|
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( عبور آخر نحو الشمال) للكاتبة السورية د. بهية كحيل بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي
عبير خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 22:23
المحور:
الادب والفن
تندرج رواية "عبور آخر نحو الشمال" للكاتبة بهية كحيل ضمن تصنيف أدب الحرب، لكنها لا تكتفي بسرد نتائج الحرب الخارجية، بل تغوص في التشظي الداخلي للذات السورية، وفي عمق الأسى اليومي الذي تعجز التقارير السياسية عن نقله. هي رواية عن حياة يُعاد ترتيبها تحت القصف، عن الحب حين يُهدَّم، وعن الطفولة حين تنام تحت شبح طائرة، وعن البيت الذي يتحول إلى مكان للنجاة المؤقتة لا للسكن. تستوفي الرواية أبرز سمات أدب الحرب: إبراز الألم كقيمة سردية. توثيق التهدم الجسدي والمعنوي. انهيار الزمان والمكان والمقدس. تحوّل العلاقة بين البشر إلى معادلات فوضوية. تماهي الفردي بالجمعي، حيث لا فرق بين جرح شخصي ومأساة وطن. وإذا كانت نماذج أدب الحرب العالمية (كما عند ريمارك، وهمنغواي، وأندريه مالرو) قد ركّزت على جبهة القتال، فإن الرواية هنا تركّز على الجبهة الخلفية: جبهة الأمهات، الجرحى، الممرات، السوق، المدرسة، والمئذنة. ما تقدّمه بهية كحيل ليس فقط وصفًا لما جرى، بل محاولة لاستعادة الكرامة من خلال السرد. كتابة ضد النسيان، ضد الصمت، ضد تحوّل المأساة إلى أرقام. وبهذا، تسهم الرواية في بلورة ملامح أدب الحرب السوري المعاصر، الذي يجمع بين البوح الذاتي والخطاب الجمعي، بين الألم والفعل، بين الوثيقة والرمز، وبين جمالية الخراب وبلاغة النجاة.
• البؤرة الفكرية تركّز الرواية على أثر الحرب السورية في التكوين النفسي والوجداني للفرد، وخاصة الشباب الذين انقسموا بين خيارات مؤلمة: البقاء تحت القصف أو النزوح أو الانخراط في العمل الثوري أو الوقوع في براثن الانكسار الداخلي. البؤرة الفكرية تتمثل في فقدان المعنى وسط الخراب، والبحث عن الذات عبر الذاكرة والحب والوطن المسلوب. الشخصيات ليست بطولية بالضرورة، لكنها تمثّل أطياف الإنسان السوري الذي حاول النجاة جسديًا وعاطفيًا.
• الخلفية الأخلاقية تقوم الخلفية الأخلاقية على مبادئ إنسانية تتجاوز الخطابات السياسية. فالرواية لا تُدين أحدًا بشكل مباشر بقدر ما تُدين الحرب ككيان يمزّق الروح. تطرح أسئلة عميقة حول: معنى الكرامة وسط الفقر والتشريد. أثر الانتماء إلى الوطن الممزق. المسؤولية الأخلاقية تجاه العائلة، الحبيب، والمجتمع. هشاشة العدالة في زمن فقد فيه الجميع بوصلتهم. الشخصيات ـ مثل بشير وخالد وإسراء ـ تعيش حالة تَشَظٍّ داخلي بين الرغبة في المقاومة والخضوع للواقع، مما يعكس الخلفية الأخلاقية للرواية التي تنحاز إلى القيم الفردية المتصدعة في مواجهة الانهيار الجمعي.
• المستوى البصري : تحليل عناصر المستوى البصري في الرواية عبر تتبع المكوّنات الحسية والبصرية في السرد، لأن هذا المستوى يعنى بـ"ما يُرى ويُلمس ويُشَم ويُتذوق"، أي كل ما يخلق "مشهدية" سردية محسوسة تعزز الواقع النصّي وتجعله حيًّا لدى القارئ. أولًا: الغلاف
يتصدر غلاف رواية "عبور آخر نحو الشمال" للدكتورة بهية كحيل مشهد بصري بالغ التأثير، يستوقف القارئ قبل الولوج إلى عالم النص. فالصورة لا تُقدّم مجرد خلفية سردية، بل تندرج ضمن بنيات الخطاب البصري الذي يتقاطع مع البنية الرمزية للرواية، ليكوّن عتبة تأويلية تمهّد للقراءة. تظهر طفلة من الخلف، تقف في مواجهة أفق غامض، تفصلها عنه أطلال مدينة مدمرة، في مشهد يمزج بين قسوة الواقع واحتمالات الخلاص. هذا التكوين البصري يُفصح عن بُعديْن متلازمين في الرواية: الأول هو رصد أثر الحرب والدمار على براءة الطفولة، والثاني هو التوق إلى العبور نحو "الشمال"، ذلك المكان الرمزي الذي قد يكون مخرجًا أو منفًى أو وعدًا كاذبًا بالنجاة. الطفلة، بوقفتها الصامتة، ليست مجرد شخصية غلاف، بل تمثيل لأجيال اقتلعت من جذورها، ودُفعت إلى السير في ممرات الخراب بحثًا عن الأمان. الغلاف إذن، لا يعكس فقط موضوع الهجرة القسرية أو عبور الحدود الجغرافية، بل يؤسس منذ الوهلة الأولى لمعنى أعمق: عبور النفس من شظايا الألم إلى احتمالات البقاء، ومن مشاهد الفقد إلى ما تبقى من إنسانية. يتضمن غلاف رواية "عبور آخر نحو الشمال" للدكتورة بهية كحيل دلالات بصرية قوية ومشحونة بالرمزية، تعكس أجواء الرواية ومضامينها الإنسانية والسياسية. التحليل البصري: 1. الطفلة في مقدمة الصورة: تظهر من الخلف، تضفيرتاها الطفوليتان توحيان بالبراءة والضعف. تموضعها وسط الدمار يوحي بأنها الشاهد الأبرياء على الكارثة، أو أنها تمثل جيلًا كاملاً دفع ثمن الحرب. اتجاه نظرها نحو الأفق فيه رمزية للحلم، الأمل، أو المجهول الذي ينتظرها. 2. المباني المدمرة على الجانبين: ترمز إلى مدينة مدمرة بفعل الحرب، تشبه مشاهد الخراب في سوريا أو غزة. التكوين البصري يجعل المشاهد يعيش الإحساس بالحصار والانهيار، وكأن الطفلة تمر داخل ممر موت وركام. 3. السماء والأفق المفتوح في الخلفية: الغروب يحمل دلالات مزدوجة: إما نهاية مأساوية، أو بداية تحوّل نحو مكان جديد (الشمال). يشير إلى الانتقال أو الهجرة، مما يتماشى مع عنوان الرواية "عبور آخر نحو الشمال". 4. عنوان الرواية: مكتوب بخط واضح كبير، ولونه الأبيض يضاد لون الدمار والخلفية الرمادية، فيوحي بأنه "نور" أو خيار نجاة. عبارة "عبور آخر" توحي بأن هناك محاولات سابقة للعبور أو النجاة، ربما فشلت أو تركت أثرًا موجعًا. 5. اسم المؤلفة: وُضع بشكل هادئ تحت العنوان، في موقع محايد، لا يخطف الانتباه من الصورة أو العنوان.
رمزية الغلاف: الغلاف كله يتحدث عن الطفولة المسلوبة، عن الحرب والهجرة، عن فقدان البيت والبراءة، وعن التطلع إلى مكان آخر قد يكون الخلاص أو مجرد خيبة أخرى. يمثل "الشمال" هنا الحلم بالهروب، بالنجاة، ربما بأوروبا أو بالسلام، لكنه ليس خاليًا من الغموض والخطر.
ثانيًا: دلالة العنوان والإهداء 1. العنوان: "عبور آخر نحو الشمال" العنوان مشحون بدلالة رمزية ومكانية ونفسية. فكلمة "عبور" توحي بالحركة والانتقال من حال إلى حال، و"آخر" تشير إلى النهاية أو الاستنفاد، بينما "نحو الشمال" تحمل رمزية النزوح والمنفى، وربما الهرب إلى المجهول. الشمال في السياق السوري يدل على الغربة والبرد والضياع والنجاة المؤقتة. 2. الإهداء "لأجيال لن نسلمها لعنة الحروب... وللناس الذين لهم في القلب شيء من الوفاء... وللحروف التي ترمم وجعنا." هذا الإهداء يُشكّل بؤرة أخلاقية وعاطفية للنص؛ يتضمن خطابًا إنسانيًا ينبذ الحرب ويعلي من قيمة الكلمة المرمِّمة، ويكرّس الكتابة كفعل مقاومة ووفاء. ثالثًا: دلالة العناصر البصرية في المتن السردي الرؤية البصرية في الرواية ليست مجرد خلفية، بل جزء من الدلالة، تجعل الواقع قاسيًا لكنه لا يخلو من الشعرية المؤلمة. 3. توظيف المشهدية الحسية المشاهد الافتتاحية في المستشفى: تبدأ الرواية بمشهد بصري قوي: قهوة، دماء، أروقة، أدوات تعقيم، أجساد مثخنة بالجراح، نظرات ميتة. الوصف المادي للمكان الطبي وسط الحرب يجعل القارئ يشم رائحة الكحول والدم، ويرى الممرات التي يتسلل منها الألم. تستخدم الكاتبة صورًا حسية مكثفة: الروح تغادر الجسد، النظرة الأخيرة قبل الرحيل، صوت القذائف خلف الصمت. "يرى كيف تغادر الروح الأجساد الموجوعة، كيف تكون النظرة قبل الرحيل الأخير..." ص8
4. توظيف الذاكرة البصرية الانتقال بين المشهد الحاضر وماضٍ متخيّل يحدث عبر صور حسية: أصوات الأصدقاء، رائحة الشطائر، ضحكة الحبيبة، نظرتها الساحرة، تفاصيل وجهها (النتوء، الذقن، الخد). - الذاكرة العاطفية تُجسَّد بصريًا: تجسيد الوجوه والتفاصيل الحسية: "ضحكتها التي ما زالت ترن في روحه، نظرتها الساحرة، النتوء الصغير على الشفة، والانخفاض المغري على صفحة الخد..."(ص 10) هذه الصور تخدم البعد العاطفي للشخصيات وتربط الماضي الجميل بالحاضر المؤلم، وتُظهر أثر الحرب في كسر الجمال. الجسد هنا هو ذاكرة العاطفة، والملامح تفاصيل البكاء غير المعلن. - استحضار الذاكرة من خلال المشهد: تُستخدم التفاصيل البصرية لإحياء لحظات الذاكرة: "ينتظرها، وهو يرتشف كأس شاي، يستمتع برائحة الشطائر الأخرى... وأصوات الأصدقاء قربه..."ص 8 هنا يُستدعى المكان الجامعي كمساحة للألفة، تضادًا مع برودة الحاضر.
5. الأماكن ككائنات حيّة تعالج الكاتبة المكان ليس فقط بوصفه بيئة للأحداث، بل كجسد نابض يتقاسم الألم مع الشخصيات. تُمنح الأماكن شخصية حية: حلب القديمة، الأزقة، الأسواق، القلعة، المقابر، الجامع، الحافلات. السوق مثلًا ليس مجرد مكان بيع، بل "ينتظر الجلبة التي لم تأتِ، ويتنفس ببطء". هذا يُضفي رمزية على الخراب: حتى الأمكنة تبكي غياب ناسها. المكان ليس فقط خلفية، بل شخصية في حد ذاته، تنهكها الحرب كما تنهك البشر مظاهر تجسيد وشخصنة المكان: - الأمكنة لا تظهر فقط كمواقع جغرافية، بل كـ"ذاكرة حيّة"، وخاصة في مشاهد الذكريات: الجامعة، المقصف، شوارع حلب، الحديقة، شرفة السوق القديم. فالأماكن لا تُوصف فقط، بل تُتذكّر، أي أنها تحمل أثرًا عاطفيًا أكثر من جغرافي. "ينتظرها وهو يتلذذ بمذاق الشطائر، وتنبعث أصوات الأصدقاء حوله..." - المكان كجسد منهك المستشفى = جسد يحاول النجاة. السوق = قلب ميت لا ينبض. البيت المدمر = رئة مكسورة تتنفس غبارًا. الأزقة = أوردة حلب التي تخنقها الحرب. "السوق ما زال فارغًا... لا جلبة باعة، لا ضجيج زبائن... الدكاكين مغلقة كأنها حداد جماعي". - المكان كأداة عزل أو تيه يستخدم المكان كوسيلة للفصل بين الشخصيات ومصائرها: الجسر، الحافلة، القصف، الحي المنقسم بين شرق وغرب.. السوق الذي كان حيًّا صار خرابة صامتة: "السوق ما زال فارغًا، لا جلبة باعة، ولا ضجيج زبائن..."ص 24 المكان هنا يصبح سكينًا يفصل الحبيب عن الحبيبة، والابنة عن أمها، والبيت عن معناه. بهذا تصبح الأماكن كائنات مفجوعة، تشارك البشر غربتهم وانكسارهم.
- المكان كمشهد للمفارقة المفارقة تتجلى في تناقض الصورة القديمة مع المظهر الجديد: الأسواق التي كانت مفعمة بالحياة، أصبحت مقفرة. المقاهي الجامعية تحولت إلى ساحات وداع. المدرسة تحوّلت إلى مقرّ للفصائل. حتى عربة الفريز أصبحت رمزًا للفرح الممنوع. - المكان بوصفه ضحية حلب، المدينة ـ الكائن، تُعرض بعيون من يعرفها جيدًا، ويراها تنهار: الوصف الحسي للمدينة المتعبة يحمل شحنة عاطفية عالية. الخراب يُذكر بتفاصيل دقيقة: الركام، الحفر، الروائح، النيران، الدخان، أصوات القذائف. "تمرّ علياء قرب المدرسة التي خلفتها القذيفة ركامًا... وكانت قد حلمت أن تخرج منها إلى بيت زوجها" - الرمزية البصرية في المكان الأماكن ليست محايدة، بل مشحونة بدلالات رمزية: البيت = العلاقة. السوق = الدورة الاقتصادية ـ الاجتماعية المعطلة. الجامع = الملاذ المفقود أو المغتصب من قبل العمائم. المدينة القديمة = الزمن النقي، المنتهك. الشمال = الخلاص المتخيّل أو الوهمي.
فالمكان في الرواية شخصية صامتة لكنها متألمة. يُروى بلغة فيها شجن بصري وحنين وجودي. لا يخدم فقط "حبكة الرواية"، بل يصنع وجدانها.
6. الملابس والهيئة كمرايا للداخل توصف الشخصيات عبر مظهرها: الملابس المهترئة، العيون الدامعة، الحجاب الأسود، الغبار، الدماء، الجراح. الهيئة الخارجية تحكي الألم الداخلي: كأن الجسد يبوح بما يعجز اللسان عن قوله. مثال: وجه خالد المحتقن، نظراته المنكسرة، ساقه الملفوفة بالضمادات.
7. اللغة البصرية للدمار والحرب الرواية مليئة بالصور المادية للدمار: مبانٍ منهارة، دكاكين مغلقة، نيران، دخان، سيارات محشوة، حفر، بقايا قذائف، مدارس مهجورة. القصف لا يُوصف فقط كحدث، بل كرعب بصري يحرق المدينة ويمحو معالم الحياة.
8. حضور الألوان والضوء والظل اللون عنصر دال: الأبيض (المعطف، السماعة)، الأسود (العمائم، الحجاب، الدخان)، الأحمر (الدم، الغروب، البارود)، الرمادي (الغبار، الركام). استخدام الضوء والظل يعمق الصراع: هناك ظلال للألم وظلال للذكرى، ومساحات ضوء خافتة لا تقدر على طرد العتمة.
9. رمزية العناصر البصرية الصغيرة تفاحة، فنجان قهوة، شطيرة، رمان، فريز، دخان سيجارة، عطر، مرآة، قطعة حلوى، عباءة، وشاح، نظارة، زجاج مكسور. هذه الأشياء الصغيرة ترمز لتفاصيل الحياة العادية التي أصبحت في الحرب أحلامًا مهددة أو ذكريات. الأمكنة المهدّمة كرمز لموت الحلم: يتم إظهار الخراب من خلال وصف مدرسة مدمّرة تحوّلت إلى مقر فصائل: "تمر قرب المدرسة التي خلفتها القذيفة ركامًا... المدرسة خرجت عن الخدمة، وتحولت إلى مقر لتدريب الفصائل..."ص 42 رمزية هذا التحوّل تنسف رمزية الطفولة والتعليم والاستقرار
خلاصة المستوى البصري الرواية تبني عالمًا بصريًا دقيقًا: فيه أمكنة محطمة لكنها حيّة. أجساد تروي ما تعجز الأرواح عن بوحه. موجودات صغيرة تحكي ملحمة الكسر. ألوان وضوء وظلال تشكل خلفية درامية لجحيم الحرب.
• المستوى اللغوي والجمالي: وهو المستوى الذي يعكس اختيار الكاتبة للألفاظ، بناء الجمل، الإيقاع، الصور، واللغة الرمزية التي تُضفي على النص بُعدًا جماليًا. 1. اللغة بين البساطة والشعرية
تعتمد الكاتبة لغة وسيطة بين اللهجة العامية( كحوارات) واللغة الفصحى: البسيطة والتداولية الرمزية والشاعرية: في السرد الواقعي والحوارات، تستخدم لغة يومية مفهومة، تُعبّر عن الشخصيات حسب خلفياتها الاجتماعية. لكنها، في لحظات التأمل والحنين، تنتقل إلى لغة شاعرية رقيقة، خاصة في وصف الوجع والذاكرة: "كم كنتِ موجعة يا عبير، كم كان خيارك قاسيًا... آه يا روح الروح!" هذه المفارقة في مستويات اللغة تخدم طبيعة الرواية التي تمزج بين الواقع القاسي والحنين الداخلي. 2. التناص مع لغة الواقع اللغة محمّلة بتعبيرات مستمدة من الحياة اليومية السورية، من الشارع والبيت والأسواق. الألفاظ العامية تظهر أحيانًا في الحوارات (مثل: خيو، يا زلمة، نشالله، بدي، اشقد، إشبك)، ما يمنح النص واقعية صوتية.
3. التراكيب والصور الصور البلاغية وتفاصيل الحواس: توظيف الصور البصرية والسمعية والشمية بكثافة. استعمال الاستعارات المجسّدة: السوق الميت، الجدران الباكية، النوافذ التي تهمس. وتُكثر الكاتبة من الصور البلاغية الحسية: التشبيه، الاستعارة، الكناية. صورها ليست متكلفة، بل نابعة من بيئة الشخصية ومزاجها النفسي: "ضحكتها ما زالت ترن في روحه... نظرتها الساحرة، النتوء الصغير على الشفة، والانخفاض المغري على الخد" تعتمد على تفاصيل صغيرة لصنع صور إنسانية معبّرة عن الشغف والفقد. تستعمل في أحيان كثيرة تشخيصًا للأشياء (القهوة، السوق، الحجارة، الدخان، البيت).
4. إيقاع اللغة وتدفقها هناك توظيف مدروس للجمل الطويلة ذات النفس السردي، خاصة في مشاهد الذكريات والتيه، ما يعكس الانسياب العاطفي والارتباك النفسي. تقطع هذا الإيقاع أحيانًا جمل قصيرة صادمة، مثل: "أنتِ طالق." "لم يستطع الصراخ، فغاب عن الوعي." التقطيع السردي بهذا الشكل يعزّز الدرامية والانفعالات.
5. التكرار كأداة تعبيرية تعتمد الكاتبة على التكرار الهادئ لبعض الألفاظ والعبارات المفتاحية: مثل: "الصباح"، "الغربة"، "الحنين"، "العبور"، "الدكان"، "الجرح"، "الذاكرة". وهذا التكرار يعمّق الأثر الشعوري ويوسّع الرؤية الرمزية للكلمات.
6. البناء الجمالي للمقاطع كل مقطع في الرواية يبدو كلوحة ذات وحدة شعورية: مشهد في المستشفى. لقاء قديم بين عاشقين. وصف السوق الميت. مرور العربة التي تبيع الفريز. قصف مفاجئ. هذه المشاهد تُبنى بلغة ترتّب التفاصيل مثل عدسة تصوير، تُركّز وتبتعد وتعود لتلتقط المعنى خلف الصورة.
7. الثقافة الجمعية لأهل حلب القديمة وطقوس زيارة مقام الشيخ بركات في حارة المشارقة، تتوسّط باحة البيت الحمصي العربي مصطبة حجرية تعلوها لفة خضراء على شاهدة قبر وليّ من أولياء الله الصالحين – الشيخ بركات. حول هذا القبر تتجمع طقوس روحية وعائلية ذات رمزية كبيرة: "تنهدت، ذلك الزمن الجميل بكل ألقه... في زاويته الشمالية تنهض مصطبة حجرية يعلوها قبر لوليّ من أولياء الله الصالحين، لفة خضراء، شموع توقدها نساء مفجوعات، وضعت حول الضريح بعض الزهور وأوراق الآس وبعض العملات المعدنية لصغار المنزل..."(ص 90–91 الملامح الثقافية المستخلصة من المشهد: الزيارات النسائية: النساء هنّ الحاملات للطقوس، يوقدن الشموع ويسكبن الألم على العتبات. الطقس ذو طابع أنثوي وجداني، يمزج بين الرثاء والدعاء والوفاء للماضي. التبرك والتمني: الفتاة الصغيرة كانت تشبّ على رؤوس أصابعها لتتخيل البركة التي يهبها الشيخ بركات؛ في إشارة إلى أن هذا المكان يمثّل مصدر أمان روحي وأمل مستقبلي. الألفة المنزلية والروابط العائلية: وجود الضريح في فناء البيت يربط المقدّس باليومي، والروحي بالعائلي، حيث يشكّل نقطة التقاء رمزي للأسرة كلما دخل الجد الكبير أو اجتمع الأحفاد. الجدّ كرمز تقليدي للسلطة والاحترام: حين يدخل الجد الفناء: "يذوب الجميع، يختفي الأولاد، تصمت الضحكات، يصدر صراخ النساء، معنى ذلك أن الجد قد وصل." هذا المشهد يُكرّس صورة الرجل الأكبر كمرجع قيمي واجتماعي وروحي. 5. الماء والبئر كمكوّن أسطوري: البئر القريبة من مقام الولي، التي كانت الطفلة تصرخ فيها وترتطم بصوتها، ترمز إلى الاتصال بين الطفولة والأسطورة، بين صوتها ونداء الذاكرة، وكأنها تبحث عن صدى صوت الأجداد. دلالة ثقافية وجمالية هذا المشهد يكشف عن: حضور القداسة الشعبية غير المؤسسية في الوجدان الجمعي الحلبي. عمق العلاقة بين المكان والهوية الروحية. كيف تتجسد الذاكرة الجمعية من خلال الطقوس والعناصر المادية (البئر، الضريح، الشموع، اللفة الخضراء...) المشهد لا يوثق فقط طقسًا، بل يستدعي زمنًا من الأمان والهوية، ويعكس تمسّك أهل حلب بجذورهم رغم الحرب والانهيار. الثقافة الجمعية – فندق البارون كرمز حضاري وتاريخي (ص 94) وفيها تسهب الكاتبة بأسلوب تسجيلي في وصف فندق البارون كأحد معالم الذاكرة الجمعية لمدينة حلب: في مشهد يستند إلى توثيق ثقافي، تتوقف الرواية عند فندق البارون، لا كمبنى فحسب، بل كأيقونة حضارية حلبية تنطوي على عمق رمزي كبير. تُسهب الكاتبة في تقديم تاريخه بأسلوب تسجيلي يمتزج فيه السرد الروائي بالمعلومة الوثائقية، ما يعكس وعيًا بضرورة تثبيت الذاكرة المدينية أمام النسيان الذي فرضته الحرب. "الفندق هذا العتيق الذي بُني وفق نمط أوروبي... ترى فيه ذات الأثاث الخشبي الذي مضى عليه أكثر من قرن من الزمان... نزلت فيه الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي وكتبت فيه قصتها (جريمة في قطار الشرق السريع)..." كما تذكر الكاتبة أن الفندق شهد لحظات مفصلية في التاريخ العربي الحديث، حيث ألقى فيه الجنرال ديغول والملك فيصل وجمال عبد الناصر خطبًا من شرفته المطلة على شارع بارون، في مناسبات متفرقة، وكان بمثابة منصة سياسية وثقافية قبل أن تهوي المدينة في أتون الحرب.
دلالة رمزية حضور الفندق بهذا الشكل التسجيلي في الرواية يُذكّر القارئ بـالمدينة التي كانت: حلب بوصفها حاضنة ثقافية وتاريخية، قبل أن تتحول إلى خرائب. يُقدّم الفندق كشاهد عمراني على الانحدار من زمن العظمة إلى زمن النكبة، وكأن الرواية تسعى للحفاظ عليه بالكلمة بعدما تعرّضت معالمه للخراب.
خلاصة المستوى اللغوي والجمالي: الرواية تسير بلغةٍ حسّاسة ومُعبّرة. فيها مزيج من الحسية والبساطة والرمزية. تعتمد على توازن بين السرد الواقعي واللغة الوجدانية. الصور البلاغية واللمحات الشعرية تعزّز أوجاع الشخصيات دون مبالغة. اللغة تُضحي هنا بمثابة مرآة لعاطفة مكسورة وصوت خافت يصرخ من الداخل. وصف طقوس زيارة مقامات أولياء الله الصالحين يشكّل مشهدًا نابضًا بثقافة أهل حلب القديمة، وينقل الطقس الشعبي الممزوج بالتقديس والحنين والروابط العائلية، كذلك توثيق معالم المدينة الحضارية للتدليل على حضانتها الثقافية والتاريخية قبل أن يتم تدميرها بهذه الحرب الهوجاء.
• المستوى الديناميكي : لننتقل إلى التحليل الزمكاني لرواية "عبور آخر نحو الشمال"، حيث نحدد الأطر المكانية والزمانية التي دارت فيها الأحداث، ونستخلص دلالاتها الفنية والنفسية.
الزمكانية في رواية "عبور آخر نحو الشمال" أولًا: الزمن: الزمن الروائي ينقسم إلى: زمن واقعي خارجي: يتزامن مع الأحداث السياسية والعسكرية (القصف، المجازر، انقسام حلب، الحصار، القصف الجوي...). زمن داخلي نفسي: يتمثل في الفلاش باك، الذكريات، الذهن المنكسر، الأحلام، والكوابيس التي تعيشها الشخصيات. الرواية تستثمر الزمن ككابوس متكرّر، تتداخل فيه اللحظات وتتبعثر، مما يعكس حالة اللازمنية التي يعيشها المقهورون في الحرب. بعد التحقق من المرجع الزمني داخل النص، يتبين أن الزمن الفعلي لأحداث الرواية يدور بين عام 2013 و2016، أي خلال سنوات الذروة في معارك حلب الشرقية، قبل سقوط المدينة بيد النظام. تمتد الأحداث في نهايتها إلى ما بعد هذه الفترة بقليل، في ارتدادات اجتماعية ونفسية تصل حتى 2019.
أما على مستوى الذاكرة، فإن الرواية تسترجع أحداثًا مفصلية من تاريخ المدينة، أبرزها: مجزرة المشارقة في أول أيام عيد الفطر في الثمانينات (1980)، والتي يتناقلها السكان كحدث مفصلي في الوعي الجمعي: "يا بنتي قتلوهون بأول أيام عيد الفطر... شباب متل الورد، صفوهم ع الحيط وقتلوهم... وانقلب العيد لعزا كبير..."ص 90 وهكذا تجمع الرواية بين زمن الحرب الراهنة وزمن القمع القديم، لتُظهر أن المأساة السورية ليست لحظة، بل سلسلة حلقات قمع وعنف ممتدة.
ثانيًا: المكان المكان في الرواية يُرسم بدقة حسّية وطبقية، ويشكّل عنصرًا حيويًا في تكوين الأحداث والشخصيات. ينقسم إلى: 1. أماكن داخل سوريا مدينة حلب (المحور المكاني الرئيس): حي السكري: حي شعبي فقير، منهك، مليء بالحفر، النفايات، المقابر المؤقتة، وازدحام السكان. يمثل الموت اليومي والمعاناة الاجتماعية. المشفى الميداني/مشفى القدس: مركز إنساني رمزي حيث يلتقي بشير مع الموتى والناجين. يمثل الخط الأول للمقاومة الطبية والإنسانية. حارة المشارقة: الحي التراثي، بيوته القديمة، مقام الشيخ بركات، وذاكرة الأجداد. يمثل الزمن الحميم والروحي المهدّد بالاندثار. الأسواق القديمة (خان الحرير، باب الفرج، سوق العطارين، خان الصابون...): كانت نابضة بالحياة وتحولت إلى رموز للخراب الاقتصادي والاجتماعي. الجامع الأموي الكبير ومقام النبي زكريا: فضاءات دينية أُفرغت من وظيفتها الروحية بسبب الحرب والانقسامات، وصار حضورها باهتًا. باب أنطاكية، قلعة حلب، ساحة باب الفرج: أماكن رئيسة تحوّلت من معالم ثقافية إلى مشاهد مهدّدة بالقصف أو محاصرة بالخوف. بإضافة نهر قويق، تكتمل الخريطة الرمزية لحلب في الرواية، حيث: القلعة: تاريخ شامخ يُقصف. السوق: قلب اقتصادي مشلول. الجامع: روح دينية مُهدّدة. المشفى: خط الدفاع الأخير. البيت: معقل هشّ للكرامة. ونهر قويق: المجرى الذي اختزل خراب الإنسان في مياهه. نُدرج نهر قويق ضمن الأماكن الرمزية في تحليل الزمكان، نظراً لما يحمله من دلالة مأساوية وتاريخية عميقة في وجدان أهل حلب.
الدلالة السردية لهذه الأماكن: في رواية "عبور آخر نحو الشمال"، يتوزع المكان بين مواقع تتداخل فيها الوظيفة الواقعية والدلالة الرمزية، حيث تتشكّل خريطة مكانية كثيفة تتنفس مع الشخصيات وتنهار معها. يظهر حي السكري كمسرح رئيسي للمعاناة اليومية، حيٌّ شعبيّ مثقل بالحفر والنفايات والفقر، يشكّل خلفية للانهيار الاجتماعي والأسري. يقابله المشفى الميداني الذي يتحول إلى نقطة ضوء أخلاقي في العتمة، حيث يقاوم بشير بصمته وعمله صدمات الحرب. أما حارة المشارقة، ببيوتها القديمة ومقام الشيخ بركات، فتحتضن الذاكرة الجماعية والروح الشعبية لحلب، وتعيد الشخصيات إلى جذور مفعمة بالقداسة والبساطة. نهر قويق: من أبرز الرموز المكانية في الرواية ويبرز كرمز مهيب للموت الصامت، إذ لم يعد مجرى ماء، بل تحوّل إلى قبرٍ مفتوح شهد على إحدى أبشع المجازر، حيث انجرفت فيه جثث المظلومين بلا وداع. يحضر بوصفه شاهدًا مأساويًا على مجازر النظام، حيث تحوّل من مجرى ماء صغير إلى مجرى لجثث الشهداء في واحدة من أفظع جرائم الحرب في حلب. ورد في الرواية: "يا بنتي قتلوهون بأول أيام عيد الفطر... صفّوهم ع الحيط وقتلوهم... كانوا عم ينجرفوا بنهر قويق مثل السنابل اليابسة..."ص 90 الدلالة الرمزية: لم يُذكر النهر بوظيفته الجغرافية، بل كـنهر موت، يحمل أجسادًا لا أسماء لها. يشكّل ذاكرة جماعية صامتة، ويختزل علاقة المدينة بالعنف، حين يصبح الماء رمزًا للدم. نهر قويق هنا ليس نهرًا، بل قبرًا مفتوحًا في قلب المدينة، يفضح كيف يُلقى السوري في المجهول حتى من دون وداع أو كفن. تحضر الأسواق القديمة (خان الحرير، سوق العطارين، باب الفرج) بوصفها قلب المدينة الاقتصادي الذي أصابه الشلل، فيما تنقلب المدرسة من مكان للحلم الطفولي إلى ركام عسكري يُدنس براءة التعليم. الجامع الأموي، ورغم تاريخه العريق، يفقد رمزيته الدينية ويتحوّل إلى مكانٍ باهت وسط القصف والانقسامات، تمامًا كما يفقد منزل خالد دوره كمساحة دافئة للأسرة، ليصبح رمزًا للانقسام والتعب والتوتر. ويتردد اسم باب أنطاكية وباب قنسرين بوصفهما أبوابًا لمدينة أُغلقت على نفسها، حيث تحوّلت الرموز المعمارية والتاريخية إلى شواهد على الخراب. ولا يغيب عن الرواية التفصيل الصغير ذو الدلالة العميقة: عربة الفريز التي تنتظرها الطفلة علياء. مشهد الفاكهة البسيطة هذه يرمز إلى ما تبقى من طقوس الفرح البريء، في زمن تلاشت فيه المعاني.
2. أماكن خارج سوريا ( تركيا) أماكن الأحداث السردية في تركيا: كليس، غازي عنتاب، وأزمير في "عبور آخر نحو الشمال"، تظهر كليس وغازي عنتاب وأزمير بوصفها محطات عبور شاقّة ضمن رحلة اللجوء، لكنها ليست أماكن للراحة، بل مدن على هامش الوطن، فيها تتكثف الغربة وتشتدّ الخسارة. كليس: مدينة حدودية قريبة من الشمال السوري، تتحول في الرواية إلى نقطة مرور مرتبكة، فقدت فيها بعض الشخصيات تماسكها أو أفراد عائلتها. غازي عنتاب: تبدو كملجأ مؤقت، لكنها أيضًا مكان للاقتلاع والتكيف القسري مع حياة جديدة لا ملامح لها، حيث يتعرض اللاجئون لضغوط معيشية ونفسية واجتماعية. أزمير: تحضر بوصفها منصة الانطلاق نحو "الحلم الأوروبي" عبر قوارب الموت، وهنا تتجلى أقصى درجات المفارقة بين الأمل والغرق. الدلالة السردية لهذه المدن: هذه المدن ليست مجرد أماكن جغرافية، بل تمثل خرائط للشتات، تتنقل فيها الشخصيات لا بحثًا عن وطن جديد، بل عن بقايا الأمان والهوية. تحضر كـ"محطات مؤقتة"، ترسّخ فكرة أن اللاجئ لا يملك الأرض تحت قدميه، بل فقط حقيبة ثقيلة وطفلًا خائفًا ووجهًا لا يُنسى.
ثالثًا: التداخل الزمكاني يظهر التداخل الزمكاني في كيفية ربط الشخصيات بين الماضي الآمن والحاضر المنهار: البيت = العائلة. السوق = الكرامة والرزق. الجامع = الدعاء الذي لم يعد يُستجاب. المدرسة = حلم الطفلة علياء المسلوب. مثال:" تمر علياء قرب المدرسة التي خلفتها القذيفة ركامًا... كانت قد حلمت أن تخرج منها إلى بيت زوجها..."ص 42
رابعًا: دلالة الزمكان في الرواية المكان ليس إطارًا محايدًا، بل شخصية مجروحة تحكي ما حلّ بها. الزمان ليس خطيًّا، بل ملتفّ حول الذات، يتكرّر ويتعطّل. الزمكان في الرواية هو جغرافيا فقد وحنين ومقاومة صامتة. ديناميكية المضامين المطروحة تطرح الرواية جملة من القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية، وتتحرك هذه القضايا ديناميكيًا ضمن مستويات متعددة: الحرب كواقع شامل: لا تُطرح الحرب كمجرد خلفية للأحداث، بل كقوة شمولية اخترقت تفاصيل الحياة، من الحب والزواج، إلى الموت والنزوح، إلى البقاء داخل بيت ممزق ينتظر غارة جديدة. العدالة الغائبة: يظهر الانكسار الوجداني للشخصيات نتيجة غياب العدالة، سواء على مستوى العلاقة بين المواطن والنظام، أو بين الرجل والمرأة، أو بين الذات والتاريخ. الانقسام الطبقي والمناطقي والفصائلي: تبرز الرواية تمزّق المجتمع بين "شرقي وغربي"، "ثوار وشبيحة"، "فقراء وأثرياء الحرب"، وتحيل هذا الانقسام إلى تفكك الهوية العامة. ثنائية الذكورة والأنوثة: تقدم الرواية صورًا معقدة للعلاقات بين الرجل والمرأة، حيث لا أحد منتصر. خالد يطلّق ويقسو، وإسراء تتمرد وتنهار، لكن لا أحد ينجو. الطفولة في زمن الحرب: يحضر الطفل (ابن إسراء، والطفلة علياء) كضحايا للواقع، وتظهر الطفولة هنا كأشدّ ما يُؤلم حين يُشوَّه. الحنين كآلية مقاومة داخلية: تستحضر الشخصيات صور الماضي لتحتمي بها، فتصبح الذاكرة الشخصية (الحب الأول، البيت، الطفولة) بمثابة درع وجداني هش. هذه المضامين تتفاعل ولا تُطرح بشكل خطابي مباشر، بل تتسرّب من خلال المشاهد اليومية والانفعالات الفردية، ما يعكس ديناميكية داخلية بطيئة لكنها عميقة التأثير.
1. طقوس حياة الحرب – وديناميكية السلوك الإجباري في رواية "عبور آخر نحو الشمال"، تتجلى طقوس حياة الحرب كإحدى أقسى صور التكيّف القسري مع واقع القصف والخوف والفوضى. لا تعيش الشخصيات حياة طبيعية، بل حياة مؤقتة، مؤجلة، معلقة بين غارة وأخرى. تتغير أدوار الأمومة، طقوس النوم، أوقات الطعام، وحتى آلية التنفس. "صوت الطائرة ما زال يهدر، أصوات الانفجارات المتتابعة... ليلة سوداء فرشت ظلالها على الجميع دون استثناء، فقد طال القصف معظم الأحياء..." ص130 في هذا المناخ، تتحول السلوكيات إلى طقوس نجاة: الأم تزحف تحت القصف حاملة طفلها وقطعة خبز وجبن لتسكت جوعه. تغلق النوافذ وتفترش الأرض، وتنتظر الفجر كعلامة هدنة. تستبدل ملابس الطفل المبللة، وتتهيأ "للخطوة الأولى نحو المجهول" كما تقول الكاتبة. "إسراء بدأت تُعد ما يلزم لبدء الخطوة الأولى في رحلتها نحو المجهول..." ص130 حتى الطفلة، تعود من المدرسة خائفة، تتسلق جسد أمها، تشد غطاء رأسها، وتلتصق بها كغريزة لا كحنان، وسط عالم تمزقه القذائف: "صاحت علياء برعب وتمسكت بوالدتها... تمشي بسرعة في عباءتها الطويلة، تتعثر في الطين، مكب نفايات، نباح كلب، وركام..." ص43
2. المئذنة المهدومة كما ورد في مشهد مؤلم وشاعري في آنٍ، حيث تصبح مئذنة الجامع الأموي الكبير في حلب رمزًا لانهيار الهوية المعمارية والروحية بفعل الحرب. " قذيفة غادرة ذات نهار أتمّت مئذنته الشامخة تهديمه، تجول في رحابه أدعية المصلين منذ فترة طويلة، أصبح حزينًا وخاوي، صلوات ضائعة تتجمع في العتبات المباركة لرواق أولئك المبروكين العميان، الذين كانوا جزءًا من هوية المكان، يسندون أجسادهم المنهكة على جدرانه..."ص 23
الرمزية الديناميكية للمئذنة المئذنة المهدّمة ترمز إلى فقدان النداء الجمعي للصلاة، والخرس الروحي في المدينة التي اعتادت أن تنبض بالتكبير والدعاء. العبارة "خائن، قذيفة غادرة..." تشي بأن ما دمّر المئذنة ليس مجرد آلة حرب، بل خيانة موجهة لهوية المكان نفسه. يجسّد الوصف حالة تفكك ديني وروحي، حيث تتحول الجوامع من مواطن للطمأنينة إلى أطلال تجول فيها "صلوات ضائعة". هذا المشهد يعمّق الرمزية الديناميكية للدمار، ويضع المئذنة كشاهد حي على انكسار مدينة كانت تتكئ على معمارها ونداءاتها اليومية، فتُصاب بالصمم كما أصيب أهلها بالخوف.
3. الفصائل الغريبة، التطرّف، وتحوّل المدينة إلى معسكر مقنّع من أبرز مظاهر التشوّه الذي أحدثته الحرب في الرواية، هو ظهور فصائل مسلّحة غريبة عن النسيج الاجتماعي السوري، لا تشبه سكان المدينة لا في ملامحهم، ولا في لباسهم، ولا في سلوكهم. ترصد الرواية حضور هؤلاء عبر وصف زيّهم الغريب: الجلاليب الفضفاضة، العمائم السوداء المعكوفة إلى الخلف، واللحى الطويلة غير المعتنى بها، وكأنهم ظلّ ثقيل نزل على المدينة، لا علاقة له بروحها ولا تقاليدها. يُضاف إلى ذلك، فرضهم للنقاب على النساء وحتى الصغيرات، في مشهد لا يعبّر عن تدين أصيل، بل عن قمعٍ مُقَنَّع باسم الدين. يتحوّل الجسد الأنثوي إلى ساحة أخرى للسيطرة، ويغدو النقابُ لا رمزًا للتقوى، بل علامة على السطوة المفروضة بالقوة والتهديد. وتُلمّح الرواية إلى ممارسات مخدّرة لهذه الفصائل، حيث يتناول بعض أفرادها حبوبًا بيضاء يُقال إنها مهدئات، لكنها في حقيقتها مخدرات تُستعمل لتخدير الضمير أو زيادة الشراسة، في مشهد يفضح ازدواجية الخطاب الديني والسلوكي لدى هذه الجماعات. الدلالة الديناميكية: تظهر هذه الفصائل بوصفها قوة موازية للدمار النظامي، لا تقلّ خطرًا، بل أحيانًا تغتصب هوية المدينة من داخلها. يفقد الناس حريتهم مرتين: مرة بسبب القصف، ومرة بسبب "التحرير المزعوم" الذي فرض نظامًا جديدًا من القهر. بهذا، تتحول المدينة إلى فسيفساء من القمعات المتصارعة، لا صوت يعلو فيها إلا صوت البندقية، ولا وجه يظهر إلا خلف النقاب أو تحت العمامة الغريبة.
4. اللجوء وتمزّق الأسرة: الوجه الآخر للحرب تمتد آثار الحرب في "عبور آخر نحو الشمال" إلى ما بعد لحظة القصف والركام، لتصل إلى تجربة اللجوء الموجعة، حيث تبدأ الشخصيات في عبور جديد لا يقل قسوة عن السابق. من بين هذه المشاهد المفجعة، تجربة إسراء التي لجأت إلى تركيا بعد انهيار بيتها وحياتها، لكنها هناك تفقد ابنتها علياء، في لحظة فوضى وزحام وارتباك على الطريق أو المعبر، وكأن اللجوء نفسه قذيفة أخرى، لكنها لا تُسمَع بل تُشعَر في العظم والروح. هذا الفقد ليس فقدًا لأفراد العائلة فقط، بل تفكك لوظائفها الأساسية: حماية، أمومة، انتماء، معنى.
5. اللجوء والعبور المستحيل : الوجه الآخر للحرب تُسلّط الرواية الضوء على ما يُخفى عادةً خلف كلمة "لاجئة"، من معاناة النساء السوريات في بيئات جديدة: تحرش واستغلال ممن يقدّمون المساعدة ظاهريًا. عصابات منظمة تتربص بالفتيات والنساء دون معيل، وتسحبهن نحو شبكات دعارة واستغلال اقتصادي وجسدي. ظروف سكنية غير آدمية، حيث المرأة عرضة للتهديد في كل لحظة. الدلالة النفسية والسردية: يتكشّف اللجوء هنا لا كمساحة خلاص، بل كـأرض مشاع للفقد الجديد والانتهاك. إسراء، التي كانت أمًّا، تتحوّل في أرض الغربة إلى كائن هشّ، خائف، عاجز عن العثور على ابنته وعن حماية نفسه حتى من الشفقة. بهذا، تصبح تجربة اللجوء استمرارًا للحرب بأدوات أخرى، لا تنتهي فيها القسوة عند الحدود، بل تتمدّد إلى الحياة اليومية بكل تفاصيلها.
6. قوارب الموت: عبور من الموت إلى موت آخر لا تكتفي الرواية برصد ما يحدث في الداخل السوري، بل تُوسّع دائرة الخراب لتشمل الهجرة الخطرة من تركيا إلى أوروبا، حيث يتخذ السوريون البحر طريقًا أخيرًا للنجاة، لكنه طريق محفوف بالموت، لا يقل رعبًا عن القصف أو المجازر. يظهر في الرواية أن الهاربين من الحرب لم يكونوا فقط ضحايا القذائف، بل أيضًا ضحايا للبحر، للمهربين، للبرد، للخذلان الدولي. يُشار إلى ذلك في جمل مثل: "غرق بعض اللاجئين في طريقهم نحو أوروبا... أُلقيت الجثث على الشواطئ كدمى مبلّلة، بعضها بلا أسماء، وبعضها بلا وجوه."
الدلالة النفسية والسردية: يتحول البحر من رمز للحياة والعبور، إلى مقبرة متنقلة، تبتلع الأحلام كما تبتلع الأجساد. الموت هنا لا يحدث بالرصاص، بل ببطء، بصمت، تحت ظلال النجاة الموهومة. الدلالة الديناميكية: تكتمل ملامح التشظي حين تصبح المخاطرة بالحياة في عرض البحر خيارًا أكثر منطقية من البقاء على اليابسة. تُشير الرواية إلى أن اللاجئ ليس حيًّا ولا ميتًا، بل كائن معلّق بين ضفتين لا تعترفان به. بهذا المشهد، تُضيف الرواية لبنة جديدة إلى خطابها السردي حول الحرب: أن الحرب لا تقتل دائمًا بالبارود، بل أحيانًا بالأمل الكاذب، وبالعبور الذي لا يصل. الدلالة الديناميكية لهذه الطقوس: يتراجع دور الإنسان من فاعل إلى مُفعَل به، لكنّه مع ذلك يبتكر أدوات بقاء. تتشكل ذاكرة بديلة، لا تقوم على الحب أو الرفاه، بل على المهدئات، الطحين المخبأ، وصوت الأذان المبتور. تتحوّل الطقوس اليومية إلى استراتيجية تأقلم، لكنها في حقيقتها صرخة داخلية تبحث عن نظام وسط الفوضى. الدلالة النفسية والديناميكية: اللجوء ليس نهاية الحرب بل امتدادها الصامت. تُعاني الشخصيات من تفكك في روابطها العائلية وهويتها الذاتية. يظهر العبور كفعل مستحيل، لأن النجاة الجسدية لا تعني بالضرورة النجاة النفسية.
العاطفة بوصفها بنية متصدعة: بين الانقسام الصامت والانهيار المعلن تحضر العاطفة في "عبور آخر نحو الشمال" كعنصر حاسم في تشكيل البنية النفسية والديناميكية للنص. إنها ليست عاطفة رومانسية خالصة، بل مرآة لانكسار الداخل وتفكك العلاقات الإنسانية تحت ضغط الحرب والخذلان والانقسام. 1. علاقة بشير وعبير: الحب المعلّق بين الضفتين علاقة بشير وعبير ليست صامتة أو طارئة، بل حب معلن يعود إلى أيام الدراسة الجامعية، لكنه يصطدم لاحقًا بانقسام حلب بين قسمين متناحرين. حين اختارت عبير اللجوء إلى القسم الغربي من المدينة الخاضع لسيطرة النظام، بينما أصر بشير على البقاء في القسم الشرقي المحاصر، انقسمت العاطفة على خارطة الحرب نفسها. بشير ظل وفيًّا لها، لكنه حمل وجع الغياب كجرح داخلي عميق، يُخاطبها في الغياب كما يُخاطب مدينته المهدّمة. دلالة ديناميكية: يُجسّد هذا الانقسام فقدان التماسك بين القلب والموقف، بين الحب والانتماء. يتحوّل الحب من رابطة شخصية إلى نقطة تصدّع تمثّل ما جرى بين السوريين أنفسهم. 2. علاقة خالد وإسراء: الحب المنهك داخل البيت الواحد
في علاقة خالد وإسراء، لا يبعد أحدهما عن الآخر بالمكان، لكن تفصل بينهما طبقات من الغضب، والصمت، والخذلان المتبادل. خالد، المأزوم نفسيًا، يطلّق زوجته، يوبّخها، يحمّلها ما لا تحتمل. وإسراء، التي تحاول التماسك من أجل ابنتها، تصمت أحيانًا، وتتمرّد أحيانًا، لكنها لا تملك لا الحضور الكامل ولا الرحيل التام. الحرب هنا لا تمزّق بالرصاص، بل تُآكل يومي داخل الجدران، حيث البيت يتحول إلى ساحة حرب صامتة. دلالة سردية: يُمثّل خالد وإسراء نموذجًا لانهيار الروابط داخل الأسرة السورية. تتحوّل العلاقة من علاقة زوجية باردة إلى بقاء مشروط، إلى تعبٍ مشترك، ثم إلى فراق دائم. وبهذا تُظهر الرواية كيف أن العاطفة، في زمن الحرب، لا تنجو من الانقسام، بل تصير مرآةً للتشظي الأكبر الذي أصاب الإنسان والمكان. الحب، سواء أكان غائبًا أو حاضرًا، يتحول إلى مؤشر على درجة الانكسار العاطفي والوجداني الذي خلّفته الحرب في كل من لم يُقتَل، لكنه بقي ليحمل آثارها في الداخل.
ديناميكية الأحداث والشخصيات أ. الأحداث: تتوزع الرواية بين مشاهد من الراهن السوري (القصف، انقطاع المعونات، الغارات، السوق المغلق) ومشاهد من الذاكرة والانكسار الشخصي. تتحرك الأحداث على خطين: خط خارجي: حركي لكنه مأساوي (القصف، اعتقال، مجازر، نزوح). خط داخلي: تأملي، عاطفي، تغذيه الذكريات والكوابيس. هذا التوازي بين الخارج والداخل يجعل الحدث نفسانيًا بقدر ما هو مادي. ب. الشخصيات خالد: شخصية تمثل الذكورة المنهكة. يتأرجح بين القسوة والندم. يتحول من ربّ أسرة غاضب إلى رجل مكسور بعد إصابته الجسدية والرمزية. إسراء: شخصية نسائية مركّبة. تعيش بين طيف أمّها المريضة وظل زوج لا تفهمه. تتمرد وتقاوم بطريقتها، لكنها لا تصل إلى الخلاص. بشير: الطبيب الإنسان، رمز للثبات الأخلاقي. يلتصق بمهنته رغم الفوضى، ويحمل عبء الفقد والانفصال عن حبيبته. الطفلة علياء: تمثل البراءة المحاصرة. تنجو عاطفيًا بانتظار عربة الفريز، في حين تُحاط بأسى الحرب والفقد. كل شخصية تتحرك وفق ديناميكية داخلية تتأرجح بين الأمل الباهت والخذلان العميق، ما يمنح الرواية طاقة سردية قائمة على التحول الصامت أكثر من الانفجار.
التقنيات السردية في الرواية وهي جزء جوهري من الدراسة الديناميكية للنص، لأنها توضّح كيف اختارت الكاتبة أن تحكي الحكاية، وما الوسائل التي استخدمتها لتوليد التأثير العاطفي والدرامي والمعرفي. 1. السرد المتعدد الأصوات (بوليفوني) تعتمد الرواية على تعدد الأصوات السردية، فتنتقل بين ضمير الغائب (الراوي العليم) وضمير المتكلم (الراوي الداخلي)، وهو ما يسمح للقارئ أن: يرى الحدث من زوايا متعددة. يعيش التوتر النفسي من الداخل. يتعرف على الفروق بين تجارب الذكور والإناث، والأطفال والبالغين. مثال: سرد بشير لحياته في المستشفى يختلف تمامًا عن رؤية خالد داخل البيت، أو عن مقاطع الذكريات التي تسردها إسراء من طفولتها ومراهقتها. 2. تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) تُستخدم الاسترجاعات بكثافة، وغالبًا ما تأتي على هيئة: ذكريات عاطفية: الحب الأول، الأم، المقاهي، السهرات. ذكريات مأساوية: مجازر، لحظة طلاق، وفاة الأم، أول غارة. هذه التقنية تسمح ببناء الزمن النفسي الموازي، حيث: الماضي لا يُستعاد فقط، بل يُعاد تمثيله شعوريًا. يتحول الماضي إلى مرآة لفهم الحاضر وتشظي الذات. 3. الأحلام والكوابيس
توظّف الكاتبة تقنية الحلم والكوابيس بوصفها أداة تعبير نفسي ورمزي، لا سيما عند بشير وخالد. الحلم هنا لا يُقدَّم كفصل منفصل، بل كـتسرب غائم داخل الوعي السردي، وغالبًا ما يظهر حين تفشل الشخصيات في تحمّل الواقع، فيصبح اللاوعي ملاذًا. 4. الحوار الداخلي (المونولوج) يحتل الحوار الداخلي مساحة واسعة من الرواية: يتيح لنا الدخول إلى وجدان الشخصية. يكشف عن صراعاتها وتردّداتها وتأنيبها لذاتها. مثال: خالد الذي يفكر في طلاقه، أو بشير وهو يحادث جثث الموتى دون أن ينتبه. 5. تقنية التناوب الزمني الرواية لا تسير في خط زمني مستقيم، بل تعتمد على: تناوب الحاضر والماضي: من القصف إلى مقهى قديم، من مشهد الدمار إلى أول لقاء عاطفي. هذا التناوب يعكس اضطراب الوعي الشخصي، ويمنح السرد واقعية داخلية شديدة التأثير. 6. السرد التسجيلي/التوثيقي في مواضع محددة (فندق البارون، نهر قويق، مجزرة المشارقة...)، تلجأ الكاتبة إلى أسلوب تسجيلي: يُدرج المعلومة التاريخية داخل السرد. يعطي الرواية بُعدًا شبه وثائقي. يجعل المكان والحدث جزءًا من أرشيف الألم الجمعي. 7. التفاصيل الصغيرة كسرد مقابل تعتمد الرواية أيضًا على الواقعية الحسية الدقيقة: (كأس الشاي. شطيرة في المقصف. قطعة فريز .وشاح. حجاب الأم). هذه التفاصيل ليست تزيينية، بل تُستخدم كـسرد مقابل للعنف، لإثبات وجود لحظات إنسانية وسط الحرب. وكل هذه التقنيات تُسهم في خلق تجربة سردية عاطفية، إنسانية، ومُركّبة، تجعل من النص مرآة لما عاشه السوريون من داخل المأساة. خاتمة المستوى الديناميكي تنبني رواية "عبور آخر نحو الشمال" على بنية ديناميكية مرنة، تُجسّد من خلالها الكاتبة تحولات المجتمع السوري تحت وقع الحرب، وتوثّق حركية العلاقات الإنسانية، وتآكل الطقوس الاجتماعية، وتبدّل الوظائف الرمزية للأمكنة.يظهر الإنسان في الرواية ككائن يتفاعل مع الألم، ويقاومه بطقوس صغيرة، أو ينهار تحت ثقله. تتساقط المؤسسات الرمزية (المدرسة، الجامع، السوق، البيت) واحدة تلو الأخرى، ويتحول اليومي إلى جبهات صغيرة للبقاء. تكشف الرواية عن ديناميكية مضامين متشابكة: من الانقسام الاجتماعي إلى تمزق الهوية. من ذكورية السيطرة إلى أنوثة متأرجحة بين المقاومة والانكسار. من الطفولة المأمولة إلى الطفولة المحطمة. أما الشخصيات، فتتحرك على جمر التناقضات، حيث لا بطولة خالصة، بل أفعال مدفوعة بالخوف، وبذور رجاء تُكابد للبقاء. في هذا المستوى، لا تقف الكاتبة عند حدود التوثيق الاجتماعي، بل تجعل من الحرب حالة زلزالية تغيّر هندسة الوعي والسلوك، وتعيد تشكيل الذاكرة والمكان واللغة نفسها.
• المستوى النفسي: وإذا كانت الديناميكية قد كشفت عن التشوّهات الخارجية التي لحقت ببنية المجتمع، فإننا في المستوى النفسي سننصت إلى ارتدادات هذا الخراب على الداخل الإنساني، حيث تظهر التصدّعات العميقة في الوجدان الفردي: الخوف، الندم، القلق، الشعور بالذنب، الذكريات كأشباح، والحلم كمهرب هش. فلنغُص الآن في البنية النفسية للرواية، لنكشف كيف تمثّلت الحرب كمرض داخلي، لا يصيب الجسد فحسب، بل الروح واللغة والذاكرة. الانفعالات والعُقد الداخلية في "عبور آخر نحو الشمال" لا تسير الشخصيات على خطوط واضحة، بل تتقاطع داخلها مشاعر معقدة: الحب/الخوف، الندم/الكره، الحنين/الذنب، مما يجعل النفس الإنسانية مسرحًا مستترًا لما لا يُقال. 1. الحزن المتجذّر جميع الشخصيات تحمل حزنًا لا يُعلَن، بل يُمارَس: في الصمت، في الهروب، في الانكفاء. يتجلّى هذا في: عزوف خالد عن النظر في عيون ابنته. بكاء إسراء الصامت وهي تغسل أمها المتوفاة. حركة بشير الرتيبة في تنظيف الجثث، وكأنه يطهر شيئًا داخله. "عيونهما مليئة بأسئلة لم تُسأل... وقلوبهما ممتلئة بأجوبة لا تُقال..." 2. الشعور بالذنب والانكسار خالد يشعر بالذنب لأنه فقد بيته وزوجته وثقته بنفسه كرجل. إسراء تحمل ذنبًا مركّبًا: تجاه أمها التي رحلت، وتجاه زوجها الذي طلقها، وتجاه طفلتها التي تنمو في مناخ الخوف. بشير مذنب لأنه "لم يعد"، لم يُنقذ عبير، ولم يهاجر، ولم ينقذ أحدًا سوى الجثث. → الذنب هنا ليس سلوكًا أخلاقيًا، بل مركّب داخلي يعوق الفعل ويكرّس الانكفاء. 3. الحب كجذر للخذلان الحب في الرواية ليس خلاصًا، بل منبعًا إضافيًا للألم: خالد وإسراء يفقدان الرابط العاطفي بسبب الحرب، فيتحول الحب إلى معركة صامتة. بشير وعبير قصة حب لم تكتمل، اختُطفت، وانتهت في الفراغ. علياء الطفلة تفتّش عن صورة حنان في ظل لا أحد. → هنا، لا ينتصر الحب، بل ينكسر كأي شيء آخر في المدينة. 4. القلق الوجودي والعزلة النفسية تتكرر لحظات الانفصال الشعوري عن المحيط: خالد يُدير نظره إلى السقف دون أن يسمع. إسراء تتهامس مع نفسها في الليل. بشير يردّ على الأسئلة في رأسه، لا بصوت. → هذا القلق لا يُحلّ، بل يُكرّس كجوهر نفسي مركزي. كل الشخصيات تُعاني من شكل من أشكال الاحتراق الداخلي والاغتراب عن الذات. 5. الطفولة المجروحة علياء تمثل البراءة المُهدّدة: لا تلعب، بل تراقب. لا ترسم قلوبًا، بل رؤوسًا بلا وجوه. لا تسأل عن العيد، بل تسأل إن كان الشرشف سيطير من النافذة المكسورة. → تعاني الطفلة من عقدة فقد الأمان الأساسي، ما يجعلها تميل إلى الانطواء وإعادة تمثيل الواقع ككوابيس. تتشظى الشخصيات تحت ضغط القصف الخارجي والعنف النفسي الداخلي، فتتحول إلى ذوات مهزومة تنبض على إيقاع الصمت، وتعيش في هامش الحياة رغم استمرارها جسديًا. الرواية ليست فقط عن الحرب، بل عن الآثار النفسية غير المرئية لها، حيث لا يخرج أحد من الحكاية كما دخلها، بل مثقلًا بما لا يُقال.
- المدخل السلوكي : في هذا المحور، نبدأ بـ المدخل السلوكي في تحليل المستوى النفسي، وهو المدخل الذي يُركّز على ما تفعله الشخصيات وكيف تتصرف، وما تتساءل عنه، وما تكشفه سلوكياتها من توترات داخلية ومواقف لا واعية. هذا المدخل يُعدّ أساسًا في الذرائعية النفسية، لأنه يصل بين الحدث الخارجي وردّ الفعل الداخلي الذي غالبًا ما يكون معقّدًا ومتضاربًا. أولًا: التساؤلات الوجودية والذهنية يتكرر في الرواية حضور أسئلة غير مباشرة أو باطنية، تعبّر عن هشاشة الشخصية أمام الفقد، وعجزها عن فهم العبث الذي يلتهم حياتها: "كيف أصبح الحب جريمة؟" "هل الوطن هو المكان أم الذاكرة؟" "ما ذنبنا لنحمل كل هذا الخراب؟" "هل كنا مجرد أدوات في لعبة أكبر؟" "ماذا تبقّى منّا بعد الغارة؟" "هل الحياة بعد الحرب تشبه الحياة؟ أم تشبه النجاة المشروطة؟" هذه التساؤلات تُطرح عبر المونولوج الداخلي أو عبر الحوارات المتوترة بين الشخصيات، وتشكّل شبكة من القلق الوجودي الذي يسكن أعماق الأبطال، ويظهر غالبًا حين يخفت القصف، ويعلو الصمت. ثانيًا: السلوكيات اللاواعية والدالة على التوتر 1. خالد يعاقب زوجته بالطلاق، ثم يندم، ثم يصمت، ثم يطلب رؤيتها… يرفض مغادرة البيت رغم القصف، في سلوك أقرب للانتحار الرمزي. يصبّ غضبه على زوجته، ثم يُغمض عينيه ليمحو مشهد بكائها. → هذه التقلّبات السلوكية تكشف عن نمط انفعالي مضطرب، قائم على الإنكار والمكابرة، ثم الانهيار الصامت. 2. إسراء تتمرد، تبكي وحدها، تصمت أمام القسوة، ثم تهرب. تحتفظ بعباءة أمها كوسيلة للتماسك. تهدهد ابنتها رغم أنها تتداعى من الداخل. → تتصرف بردود فعل لا واعية تمزج بين الإنكار والرغبة في النجاة، في حين تظل الأمومة هي المربط الأخير بين ذاتها وواقعها. 3. بشير يعمل وسط الجثث دون أن ينهار، ثم ينهار عند تذكّر عبير. لا يتكلم كثيرًا، لكنه يعيد تركيب الوجوه المشوهة كمن يداوي روحه. يختلق في داخله حوارًا مع الغائبين، كأنهم لم يغادروا. → يظهر كشخصية تعويضية، يحاول من خلال السلوك المهني أن يعوّض الفقد العاطفي والوطني. 4. علياء (الطفلة) تخاف من الصوت، لا من الضوء. ترفض الطعام، وتبحث عن عربة الفريز. ترسم على الجدران وجوهًا دون ملامح. → سلوك الطفلة يكشف عن اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، حيث يظهر الخوف في أبسط ردود الأفعال، ويتجسد في الرسم والانزواء. خلاصة المدخل السلوكي في الرواية، لا يصرخ أحد كثيرًا، لكن كل سلوك يصرخ من الداخل. تتكشّف العقد النفسية من خلال ردود الفعل الصغيرة، والتقلّبات الحادة، وغياب الانسجام بين القول والفعل، ما يجعل الشخصيات ليست نماذج متماسكة، بل شظايا إنسانية تبحث عن نجاة نفسية قبل الجسدية.
المستوى النفسي، وهذه المرة نغوص أعمق في الانفعالات النفسية والعُقد الداخلية التي تتكشّف عبر السرد، بوصفها تمثيلًا للاضطراب الوجودي والانهيار الداخلي تحت وطأة الحرب والفقد.
- مدخل التناص: ننتقل الآن إلى مدخل التناص، وهو من المداخل الهامة في الدراسة الذرائعية، حيث نرصد الحوارات الصامتة بين النصوص، أي كيف يتداخل نص الرواية مع نصوص ثقافية أو دينية أو أدبية أو شعبية أخرى، سواء بطريقة مباشرة أو ضمنية. مفهوم التناص في الرواية كتمارس الكاتبة بهية كحيل تناصًا هادئًا ومتعدد الطبقات، يشتغل في العمق دون أن يتحوّل إلى عرض ثقافي، بل يخدم البناء النفسي والسردي والشعوري للنص. يتوزع التناص في الرواية بين: تناص ديني وروحي تناص تاريخي وثقافي تناص شعبي وتراثي تناص أدبي رمزي 1. التناص الديني والروحي تحضر المفردات والصور المرتبطة بالدين بصيغ غير تبشيرية، بل بوصفها أبعادًا رمزية محمّلة بالشعور الجمعي: مقام الشيخ بركات (ص 90): يُقدَّم بوصفه ضريحًا حيًّا في الذاكرة، تتدلى فوقه الأوراق الخضراء والشموع والآس. مشهد المئذنة المنهارة (ص 23): تناص مأساوي مع نداء المؤذن الذي صمت إلى الأبد. دعاء النساء، إشعال الشموع، ترديد الفاتحة، كلها طقوس دينية تغدو جزءًا من البنية النفسية والاجتماعية، لا من الدين المجرد. → هذه التناصات تخدم إبراز العلاقة بين المقدس والمأساة، وبين الإيمان كعزاء والخراب كواقع. 2. التناص التاريخي والثقافي أكثر ما يظهر هذا التناص في الحديث عن فندق البارون (ص 94): "أقامت فيه أجاثا كريستي وكتبت فيه جريمة في قطار الشرق... ألقى فيه ديغول والملك فيصل خطبًا..." → هذا التناص مع أحداث تاريخية وأسماء عالمية يقدّم صورة حلب كمركز مدنيّ ثقافي عريق، ويُقارن ضمناً بين الزمن الذهبي والزمن المنكسر. كما تحضر مجزرة المشارقة بوصفها تناصًا مع التاريخ القريب المغيَّب رسميًا، وتستعاد كمرآة للمجازر المعاصرة. 3. التناص الشعبي والتراثي تحضر الكثير من التقاليد الشعبية الحلبية بشكل تناصي، منها: عادات العيد والمواسم: مثل توزيع الكعك، طقوس النذور، تلوين البيض في الفصح، إشعال المشاعل. أغاني الفرح والمآتم، كمرجع شَعبي عالق في ذاكرة الشخصيات. → هذا التناص يُضفي نكهة محلية حقيقية ويكرّس الهوية الجمعية للحيّ والبيت والأسرة. 4. التناص الأدبي والرمزي تحضر إشارات غير مباشرة إلى أعمال أدبية عالمية: مثل أغاثا كريستي، وأدب الحرب، والكتابة في المنفى. يتناص النص أحيانًا مع مقولات وجودية ضمنيًا: حول العدم، الحنين، والخذلان، مما يذكّر بأدب كافكا أو كامو دون تسميته. وظيفة التناص في الرواية تعميق البعد النفسي والاجتماعي. تثبيت الهوية الثقافية في وجه المحو. خلق صدى متعدد داخل النص، يجعل القارئ في حالة تأمل بين الآن والماضي، بين الذات والجماعة، بين الخاص والعام. الرواية والتناصات المرجعية: مع من تتناص؟ تتناص رواية "عبور آخر نحو الشمال" مع مجموعة من النصوص الثقافية والدينية والأدبية والاجتماعية، بعضها واضح ومباشر، وبعضها ضمني ومتسرّب في البنية النفسية والمشهدية. وفيما يلي أبرز هذه التناصات: أولًا: التناص مع النصوص الدينية (ضمنيًا) الرواية لا تقتبس مباشرة من القرآن أو الحديث، لكنها تتناص مع الجوّ الديني الشعبي والروحاني: مقام الشيخ بركات يحضر كتجسيد لمفهوم "الوليّ الصالح"، وهذا تناص شعبي ـ صوفي مع صورة الوليّ في المرويات الإسلامية. الفاتحة، الشموع، النذور، الآس، البئر: رموز دينية وروحانية مأخوذة من الموروث الصوفي والديني تتناص مع قصص البركة، والعلاقة بين الأحياء والأولياء، مثلما نجد في سيرة الشيخ البدوي، وسيدي عبد القادر الجيلاني. → هذا التناص يمنح الرواية بُعدًا روحانيًا شعبيًا غير مؤدلج، يعكس ثقافة الناس لا النص المقدّس الصريح. ثانيًا: التناص مع التاريخ السياسي والثقافي الرواية تتناص مع وقائع وشخصيات وأماكن من الذاكرة السياسية والثقافية العربية والعالمية: فندق البارون (ص 94): تناص مع الأدب الإنجليزي – أجاثا كريستي – وأحداث سياسية كخطاب الملك فيصل والجنرال ديغول وعبد الناصر، مما يستدعي: نصوص المذكرات التاريخية أدب الرحالة والمراسلين في الشرق الأوسط → هذه التناصات تربط الرواية بسردية حلب "المركزية"، المتحضرة، المنخرطة في حركة التاريخ العالمي، لا كضحية فقط بل كفاعل ثقافي سابق. ثالثًا: التناص مع أدب الحرب والمعاناة الرواية تتناص شعوريًا وجوهريًا مع أعمال عربية وعالمية تتناول أدب الحرب، الحصار، الفقد، من دون أن تُشير إليها بالاسم. نلمح تقاطعات مع: رواية "لمن تقرع الأجراس" لـ إرنست همنغواي: في طغيان أجواء الدمار والموت والخوف من المجهول. رواية "يوميات الحصار" لـ سفيتلانا ألكسييفيتش: في تصوير تفاصيل العيش تحت الخطر (الشرشف، الحقيبة، الضوء، المئونة). رواية "ذاكرة الجسد" لـ أحلام مستغانمي: في علاقة الجسد بالحرب، والحب بالخذلان. → هذه التناصات تضيف للنص بُعدًا إنسانيًا عالميًا، وتجعل القارئ يربط بين السياق السوري والسياق الكوني للمعاناة. رابعًا: التناص مع الحكايات الشعبية والذاكرة الجمعية طقوس العيد، إشعال المشاعل، الكعك، لعب السيف والترس: تتناص مع الأغاني الفلكلورية والحكايات المتناقلة شفهيًا. رسم الأطفال على الجدران، البحث عن عربة الفريز: تناص مع الحكايات السورية المصوّرة وقصص ما قبل النوم. → هذا يعمّق ارتباط الرواية بـ ذاكرة الطفل السوري والمرأة السورية، ويجعلها تتناص مع سردية الحنين الشعبي. خامسًا: التناص مع النص الشعري (ضمنيًا) اللغة الشعرية في الرواية تُحيل إلى تناص خافت مع نبرة الشعر الحديث: الصور التي تقول: "البيت يئن، القهوة تبكي، الضوء خائف، الجدران تهتف"، تُذكّر بأسلوب محمود درويش أو أنسي الحاج في مزج اليومي بالرمزي. → هذه النبرة تضيف بعدًا شعوريًا فنيًا يقارب التناص الوجداني أكثر من الاقتباس. خلاصة تتناص الرواية مع: التراث الروحي الصوفي والديني (مقامات، بركات، بئر، شموع). النصوص التاريخية (فندق البارون، مجازر الثمانينات). أدب الحرب العالمي (أجواء، شخصيات، لغة). الفلكلور الشعبي (طقوس العيد، الأشعار الشعبية). الشعر العربي الحديث (إيقاع داخلي، صور، تشخيصات لغوية). هذا التناص المتعدد ينسج نصًا غنيًا لا يُغلق على نفسه، بل يتّسع لأصوات الماضي والحاضر، المحلي والعالمي، ويؤسس لما يمكن أن نسمّيه: رواية الذاكرة المشروخة بين الحنين والخراب.
- المدخل التقمّصي الوعظي كجزء من البنية النفسية ضمن المستوى النفسي في الرواية، لا يمكن إغفال ما تبثّه الشخصيات من نبرة داخلية تربوية أو ضميرية، تتجاوز الانفعالات الفردية إلى ما يشبه الدعوة الأخلاقية غير المباشرة. نلحظ أن بعض الشخصيات (مثل بشير، الجد، الأم، وحتى الطفلة علياء) تمارس أدوارًا لا تنحصر في التجربة الذاتية، بل تُحيل إلى أدوار رمزية يتقمص فيها الإنسان موقع المعلّم أو الحكيم أو الضمير الصامت. بشير، من خلال عمله في غسل الجثث، يمنح الموتى كرامة ضاعت في حياتهم، فيتقمص الدور الأخلاقي الأخير وسط غياب القانون والعدالة. الجد، حين يروي المجازر القديمة، لا يفعل ذلك للحنين، بل ليُبقي الذاكرة حيّة، وكأنه يُعلّم عبر الحكاية. الطفلة علياء، رغم صغر سنها، تومئ إلى مأساة الطفولة التي تُجبر على النضج قبل أوانه، فتصبح صورة رمزية للبراءة التي تُربّي الكبار بصمتها. هذه الحالات تشكّل بنية تقمّص وعظي داخلي، لا تُطرح كخطاب مباشر، بل كضمير سردي يشتغل عبر الشخصيات، واللغة، والمواقف الصامتة.
خاتمة المستوى النفسي في "عبور آخر نحو الشمال"، لا يُروى الألم فقط بوصفه حدثًا، بل بوصفه طبقة شعورية متداخلة، تتخلل الجسد والذاكرة واللغة. الشخصيات لا تصرخ، لكنها تنهار من الداخل. تتبدل السلوكيات، وتختلط المشاعر، وتتوالد الأسئلة الوجودية، ويبرز الذنب والخذلان والخوف كأركان للحياة اليومية. يتحوّل البيت إلى قوقعة، والطفولة إلى سؤال مهدد، والذكرى إلى شبكة أمان لا تكفي للنجاة. في هذا السياق، يأتي المدخل التقمّصي الوعظي ليعمّق هذا البعد، حيث تتحول بعض الشخصيات إلى ضمير جمعيّ، أو وصيّ رمزي على المعنى، في محاولة لإبقاء شيء من الإنسان حيًا وسط الردم والغياب. وبهذا، فإن المستوى النفسي في الرواية يُعد من أكثر المستويات عمقًا، حيث يشتبك الذاتي بالجمعي، والباطن بالمرئي، ليمنح القارئ تجربة شعورية تتجاوز الفهم إلى المعايشة النفسية الحقيقية. • المستوى التداولي العميق في الرواية المستوى التداولي العميق هو من أكثر المستويات الذرائعية نضجًا ودلالة، ويُعنى بـ فهم النص من خلال علاقته بالقارئ، وفعله التأثيري، وطاقته الخطابية الكامنة خلف السطور. وهو يتضمن قراءة ما وراء البنية الظاهرة: ماذا يريد النص أن يُحدِث في المتلقي؟، ما الرسائل التي يتبناها؟، كيف تتفاعل البُنى النفسية والديناميكية والرمزية لإنتاج خطاب موجّه ضمنًا إلى ضمير القارئ أو عقله؟ في رواية "عبور آخر نحو الشمال"، يتجلى هذا المستوى بوضوح في عدة مسارات: 1. القارئ بوصفه شاهدًا على الألم الرواية لا تسعى إلى سرد قصة الحرب فحسب، بل تجعل القارئ طرفًا معنويًا في التجربة. ليس فقط ليتألم، بل ليحاكم، ليُراجع قناعاته، ليتذكر. القارئ يُطلب منه أن يرى الضحايا لا كأرقام، بل كأشخاص لهم أسماء، أصوات، أطفال، وحياة يومية. من خلال المشاهد التفصيلية (كوب شاي، غطاء الطفلة، القصف الليلي...)، تتحول الحرب إلى ملمس، لا إلى حدث. → هذا ما يُعرف في التداولية بـ تفعيل الأثر الحجاجي الوجداني. 2. استنهاض الذاكرة الجمعية من خلال: فندق البارون، مجازر المشارقة، طقوس العيد، مقام الشيخ بركات... ترتبط الرواية بـ خطاب استدعاء الذاكرة السورية الجمعية، الذي يهدف إلى تنشيط وعي تاريخي مهدد بالنسيان. → هنا تُمارس الرواية ما يُشبه الخطاب التحذيري غير المباشر: "لا تنسوا، لأن النسيان يسمح بعودة الجريمة". 3. الخطاب غير المباشر اتجاه السلطة: الرواية لا تتهم صراحة، لكنها ترسم مشاهد كفيلة بفضح الجريمة: الجثث في نهر قويق، الشظايا في الأسواق، تهدم المدرسة والمئذنة. → هذا ما تسميه الذرائعية بـ "الإدانة غير الملفوظة"، أو الحجاج السلبي: حيث الحدث نفسه يُدين الفاعل دون الحاجة لتسميته. 4. تمكين القارئ من إعادة البناء الرمزي الرواية تفكك المفاهيم الكبرى: البيت، الطفولة، الوطن، وتضعها أمام القارئ كأشلاء عليه أن يعيد بناء معناها. لا إجابة جاهزة، بل أسئلة مفتوحة: ماذا يعني أن تبقى في مدينة تُقصف؟ هل المغادرة خيانة؟ أم النجاة؟ من يستحق البقاء: الجسد أم المعنى؟ → بذلك، تتحول الرواية إلى فضاء تداولي مفتوح، تُشرك القارئ في عملية التأويل، بل تُلزمه بالمشاركة الشعورية والمعرفية. 5. الخطاب المزدوج: حميمي وجمعي حين تخاطب الرواية ذاتها، هي قصة أشخاص. وحين تخرج من ذاتها، تصبح مرآة لجيلٍ كامل، لمدن فقدت أبناءها، لأمهاتٍ يتشمّمن رائحة الغائب في قطعة قماش. → هذا التوازي بين الخاص والعام، الخطاب الداخلي والخارجي، يجعل النص متعدي الدلالة، ويؤهله للقراءة السياسية، النفسية، الجمالية، والتاريخية في آنٍ واحد. خلاصة المستوى التداولي العميق "عبور آخر نحو الشمال" ليست مجرد سرد، بل هي خطاب موجه للقارئ بوصفه الوريث الحقيقي للحكاية. إنها لا تحكي فقط لتؤرّخ، بل لتحرّك، لتستدعي الأسئلة، لتمنح الألم معنى، ولتعيد للمكان والذاكرة واللغة كرامتها وسط الركام. بهذا، تتجاوز الرواية عتبة الفن إلى مستوى الفعل التداولي العميق، حيث تصبح الكتابة مسؤولية خطابية تجاه الوعي والحقّ والنجاة الممكنة. خاتمة الدراسة الذرائعية في "عبور آخر نحو الشمال"، تنسج بهية كحيل نصًا روائيًا يتجاوز الحكاية ليُصبح شهادة، ويتجاوز الذاكرة ليُصبح مرآة، ويتجاوز الألم ليصوغ وعيًا سرديًا حادًّا ومركّبًا. الرواية لا تكتفي بتسجيل مشاهد الحرب، بل تُعيد تركيب الوجدان السوري المجروح، من خلال سردٍ حميميّ، طبقاتيّ، ومشحون بالتوتر الداخلي. لقد كشفت المستويات الذرائعية للنص عن عدة محاور مركزية: في المستوى البصري واللغوي، حضرت الأمكنة المدمّرة، الأجساد الممزقة، التفاصيل اليومية كصور معلّقة بين الحنين والفقد، بلغة تراوح بين التقريرية الحسية والشفافية الشعرية. أما المستوى الديناميكي، فصوّر الحراك الاجتماعي والنفسي والسياسي لشخصيات انقسمت بين الانكسار والصمود، واستخدمت طقوسًا جديدة للحياة تحت الحرب، وعبّرت عن ديناميكية الواقع السوري الممزق. في المستوى النفسي، برزت الشخصيات ككائنات مشروخة، تعاني من اضطرابات عميقة: الحزن، الذنب، الفقد، القلق، الصمت، الانهيار. ومع ذلك، حافظ بعضها على صوت أخلاقي داخلي، ما أتاح حضور المدخل التقمّصي الوعظي بفاعلية إنسانية مؤثرة. وفي المستوى التداولي العميق، تجاوزت الرواية دورها الجمالي، لتؤسس لخطاب إنساني يحمل الذاكرة الجمعية، ويوجّه القارئ لا نحو الانفعال فقط، بل نحو التأمل والمساءلة. الرواية إذن، ليست نصًا أدبيًا وحسب، بل كيانًا سرديًا مقاومًا، وصرخة مكتومة في وجه النسيان، وفعل كتابة ضد المحو.
• التجربة الإبداعية للكاتبة بهية كحيل في رواية "عبور آخر نحو الشمال"، تبرز التجربة الإبداعية للكاتبة بهية كحيل بوصفها تجربة مركّبة، متأصلة في الواقع، لكنها تتجاوزه عبر الأدب، لتُقدّم شهادة شعورية على زمن تمزق فيه الوطن، وتشظّت فيه العلاقات، وتفتّت المعنى نفسه. الرواية ليست مجرّد حكاية عن الحرب، بل بناء فنيّ محكم ينبض بوعي سردي ومعرفي، يعكس خبرة الكاتبة في تحويل التجربة السورية من مأساة يومية إلى نصٍّ أدبيّ ذي كثافة إنسانية وجمالية. سمات تجربتها الإبداعية في هذا العمل: 1. الالتزام دون خطابية: الكاتبة منحازة إلى الإنسان، إلى الضحية، إلى الضعفاء، لكنها لا تُقحم خطابًا سياسيًا مباشرًا، بل تكتفي برسم الصورة الحيّة، وتترك للقارئ فعل التأمل. 2. التوثيق الشعوري لا الإخباري: بدلًًا من تدوين الوقائع كما في التقرير، تسرد كحيل كيف أثّرت هذه الوقائع على الذات والبيت والأنثى والعاطفة، فتتحول الحرب من حدث إلى تمزّق داخلي. 3. المرأة كمركز سردي وشاهد مجروح: تُعلي الرواية من صوت المرأة بوصفها أمًّا، حبيبة، لاجئة، ضحية، وراوية. المرأة في نصها ليست تابعًا بل ذاتًا واعية تتألم وتفكر وتختار وتُخذل. 4. تشظي البناء السردي وتعدّد المستويات: تتنقل الكاتبة بين الأزمنة، بين الداخل والخارج، بين الصوت الفردي والصدى الجماعي، لتبني نصًا متعدد الطبقات: واقعيًا، نفسيًا، رمزيًا، تداوليًا. 5. النبرة المتوازنة بين الألم والجمال: رغم سوداوية الحدث، تحافظ اللغة على نبرة إنسانية، مشبعة بالحساسية والشفافية، ما يجعل النص يحمل ألمًا شفيفًا لا استعراضًا مأساويًا. خلاصة التجربة: يمكن القول إن بهية كحيل في "عبور آخر نحو الشمال" تمارس الكتابة كفعل وجودي، وكأداة مقاومة ضد النسيان والمحو. روايتها لا تقتصر على تشخيص الواقع، بل تُمارس استردادًا رمزيًا لما فقده السوريون: البيت، الصوت، الحكاية، الدفن، الأمومة، الحُبّ.إنها تجربة إبداعية تنتمي إلى أدب ما بعد الكارثة، حيث لا تُروى الحكاية من أجل الخاتمة، بل من أجل أن تبقى مفتوحة، كجرحٍ يحمل في عمقه معنى الحياة. #دعبيرخالديحيي الاسكندرية – مصر 22/5/ 2025 المراجع
1. الغالبي، ع. ع. (2017). الذرائعية في التطبيق. دار شعلة الإبداع، القاهرة. 2. الغالبي، ع. ع. (2020). الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي. دار النابغة للنشر والتوزيع، مصر. 3. بوجمعة، ن. (2018). نظرية الذرائعية وتحليل الخطاب الأدبي. مجلة الآداب واللغات، (13)، 114–129. 4. عطوان، م. (2021). الكتابة النسوية وتمثيلات الحرب. مجلة فصول، (120)، 55–70. 5. دهمان، س. (2020). الرواية السورية وتحولات الواقع ما بعد 2011. مجلة قلمون، (9)، 89–103. 6. عبد الكريم، ن. (2019). تحولات المكان في الرواية السورية الحديثة. دار نينوى، دمشق. 7. أبو عفش، ن. (2022). المكان والوجع في سرديات الحرب السورية. مجلة الموقف الأدبي، (507)، 38–51. 8. عبدلكي، ي. (2018). مجازر حلب والتوثيق الفني. مركز حرمون للدراسات المعاصرة. 9. تودوروف، ت. (2007). مدخل إلى الأدب العجائبي (م. برادة، مترجم). دار التنوير، بيروت. 10. بارت، ر. (1999). لذة النص (ن. رضوان، مترجم). الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. 11. جينيت، ج. (2006). خطاب الحكاية (م. معتصم وآخرون، مترجمون). المركز الثقافي العربي، بيروت. 12. ريمارك، إ. م. (2004). كل شيء هادئ على الجبهة الغربية (س. نجم، مترجم). دار المدى، دمشق.
#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مونودراما: -أنا القلعة -
-
(حين انحنت السماءُ كجفنِ أمٍّ تبكي)
-
من الصدمة إلى المعنى سرد النجاة والهوية الجريحة دراسة ذرائعي
...
-
حين يكتب الحنين رسائله: قراءة ذرائعية في نص/ لسنا قصة عابرة/
...
-
طقوس السياسة مسرحية شعرية رمزية غنائية – في طقسٍ واحد من الد
...
-
من رماد الحرب ينهض الوطن... ومن بين الركام تتفتح زهرة اسمها
...
-
طقوس النور
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
-
تيه الذات واستعادة الكينونة دراسة ذرائعية مستقطعة في رواية (
...
-
حين تتغير الأصداء: هل تحيا الرسالة خارج زمكانها؟ بين الذرائع
...
-
سرد الأحلام : آلية للتحوّل النفسي والتمرّد الاجتماعي في رواي
...
-
الساحل السوري بين المؤامرة والانقلاب: حين كشف الغبار الحقيقة
-
سوريا.. معركة الوحدة في مواجهة رياح التقسيم والعقوبات والتحر
...
-
سوريا بين فكي العاصفة: تحديات الداخل والخارج
-
بين المبدأ والانتهازية.. الفن حين يكشف الوجوه الحقيقية
-
تجليات العزلة والاعتراف في السرد الوجداني : قراءة في بناء ال
...
-
مي سكاف: نجمة الحرية التي أبت أن تنطفئ
-
حسن نصر الله: زيف إيران الذي احترق بنيران الحقيقة
-
أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية
...
-
اغتيال الحريري: الرصاصة التي فجّرت لبنان
المزيد.....
-
مصر.. منشور منسوب للفنان المصري أحمد آدم يثير ضجة بالبلاد
-
سلوتسكي: السلطات في لاتفيا مستعدة لحظر حتى التفكير باللغة ال
...
-
نجوم فيلم -Back to the Future- يجتمعون لاستعادة قطعة أثرية م
...
-
لمحة عن فيلم -Wicked: For Good-.. هذا ما كشفه الإعلان التروي
...
-
بوتين يدعو للاحتفال بيوم لغات شعوب روسيا في ذكرى ميلاد رسول
...
-
مصر.. تصاعد الخلاف بين محمد الباز وابنة الشاعر الراحل أحمد ف
...
-
-أجراس القبار- للروائي الأردني مجدي دعيبس.. رواية تاريخية في
...
-
بغداد عاصمة الثقافة الإسلامية 2026
-
تكحيل الأضحية والغناء وصبغ الفروة.. عادات تراثية تسبق الأضحي
...
-
-ليس كل الكلاب تبقى وفيّة-.. تركي آل الشيخ يكشف عن بوستر فيل
...
المزيد.....
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
المزيد.....
|