أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - من الصدمة إلى المعنى سرد النجاة والهوية الجريحة دراسة ذرائعية في البنية النفسية والتداولية العميقة لرواية (هذيان الأمكنة) للكاتبة السورية اعتدال نجيب الشوفي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي الرواية الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية 2021 فئة الروايات غير المنشورة















المزيد.....



من الصدمة إلى المعنى سرد النجاة والهوية الجريحة دراسة ذرائعية في البنية النفسية والتداولية العميقة لرواية (هذيان الأمكنة) للكاتبة السورية اعتدال نجيب الشوفي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي الرواية الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية 2021 فئة الروايات غير المنشورة


عبير خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 18:27
المحور: الادب والفن
    


مقدمة الدراسة:
حين تكون اللغة شاهدًا، ويغدو السرد أداةً لا للبوح فقط، بل للتوثيق والمقاومة، تصبح الرواية أكثر من بناء أدبي؛ تتحوّل إلى فضاء نفسي وإنساني يعيد تشكيل ما تمزّق في ذاكرة المكان والإنسان.
رواية "هذيان الأمكنة" تنتمي إلى هذا النمط من الأدب، حيث تنفجّر الكتابة من رحم الفقد، وتتشكّل الكلمات كحجارة في وجه النسيان، وكأن الكاتبة تعيد بناء بيتها وذاتها وبلدها عبر الحبر، بعد أن تهدمت جميع الجدران.
في هذه الدراسة الذرائعية، نسعى إلى الغوص في أعماق النص من خلال مقاربات متعددة: نفسية، تداولية، لغوية، وجمالية، لأن الذرائعية تُعد "مقاربة وظيفية تدرس النص من حيث علاقته بالقارئ ومحيطه النفسي والاجتماعي" (الغالبي، 2018، ص. 25).
لنقف على:
كيف تتجلّى الصدمة في بنية السرد؟
كيف تتحوّل الأمكنة إلى شخصيات؟
كيف تُستعمل اللغة ليس فقط للتعبير، بل لإحداث فعل وجداني في القارئ؟
وكيف تتقاطع التجربة الفردية مع مصير جماعي مهدور؟
نحن هنا أمام نص لا يقدّم حكاية بقدر ما يقدّم جرحًا واعيًا بنفسه، ويتوسّل بالأدب كي لا يُنسى.

أولًا: البؤرة الفكرية
هي المركز الذي تدور حوله كل مستويات الرواية، وتتمثّل في:
النجاة الجسدية لا تساوي الخلاص الحقيقي ما لم تُستعاد الذاكرة، ويُكتب المعنى، فالنجاة لا تكتمل إلا بالكتابة واستعادة المعنى وسط الركام . تشير ناديا عطية إلى أن "ذاكرة الحرب في السرد العربي الحديث لا تنفصل عن المأساة الجماعية والمحو الرمزي" (Atia, 2015, p. 88).
الرواية تتناول كيف يتحوّل الإنسان من ناجٍ إلى شاهد، ومن متألّم إلى كاتب.
لا تنشغل الرواية بـ"ما حدث فقط"، بل بما تبقى في الداخل بعد ما حدث، وبالسؤال الفلسفي: ما معنى أن تنجو وحدك؟.
ثانيًا: الخلفية الأخلاقية
الرواية تنطلق من مرجعية أخلاقية واضحة، ترتكز على:
- إدانة الصمت الجمعي:
"حتى الموت فشل في أن يجمعنا تحت راية واحدة."
- رفض الطائفية والانقسام:
"الجار الذي تربطه علاقة مئات السنين بجاره، وجد نفسه يخافه فجأة لأنه من طائفة أخرى فقط!"
- التشكيك في الخطاب الرسمي المزيف:
"نحمد الله نحن في سوريا، شعب واحد!" (قالتها ساخرة)
- تثبيت القيمة الإنسانية العليا: الكرامة، الذاكرة، الشهادة:
"أكتب لأنهم رحلوا، لكن يجب أن تبقى وجوههم حيّة على الورق."

ثالثًا: المستوى البصري
الغلاف:



الغلاف البصري لرواية "هذيان الأمكنة" للكاتبة اعتدال نجيب الشوفي يكشف عن جمالية مأساوية متناسقة مع عنوان الرواية ومضامينها المحتملة. إليك تحليلًا بصريًا مفصلًا:
1. التكوين البصري العام:
اللوحة الأساسية تمثل مشهدًا لمدينة مدمّرة، الحطام يملأ المكان، والجدران المثقوبة والشوارع المهجورة تعكس آثار الحرب بوضوح.
الألوان: استخدام درجات باهتة من الرمادي والبني والأسود يضفي شعورًا بالكآبة، بينما تظهر لمسات بالأحمر والأرجواني توحي بالدمار والنار والدماء.
الخطوط غير منتظمة، ممزقة، كأنها تحاكي الخراب والارتباك، مما يدعم عنوان الرواية "هذيان".
2. العنوان والخط:
كُتب العنوان "هذيان الأمكنة" بلون أحمر لافت وسط هذا الركام، وكأن الأمكنة نفسها تنزف أو تصرخ.
نوع الخط العربي واضح وبسيط، مما يعطي الجدية والرصانة للعمل، لكنه لا يخلو من بعدٍ تعبيري.
اسم الكاتبة أعلى الغلاف بخط أصغر، يشير إلى حضور أنثوي داخل هذا المشهد الذكوري الحربي المتشظي.
3. الرمزية:
الشخصيتان المتجهتان إلى عمق الدمار (في أسفل يسار الغلاف) توحيان بالبحث، ربما عن معنى، أو عن نجاة، أو حتى عن هوية وسط الفقد.
البيوت المهدمة تُمثل "المكان" الذي يهذي، أو فقد ملامحه، ما يُكمل التناص العميق بين الصورة والعنوان.
السكون الغريب في اللوحة – على الرغم من الدمار – يرمز ربما إلى ما بعد الصدمة، إلى لحظة تأمل مشوشة بين البقاء والانهيار.
4. السياق الطباعي:
الجهة الناشرة (دار كتارا) تشير إلى دعم الرواية من مؤسسات ثقافية كبرى، ما يمنحها بعدًا مؤسسيًا يتناقض مع الخراب المرسوم، وكأن الفن يوثق ما دمرته الحرب.
5. العلاقة بين الغلاف والعنوان والمضمون المحتمل:
الغلاف يدعم بقوة عنوان "هذيان الأمكنة"، ويقترح أن الرواية ستتناول تشظي المكان وتحوّله من حاضن إلى مهدِّد، من بيت إلى حطام، من وطن إلى متاهة. وقد يُفهم "الهذيان" هنا كحالة نفسية للمكان نفسه أو لمن يسكنه، وهو ما يفتح بابًا لتأويلات نفسية وفلسفية عميقة.
خلاصة بصرية: غلاف الرواية ليس مجرد خلفية تشكيلية، بل نص بصري موازٍ يعكس محور الرواية ويهيئ القارئ نفسيًا لاستقبال سرد مشحون بالألم، والمكان فيه ليس مسرحًا بل شريكًا مأزومًا في المعاناة.
العنوان:
تحمل دلالة عنوان رواية "هذيان الأمكنة" مستويات متعددة من التأويل، ويشكّل بحدّ ذاته بنية تمهيدية مشحونة بالإيحاءات، تربط بين الرؤية البصرية، والمنظور النفسي/الوجودي، وطبيعة السرد.
يمكننا دراسته من ثلاث زوايا:
العنوان كمكوّن بصري
1. المفردة المركزية: "هذيان"
بصريًا، الكلمة توحي بالارتباك، فقدان الاتزان، الغرابة، الكثافة الشعورية غير المنضبطة. توحي بالحالة الذهنية لشخص يُحدّق في شيء مألوف، لكنه لا يعود يراه كما كان.
2. الكلمة الثانية: "الأمكنة"
كلمة "الأمكنة" بصيغة الجمع توحي بالتعدّد، بالذاكرة، بالتنقل، وربما بالشتات.
بصريًا، تثير صور الخراب، الركام، الأبواب المفتوحة على العدم.
تركيب العنوان بصريًا = خريطة متكسّرة مليئة بالبقع المشوشة والظلال المتداخلة:
أماكن مألوفة لكنها تتلوى تحت تأثير الحمى.
العنوان كمكوّن نصّي بنيوي
1. علاقة العنوان ببنية الرواية:
"هذيان" يتطابق مع أسلوب الرواية: السرد يتقدّم كتيار شعوري، مليء بالارتداد الزمني، الصور المتفجرة، المفارقات والصدمة.
"الأمكنة" ليست خلفيات للحدث بل فاعلة فيه، لها ذاكرة وكيان، تبكي، تئن، تقاوم.
"كل البيوت هنا موجوعة، تبكي أصحابها بصمت..."
هذا هو الهذيان بعينه: أن تتكلم الجدران، أن تحزن النوافذ.
2. دلالة الجمع في "الأمكنة"
الجمع لا يقتصر على المكان الجغرافي، بل يشمل:
الأمكنة الشعورية (البيت، الحي، المدرسة، المقهى)
الأمكنة الذهنية (الذاكرة، الطفولة، الندم، الحب)
الأمكنة الرمزية (الوطن، القبر، المخيم، الورق)
العنوان كمكوّن إيحائي
1. الهذيان = خطاب ما بعد الصدمة
الهذيان هو الحالة التي يفقد فيها المرء المنطق، وتفلت منه اللغة لصالح الانفعال.
الرواية كلها مكتوبة على حافة هذا الهذيان: محاولة للسيطرة على الألم عبر نثره.
"لماذا صعدت إلى السطح بدلًا من أن أموت معهم؟"
هذا ليس سؤالًا عقليًا، بل صرخة من حنجرة الذنب – الهذيان.
2. الأمكنة = بطلة الرواية الصامتة
الأمكنة ليست مرئية فقط، بل هي تفاعلية، ذاكرة حيّة، تتكلم أكثر من البشر.
تهذي لأنها عاشت ما لا يُقال، لكنها تحاول البوح عبر تفاصيل:
حقيبة مدرسية
شتلة قرنفل
عصفور يحمل قمحًا لصغاره
بالنتيجة :دلالة العنوان
بصريًا غموض، اضطراب بصري، خريطة منكسرة
نصيًا انسجام مع البنية الشعورية المتقطعة، والمكان كفاعل سردي
إيحائيًا حالة وجودية مضطربة، تتداخل فيها الحرب مع الحنين، والذاكرة مع الكابوس
العنوان إذًا ليس زخرفًا خارجيًا، بل مفتاحًا تأويليًا أساسيًا للقراءة.
يلخّص الرواية كلها: هذيان الذات في أمكنة لا تشفى، بل تنزف.
باقي عناصر المستوى البصري في رواية "هذيان الأمكنة"، مكملًا لتحليل العنوان، مع ربطها بالبنية النصية والجمالية والتعبيرية:
الإهداء:
دلالة الإهداء في المستوى البصري والجمالي
نص الإهداء:
"إلى من سرقت الحرب أرواحهم دون أن يشعر بهم أحد...
لمن غادروا مرغمين لكن عيونهم بقيت معلقة بالأماكن...
وهذيانها يلاحق خطواتهم أينما حلّوا...
لمن ملأ صراخهم الكون ولم يسمعهم أحد...
لمن بقوا هنا كطائر فنيق يتململ تحت الركام وينفث الأمل المنشود بين ثقوب الوقت..."
1. البنية البصرية للإهداء:
الإهداء مقسّم إلى جمل متتابعة، متصاعدة، كأنها مناجاة طباقية بين الغياب والحضور.
التكرار البصري لجملة: "لمن..." يمنحه شكلًا إنشاديًا/جنائزيًا يوحي بطقس وداعي لا يزال مستمرًا.
التكوين الطباعي والسطرية تشبه قصيدة نثرية قصيرة، تكشف منذ البدء عن اختراق الشعر لجسد الرواية.
2. البنية الشعورية والإيحائية:
يبدأ الإهداء بـ المظلوم الغائب المنسي، وينتهي بـ الطائر الفنيق الذي ينهض من الركام، ما يعكس قوسًا بصريًا/وجدانيًا يبدأ بالحداد وينتهي بالأمل.
استخدام تعبيرات مثل:
"لمن ملأ صراخهم الكون ولم يسمعهم أحد"
"عيونهم معلقة بالأمكنة"
"هذيانها يلاحق خطواتهم"
يمنح الإهداء وظيفة تصويرية عالية، تعيد تحويل الغياب إلى صورة، والأنين إلى كتابة.
3. حضور المكان كشخصية داخل الإهداء:
"الأمكنة" و"هذيانها" تظهر في الإهداء ككائن حيّ، يلاحق من غادرها، ويحفظهم داخل ذاكرته.
يُمهّد هذا التوظيف البصري والمكاني للإهداء لعنوان الرواية ولثيمتها الأساسية: "هذيان الأمكنة".
4. الأثر التداولي والقصدي للإهداء:
الإهداء يعلن بوضوح قصد الكاتبة من الرواية: أن تكتب لهؤلاء الذين لا يملك أحد أن يكتب عنهم.
يستخدم الإهداء لغة شبه مقدّسة، تمنح الموتى والمنفيين والشهداء شرعية الوجود الأدبي والروحي داخل النص.
خلاصة تحليل الإهداء بصريًا وموضوعاتيًا:
البصري تركيب سطري متصاعد، مكرّر، يُشبه القصيدة أو النشيد الحزين.
الرمزي المكان/الركام/العيون/الفينيق = صور مفتاحية لقراءة الرواية كلها.
النفسي استدعاء لجراح جمعية تُقال بضمير الجمع، وتُفتتح بها الرواية كأرضية وجدانية.
التداولي إيصال الرسالة: هؤلاء الذين نُسوا سياسيًا، سيُخلّدون لغويًا.

التقديم:
"يمكن لمن يقرأ هذه الرواية أن يجد قصة تشبهه أو سمع عنها مثلاً…
ثمة قصص تحكينا قبل أن نحكيها، وما أن نبدأ بروايتها حتى يتقافز أبطالها بمهارة بين الصفحات ليسروا معنا نحو الخاتمة.
كما ثمة حقيقة غائبة وراء كل معلومة تصلنا عبر هذا الفضاء الغبش،
علينا السعي لإدراكها كي لا نرحل كما جئنا، بأعين مغمضة."
اعتدال الشوفي
تداوليًا: الكاتبة توجّه خطابًا مباشرًا إلى القارئ، تدعوه للشراكة في كشف الحقيقة، لا لتلقي حكاية جاهزة.
قصديًا: تعلن أن الرواية تتجاوز السرد إلى البحث عن المعنى، وتنبه إلى أن ما يُروى ليس كل الحقيقة، بل دعوة لملاحقتها.
بصريًا: الصياغة قصيرة، متوازنة، أقرب إلى عتبة تأملية تسبق الدخول في نسيج الحكاية، وتُبقي الباب مفتوحًا للتأويل.

التصديرات
وظّفت الكاتبة اعتدال نجيب الشوفي التصديرات في مستهل بعض الفصول، بوصفها عتبات تمهيدية تُضفي بعدًا تأمليًا، وتُمهّد للمناخ الشعوري أو الرمزي الذي سيتشكّل داخل الفصل.
وقد تنوعت هذه التصديرات بين:
اقتباسات من قلم الكاتبة نفسها، كالمقطع في الصفحة 143 الذي يحمل نبرة شعرية تأملية:
"وسط ضجيج الحروب، هنالك دومًا من يعمل بصمت... ينقش فوق الحجارة تاريخًا غير قابل للاشتعال..."
وأقوال مأثورة لمفكرين أو أدباء معروفين، لم تُذكر مباشرة في بعض النسخ بصيغة توثيقية واضحة، لكنها تظهر بملامحها الأسلوبية كمقولات منتقاة، تسهم في توجيه القارئ.
وظيفتها الجمالية والدلالية:
تمهيد نفسي وفكري للدخول إلى الفصل.
تعميق الثيمة المركزية للفصل (كالهوية، الفقد، المقاومة، الصمت).
خلق توازن بين الصوت الشخصي والصوت الإنساني العام.
فالتصديرات في الرواية لا تؤدي وظيفة زخرفية، بل تعمل كجزء من النسيج التداولي والجمالي للنص، وتؤكّد الطبيعة المركّبة للرواية التي تمزج بين الحكاية والخواطر والوثيقة والتأمل.

يتجلّى البُعد البصري في الرواية كأحد أبرز أدوات التشكيل الفني أيضًا، من خلال:
1. الصور المشهدية المكثفة (التشكيل السينمائي)
توظّف الكاتبة اللغة كما لو كانت كاميرا، تصوّر المشهد بلقطة بانورامية، ثم تقرّب العدسة إلى تفاصيل صادمة:
"الحقيبة المدرسية المغبرّة... الظفيرة الشقراء... الطاولة المكسورة... شتلة القرنفل التي تستجدي الندى..."
هذه التفاصيل لا تُذكر جزافًا، بل ترسم مشهدًا مركبًا من الموت والنجاة والألم والجمال الموجوع.
2. تدرج الإضاءة والظل
الرواية تستخدم الضوء والظلال كعنصر تعبيري بصري رمزي:
الضوء الخافت = الأمل الهش.
الظل = الفقد، الرعب، الماضي.
الغبار = ذاكرة مشوشة، حقيقة مغطاة.
"شعرت بأن الغبار يغطي كل شيء... الصور لم تعد تلمع إلا بلون رمادي مائل للغُبش..."
3. انكسار اللون كمرآة للانهيار الداخلي
الألوان في الرواية ليست مجرد وصف، بل انعكاس للاضطراب النفسي:
الرمادي يهيمن على المشاهد: الركام، الخراب، الحياد القاتل.
الأخضر (شتلة القرنفل، أوراق يافا) يمثل بؤرًا مقاومة.
البنفسجي = لون البلورة التي التقطها يوسف من بيته، له بعد شخصي حميمي جدًا.
"قطعة بنفسجية اللون من البلور... لملمتها من تحت الغبار... كانت تشبه قلبي."
4. البنية المكانية المصورة كخرائط شعورية
الرواية تصف الأماكن بوصفها "كائنات حية":
الحي = كائن يحتضر.
البيت = جسد مثقوب.
المقهى = ذاكرة تقاوم النسيان.
الركام = جروح علنية.
النافذة = ثغرة بين الخارج والداخل.
"كل البيوت هنا موجوعة، تبكي أصحابها... النوافذ خلعتها القذائف وبقيت تهتف..."
5. الحركة البصرية/ديناميكية النظر
الرواية ترصد تنقل "نظرة الراوي" بين:
ما هو أمامه (المكان).
ما في رأسه (الذاكرة).
ما في الصور (الواقع الموَثّق).
هذا التنقّل يخلق إيقاعًا بصريًا مضطربًا لكنه مقصود، يُشعر القارئ وكأنه في دوّامة كاميرا تترنح تحت وقع الانفجار.
6. الاستعارات البصرية التجريدية
بعض المقاطع تُقدَّم كبنى شعرية بصرية:
"الأشجار المبتورة تتراكض صوبنا..
هي الأخرى مثلي.. كانت تنح قممها الممزقة.. ومن ثنيّات ذاكرتها المحترقة تندلق شذر الكارثة بلا رحمة.." ص 9
هذه ليست استعارة وصفية فحسب، بل صورة حركية سوريالية، توظف البصر لتجسيد الحالة النفسية.
خلاصة تحليل المستوى البصري:
فالصور المشهدية: وظيفتها بناء الذاكرة البصرية المأساوية
اللون: التعبير عن الحالة الشعورية
الضوء والظل: توزيع التوتر والأمل
الركام والخراب :تأريخ للحرب بدون كلمات
النظرة الحركية: مزج الوعي بالزمن المتشظي
الأجسام الصغيرة (حقيبة – بلور – زهرة): مراكز شعورية مكثفة تسحب القارئ.

رابعًا: المستوى اللغوي والجمالي:
المستوى اللغوي
1. لغة السرد: لغة أدبية عالية، مشبعة بالصور البلاغية، وتميل إلى الأسلوب التأملي الموشّى بالحزن، كما تتّسم بالمجاز والتكثيف.
شاهد: "الطريق الواصل من «باب شرقي» إلى «باب توما» مكتظة برائحة الياسمين المتدلّي فوق السور الحجري المرتفع..."
هنا اللغة تحتفي بالمكان وتمنحه وظيفة حية عبر المجاز (رائحة، حنوّ أب، محبوبته الغافية…).
2. المعجم العاطفي: نلاحظ سيطرة ألفاظ الحزن، الوجع، الغبار، الدمار، وهي تكوّن معجمًا مشتركًا مع الحرب والفقد:
شاهد:
"كم من الأحلام وئدت على قارعة الطريق…؟ آه يا بلدي…"
(رماد، ركام، اختناق، دموع، وجع، خيانة، غبار، الخراب)
3. استعمال الفصحى وتداخل الديالوج الواقعي: الرواية تكتب بلغة فصحى أدبية رصينة، ولكنها تتخللها عبارات من الحوار الشعبي الواقعي، مما يُحدث توازنًا سرديًا:
شاهد:
"ـ يا صديقي نحن هنا في مهمة رسمية... ببساطة دعك ممن رحلوا وفكر بالآتي..."
"إذا كان هالحكي صحيح، خرجو الله لا يقيمو"
المستوى الجمالي
1. الصورة الفنية: الرواية تعجّ بصور جمالية كثيفة تتداخل فيها الطبيعة والذاكرة والدمار. الصور هنا ليست تزيينية، بل جزء من التكوين السردي والوجداني.
شاهد:
"تلال الركام تعبرني متجاهلة حزني، تصفعني بقسوة وتعود لتجثم على صدري"
"شتلة القرنفل هناك تستجدي قطرات الندى، تحدق بي مستغربة"
2. التناص مع الأدب والشعر:
استخدام صوت درويش "أنا يوسف يا أبي" يُوظف التناص مع الشعر الفلسطيني لخلق صدى وجداني، يربط بين فجيعتين.
شاهد:
"أنا يوسف يا أبي... صوت درويش يلاحقني، يضرب ذاكرتي كالمطرقة"
3. البناء الدرامي الجمالي: يوجد تصعيد شعوري يبدأ من استعادة تفاصيل المدينة ثم يدخل في جرح الذكرى الشخصي، ليصل إلى قمة الوجع عند زيارة بيت العائلة.
شاهد:
"صرخات أخي الرضيع على صدر أمي الميتة...، الحقيبة المدرسية المعفّرة بالدماء، بجانب تلك الضفيرة الشقراء..."
4. التشكيل المكاني كرمز: الأمكنة ليست فقط فضاءً جغرافيًا بل تنبض بالحياة: تتنفس، تتألم، تحزن، تصمت.
شاهد:
"كل البيوت هنا موجوعة، تبكي أصحابها بصمت"
5. تداخل الأجناس :
في إطار تحليل المستوى الجمالي، برز تداخل الأجناس الأدبية كواحدة من أبرز السمات الفنية التي أغنت النص وأسهمت في تشكيله التعبيري. لم تكتفِ الكاتبة بالسرد التقليدي، بل مزجت بين:
- السرد والخاطرة الشعرية:
"أودعتُ زهرَتي البيضاء بين دفتي المفكرة وأغلقتها، رحمة بجانبي غفت مثل ملاك..." الصفحة 212
هذا المقطع وغيره يحمل إيقاعًا داخليًا، وصورًا تتجاوز النثر إلى ما يشبه "قصيدة نثرية داخل السرد"، تعبّر عن حالة تأملية وجدانية.
- توظيف الرسالة كجنس أدبي مستقل داخل الرواية:
في الصفحة 198 من رواية هذيان الأمكنة، نجد رسالة مكتوبة من يوسف إلى يافا، تُعدّ من أقوى لحظات التعبير العاطفي في النص، وتُجسّد مثالًا حيًّا على تداخل الأجناس الأدبية، حيث تتخذ شكل قصيدة نثرية/رسالة وجدانية مضمّنة في السرد.
تبدأ الرسالة بهذه الكلمات:
"حبيبتي يافا: كأنني كنت أسير في دروب يسكنها الغيم.. فجأة لمحت طيفك يكنس الضباب ويمد إليّ حبال النور..."
وتتوالى على شكل مقاطع مشحونة بالإيقاع والرمز، ومنها:
"وتسألينني إن كنت أحبك...
نظرة واحدة صهرت كل ما كُتب قبلك لينسكب في خمرة الوجد... "
الدلالة الجمالية والسردية: تُعتبر هذه الرسالة وثيقة عهد كما وصفها يوسف، وفيها يدمج بين الاعتراف العاطفي والرؤية الشعرية العميقة.
لغويًا، تشكّل الرسالة نصًا قائمًا بذاته داخل الرواية، يُمكن قراءته كـ قصيدة نثر.
وظيفيًا، تكشف عن الجانب غير المعلَن من شخصية يوسف، وتُبرر حميمية العلاقة غير المؤطرة بينه وبين يافا.
أثرها على بنية الرواية:
تؤكد هذا التداخل المقصود بين السرد العاطفي والشعري.
تعمّق الحس التداولي، لأن الرسالة تتحول إلى فعل لغوي مباشر (إقرار، عهد، اعتراف).
تُبرز صوتًا ذكوريًا محبًّا وحائرًا، يقابل الصوت الأنثوي الموجوع للراوية.
- تداخل الشعر والنثر بشكل إعلاني في النص:
"أمي
أغنية تعزفها قيثارة الروح
على أوتار نبضي
لا زلت كل صباح..
أرسم وجهك على فنجان قهوتي..
وأنتظرك ..
تطلين .. " صفحة 101
هنا يتحدث النص عن نفسه، ويعلن صراحة تداخله الأجناسي: الرواية ليست فقط رواية، بل هي خاطرة، وقصيدة، ورسالة، واعتراف
كخلاصة فنية:
تداخل الأجناس في الرواية لم يكن عشوائيًا، بل وظيفيًا؛ حيث:
عبّر الشعر عن لحظات الحنين والتأمل.
قدّمت الرسائل لحظات الشوق والحب والاتصال عن بعد.
مثّلت الخواطر صوت الذات الداخلي في مواجهة الصدمة.
هذا التعدّد أسهم في جعل الرواية تجربة شعورية كاملة، لا تكتفي بالحكي، بل تنقل إحساسًا مركبًا، يمتد من اللغة إلى الشكل، ومن البنية إلى العمق النفسي.

خامسًا: المستوى الديناميكي
وفقًا ليقطين (2005): "يستدعي التحليل السرديّ وعيًا بالمتن بوصفه بناءً ديناميكيًا تُشكّله اللغة وتؤطّره البنية، وتُسهم في توجيهه الخبرة القرائية" (ص. 119).
ذرائعيًا، يُعنى هذا المستوى بتتبع مضامين النص، الثيمة الرئيسية والثيمات الفرعية، حركة النص وتفاعلاته الداخلية: الإيقاع السردي، تنامي الشخصيات، الحوارات، والانتقالات الشعورية والمكانية. في هذه الرواية، تعمل الديناميكية كبوصلة داخل عاصفة الحرب، تجمع بين الحنين والفقد، والسرد البصري والانفعالي.
1- المضامين والثيمات :
الثيمة الرئيسة:
"الاغتراب الداخلي والحنين المدمر في مواجهة ذاكرة الحرب."
هذا الاغتراب يطال الهوية والانتماء والأسرة، بل ويصل إلى الاغتراب عن الذات الناجية.

الثيمات الفرعية
تتفرع من الثيمة الرئيسية عدة ثيمات داعمة ومعمّقة:
1. ثيمة الفقد الأسري:
تتجلى في صدمة فقد الأم والإخوة، والصدمة المتكررة بمرأى البيت المدمر.
2. ثيمة الطفولة المصادرة:
مثل مشهد الأخ الرضيع، الطفل الذي قفز من الطابق الأعلى، والراوي نفسه الذي نجا جسديًا فقط.
3. ثيمة اللجوء والنزوح والانقسام الاجتماعي:
سواء في الداخل (السويداء) أو الحديث عن الزعتري، أو وصف النازحين كغرباء في وطنهم.
4. ثيمة الحنين/الصدمة البصرية:
المكان يفيض بالذكريات لكن بصيغة الحطام، ويحوّل الحنين إلى لعنة.
5. ثيمة توثيق الحقيقة وكتابة الذاكرة المضادة:
تظهر في التأملات حول الأدب، والكتابة كفعل مقاومة:
"بمفردي، الكتابة باتت الفعل الوحيد الذي أستطيع القيام به... وبها فقط أستطيع استرجاع وجوه أحبتي."
6. ثيمة الطائفية والخذلان العربي:
تظهر في المقارنة بين الطوائف، وفي حديث اللبناني "ميشيل" عن الحرب الأهلية:
"الجار الذي تربطه علاقة مئات السنين بجاره، وجد نفسه يخافه فجأة لأنه من طائفة أخرى فقط!"
7. ثيمة الموت والحياة:
وقد انتفت الحدود بينهما، تقول الساردة: "الموت هو الموت... لكن بعض الحياة أقسى من الموت ذاته..." (الشوفي، 2021، ص. 174).

2- الزمكانية
أولًا: البعد الزمني (الزمن)
(من أغسطس 2012 حتى 2019)
زمن الأحداث الواقعية يمتد من مجزرة داريا في أغسطس 2012، ويواكب سنوات الحرب السورية بتصاعدها الميداني والإنساني، وصولًا إلى 2019، حيث تبدأ ملامح "النجاة" السردية، والعودة إلى الأماكن المحطّمة.
زمن التذكّر: الشخصية تستعيد الماضي القريب والبعيد في حركة سردية غير خطية، ممزوجة بالكوابيس، وذكريات البيت، والطفولة، والزمن الذهبي لما قبل الحرب.
زمن الكتابة: هو الزمن الأعلى في الرواية؛ حيث تكتب الراوية بعد النجاة، من موقع الشاهدة، وتعيد تركيب الأزمنة السابقة عبر الوعي والبوح والكتابة.
يرى ريكور (2010) أن السرد لا يُعيد فقط ترتيب الزمن، بل يمنح التجربة فهماً أعمق يعيد بناء الوعي بعد الكارثة.

ثانيًا: البعد المكاني (المكان)
1. دمشق وما حولها:
الأحياء القديمة: باب توما، القنوات، الحميدية، ساحة العباسيين → تمثل مركز الحياة والحنين.
حديقة السبكي → مرآة للطفولة المفقودة، ولذكريات البيت الدافئ.
البيت العائلي → مركز الذاكرة والانكسار، شبه شخصية في النص.
قاسيون → يتحول من رمز للحماية إلى كتلة مشتعلة.
2. البيوت المدمّرة وضواحي دمشق:
داريا: تبدأ منها المأساة الكبرى (المجزرة)، تمثل لحظة الانهيار الجوهري.
الغوطة: تُستعاد كرمز للقتل الجماعي والخذلان.
المعرض: موقع رمزي من أمكنة القصف والانهيار، ثم موقع لمحاولة النهوض من جديد والانفتاح على العالم.
3. السويداء: الحضور العائلي والجذري، تُقدَّم كجذر لم يُقتل، لكن تحوّل إلى صمت داخلي. تمثل التوازن الجبلي مقابل هشاشة المدن.
4. لبنان:
بيروت: فسحة لقاء عاطفي وكتابي، لكنها مؤقتة.
جبل الشوف: يستعاد كموضع سكينة وتاريخ.
قصر المعماري: يرمز إلى الذوق والجمال الراقي وسط الخراب العام.
المخيمات (ضمنيًا): تظهر كأماكن للشتات، وتحمل قهرًا وذاكرة مسلوبة.
5. البحر:
ليس مكانًا للعبور بل قبرًا بديلًا. فالبحر يبتلع اللاجئين الباحثين عن الأمان، ويُستعاد كرمز للنهاية المفتوحة.

البعد الرمزي للزمكان:
المكان يتحوّل إلى كائن حيّ: يشتكي، ينزف، يحترق، يحفظ الذاكرة، أو يُمحى.
الزمن ليس خطيًا: بل دائرة من التكرار والانهيار والاسترجاع.
البيت = الجسد، الحديقة = الطفولة، السويداء = الجذر، بيروت = لحظة تنفس، البحر = المأساة المعولمة.
فالزمكانية في الرواية ليست مجرد خلفية، بل تشكّل العمود الفقري لصدمة الشخصيات، ولبنية الحنين والفقد والانكسار والبحث عن المعنى.


3- الحركية السردية والتنقل الزمني
الراوي ينتقل بين الأزمنة بتقنية "الوميض الاسترجاعي"، وتصبح العودة إلى الماضي فعلًا ديناميكيًا قسريًا:
ينتقل من لحظة وصوله إلى الحي إلى تفاصيل الطفولة والبيت، ثم إلى المنفى الداخلي، ثم العودة إلى الحاضر مع الفريق الأممي.
مثال:
"لماذا صعدت إلى السطوح بدلًا من أن أنزل وأواجه القدر مع عائلتي؟"
"غفوت قليلاً وقد أسندت رأسي على زجاج النافذة..."

4- ديناميكية المكان والذاكرة:
المكان هنا ليس خلفية جامدة، بل كيان متحول يستجيب للذكريات ويصطدم بالحاضر:
مثال:
"كل البيوت هنا موجوعة، تبكي أصحابها بصمت."
"الرماد... أين ذهبوا؟ كم من العظام اختفت تحت كاهله المتراكم؟"
وهذا يُحوّل المكان إلى فاعل سردي مشارك في الحدث لا مجرد إطار.
فالمستوى الديناميكي في "هذيان الأمكنة" يعمل كأداة مقاومة ضد الشلل النفسي:
هناك تنقل دائم بين زمنين ومكانين: زمن الخراب وزمن الأمل، بين الذاكرة والواقع.
الفعل السردي نفسه (التوثيق، التصوير، إعادة التذكر) يصبح ديناميكية للنجاة.


5- التوتر البنيوي والإيقاع المتقلّب:
الرواية تتأرجح بين لحظات السكون الذاتي (التأمل، البكاء، استدعاء الذكريات) ولحظات الانفجار النفسي والحدثي (القصف، الانهيارات، المواجهة مع البيت المدمر).
مثال:
"تلال الركام تعبرني متجاهلة حزني تصفعني بقسوة..."
"صرخات أخي الرضيع... الحقيبة المدرسية المعفّرة بالدماء..."
تمنح هذه التقلبات إيقاعًا نفسيًا حادًا للنص، ما يخلق تفاعلًا دائمًا بين الخارج (الدمار) والداخل (الانفعال).

6- تطور العلاقات وتفاعل الشخصيات
رغم الطابع السردي التأملي، لا تخلو الرواية من علاقات ديناميكية: علاقة الراوي مع أمه، مع "ميشيل" الكندي، مع العم أسعد، ومع جدته لاحقًا.
هذه العلاقات تتحرك من الغياب إلى الحضور، ومن الأمل إلى القطيعة.
مثال:
"أخبرته أنني زرت البيت اليوم، فوجئ بذلك... أبقى على نظره مصوبًا نحوي طيلة حديثي".

7- الحوارات كتحفيز سردي
اللغة الحوارية داخل الرواية، خاصة مع "ميشيل"، ليست فقط تبادلًا معلوماتيًا، بل تدفع النص نحو توازن عاطفي وعقلي:
"يا صديقي، نحن هنا في مهمة رسمية، عليك نسيان ما حصل سابقاً... ببساطة دعك ممن رحلوا وفكّر بالآتي"
هذا الحوار ينقل النص من المركز العاطفي إلى المحور الواقعي/العملي.

8- تنامي الحدث السردي :
من خلال التتبع البنيوي للعناصر السردية في الفصل الأول، فصل الاستهلال، التشابك، الذروة، الانفراج، والنهاية، ضمن سياق الزمكان (الزمن/المكان) الذي يعدّ حجر الأساس في هذا النص.
1. الاستهلال: العودة إلى المكان/الحنين المذعور
الحدث: يبدأ السرد بوصف حالة وجدانية عميقة مرتبطة بالعودة إلى دمشق، وتحديدًا إلى الحي المدمر الذي نشأ فيه الراوي.
الزمكانية:
الزمن: ما بعد الحرب، زمن الهدنة/المهمّة الرسمية.
المكان: من "باب شرقي" إلى "باب توما"، فالغوطة، فالحي الذي دُمّر، ثم البيت القديم.
وظيفته: يشكّل الاستهلال خيط الوجع الأول، ويؤسس لعلاقة روحية مشحونة بالمكان، حيث يُستعاد عبر المشهد الحسي والذاكرة العاطفية.
"الطريق المكتظّ برائحة الياسمين... كحنوّ أبٍ يحتضن أبناءه..."

2. التشابك السردي: المواجهة مع الذاكرة/البيت
الحدث: يدخل الراوي الحيّ الذي مُنع من دخوله سابقًا، ويصل إلى بيته، ويتفكك وجدانيًا أمام الأطلال:
مشاهد الحقيبة، الطاولة، الصراخ، الأخ الرضيع، صورة الأم.
"صرخات أخي الرضيع على صدر أمي الميتة..."
"الطاولة المغطاة بالغبار... شتلة القرنفل التي لا تزال حيّة..."
الزمكانية:
الزمن: لحظة آنية تتخللها استرجاعات (Flashbacks).
المكان: بيت العائلة كجوهر للصدمة.
وظيفته: التشابك هنا هو لحظة انشطار الشخصية بين "الراهن" و"الذاكرة"، وانفتاح الجرح الكلي:
الرواية تنقل من الحنين إلى الندم ومن الحنين إلى الهذيان.

3. الذروة: لحظة الانهيار والانكشاف
الحدث: لحظة استذكار الراوي لما حدث يوم الكارثة:
صعوده إلى السطح، سماع صرخات، اقتحام البيت، مقتل عائلته، نجاته وحيدًا.
"لماذا خنت وصية أبي؟ لماذا لم أنزل لأموت معهم؟"
"تبًا لهذا الوجع... كل ما حدث يومها يفتح شهيتي للقتل والانتقام!"
الزمكانية:
الزمن: يوم الكارثة/النكبة الكبرى.
المكان: البيت، السطح، الأزقة، المسافة بين الذاكرة والواقع.
وظيفتها: الذروة هي لحظة الذنب/الخيانة/النجاة القاتلة. الانهيار النفسي الكامل يتجلى هنا.

4. الانفراج: محاولة التوثيق والوعي بالرسالة
الحدث: الراوي يعيد التماسك عبر مهمته التوثيقية، يلتقي "العم أسعد"، يدوّن، يصوّر، يبدأ في الإيمان بأن الكتابة هي المقاومة الوحيدة المتبقية.
"الكتابة باتت الفعل الوحيد الذي أستطيع به مواجهة تلك الحقائق..."
الزمكانية:
الزمن: لحظة عودة التوازن بعد الانهيار.
المكان: المقهى، المخيم، الورق، عدسة الكاميرا.
وظيفته: الانفراج لا يعني الشفاء، بل دخول الوجع في مرحلة "الاعتراف"، حيث يتحول الحزن إلى مشروع كتابة وذاكرة.

5. النهاية: الحنين المنكسر والاستعداد للكتابة/التوثيق
الحدث: يعود الراوي إلى غرفته، يتأمل الورق والصحف، يكتب، يتذكر، يعترف بتفوق الألم على الموت أحيانًا.
"الموت هو الموت... لكن بعض الحياة أقسى من الموت ذاته..."
"أؤمن أن على الأدب أن يغوص في قضايا الشعوب ليحمل الرسالة..."
الزمكانية:
الزمن: ما بعد الذروة/لحظة صمت تأملي.
المكان: فضاء داخلي، ذهني، كتابي.
وظيفتها:النهاية ليست انفراجًا تامًا، بل توقفٌ هادئ في وجه الإعصار. اختيار الاستمرار عبر الكتابة، لا الشفاء.

تنامي الحدث السردي في باقي فصول رواية "هذيان الأمكنة" ضمن إطار الزمكان (الزمن/المكان)، بشكل بنيوي واضح:
الفصل الثاني والثالث وما بعده: بنية الحدث المتنامي
1. الاستمرار بعد الذروة الأولى (ما بعد البيت المدمر):
الحدث: يبدأ الراوي رحلة خارج الحي المدمّر، لكن الخراب يستمر في مطاردته، في الأزقة، في المقاهي، في الوجوه التي تنكره، وفي لقاءات مع شخصيات من الماضي.
الزمن: الحاضر النفسي الغائر في الماضي القريب.
المكان: الحي/المقهى/البيت البديل/الضواحي.
"كل البيوت هنا موجوعة... البيوت تنكرني..."
2. مرحلة استعادة العلاقات وإعادة التوازن
الحدث: لقاءات حميمية تعيد بعض الأمل للراوي: لقاء مع العم أسعد، ثم لاحقًا مشاركة في فعاليات فنية، فزيارة بيت الجدّة، والحديث عن العودة إلى العمل.
"مشيت لآخر البهو وهاتفت ميشيل... أخبرني أنهم يريدون مني الالتحاق بالعمل، وعدته أن أفعل"
الزمن: حاضر يحمل نذر تعافٍ.
المكان: بيوت مؤقتة، أمكنة النجاة، وسط الضجيج الإعلامي.
وظيفته: هذه المرحلة تشكّل ما يُعرف بالانفراج العاطفي، حيث يُعاد بناء "المحيط الشخصي"، لكنه هشّ، يتخلله القصف والانفجارات دومًا.
3. الذروة الثانية: قصف مفاجئ/احتدام جديد
الحدث: حدث فجائي يعيد الصدمة للمقدمة: تصاعد النيران على قمة قاسيون، ارتباك، أصوات غريبة، ارتجاف وجودي.
"ما هي إلا ثوانٍ حتى بدأت النيران تتصاعد فوق قمة قاسيون، تبتلع الرؤية..."
الزمن: الحاضر المرتبك.
المكان: قاسيون/الشوارع/الأحياء الجنوبية.
وظيفته: عودة الحرب ككابوس حقيقي، لا رمزي، تفجّر ما تم ترميمه شعوريًا.
4. نهاية متأملة: الكتابة/التوثيق/اختيار المقاومة السردية
الحدث: الراوي يعود إلى ذاته، يكتب، يراقب الصور، يتحرر من التعلق بالبيت كجدران ويبدأ في تخزينه كذاكرة وكتابة.
"اليوم يعيدون رتقها لتليق بالمرحلة..."
"أشباح الحرب تُمسك بملاءة الليل وتسدلها فوق جبينه"
الزمن: لا محدد – "لحظة سرد".
المكان: ذاتي، داخلي، مكتب، ذاكرة.
وظيفتها: الخاتمة في هذا النوع ليست حلًا بل إعادة ترميز للكارثة. الكاتب لا يعيد البناء، بل يكتب كيف تهاوى البناء.

9- دراسة بناء الشخصيات وتناميها:
في ضوء تطورها النفسي والسردي، وعلاقتها بالزمكان والحدث:
أولًا: الشخصية المحورية (الراوي – البطل)
البنية:
شخصية داخلية سردية، تسرد ذاتها من منظور الأنا.
ناجٍ من المجزرة، فقد أسرته بالكامل.
مثقف/متطوّع/مصوّر يعمل ضمن بعثة توثيقية.
التحول النفسي:
المرحلة السمات الملامح
البداية مثقل بالحنين، مأخوذ بالمكان "أشعر كضرير يمسك العصا ويتبع صوتًا قد يكون سرابًا"
الذروة هشّ، منهار، يعاني صدمة فقد "لماذا خنت وصيّة أبي؟ لماذا لم أمُت معهم؟"
بعد الذروة حائر، مذنب، راغب في الفعل "ربما الكتابة وحدها تُعيدهم إليّ"
النهاية مسكون بالذاكرة، لكنه أكثر وعيًا "بعض الحياة أقسى من الموت ذاته"
وظيفتها:
الشخصية الرئيسية هنا هي بوصلة الرواية النفسية والوجدانية، وتلعب دور الشاهد والمجروح والناقل لذاكرة الضحايا.
ثانيًا: الشخصيات الثانوية
1. الأم (الرمز المركزي للأمان والهوية)
تظهر في الفلاش باك، حازمة وحنونة:
"ناولني الحقيبة الكبيرة… لن نبقى تحت رحمتهم"
تتحول في الوعي إلى أيقونة فقد، تصبح مرجعية الضمير.
2. العم "أسعد" (رمز الضحية الممتدة)
معتقل سابق، يتجسّد فيه الزمن المجروح.
وجوده يعيد للراوي الصلة بجذور الحي والذاكرة المجتمعية.
"يداه ترتجفان وهو يفتل المسبحة التي أهدتها له زوجته قبل اعتقاله"
يتحول من "صورة قديمة" إلى "وثيقة حيّة".
3. ميشيل (الكندي اللبناني – الضمير الواقعي)
شخصية ثانوية ديناميكية، توازن بين التعاطف والعملية.
يحاول دفع الراوي إلى التماسك:
"دعك ممن رحلوا، وفكّر بالآتي"
يمثل صوت "العقل البراغماتي"، لكنه لا ينجو من حزن الراوي.
ثالثًا: تنامي الشخصيات
1. الشخصية الرئيسية:
تنتقل من الانفعال إلى الفعل، من الانكسار إلى التوثيق.
تقود القارئ من الانفجار النفسي إلى البحث عن معنى أعمق للكتابة.
2. الشخصيات الثانوية:
تتحرك في إطار استعادة الجماعة:
العم أسعد: منسي يتحول إلى شاهد.
الأم: من صورة محبّة إلى رمز يتقاطع مع الأرض.
الأطفال: من وجود حي إلى أشباح تعيش في قلب الخراب.

رابعًا: علاقة الشخصيات بالزمكان
كل شخصية تحمل بعدًا مكانيًا.
الشخصية علاقتها بالمكان وظيفته السردية
الراوي الحي/البيت/الركام تعرية الذات
الأم البيت/الغرفة رمز الحماية المفقودة
العم أسعد المقهى/المعتقل تجسيد لذاكرة العذاب
ميشيل المهمة الأممية/العمل صوت الواقعية

فالشخصيات في الرواية ليست أدوات حدث فقط، بل كائنات رمزية محمّلة بدلالات تاريخية ووجدانية.
كل شخصية تمثل زاوية من الكارثة:
الراوي = الشاهد.
الأم = الجذر.
العم = المسجون.
ميشيل = الضمير الدولي الغائب/الحاضر.
لتحليل بناء الشخصيات وتناميها في رواية "هذيان الأمكنة"، إليك تطور هذه الشخصيات في باقي الفصول استنادًا إلى المتن السردي:
أولًا: الشخصية الرئيسية (الراوية/الكاتبة)
تطور الشخصية:
المرحلة التحول السردي والنفسي
بعد الذروة الأولى تدخل الراوية في مرحلة الإنهاك النفسي والاشمئزاز من المجاملات والعمل الأممي الروتيني، ما يكشف تعمّق شعورها بالاغتراب.
مرحلة اللقاءات تتفاعل مع شخصيات من الماضي مثل “سفيان” و”يوسف”، وتبدأ مشاعرها تجاه الطفولة، والحب، والوطن بالاندماج ضمن وعي ناضج وهادئ.
التحول العاطفي تُظهر الرواية بوادر حب غير مكتمل، وحنين أنثوي مكسور، وتعبًا داخليًا ممتزجًا بالرغبة في العطاء، ويتجلى ذلك في تعلقها بـ"حمودي" و”يوسف” واهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية.
المرحلة النهائية تصبح الشخصية أكثر نضجًا، تعترف بألمها دون انهيار، وتؤمن بالكتابة كخلاص ممكن: "أحيانًا أخاف عليه من آرائه السياسية..."، وتبدأ في دعم الآخرين وتوثيق الذاكرة بدلاً من اجترارها.
ثانيًا: الشخصيات الثانوية وتطورها
1. يوسف (الكاتب والرفيق المحتمل)
يبدأ كرمز للمثقف المقاوم، لكنه يتطور لاحقًا ليحمل أبعادًا إنسانية أكثر هشاشة.
في آخر الفصول، يُظهر توترًا، ضعفًا، ترددًا في التواصل، ما يفتح المجال لتأويلات نفسية (ربما اكتئاب، خيبة، أو خوف من فقد جديد).
"لم أقتنع أنه بخير... شعرت بذهنه مشوشًا".
2. حمودي (الطفل العالق بالذاكرة)
يظهر كرمز حيّ لفقدٍ سابق، لكنه يتطور ليصبح صلة بين الراوية والواقع.
حضوره الطفولي لا يخلو من بعد عاطفي عميق، وتعلّقها به ليس مجرد حنين بل تعويض نفسي عن الأمومة والأمان.
3. فاطمة ويافا وشخصيات محيطية
هؤلاء يشكّلن نسيجًا نسائيًا داعمًا، تتداخل فيه الشخصيات بين الماضي والراهن.
"يافا” تمثل الرفيقة الحميمة ذات الحضور الواقعي والسياسي في آن، وتمنح صوتًا جمعيًا للأنثى في الحرب.
ثالثًا: علاقة تنامي الشخصيات بالزمكان
الشخصية التغير المكاني التحول النفسي
الراوية من دمشق إلى الجبل إلى بيروت من الانكسار إلى الكتابة الواعية
يوسف من الشام إلى المنفى من التوهج إلى التراجع العاطفي
سفيان من الذكريات المدرسية إلى الحاضر القاسي من العنفوان إلى الإحباط
فاطمة/يافا أمكنة احتضان الثبات والدعم والتوازن

فالراوية تمر من الهشاشة النفسية إلى التماسك النسبي عبر الكتابة والوعي.
الشخصيات الأخرى (يوسف، سفيان، الطفل، العم، فاطمة) تلعب دور محفزات داخلية للنمو النفسي.
لا تظهر "قوة خارقة" في تطور الشخصيات، بل نمو تدريجي إنساني هش في وجه الكارثة.

فـتوظيف الأحلام والكوابيس في رواية هذيان الأمكنة ليس عنصرًا زخرفيًا بل يُعد أداة سردية ونفسية مركزية. يُمكن إدراجه ضمن المستوى النفسي، وإليك تحليلًا نقديًا متكاملًا:

10- توظيف الأحلام والكوابيس في الرواية:

تظهر الأحلام والكوابيس في هذيان الأمكنة بوصفها امتدادًا لصدمة اللاوعي، ووسيلة للكشف عن مناطق لم تَقوَ الشخصيات على التعبير عنها في الواقع. وهي لا تكتفي بوظيفتها النفسية، بل تؤدي دورًا سرديًا وجماليًا داخل النص.

1. الأحلام كاستعادة رمزية:
تُمكّن الشخصيات، وخاصة الساردة، من لقاء من رحلوا: الأم، حمودي، الأب، الجيران.
تُعيد تشكيل البيت كما كان، لحظةً قبل أن يُقصف.
تُستعاد تفاصيل صغيرة جدًا، كما لو أن اللاوعي يحتفظ بنسخة أصلية للعالم المفقود.
2. الكوابيس ككشف عن الهشاشة الداخلية:
تتكرر صور السقوط، الدم، الجثث، اللهاث، القبور المفتوحة.
تظهر في لحظات القلق والحنين، وتُبرز ما لم يُقال بصوتٍ عالٍ.
تُجسّد الخوف من الانقراض الشخصي، وفقدان المعنى.
4. الوظيفة الجمالية والسردية:
الأحلام تُكسر خطية السرد وتُدخِل لغة أكثر رمزية وشعرية.
أحيانًا لا يميز القارئ إن كان المشهد حلمًا أم واقعًا، مما يعكس اضطراب وعي الشخصية.
تُؤسس لبنية سردية متقطعة، تعكس تمزق الداخل كما تمزق الخارج.
اقتباس دال:
"استيقظت مذعورة كأني خرجت للتو من تحت الأنقاض، حلمتُ أن بيتنا عاد، لكن وجوهنا كانت بلا ملامح..."
فالأحلام والكوابيس في الرواية ليست طارئة، بل تشكّل مسارًا سرديًا باطنيًا يتقاطع مع خط الأحداث الواقعية، وتسمح بفهم الشخصية لا من خلال ما تقوله فقط، بل من خلال ما تراه وهي نائمة أو مذعورة.

عنصر التشويق
حققت الكاتبة اعتدال نجيب الشوفي عنصر التشويق في رواية "هذيان الأمكنة" بأساليب متعددة، جمعت بين البنية النفسية، والتقطيع الزمني، والتشويق الشعوري، والغموض السردي، وهو تشويق لا يقوم على الحبكة البوليسية، بل على تقطير الصدمة وتوسيع أثرها. إليك أبرز وسائلها:
1. الاستهلال الغامض المشبع بالذاكرة والوجع
تبدأ الرواية بعبارات شاعرية محمّلة بالإيحاء:
"حالة النشوة التي تنتابني هذه اللحظة تبدّد أسراب الوجع..."
القارئ لا يعرف سبب هذه النشوة بداية، لكنه يُسحب فورًا إلى جوّ مشحون بالتوتر العاطفي والحنين القاتل، وهذا الغموض العاطفي يُبقيه متابعًا.
2. التأجيل القصدي للمعلومة (التقطيع الزمني)
الكاتبة تؤخر كشف التفاصيل الكبرى (المجزرة، موت العائلة، الناجي الوحيد، ما حدث للأب...) عبر تقنيات:
الفلاش باك المقطوع، الأسئلة الداخلية التي لا يُجاب عنها فورًا، والزمن المبعثر بين الحدث والمسترجَع
مثال:
"لماذا خنت وصيّة أبي؟" – سؤال يتكرر قبل أن نعرف تفاصيل ما حدث.
3. الانغماس في الوصف البصري ثم القطع بالمفاجأة
تستخدم الكاتبة أسلوب الإيهام بالسكينة ثم الصفعة المفاجئة:
تبدأ بوصف الطاولة في البيت: "طاولة الخشب المكسورة، فتحت كُوّة في ذاكرتي..."
ثم تفجر المشهد فجأة: "صرخات أخي الرضيع... الظفيرة الشقراء المغطاة بالدم...!"
هذه النقلة العنيفة تبقي القارئ مشدودًا ومتوقعًا لما هو قادم.
4. الغموض حول مصير الشخصيات
بعض الشخصيات تظهر دون ملامح واضحة، أو تُذكر بالإيحاء فقط، مثل:
"يوسف" – يعود لاحقًا، لكن علاقته بالراوية يظلّ مُلتبسًا: حب؟ حنين؟ رفيق؟
العم "أسعد" – يُقابَل مصادفة، لكن الغموض يلفّ نجاته وقصته في السجن.
هذه الشخصيات "الناقصة" تستدرج القارئ للبحث عن مصيرها، فيتابع القراءة.
5. سرد يعتمد على "السؤال المفتوح"
الرواية ليست قائمة على الأجوبة، بل على الأسئلة الكاشفة:
"كم من الأحلام وُئدت على قارعة الطريق؟"
"كيف استطاعوا أن يدكّوا جمالك الرصين؟"
"هل كانت الحقيبة تعلم برحيلنا دونها؟"
هذه الأسئلة تُبقي ذهن القارئ مستنفرًا، وتشكل بؤر توتر سردي.
6. التناص الذكي وفتح الدلالات
"أنا يوسف يا أبي"
هذا التناص مع محمود درويش يعزز التشويق لأنه يستدعي مأساة من خارج النص، ويخلق انتظارًا لمقاربة مشهد مماثل: خيانة، ذبح، ضياع.
7. النهاية المفتوحة / الدائرة المغلقة
الرواية لا تُغلق بقرار حاسم أو خاتمة مريحة، بل تعيد القارئ إلى نفس الدائرة:
الكتابة – الذكرى – الحزن – المقاومة الداخلية.
"الموت هو الموت، لكن بعض الحياة أقسى من الموت ذاته..."
بهذا، يبقى التشويق قائمًا حتى بعد النهاية، كجذر لا يهدأ في وجدان القارئ.
فعنصر التشويق في هذيان الأمكنة لا ينبع من "ماذا سيحدث؟"، بل من كيف يمكن أن نتحمّل ما حدث؟
إنه تشويق الذاكرة المعذّبة، تشويق الكشف العاطفي التدريجي، وتشويق تأريخ الغياب بلغة آسرة.

إضاءات ديناميكية:
1. التحولات الاقتصادية:
لم تكتفِ الرواية بإظهار الخراب من خلال البيوت المقصوفة والمجازر، بل كشفت عن تبدّل البنية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، من خلال ملاحظات سردية موزعة، تكشف كيف صار الاقتصاد رهين قوى الحرب والفساد والمصالح.
تتجلى هذه التحولات من خلال:
- تضخم الأسعار مقابل شحّ الموارد:
"بائع البوظة لا يملك ثلاجة، لكنه يبيع الكيلو بخمسة عشر ألفًا..."
- التضليل الإعلامي الرسمي حول الاقتصاد:
"نحمد الله، نحن بخير!" تقولها المذيعة، بينما الحيّ بلا ماء ولا كهرباء."
- تغير الطبقات الاجتماعية:
الأثرياء الجدد من أمراء الحرب. نازحون يُعاملون كعبء اقتصادي. انهيار القيمة الحقيقية للنقود والكرامة معًا.
هذه اللمحات ليست تقارير إخبارية، بل جزء من إيقاع الحياة اليومية، وتُستخدم في الرواية كخلفية حركية تؤثر على خيارات الشخصيات، وعلاقاتها، وشعورها بالانتماء أو التهجير الداخلي.
وظيفتها في المستوى الديناميكي:
تعمّق السياق العام الذي تتحرك فيه الشخصيات.
تخلق توازنًا بين الداخل النفسي والواقع المادي المحيط.
تدفع القارئ لتأمل كيف أن الحرب لا تقتل فقط، بل تُفقِر وتحوّل الاقتصاد إلى سلاح إضافي ضد المدنيين.


2. الإشارات إلى المواقف السلبية للبلدان المجاورة (لبنان – الأردن):
ترصد الرواية في لقطات قصيرة لكنها مكثفة، المواقف السلبية لبعض دول الجوار تجاه اللاجئين السوريين، وتُظهِر كيف تحوّل الجار إلى بوابة مغلقة أو قيد معلّق.
ومن أبرز ما يظهر في النص:
- منع السوريين من دخول لبنان في بعض الفترات، وفرض قيود مهينة:
"طلبوا منه ورقة كفيل، وكأننا صرنا غرباء في الأرض الأقرب إلينا."
- نقد مبطّن لسوء أوضاع المخيمات في الأردن ولبنان:
"خيمتهم تقترب من الانهيار، والأرض تغور تحتها كل شتاء، بينما يرفعون لافتات الشكر للمانحين."
- السخرية من ازدواجية التعامل السياسي والإنساني:
"أعداؤنا باتوا يرحّبون بنا أكثر من جيران الأمس."
الدلالة الديناميكية لهذه الإشارات:
- تكشف عن انكسار الأمان الجغرافي: لم تعد الحدود ملاذًا، بل حواجز إضافية.
- تعمّق الشعور بالخذلان، ليس فقط من النظام، بل من الجغرافيا المحيطة.
- تُشكّل هذه الإشارات خلفية واقعية تؤثّر على حركة الشخصيات، على قراراتها، ومآلاتها النفسية والاجتماعية.
- تُحوّل البنية الديناميكية للرواية إلى حركة احتجاز لا تحرّر: الداخل مسجون، والحدود خازنة للألم.
- تحول الحلم بالنجاة إلى فاجعة جديدة.
- سقوط فكرة الخلاص الخارجي.
- انتقال الجسد السوري من الوطن المذبوح إلى الغرق المجهول.

3. الإشارة إلى موت المهاجرين في البحر:

تأتي في الرواية إشارات مباشرة وموجعة إلى غرق السوريين في البحر أثناء محاولات الهرب للجوء إلى أوروبا، حيث يتحوّل البحر من أفق مفتوح إلى قبر مائي، وتتحول النجاة من الحرب إلى فاجعة كونية:
"كانوا يفتّشون عن حياة جديدة، فابتلعهم البحر كأنه ضاق بهم كما ضاقت بهم اليابسة."
"لم تُرفع لهم أعلام الحداد، لم تُكتب أسماؤهم على لائحة شهداء، فقط عناوين صحفية: غرق مركب يقل لاجئين سوريين."

دلالتها الديناميكية:
هذه الإشارات لا تأتي كخبر، بل كـصدى داخلي لشخصيات الرواية التي باتت تتردّد بين البقاء في مكان ميت، أو عبور قد يكون قاتلًا.
- تعمّق التوتر النفسي للشخصيات، وتكسر وهم "المنفى كخلاص".
- تُغذّي البناء الحركي للنص بإيقاع تراجيدي، وتمنح السياق الجغرافي (الداخل – البحر – الشتات) حركة دائرية مفرغة: من موتٍ إلى موت.

هنا، يُختزل الموت في البحر كأقصى تجليات اللجوء العاجز، ويُضاف إلى قائمة أشكال الموت الموزعة في الرواية:
الموت تحت القصف.
الموت في المعتقل
الموت في المخيم
والموت المائع في الماء

4. مشاهد التفجيرات في دمشق والمناطق الأخرى:
ترصد الرواية سلسلة من التفجيرات المتنقلة التي تضرب أحياء مختلفة، أبرزها مشهد احتراق قمة جبل قاسيون:
"ما هي إلا ثوانٍ حتى بدأت النيران تتصاعد فوق قمة قاسيون، تبتلع الرؤية..."
وتُكرر الإشارة إلى انفجارات فجائية في أماكن كانت ذات يوم آمنة، مثل باب توما، القنوات، سوق الحميدية، مما يُظهر تآكل العاصمة من داخلها.

الدلالة الديناميكية للتفجيرات:
تشكّل هذه التفجيرات انقطاعات مفاجئة في مجرى الأحداث، تشبه الصدمات الكهربائية التي تعيد الشخصيات إلى الحافة، بعد كل محاولة للتماسك.
لا تُستخدم فقط كخلفية، بل تُوظَّف سرديًا لتوليد الذروة والانفراج، وتحديد تحول المشهد (مثلاً: من بيت إلى أنقاض، من لقاء إلى فراق، من نجاة إلى فجيعة).
تؤدي إلى إعادة تموضع الشخصيات في المكان والنص: من مقيم إلى نازح، من متفرج إلى ضحية، من سارد إلى شاهد.

أثرها النفسي والسردي:
- تخلق إيقاعًا متوترًا ينعكس في اللغة والتقطيع الزمني.
- تظهر هشاشة الاستقرار: لا مكان ثابت، ولا لحظة مكتملة.
- تبرز كيف أن المكان نفسه بات متفجّرًا، حتى في رمزيته:
- قاسيون نفسه يحترق، والجبل الذي كان حارس المدينة بات مشهدًا للحريق.

5. دور النشطاء من المجتمع المدني في الرواية:
في خلفية الدمار والقمع والخوف، تبرز شخصيات تمثل المجتمع المدني المقاوم بالصمت والفعل، من خلال مبادرات فردية أو جماعية غير منظّمة لكنها ذات أثر عميق. ومن أبرز مظاهر هذا الدور:
- توثيق الأحداث بالصوت والصورة:
- الراوي نفسه تعمل مع بعثة للتوثيق، ويلتقي نشطاء يصورون، يكتبون، ويجمعون الأدلة.
- الدعم الإنساني داخل الحصار:
شخصيات كـ"ميشيل"، "فاطمة"، وآخرين، يقومون بأدوار الدعم النفسي، تنظيم الفعاليات، وإيواء الناجين.
- التعليم البديل في المخيمات:
يُذكر أن بعض الشخصيات تعمل مع أطفال نازحين، وتحاول الحفاظ على الحد الأدنى من التربية والوعي.

وظيفتهم ضمن المستوى الديناميكي:
- يخلقون مراكز مقاومة غير مسلحة داخل بيئة من الهدم.
- يُعيدون بعض الأمل في إمكانات الفرد رغم العجز العام.
- يُسهمون في توجيه حركة الشخصيات الرئيسة، مثل تشجيع الراوي على العودة للعمل، أو حثّه على الكتابة، أو منحه شعورًا بالجدوى.

دلالتهم في المستوى الأخلاقي والقصدي:
يُجسّدون الضمير المدني الحيّ، في مقابل انهيار النظام الرسمي والمؤسسات.
يؤكد وجودهم على أن الصوت لا يموت، بل ينتقل من السلطة إلى الفرد، ومن الإعلام الرسمي إلى الكاميرا الصغيرة، ومن الدولة إلى المواطن.

أثرهم على الراوي:
- يمنحونه القوة للمضي، ويحفظون اتصاله بالحياة بعد الفقد.
- يشكلون جسرًا بين الماضي والحاضر: ليسوا من بيته، لكنهم صاروا مثل العائلة الجديدة التي تواسي وتقاوم معه.

6. الصراع بين جيل الآباء وجيل الأبناء:
يتبدى في الرواية صراع صامت لكنه محتدم بين جيلين:
جيل الآباء: يحمل ميراثًا من الأمل، الانضباط، أو حتى التواطؤ مع المنظومة، ويتوزّع بين الصامت والمخدوع والمؤدلَج.
جيل الأبناء: جيل الانفجار، الوعي المتأخر، والسؤال المستمر عن المعنى والعدالة.

تجلّيات الصراع في النص:
الأب في الرواية ترك وصية لابنه ألا يرحل، لكنه يشعر لاحقًا بالندم لأنه لم يطعه:
"لماذا لم أمت معهم؟ لماذا خنتُ وصيته؟"
→ صراع الطاعة والرفض، الوفاء والخذلان.
العم أسعد، الجيل الذي عاش الاعتقال والخذلان، لكنه صمت بعدها:
→ نموذج لجيل آمن ثم انكسر، وترك الأبناء يواجهون الحقيقة وحدهم.
يوسف وسفيان (من جيل الأبناء) يمثّلان وعيًا نقديًا، لكنهما محمّلان بالإحباط:
"حاولنا التغيير، فابتلعونا."

أثر الصراع نفسيًا:
- يولد شعورًا بالضياع لدى جيل الأبناء:
لا هم قادرون على القطيعة، ولا على التسليم بالموروث.
- يخلق توترًا وجوديًا:
"هل كانت أفكارنا نحن، أم أفكارًا زُرعت فينا منذ الصغر؟"
يُفضي إلى ازدواج داخلي في صوت الساردة: هي بنت البيت، لكنها أيضًا الشاهدة المتمرّدة عليه.
وظيفته التداولية والأخلاقية:
- يُوجّه الخطاب نحو إعادة مساءلة التاريخ العائلي والسياسي.
- يُسائل مفهوم السلطة داخل الأسرة، بوصفها امتدادًا رمزيًا للسلطة الكبرى (النظام، الحزب، المؤسسة).
- يعكس الرواية كـصوت للقطيعة الرمزية مع الآباء الذين صمتوا أو غُرّر بهم.

يأتي الصراع بين الأجيال في هذيان الأمكنة لا بوصفه تباينًا طبيعيًا، بل كأحد جذور التمزّق النفسي في زمن الحرب.
جيل الأبناء لم يرث الوطن فقط، بل ورث الخراب والخذلان والحيرة، وراح يصوغ نجاته بعيدًا عن خرائط الآباء ووصاياهم.

سادسًا: المستوى النفسي
يتكشّف المستوى النفسي في رواية هذيان الأمكنة بوصفه أكثر المستويات عمقًا وتأثيرًا، لأنه يفتح الباب على الجراح الخفية للشخصيات، وعلى ارتباك الوعي والذاكرة، والتمزّق بين ما فُقد وما لا يزال حيًّا على هيئة صدى.
الأحلام والكوابيس:
توظيف الأحلام والكوابيس في رواية هذيان الأمكنة ليس عنصرًا زخرفيًا بل يُعد أداة سردية ونفسية مركزية.
الوظيفة النفسية:
- تسمح للراوية بتفريغ الصدمة تدريجيًا، وتجاوز الكبت.
- تخلق مساحة للحداد المؤجل، والاعتراف بالذنب أو التقصير.
- تُجسّد فقدان الشعور بالزمن/المكان.

ولا يقتصر هذا المستوى على الانفعالات، بل يمتد إلى سلوكيات دقيقة، وتجلّيات حلمية، وتعبيرات فنية وصوت داخلي مشتبك مع الواقع واللاشعور.

1. المدخل السلوكي:
أما المدخل السلوكي، فيكشف عن تمظهرات الصدمة في الحواس والأفعال والميل النفسي، كما يتجلى في رسم طفلٍ بلا ألوان، في رعشة يدٍ تلمس البلور، في النوم المرتبك، وفي رسم بلا رأس، وكتابة بلا نهاية.
هنا، تصبح النفس هي المسرح الحقيقي للانهيار والمقاومة معًا.
رمزية الطفل الذي يحب الرسم لكن لا يحب الألوان:
هذا الطفل الذي يُفترض أن يكون عاشقًا للحياة، لكنه يرسم أشخاصًا بلا رؤوس، ويفضّل الرسم من دون ألوان، هو تجسيد حيّ لصورة الطفولة المغتصبة في زمن الحرب، ويمكن قراءة هذه الصورة من عدة أبعاد:
- البعد الرمزي:
غياب الرأس في الرسومات يشير إلى:
انعدام الهوية.
انقطاع الفكر أو العقل.
شيوع العنف كصورة بصرية يومية.
رفض الألوان يعكس:
غياب البهجة.
غياب الأمل/الطيف.
الرغبة في التعبير عن الألم بالأبيض والأسود فقط، كما لو أن الطفل أُجبر على النضج بالحزن.
- البعد النفسي:
الطفل يحمل آثار اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD):
يعيد رسم ما رآه أو سمعه: أشلاء، موتى، مقطوعي الرؤوس.
يتجنب الجمال (الألوان) لأنه غير واقعي بالنسبة له.
الرسم فعل علاجي، لكنّه في حالته صار فعلًا للتفريغ المرعب.
- البعد السردي والديناميكي:
هذا الطفل ليس شخصية ثانوية، بل هو صوت المستقبل المعطوب.
يرسم صورة سوريا القادمة: جمال معطوب، وذاكرة بصرية دامية.

دلالته داخل الرواية:
يُذكّر القارئ أن الحرب لا تقتل فقط، بل تعيد تشكيل الإدراك والخيال.
يُعبّر عن نتيجة مشتركة لأطفال المخيمات، والمناطق المنكوبة، وحتى أولاد الناجين.
بالنتيجة:
هذا الطفل لا يرسم فقط، بل يشهد ويروي بطريقته.
ألوانه المفقودة ورؤوسه المقطوعة هي مرآة لما لم يعد يُحتمل.
وهو صوت روائي داخلي لا يملك اللغة، لكنه يملك الصورة.

في تحليل المستوى النفسي ضمن رواية "هذيان الأمكنة"، يظهر مدخل التناص كأداة نفسية وتعبيرية بالغة التأثير، تُستخدم لتكثيف الانفعالات، وتأصيل الذاكرة الجمعية، وخلق حوار داخلي بين الذات الفردية والتجربة الجماعية.

2. مدخل التناص في خدمة البنية النفسية
1) التناص مع محمود درويش:
"أنا يوسف يا أبي"
عبارة مأخوذة مباشرة من قصيدة درويش، تُستخدم هنا كصدى صادم في لحظة انهيار الشخصية.
الدلالة النفسية:
- يوسف في النص ليس فقط استعارة عن الابن المظلوم، بل هو الناجي الممزق بالذنب والخذلان.
- استحضار صوت درويش لحظة التصدع الداخلي يُظهر أن الشخصية تبحث عن لغة سابقة للكارثة تعينها على فهم ما حدث.
- التناص هنا يعمّق الشعور بالفقد والنجاة المرّة، ويمثّل آلية دفاع نفسي، حيث يُستدعى الشعر لحماية الذات من الانهيار.

2) التناص مع التراث المقدس والرموز
مشهد الطفلة ذات الظفيرة الشقراء، والرضيع الذي يبكي فوق صدر الأم، يشكل تناصًا ضمنيًا مع مشاهد الضحايا الأبرياء في النصوص الدينية والإنسانية.
الدلالة النفسية:
هذا التناص غير المعلن يعمّق الحسّ بالفجيعة الأخلاقية.
الذات الساردة تسعى لتثبيت مشهد الخسارة في بنية أكبر من اللغة اليومية – في "أسطورة الفقد المقدس".

3) التناص مع الذات الجمعية
"الموت لم ينجح في أن يجمعنا تحت راية واحدة..."
هذه العبارة تحاكي خطابًا سياسيًا/اجتماعيًا معروفًا، وتعيد تأويله ساخرًا.
الدلالة النفسية:
- التناص هنا يعكس صدمة تفكك الجماعة، ويفضح وهم الوحدة الوطنية الذي كانت الشخصية تؤمن به.
- يُظهر التوتر النفسي بين ما تربّى عليه الراوي (نحن شعب واحد)، وما اختبره (طائفية، خيانة، عزلة، تمييز).
فالتناص في "هذيان الأمكنة" ليس ترفًا ثقافيًا، بل صوت باطني للشخصية الجريحة، تستدعي به معجمًا من الرموز والمآسي لتشرح ألمًا لا يُحتمل. هو شكل من العلاج الداخلي، والبحث عن معنى في لحظة الانهيار.

3. مدخل التقمّص والوعظ:
يُستخدم هذا المدخل للكشف عن العمق النفسي للشخصية الرئيسية، ومراحل تطورها من الانفعال إلى الفهم، ومن الذهول إلى التبصّر.
أولًا: التقمّص النفسي (Empathic Identification)
1- تقمّص الشخصيات الأخرى عاطفيًا
" يافا" تمارس فعل التقمّص اتجاه :
أمها:
"أتخيل أنني أجلس في مكانها… أعدّ الخبز للأطفال…"
هذا التخييل ليس سرديًا فقط، بل محاولة نفسية لتعويض فقدها، والتحوّل إلى من تحب.
العم أسعد:
"أراقب يديه المرتجفتين، فأشعر بأن شيخوخته تسكنني..."
تتقمص عجزه، ألمه، وسنين السجن التي لم تعشها لكنها تحملها كذاكرة جمعية.
الطفل حمودي:
"كأنني أمّه، كأنّ صوته ندى على وجهي…"
تذوب شخصيتها في شخصيات الطفولة والبراءة، تعويضًا عن الأمومة المفقودة.

الدلالة النفسية:
التقمص هنا شكل من الاستبدال العاطفي، وآلية دفاع نفسي: إن لم أعد أستطيع أن أكون نفسي، فدعني أكون من فقدتهم.

2. تقمّص روح حمودي في جسد آرام:
ضمن البنية النفسية العميقة للرواية، تلوح فكرة تقمص روح حمودي (الطفل المذبوح/الذاكرة) في جسد الطفل "آرام" بوصفها تعبيرًا عن الارتباك الشعوري الحاد للراوية، ووسيلة لا شعورية لمقاومة الفقد.
تتجسد هذه الفكرة في مزيج من الإيحاءات، النظرات، التصرفات المتكررة، والحنين القاسي، حيث ترى الراوية في آرام نَفَسًا مكسورًا يشبه ذاك الذي فُقد، وتتعامل معه كأنها ترعى ظلًّا قادمًا من بيتها المدمر.
هذه الآلية النفسية تحمل مستويات متعددة:
كآلية إنكار للفقد، حيث ترفض الراوية الاعتراف بموت حمودي من خلال إحياءه في طفل آخر.
كإسقاط شعوري على الواقع، حيث يتحوّل الألم إلى يقين باطني يفرض نفسه على حواس الراوية.
كحالة رمزية روحية، فيها يصبح التقمص شكلًا من البعث الداخلي، وتمردًا على محو الذاكرة.
إن هذا التقمص لا يخدم فقط الراوية نفسيًا، بل يمنح الرواية نفسها بُعدًا صوفيًا / وجوديًا، يعيد طرح السؤال:
هل الذين ماتوا يرحلون فعلًا؟ أم يعاودون الظهور بأشكال لا نجرؤ على تصديقها؟

تأكيد التقمّص عبر سلوك متكرر: لعبة الشطرنج
تتجلى إحدى أقوى الإشارات النفسية على تقمص روح حمودي في جسد آرام، من خلال العلامة السلوكية الدقيقة التي تتكرر دون وعي:
كلاهما يحب الشطرنج، ويلعبها بنفس الطريقة اللافتة:
"يحمي الجنود، ويتحرّك بالملك والوزير بحذر... لا يريد أن يموت أي جندي، ولا مشكلة لديه إن مات الملك."
هذه الطريقة في اللعب ليست مجرد صدفة، بل بصمة روحية/نفسية، تعبّر عن رؤيتهما العاطفية للعالم:
الملك رمز الذات أو القائد أو الأب، يمكن التضحية به.
الجنود (الضعفاء، الأبرياء، الناس العاديين)، لا يجوز موتهم.
هذه الرؤية تنتمي إلى حمودي الذي نشأ في بيت هشّ ومهدّد، وتُعاد عبر جسد آرام كعلامة لا تُخطئها عاطفة الراوية.
تكرار هذا النمط السلوكي يخلق شعورًا خفيًا لدى القارئ بأن الطفل الذي فقدته الراوية لم يغب تمامًا، بل عاد، بطريقة ما، ليتابع اللعبة...
لكن هذه المرة في حياة أخرى، وباسم مختلف.

ثانيًا: التقمّص المكاني/الجمادي
البيت، البلور، الطاولة، النوافذ، الظل، البلدة، كلها كيانات تتقمصها الشخصية:
"أنا البلورة البنفسجية التي نجت من التحطيم…"
"أشعر كأني شتلة القرنفل العالقة بين الركام…"
الدلالة النفسية:
انتقال الشخصية من الإنسان إلى الكائن الجمادي/المكان يعكس عمق التفكك الداخلي، حيث تُمحى الحدود بين الذات والعالم الخارجي.

ثالثًا: الوعظ الداخلي (Inner Didacticism)
- الراوية تكلّم ذاتها بلهجة واعظة
تُلقي على نفسها أسئلة التوبيخ:
"لماذا لم أنزل معهم؟ لماذا لم أمت؟"
لكنها أحيانًا تنتقل إلى خطاب فيه ترفّع روحي أو محاسبة أخلاقية:
"الناس لا يستحقون الحقيقة دفعة واحدة…"
"ربما الألم نعمة كي لا ننسى…"

- المونولوجات الوعظية الموجهة للقارئ
تتجاوز أحيانًا خطاب الذات، لتخاطب الآخرين بصوت الحكمة:
"ليست الحرب وحدها من تقتل، بل الذاكرة أيضًا..."
"كل ما لا نبوح به يترسب فينا كسُمّ لا نراه، لكنه يفتك بنا على مهل..."
الدلالة النفسية:
الوعظ هنا ليس عظة سطحية، بل آلية عقلنة للكارثة، ومحاولة لبناء المعنى داخل فوضى عاطفية.
كما أنه يخدم التوازن النفسي للشخصية، بمنحها دورًا "أعلى" كمراقبة وشاهدة لا مجرد ضحية.
التقمص والوعظ معًا يكشفان عن مستوى عالٍ من النضج النفسي المتألم، وعن تطور الشخصية من النجاة البيولوجية إلى النجاة السردية/الروحية.

سابعًا: المستوى التداولي العميق
يكشف البُعد الأهم في الخطاب السردي: ماذا يريد المتكلّم (السارد/الشخصيات) أن يفعل باللغة؟ وكيف يؤثر في المتلقي؟
وهذا المستوى يرتكز على القصد التواصلي الذي يتجاوز الإخبار إلى التأثير والتغيير، ويشتبك مع السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

تفصيل هذا المستوى من خلال العناصر الذرائعية:
1. الغرض التداولي العام
الرواية ليست نصًا للتسلية أو التوثيق السطحي، بل تسعى إلى:
- نقل الذاكرة الحيّة للكارثة السورية.
- فضح هشاشة القيم في زمن الحرب.
- إعادة تعريف الانتماء
- استثارة وعي القارئ من موقع الشاهد وليس المتفرج
الرواية تشتبك مع القارئ من الصفحة الأولى كأنها تقول: "هذا ما حدث لنا… احملوه معنا."
إنها لا تسأل القارئ: هل يعجبك هذا؟ بل: هل تستطيع أن تتجاهله؟
2. مستويات الخطاب التداولي في النص

- التداول الذاتي (الحديث مع النفس)
"لماذا لم أمت معهم؟ هل أنا جبانة؟"
"هل شممتِ رائحتي؟ أم أنكِ كنتِ تنتظرين ندى آخر؟"
الساردة تعيد تشكيل ذاتها من خلال الحوار الداخلي، تسائل نفسها، وتعيد تركيب هويتها عبر هذا التفاوض النفسي.
وظيفته التداولية: بناء الذات الممزقة واستدعاء العطف والتعاطف لا من القارئ فقط بل من داخل الذات ذاتها.

- التداول العلائقي (الخطاب مع الآخر)
الخطاب الذي يوجّه إلى الشخصيات الأخرى (ميشيل، أسعد، يوسف، فاطمة...) يقوم على:
المواجهة (عتاب، لوم، توتر، التباس)
الاعتراف (مكاشفة ذاتية)
الطلب (رجاء الحضور، أو الإصغاء، أو المشاركة في التوثيق)
مثال:
"لا أريدك أن تتعاطف معي، فقط أن تصمت معي للحظة!"
وظيفته التداولية: خلق مساحة من الإنسانية المشتركة، وكسر عزلة السارد أمام الآخر المختلف.

- التداول الجمعي (الخطاب العام/الرمزي)
يظهر حين تتحدث الرواية عن الشعب، الحرب، الطوائف، الوطن، النزوح، وتصبح الشخصية الناجية ناطقة بلسان جماعة.
"نحن الذين نجونا، لا نشبه أحدًا، ولا أحد يشبهنا... نحن من عشنا بما يكفي لنحفظ موتانا عن ظهر دم..."
وظيفته التداولية: تعميم التجربة الفردية لتصبح تجربة جمعية، وتحويل السرد إلى نوع من المقاومة الثقافية.

ثالثًا: قوة الملفوظ وتوجيه القارئ
الرواية توظف أفعال الكلام (speech acts) في خدمة الأثر:

نوع الفعل الكلامي أمثلة الأثر التداولي

التعبير "آه يا بلدي..." تنفيس/تفريغ وجداني
التأنيب "لماذا لم أنزل معهم؟" لوم ذاتي/تحفيز تعاطف
الطلب "اصمت فقط!"، "انظر إلي!" خلق توتر وتوقّع عند القارئ
الإخبار/التوثيق "كنت هناك. البيت سقط. أمي ماتت..." تسجيل للحقيقة/إقناع بالقضية

- التداول التأويلي
الكاتبة تبني نصًا يتطلّب قارئًا مشاركًا في إعادة تركيب المعنى:
لا تعطي إجابات، بل تفتح أسئلة.
لا توجّه اتهامًا مباشرًا، بل تصنع بيئة أخلاقية تُدين عبر أثرها.
لا تقدم خلاصًا، بل تترك القارئ أمام النهاية المفتوحة.
هذا يعني أن القارئ يتحول من مُتلقي إلى شاهد/مشارك/متأمل.

خلاصة المستوى التداولي العميق:

عنصر تجلياته في النص الوظيفة التداولية

غرض السرد توثيق/مكاشفة/مقاومة إثارة وعي القارئ
الحوار الداخلي تساؤلات نفسية إعادة بناء الذات
الحوار الخارجي توتر وتماس إنساني خلق تفاعل شعوري
الخطاب العام "نحن" الجماعية تعميم التجربة وتوسيع أثرها
لغة الأثر أفعال الكلام، التوتر، المفارقة التأثير الشعوري والتأويلي
الرواية تتحدث لتُحدث فعلًا.
ليست مجرد شهادة، بل موقف لغوي/إنساني/أخلاقي مركّب، يريد أن يبدّل وعي المتلقي عبر قوة الوجع والكلمة.

ثامنًا: المستوى القصدي
وهو المستوى الذي يكشف عن نية الكاتبة العميقة من وراء إنتاج هذا الخطاب السردي، ويجيب على السؤال: ماذا أرادت الكاتبة أن تقول؟ ولماذا كتبت هذا النص بهذا الشكل؟
يتجلّى القصد في رواية هذيان الأمكنة عبر أربعة مستويات مترابطة. فعلى مستوى الرسالة الجوهرية، تسعى الكاتبة إلى التأكيد أن النجاة من الحرب ليست خلاصًا، بل بداية لصراع من نوع آخر مع الذاكرة والذنب والفراغ. النجاة في الرواية ليست بطولة، بل عبء ثقيل يتطلب الكتابة كشكل من أشكال المقاومة النفسية والمعنوية.
أما من ناحية الموقف الأخلاقي والفكري، فإن الكاتبة تقف بوضوح ضد الطمس والتواطؤ والصمت، وترفض الخطابات الطائفية والانقسامية التي شرّعت القتل بين الجيران، مشددة على أهمية التوثيق وفضح المأساة بلغة إنسانية لا دعائية.
تأتي الأداة الفنية لتعكس هذا القصد بدقة، حيث تعتمد الكاتبة على اللغة الشعرية المكثفة، والصور البصرية الموجعة، وتقنية تيار الوعي، والانزياح الزمني، بما يوازي اهتزاز النفس وتشظي الذاكرة.
وأخيرًا، يتوجّه الخطاب القصدي نحو القارئ لا بوصفه متلقّيًا سطحيًا، بل كشاهد ضمني، عليه أن يحمل قسطًا من العبء المعرفي والوجداني، وأن يعيد النظر في مفاهيم الانتماء، الذاكرة، والخلاص.

وسأفصّل هذه المستويات القصدية الأربع:
أولًا- المقصد السردي العام
النية المركزية خلف الرواية تتجلى في:
تحويل التجربة الفردية للناجية من الحرب إلى شهادة أدبية/إنسانية، تُوثّق الوجع وتفضح الخذلان وتقاوم النسيان.
الرواية لا تروي الحدث، بل تسائل أثره العاطفي والإنساني، وتستخرج من الأنقاض صوتًا مقاومًا للطمس.

ثانيًا- تعدد المقاصد وتكاملها
المقصد تجلياته في النص
النفسي تفريغ داخلي، تفكيك الصدمة، مواجهة الذنب، التماس مع الذات المجروحة.
الإنساني تقديم رواية من داخل المعاناة دون خطاب شعاراتي، تظهير المأساة دون تسييس مباشر.
الاجتماعي نقد الصمت، الطائفية، خيانة الجار، فقدان الروابط.
الفني إنتاج نصّ يُقارب الشعر في لغته، ويتجاوز النمط التقليدي في السرد.
النسوي صوت أنثوي ناضج لا يتحدث عن الجسد بل عن العمق: الأم، الابنة، الناجية، الراوية

ثالثًا- إشارات القصد داخل النص
1. تصريح الكاتبة عبر الساردة:
"أكتب لأنني الناجية… ولأنهم ماتوا… أكتب كي لا أنساهم."
→ هذا تصريح مباشر بالقصد: الكتابة هنا ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.
2. تكرار أفعال الذاكرة والتوثيق:
"أدوّن ملاحظاتي..."
"الصور لا تكذب..."
"الكاميرا وحدها تنقذني من الجنون..."
→ توحي بأن الكاتبة تقصد حفظ الحقيقة، حتى إن لم يعد أحد يطلبها.
3. رفضها للحلول المريحة:
"الموت هو الموت… لكن بعض الحياة أقسى منه."
→ الكاتبة لا تقصد تسلية أو تسكين الألم، بل فضحه بكل ما فيه من تمزق.

رابعًا- مقصد الكاتبة من جهة المتلقي
تسعى الكاتبة إلى:
إشراك القارئ في التجربة كـ شاهد لا كمتفرج.
إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية من وجهة نظر إنسانية لا إعلامية.
إعادة تعريف الانتماء كألم مشترك، لا كشعار سياسي.

خامسًا- علاقة القصد بالبنية
القصد في الرواية يوجّه البنية كليًا:
اللغة = وسيلة تقطير شعوري.
البناء الزمني = يحاكي بنية التذكر والكوابيس.
التشويق = لا يأتي من الحدث، بل من تعرية الذات.
العنوان = يكشف عن الحالة النفسية لا الوقائع فقط.

تاسعًا:التجربة الإبداعية للكاتبة اعتدال نجيب الشوفي في رواية "هذيان الأمكنة":
والتي تنتمي إلى ما يُعرف بـ السرد ما بعد الصدمة، حيث تتحول الكتابة إلى شكل من المقاومة النفسية والتاريخية.
أولًا- سمات التجربة الفنية
1. مزج السرد بالشعر
الرواية مكتوبة بلغة مشبعة بالإيقاع والتصوير الشعري.
الجملة لا تهدف للإخبار بقدر ما تُقصد لإحداث أثر شعوري
"أنا البلورة التي نجت من التحطيم... الندى ينتظر على مفرق نافذتي، بينما الظلال تعوي."
2. تقنيات تيار الوعي وتقطيع الذاكرة
الذاكرة تتدفق على شكل ومضات: مشاهد، أصوات، صور، كلمات.
تتخلل الرواية استرجاعات متكررة، متقطعة، توحي بتشظي الزمن داخل الذات.
هذا يُحاكي فعل التذكّر الحقيقي لدى من مرّ بصدمات: التداخل، التكرار، فقدان الترتيب الزمني.

ثانيًا- الوعي بالرسالة والأثر
الكاتبة لا تكتب كأديبة فقط، بل كشاهدة.
تقول على لسان الساردة:
"ربما الكتابة هي الشكل الوحيد الممكن لإنصاف من رحلوا..."
"لا أملك إلا الصورة والورق… فليكونا سلاحي."
هنا، تتحوّل التجربة الإبداعية إلى وسيلة بقاء ونجاة وتأريخ مضاد.

ثالثًا- ملامح التفرّد في التجربة

البعد مظهره في النص
الأنثوي الصوت السارد أنثى، لكنها لا تكتب من موقع الضحية، بل من موقع الذاكرة الفاعلة.
الوطني/الإنساني لا تنتمي لخطاب ديني أو أيديولوجي، بل للإنسان المفجوع الباحث عن جذوره.
الروحي/الداخلي الرواية ليست بيانًا سياسيًا، بل طقس داخلي تتعرّى فيه الروح على مهل.
الفني/الجمالي توظيف لافت للرموز، واللون، والمشهد، والحوار الداخلي، والمجاز العميق.

رابعًا- دوافع التجربة الإبداعية
تجربة شخصية مع الحرب والفقد
الرواية ليست مجرد توثيق لحرب، بل تجربة شديدة الخصوصية تنطلق من وعي الكاتبة بـ:
الفقد الإنساني والأخلاقي في مجتمع انهار من الداخل.
الاغتراب الوجداني حتى في الأماكن التي يفترض أن تمنح الأمان.
النجاة الثقيلة، وما يُرافقها من ذنب وأسئلة لا تنتهي.
تظهر في الرواية ملامح الكاتبة – أو ظلها – كناجية تكتب لتنجو مرة أخرى، وهذه كتابة تنتمي للجسد والروح معًا.

خامسًا- الكتابة كعلاج ومقاومة
التجربة الإبداعية في هذه الرواية تحمل أبعادًا علاجية واضحة:
كتابة ما لا يمكن تحمّله بالكلام العادي.
مقاومة الإنكار والنسيان الشخصي والجماعي.
حفظ أصوات من ماتوا في البيت، في الطفولة، في المخيمات، في الغياب.
"أكتب كي لا أذوب في الركام... كي يكون لنا صوت ولو خافت، لا يشبه نهيق الخراب..."
فرواية هذيان الأمكنة هي امتداد لصوت امرأة/ناجية/شاهدة تكتب من داخل الحطام لتمنح الكلمات حياةً بديلة لمن انقطع نبضهم.
تُحوّل الكاتبة أدوات الألم إلى أدوات فنّ، وتُحوّل السرد إلى مساحة نَفَس في زمن الاختناق الجماعي.

خاتمة الدراسة:
في "هذيان الأمكنة"، نحن لا نقرأ رواية تقليدية بقدر ما نلج تجربة حسية وفكرية معقّدة، كُتبت بلغة مشبعة بالأدبية الشعرية، وبسردٍ نابضٍ بالهشاشة والصدق.
تنجح الكاتبة في إعادة تشكيل الذاكرة الفردية والجمعية من خلال آليات فنية ونفسية عميقة، يتشابك فيها الهذيان مع الحنين، والركام مع البلور، والبيت المدمر مع الذات التي تصرّ على النجاة عبر التوثيق.
أظهرت المستويات الذرائعية في النص ما يلي:
المستوى النفسي عكس عمق الاضطراب الداخلي والتشظي بعد الصدمة، من خلال التناص، والتساؤلات، والتقمّص، والوعظ.
المستوى التداولي كشف عن قصدية خطابية فاعلة تتجاوز الحكي إلى التأثير، وشهد على انتقال الشخصية من التلقي إلى الفعل.
المستوى اللغوي والجمالي أبرز قدرة الكاتبة على توظيف الشعرية والانزياح والتكثيف في بناء سردٍ بصري مشحون.
البؤرة والثيمات أكدت على جوهر التجربة: النجاة المؤلمة، والبيت كجسد، والكتابة كشكل أخير للمقاومة.
أما في التجربة الإبداعية، فقد بدت الكاتبة شاهدةً ومجروحة في آن، تكتب لا لتغلق الجرح، بل لتمنحه صوتًا.
هي رواية تنتمي إلى أدب ما بعد الفقد، حيث لا خلاص، بل وعي عميق بمعنى أن تظل واقفًا في وجه العدم، ولو بحرف.


المراجع
أولًا: المراجع النظرية والمنهجية
1. الغالبي، ع. ع. (2018). الذرائعية في التطبيق . دار النابغة للنشر والتوزيع. طنطا
2. الضبع، م. (2016). تحولات الرواية: قراءة في أجيال الرواية العربية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
3. حمودة، ح. (2012). الرواية والتلقي: مقاربات في السرد والتأويل. القاهرة: دار رؤية للنشر.
4. ريكور، ب. (2010). الزمن والسرد (ج. 1–3؛ س. الغانمي، مترجم). بيروت: المركز الثقافي العربي. (العمل الأصلي نُشر عام 1983).
5. كريستيفا، ج. (بدون تاريخ). التناص: مفهومه ومجالاته. (ف. صالح، مترجم).
(نُشرت النصوص المجمعة ضمن دراسات نقدية حديثة حول أعمال كريستيفا).
6. يقطين، س. (2005). تحليل الخطاب الروائي. بيروت: المركز الثقافي العربي.

ثانيًا: مراجع في أدب الحرب
7. الشوفي،ع. ن. (2021). هذيان الأمكنة. الدوحة: جائزة كتارا للرواية العربية – المؤسسة العامة للحي الثقافي.
8. حليمة، ر. (2014). الحرب والهوية في الرواية العربية المعاصرة. الجزائر: منشورات الاختلاف.
9. شومان، ي. (2011). أدب الحرب: دراسة في الرواية والسيرة والمسرح والشعر. عمّان: دار أزمنة.
10. عرار، ف. (2016). الرواية وأزمنة الحرب: خطاب الحكاية في سياق الخراب. دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب.
11. هلال، م. غ. (2001). الأدب المقارن (ط. 5). القاهرة: دار نهضة مصر.
12. يقطين، س. (2015). السرد والحرب: تمثيلات الحرب في الرواية العربية. بيروت: المركز الثقافي العربي.
13. Atia, N. (2015). War and Memory in the Twentieth Century Arab World. Cambridge: Cambridge University Press



#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يكتب الحنين رسائله: قراءة ذرائعية في نص/ لسنا قصة عابرة/ ...
- طقوس السياسة مسرحية شعرية رمزية غنائية – في طقسٍ واحد من الد ...
- من رماد الحرب ينهض الوطن... ومن بين الركام تتفتح زهرة اسمها ...
- طقوس النور
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ...
- تيه الذات واستعادة الكينونة دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية ( ...
- حين تتغير الأصداء: هل تحيا الرسالة خارج زمكانها؟ بين الذرائع ...
- سرد الأحلام : آلية للتحوّل النفسي والتمرّد الاجتماعي في رواي ...
- الساحل السوري بين المؤامرة والانقلاب: حين كشف الغبار الحقيقة
- سوريا.. معركة الوحدة في مواجهة رياح التقسيم والعقوبات والتحر ...
- سوريا بين فكي العاصفة: تحديات الداخل والخارج
- بين المبدأ والانتهازية.. الفن حين يكشف الوجوه الحقيقية
- تجليات العزلة والاعتراف في السرد الوجداني : قراءة في بناء ال ...
- مي سكاف: نجمة الحرية التي أبت أن تنطفئ
- حسن نصر الله: زيف إيران الذي احترق بنيران الحقيقة
- أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية ...
- اغتيال الحريري: الرصاصة التي فجّرت لبنان
- (ألفيّة القس جوزيف إيليا) بين هندسة الشكل وجمالية القيَم في ...
- مجزرة حماة 1982: إبادة جماعية بأوامر الأسد وجرح لم يندمل
- الروح الضائعة في اللحن المكسور : بين الشغف والتضحية دراسة ذر ...


المزيد.....




- فيلم عراقي يحصد جائزة عالمية.. والسبب ’صدام’؟!
- شطب أمل حويجة ونور مهنا من نقابة الفنانين السوريين وتغييرات ...
- صفاء أبو خضرة: قصائدي خيول تحفر المسافات وأكتب الرواية لأكون ...
- فنانة تشكيلية روسية ترسم لوحات عن تونس
- شطب أمل حويجة ونور مهنا من نقابة الفنانين السوريين وتغييرات ...
- من -ستري- إلى -لاباتا لايديز-.. صعود بطيء للسينما النسوية في ...
- الكاميرا الذهبية بمهرجان كان لفيلم عراقي عن صدام.. ما قصته؟ ...
- -مفكرة عابر حدود-.. حكايات مأساوية وسخرية سوداء من واقع الهج ...
- -حادث بسيط- ظفر بالسعفة الذهبية.. هكذا توهجت السينما الإيران ...
- -كعكة الرئيس- أول فيلم عراقي على مائدة مهرجان كان السينمائي ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - من الصدمة إلى المعنى سرد النجاة والهوية الجريحة دراسة ذرائعية في البنية النفسية والتداولية العميقة لرواية (هذيان الأمكنة) للكاتبة السورية اعتدال نجيب الشوفي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي الرواية الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية 2021 فئة الروايات غير المنشورة