر تنوّعها جماليًا ضمن فلسفة الرواية.

■ فلسفة التداخل: محاكاة العيش بين عالمين
رغم المآخذ الأسلوبية، يمكن فهم هذا التداخل في ضوء فلسفة الرواية:
البطل نفسه كائن لغوي مُرتبك — ابن بيئته وأثر غربته.
ارتباك اللغة يُحاكي ارتباك الهوية.
وهذا يُعيد الاعتبار حتى للمآخذ كجزء من صدق التجربة:
ليس البطل شخصية صافية، ولا الرواية مكتوبة بلغة صافية، بل هي تجربة لغوية معقَّدة، تعكس العيش بين هويتين.

 المستوى الثالث: البنية الديناميكية
• جماليات المشاهد: سرد الذاكرة المفتوحة:
تحمل رواية "مشاهد" عنوانها كمرآة لبنيتها السردية:
ليست رواية حبكة خطيّة، ولا رواية صعود درامي تقليدي، بل رواية مشاهد مختارة، تُكتب كما تتذكّرها النفس، لا كما تُرتَّبها الوقائع.
البطل نفسه يُصرّح في الفصل الأخير:
"الواحد مش بيفتكر كل حاجة... بيفتكر مشاهد أثّرت فيه."

وبذلك تتحوّل البنية إلى ما يشبه مونتاجًا شعوريًا:
كل فصل مشهد قائم بذاته، يُضيء جانبًا من الذات، دون ادّعاء حبكة كبرى.

• فلسفة الزمن في الرواية
زمن "مشاهد" ليس كرونولوجيًا، بل زمن داخلي:
يُكتب من الذاكرة، تُستدعى المشاهد وفق أهميّتها الشعورية، لا ترتيبها الزمني.
وهذا يُحاكي فلسفة بول ريكور عن الزمن السردي:
ما يُكتب ليس "ما وقع"، بل "ما بقي في الوعي".
هكذا تُصبح الرواية:
رواية ذاكرة أكثر من رواية أحداث، حيث الحاضر يُكتب من مرآة الماضي، والمستقبل يُُبنى على مشاهد مختزنة في الوجدان.

• صورة العنوان "مشاهد"
عنوان الرواية "مشاهد" يُقدّم عتبة بصرية وفلسفية:
من البداية، لا يعد القارئ بـ "قصة" أو "رحلة"، بل يعده بـ لقطات مختارة — هي ما يُشكّل الإنسان.
وهذا العنوان: ينسجم مع بنية الفصول (كل فصل = مشهد)، يُعيد بناء فلسفة الحياة نفسها:
"الحياة ليست سردًا متصلاً، بل مشاهد نُعيد تركيبها في وعينا."

• تنويع صورة المرأة: خريطة شعورية
تُكتب صورة المرأة في "مشاهد" عبر تنويع شعوري ودلالي عميق.
ليست المرأة شخصية واحدة، بل تُجسَّد في أربعة وجوه رئيسة:
الأم: الأصل القيمي، الأخت: العلاقة الإنسانية المركّبة، أندريا: الحب العابر للثقافات، هدى: الحب المؤجَّل الناضج.
■ الأم: جذر الضمير
الأم هي الصوت القيمي العميق في الرواية.
ليست فقط صاحبة النبوءة، بل الذاكرة التي تحمي البطل من الانهيار القيمي:
في الغربة، في الأزمات العاطفية، في اختياراته اليومية.
كلما اهتزّ الموقف، يعود صوت الأم كـ بوصلة أخلاقية.
■ الأخت: العلاقة المركّبة
تُكتب الأخت بصورة ساخرة، شديدة الواقعية:
"خليط ساحر شاخر من الذكاء والدهاء... كانت الحرب والسلام."
هنا يُجسَّد مركَّب العلاقة الأخوية:
ليست مِثالًا طهرانيًا، ولا خصمًا دراميًا، بل مرآة للحياة اليومية:
محبة مشاكسة، حكمة مشوبة بالخصام، علاقة تُذكّر أن الروابط الحقيقية مع البشر معقّدة بالضرورة.
■ أندريا: الحب العابر للثقافات والانهيار القيمي
علاقة البطل بأندريا تُكتب كـ اختبار قيمي عميق:
حب حقيقي في البداية، لكن مع مرور الزمن، تبدأ أندريا في العودة إلى حياة:
الخمر، الملاهي، إهمال البيت، التفكك القيمي.
عندها يُواجه البطل سؤالًا وجوديًا:
أيهما أقدَّم: الحب أم الأبوة؟
هل يُضحّي بزواجه حفاظًا على تربية ولديه؟
ويختار الأبوة والقيم — ويُطلّقها، حفاظًا على ابنَيه، وعلى ضميره.
■ هدى: الحب المؤجَّل
مع هدى، يُكتب الحب في الرواية كـ حلم أخلاقي ناضج:
يأتي بعد التجربة، بعد الألم، وبعد اكتمال الأبوة.
لكن حين يعارض الابن (مالك) زواج والده بهدى، يُؤجِّل البطل حبه احترامًا لمشاعر ابنه، في تجسيد راقٍ للتضحية الأخلاقية.
وحين يكبر الأبناء، يُتاح له هذا الحب الناضج، كـ مكافأة قدرية على صبره.

• الحب كحلم أخلاقي
هكذا تُعيد الرواية بناء الحب:
ليس كحُلم رومانسي استهلاكي، بل كـ مسار أخلاقي:
يُختبَر، يُؤجَّل، يُنضَّج بالصبر، ثم يُكتَمل كحق مستحق.

• صورة المجتمع
■ بين مجتمعين: صراع القيم
تُقدّم "مشاهد" صورة المجتمع من خلال صراع بين فضاءين ثقافيين:
مصر كجذر قيمي، أمريكا كعالم حديث معولم.
لكن الرواية لا تقع في ثنائية سطحية (شرق / غرب)، بل تكتب توتر العيش بين مجتمعين، بكل ما فيه من:
إغراءات، تصدعات، احتمالات أخلاقية.
■ مصر: جذر القيم والدفء الإنساني
في مصر، يُكتب المجتمع كمساحة:
قيم عائلية، روابط إنسانية معقّدة، تاريخ شخصي عميق.
لكن الرواية لا تُجمّل مصر:
فيها الفقر، الفساد، الأصدقاء الذين يرفضون تخصيص أرباح للعمل الخيري.
ومع ذلك، تبقى مصر في الرواية مساحة الدفء الإنساني:
الأم، الأب، الأخت، الأبوة، صديق الطفولة، مشاهد التربية.

■ أمريكا: فضاء الانفتاح والبرودة القيمية
في أمريكا، يُكتب المجتمع كمساحة:
حرية فردية مفرطة، ثقافة السوق، ضعف الروابط العائلية، قيم المتعة الفورية.
مع أندريا، يتجلّى هذا التصدع القيمي بوضوح: الخمر، الملاهي، التفكك الأسري.
وأمام هذا، يُقاوم البطل:
يُحافظ على قيمه، يرفض الاستسهال، يُعيد بناء ذاته كـ كائن قيمي، رغم كل الإغراءات.

■ صراع القيم بين المجتمعين
بهذا، لا تُقدّم الرواية مصر كـ "يوتوبيا"، ولا أمريكا كـ "ديستوبيا"، بل تكتب صراع القيم الداخلي:
كيف يُعيد الإنسان بناء ضميره بين مجتمعين؟
كيف يُحافظ على هويته الأخلاقية وسط عولمة القيم؟
والبطل لا يعود إلى مصر منكفئًا، ولا يندمج في أمريكا ذائبًا، بل يُصبح كائنًا بينيًّا:
يعيش بين عالمين، ويحمل قيمه كصوت داخلي، لا كهوية قومية مغلقة.

تُحقّق الرواية تماهيًا كاملًا بين العنوان والبنية:
"مشاهد" ليست عنوانًا مجازيًا، بل أسلوب كتابة الذات في الرواية.
والزمن السردي ليس زمن وقائع، بل زمن ذاكرة وتجربة، زمن يُعيد بناء الإنسان لا عبر نبوءات، بل عبر مشاهد تربية الضمير.
تُقدّم "مشاهد" صورة المرأة لا كزينة سردية، ولا كرمز مطلق، بل كـ فاعل في مسار تربية الضمير:
الأم تؤسّس، الأخت تُربك، أندريا تُختبِر، هدى تُكافئ.
والحب في الرواية ليس عاطفة خالصة، بل قيمة تُعاد صياغتها أخلاقيًا، وهذا من أرقى مستويات الصدق السردي في النص.
تُكتب "مشاهد" كرواية صراع قيمي عميق:
ليست رواية "هوية مغلقة"، ولا رواية "عولمة مفرغة"، بل رواية الضمير المُعاد تربيته بين مجتمعين.
والبطل ليس حامل راية وطنية، بل حامل صوت إنساني:
أن يكون إنسانًا شريفًا وسط عالم متغيّر.

 المستوى السادس: التداولية والتأثير

 القارئ المفترض
تُبنى "مشاهد" على مقاربة تداولية واعية:
ليست رواية موجَّهة للنخبة، ولا رواية تجارية شعبوية، بل رواية تتوجه إلى القارئ العادي المثقف:
ابن الطبقة الوسطى، الذي يعيش بين المحلي والعالمي، الذي يعايش صراع القيم، ويبحث عن معنى أخلاقي للحياة اليومية.

 آليات القرب التداولي
الرواية تُقرّب السارد إلى القارئ عبر:
اللغة: اللهجة المصرية في الحوارات، لغة سردية بسيطة قريبة من الحياة.
الإهداء: موجّه بلغة حميمة:
"إلى كل أب عطوف... إلى كل شاب آمن أنه يستطيع تغيير حياته..."
العناوين:
تُكتب بلغة اليوم:
"عاوز إيه"، "Your sincere boyfriend"، "أنساك يا سلام"، "لحظة الحقيقة"...
هذه العناوين تُدخل القارئ في فسيفساء مشاهد حياته اليومية.

 بناء العلاقة بين السارد والقارئ
السارد ليس شخصية متعالية، بل: يعترف بأخطائه، يُشكّك في نبوءة أمه، يُحاور القارئ من موقع الإنسان العادي.
بهذا، تتشكّل علاقة مرافقة بين القارئ والسارد: لا يُملي عليه دروسًا، بل يُشاركه رحلة تربية الضمير.

 الأثر القيمي التداولي
الرواية لا تفرض "درسًا أخلاقيًا" مباشرًا،
بل تُنتج الأثر القيمي عبر:
مشاهد التربية، مواقف التضحية، حكاية الأبوة الناضجة، صراع الحب والقيم.
في النهاية، القارئ يُدعى للتأمّل:
"كيف أُعيد تربية ضميري؟
كيف أكون أبًا أو إنسانًا شريفًا وسط زمن متقلب؟"

 خلاصة المستوى الرابع
بهذا، تُحقّق "مشاهد" تداولية عميقة:
تُحاور القارئ العادي بلغة الحياة، تبني أثرًا قيميًا غير مباشر، وتُعيد رسم العلاقة بين القارئ والنص على أساس:
مشترَك إنساني في تربية الضمير.

 المستوى الخامس: البصري
تحليل غلاف الرواية: البُعد البصري والإيحائي


يحمل غلاف رواية "مشاهد" دلالة بصرية متماسكة مع فلسفة النص، ويُعيد إنتاج البؤرة الفكرية التي تنبني عليها الرواية:
أن الإنسان يُعيد بناء ذاته كمسار مفتوح، لا كقدر مسبق.
 البنية البصرية: طريق في السماء
الصورة الرئيسة على الغلاف تُقدّم: طريقًا معبَّدًا يمتد إلى الأفق، فوق بحر من السُحب، يمشي عليه رجل وحيد يحمل حقيبة ظهر، غائب الوجه، يتّجه إلى الأمام.
هذه الصورة تُحيل إلى إيحاءات متعددة:
الطريق = مسار الحياة،
السُحب = غموض المصير،
الرجل الوحيد = الإنسان العادي الباحث عن معناه،
غياب الوجه = كل قارئ يمكن أن يُسقط نفسه على هذا البطل.
 التكوين والألوان
الألوان:
طغيان الأزرق الرمادي يعطي إيحاء بـ اللازمنية، اللايقين، المساءلة الوجودية.
غياب الألوان الفاتحة لا يُعطي وهمًا بقصة "نجاح ملوّنة"، بل يُهيئ القارئ لـ رواية قيميّة ذات نبرة هادئة.
التكوين:
البطل ليس في مركز الغلاف، بل في طريق يمتد، يُحاكي فلسفة المشاهد: أن الحياة ليست مركزًا بل فسيفساء مسار.
الامتداد إلى اللانهاية يُعيد إنتاج السؤال الذي تُطرحه الرواية:
هل المسار واضح؟ أم هو مسار تُبنيه القيم يومًا بعد يوم؟

 التناسق مع عنوان الرواية
العنوان "مشاهد" مكتوب بخط واضح، بسيط، بلون أبيض، في أعلى المجال البصري، وترافقه كلمة "رواية" بخط صغير مائل يُعطي شعورًا بأن النص لا يدّعي ضوضاء روائية، بل يُقدّم مشاهد إنسانية.
وجود الرجل في منتصف المسار البعيد يتماهى مع العنوان:
كل خطوة في الطريق = مشهد، والهوية لا تُبنى دفعة واحدة، بل عبر مشاهد مؤثّرة تُشكّل الضمير.

 الغلاف الخلفي: تكثيف الرسالة
النص الخلفي يُعيد تلخيص البؤرة الفكرية:
نبوءة الأم، الشك في تحقيقها،غموض المصير، سؤال التربية الأخلاقية.
أيضًا صورة المؤلف + بياناته → تُقدّم الخلفية الثقافية للمؤلف (خبرته القانونية، العيش بين مجتمعين)،
وهذا يُنسجم مع هوية الرواية ككتابة هجينة بين محلي وعالمي.

 خلاصة تحليل الغلاف
يغدو غلاف "مشاهد" امتدادًا بصريًا صادقًا لفلسفة الرواية:
مسار مفتوح، بطل عادي، مشاهد مؤثّرة، غموض مصير، وانتصار الأخلاق في السير اليومي.
وهو غلاف يُحقّق التناسق بين:
الصورة، العنوان، فلسفة الزمن، بنية الرواية كمشاهد، ونبرة السرد (هادئة، غير استعراضية).

"مشاهد" في سياق الرواية الأخلاقية المعاصرة:
■ استعادة الرواية الأخلاقية:
في السنوات الأخيرة، شهدت الرواية العربية والعالمية عودة واضحة إلى سردية التربية الأخلاقية:
أمام تصاعد الرواية التفكيكية الباردة، والرواية الاستهلاكية القائمة على حبكات الإثارة، ظهرت أعمال تُعيد الاعتبار إلى الإنسان العادي الشريف، وإلى قيم الضمير والتضحية.
■ نماذج مقارنة
في هذا التيار، نجد أعمالًا مثل:
ساق البامبو (سعود السنعوسي) — رواية بناء هوية شريفة وسط صراع الطبقات.
عصافير النيل (إبراهيم أصلان) — سردية التفاصيل الصغيرة التي تُشكّل الإنسان.
رائحة القرفة (سمر يزبك) — صراع القيم وسط تفكك وانحلال العلاقات.
هذه الروايات، رغم اختلاف موضوعاتها، تشترك في:
رفض البطولة الفارغة، تمجيد أخلاق العاديين، كتابة الإنسان كـ كائن يُربّي ضميره وسط تعقيدات الحياة.
■ موقع "مشاهد" في هذا التيار:
في هذا السياق، تُقدَّم "مشاهد" كجزء أصيل من هذا التيار:
ليست رواية صعود اجتماعي، ولا رواية رومانسية، بل رواية تربية الضمير في زمن مُعولم.
البطل فيها يُشبه أبطال هذا التيار:
لا يُنقذ العالم، بل يُنقذ نفسه، وأبناءه، ومن حوله، عبر اختيارات أخلاقية يومية.
■ خصوصية "مشاهد":
لكن "مشاهد" تُضيف إلى هذا التيار:
تجربة العيش بين مجتمعين (مصر/أمريكا)، وصراع الهوية اللغوية والثقافية، مما يجعلها رواية تشكُّل أخلاقي عابر للثقافات.
وبهذا، تُقدّم "مشاهد" صوتًا جديدًا في الرواية الأخلاقية المعاصرة:
صوت الإنسان العادي الهجين، الذي يُعيد بناء ضميره وسط عولمة معقّدة.

الخاتمة النهائية:
تتبدّى رواية "مشاهد"، في ضوء التحليل الذرائعي، نصًّا مركّبًا وعميقًا، يتجاوز ظاهر بساطته الأسلوبية ليُعيد بناء صورة الإنسان الأخلاقي في زمن معولم.
الرواية التي تبدأ بنبوءة أمومية حالمة — توقع الأم عند ولادة ابنها أن يكون بطلًا يُغيّر المجتمع — لا تمضي في تأكيد هذا الوعد، بل تُفكّكه بوعي:
البطل لا يُصبح قائدًا جماهيريًا، ولا يُحقّق بطولة نرجسية، بل يُحقّق بطولة الضمير في الحياة اليومية.
في هذا السياق، تُكتب "مشاهد" كرواية Bildungsroman حديثة:
رحلة تربية الضمير، امتحان القيم في فضاء الغربة، بناء الأبوة كهوية قيمية، التضحية بالحب، الانتصار الأخلاقي في التفاصيل الصغيرة.
الأسلوب اللغوي في الرواية، رغم ما يحمله من تفاوت نغمي في بعض المواضع، يُعبّر عن هوية البطل الهجينة:
بين العامية المصرية، والفصحى، والإنكليزية.
وهذا التداخل، رغم حاجته إلى مزيد من الضبط، يُحاكي ارتباك الهوية الثقافية الذي يعانيه البطل نفسه.
صورة المرأة تُكتب في الرواية كـ خريطة شعورية عميقة:
الأم كجذر قيمي، الأخت كمرآة العلاقة الأخوية المركّبة، أندريا كاختبار القيم في الحب العابر للثقافات،
هدى كتكليل لمسار الحب الناضج المؤجَّل.
والحب في الرواية ليس نزوة، بل مسار أخلاقي يُربّي الذات.
الرواية تُعيد كتابة العلاقة بين:
مصر كجذر دافئ، معقّد، وأمريكا كفضاء معولم يحمل برودة القيم.
وليست هناك ثنائية تبسيطية، بل صراع داخلي يعيشه البطل، بين مجتمعين، بين هويتين.
والانتصار الأخلاقي في الرواية يتحقّق عبر:
القدرة على بناء ضمير متماسك وسط عولمة متقلبة.
في تداوليتها، تُحقّق "مشاهد" مقاربة عميقة مع القارئ العادي المثقف:
لغة الحياة، سردية المشاهد، أثر قيمي يُبنى عبر مرافقة السارد، لا عبر تلقين مباشر.
في المحصلة:
"مشاهد" ليست رواية تحقّق نبوءات، بل رواية تحقّق إنسانية.
ليست "رواية بطل"، بل رواية شرف العاديين.
ليست رواية حبكة كبرى، بل رواية تربية الضمير.
وفي زمن تُهيمن عليه ثقافة الاستعراض والقيم السائلة، تُعيد "مشاهد" الاعتبار لهذه الحقيقة العميقة:
أن البطولة الحقيقية هي أن نظلّ شرفاء في التفاصيل الصغيرة، وأن نُعيد بناء إنسانيتنا وسط العواصف الأخلاقية.
بهذا، تُقدّم "مشاهد" نصًّا صادقًا، عميق الأثر، ينتمي إلى تيار الرواية الأخلاقية المعاصرة، ويساهم في إعادة بناء الثقة في إمكان وجود إنسان شريف عادي — وهذه، في هذا الزمن، أندر البطولات.

#دعبيرخالديحيي الإسكندرية- مصر 9/7/ 2025




المراجع

1️. الغالبي، عبد الرزاق عودة. الذرائعية في التطبيق. دار النابغة للنشر والتوزيع، طنطا، 2019
2️. الغالبي، عبد الرزاق عودة.الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي. دار النابغة للنشر والتوزيع، طنطا، 2019.
3️. بوث، واين. بلاغة الرواية. ترجمة: محسن جاسم الموسوي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987.
4️. باختين، ميخائيل. جماليات التلقي والحوارية. ترجمة: محمد برادة. دار الفكر للدراسات والنشر، بيروت، 1990.
5️. لوكاش، جورج. الرواية والتاريخ. ترجمة: فخري صالح. دار الشروق، عمان، 2003.
6️. ريكور، بول. الزمن السردي. ترجمة: سعيد بنكراد. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2009.
7️. السنعوسي، سعود.ساق البامبو. الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2012.
8️. أصلان، إبراهيم.عصافير النيل. دار الهلال، القاهرة، 1999.
9️. يزبك، سمر. رائحة القرفة. دار الآداب، بيروت، 2008.
10. التلاوي، شريف. مشاهد. دار غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2024.



#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جماليات الجرح وتحولات الذات: دراسة ذرائعية في أعمال د. صباح ...
- طقس الأحفاد
- -ماذا تفعلُ الشاعرةُ بالعيد؟ (لُعبة شعرية)-
- طقس يوم عرفة
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ...
- مونودراما: -أنا القلعة -
- (حين انحنت السماءُ كجفنِ أمٍّ تبكي)
- من الصدمة إلى المعنى سرد النجاة والهوية الجريحة دراسة ذرائعي ...
- حين يكتب الحنين رسائله: قراءة ذرائعية في نص/ لسنا قصة عابرة/ ...
- طقوس السياسة مسرحية شعرية رمزية غنائية – في طقسٍ واحد من الد ...
- من رماد الحرب ينهض الوطن... ومن بين الركام تتفتح زهرة اسمها ...
- طقوس النور
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ...
- تيه الذات واستعادة الكينونة دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية ( ...
- حين تتغير الأصداء: هل تحيا الرسالة خارج زمكانها؟ بين الذرائع ...
- سرد الأحلام : آلية للتحوّل النفسي والتمرّد الاجتماعي في رواي ...
- الساحل السوري بين المؤامرة والانقلاب: حين كشف الغبار الحقيقة
- سوريا.. معركة الوحدة في مواجهة رياح التقسيم والعقوبات والتحر ...
- سوريا بين فكي العاصفة: تحديات الداخل والخارج
- بين المبدأ والانتهازية.. الفن حين يكشف الوجوه الحقيقية


المزيد.....




- تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير ...
- سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي ...
- كتاب -رخصة بالقتل-.. الإبادة الجماعية والإنكار الغربي تحت مج ...
- ضربة معلم من هواوي Huawei Pura 80 Pro.. موبايل أنيق بكاميرات ...
- السينما لا تموت.. توم كروز يُنقذ الشاشة الكبيرة في ثامن أجزا ...
- الرِّوائي الجزائري -واسيني الأعرج-: لا أفكر في جائزة نوبل لأ ...
- أحمد السقا يتحدث عن طلاقه وموقفه -الغريب- عند دفن سليمان عيد ...
- احتفال في الأوبرا المصرية بالعيد الوطني لروسيا بحضور حكومي ك ...
- -اللقاء القاتل-.. وثيقة تاريخية تكشف التوتّر بين حافظ الأسد ...
- هنا رابط الاستعلام عن نتيجة مسابقة تعيين 20 ألف معلم مساعد ا ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - بين البنية السردية والتشكّل القِيَمي: قراءة ذرائعية في رواية -مشاهد- للكاتب المصري شريف التلاوي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي