أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عببر خالد يحيي - الحلم كفعل مقاومة دراسة ذرائعية في مجموعة (رؤى وأحلام) للشاعرة اللبنانية زينب الحسيني بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي















المزيد.....


الحلم كفعل مقاومة دراسة ذرائعية في مجموعة (رؤى وأحلام) للشاعرة اللبنانية زينب الحسيني بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي


عببر خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 08:59
المحور: الادب والفن
    


الملخص
تسعى هذه الدراسة الذرائعية إلى مقاربة مجموعة رؤى وأحلام للشاعرة زينب الحسيني، بوصفها تجربة شعرية تُؤسِّس للحلم كفعل مقاومة في مواجهة الاغتراب الوجودي والتيه الجمعي.
تنطلق الدراسة من بؤرة فكرية مركزها:
"أن الحلم في هذه النصوص ليس ترفًا شعريًا، بل ضرورة وجودية وأخلاقية تسعى الذات عبرها إلى استعادة المعنى في عالم مهدد بالخراب."
وقد اعتمدت الدراسة في تحليلها على مستويات أربعة:
البصري، اللغوي والجمالي، النفسي، الديناميكي،
لتُبرز كيف تتحول القصيدة النثرية هنا إلى فضاء حلمي مقاوم، تتداخل فيه أصوات الذات الأنثوية، والهمّ الجمعي، والقلق الكوني.
وقد أظهرت الدراسة أن زينب الحسيني تكتب حلمها شعريًا كأداة للنجاة والاحتجاج معًا، مقدّمة بذلك إضافة نوعية إلى القصيدة النثرية الأنثوية المعاصرة.

الكلمات المفتاحية:
الحلم كفعل مقاومة، شعرية الحلم، الاغتراب الوجودي، القصيدة النثرية الأنثوية، التداولية، زينب الحسيني، قراءة ذرائعية.

المقدمة
تجيءُ مجموعة رؤى وأحلام للشاعرة زينب الحسيني نصوصًا شعرية تنوس بين الحلم والواقع، بين الذات والوجود، بين الأنوثة والكون.
تتحرك في فضاء شعري يقوم على استبطان التجربة الشعورية، حيث تصبح الكتابة فعل مقاومة رقيقًا إزاء عوالم الاغتراب الداخلي والخارجي.
ليس الحلم في هذه النصوص انسحابًا هروبيًا، بل فعل تأسيس للذات، محاولة لترميم هشاشتها واستعادة صوتها وسط صخب اللامعنى.
تكتب الشاعرة عن امرأة تشبهها — أو تشبه هذا الزمن — امرأة تفتح كوة للحياة في جدران الوحدة والانكسار، وتغزل من الكلمات أجنحة تطير بها نحو أفق الحرية الوجودية.
تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة المجموعة من منظور ذرائعي، انطلاقًا من البنية النفسية، والوظائف التداولية للنصوص، والعوالم الجمالية التي تشكّل نسيج هذه التجربة الشعرية.

• البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
البؤرة الفكرية:
تتمحور نصوص رؤى وأحلام حول فكرة مركزية يمكن تلخيصها في العبارة الآتية:
"الحلم كفعل مقاومة للاغتراب والخراب."
ليس الحلم في هذه التجربة مجرّد ملاذ جمالي أو تفلّت من قسوة الواقع، بل هو أداة وجودية تستنجد بها الذات الشاعرة لمجابهة العدمية التي تحاصرها، سواء في بعدها الشخصي أو الجمعي.
يتحوّل الحلم إلى لغة موازية، وإلى فعل رمزي يعيد للذات امتلاك الزمن والمعنى.

الخلفية الأخلاقية:
تنطوي نصوص المجموعة على رؤية أخلاقية واضحة؛ إذ تشي كلها برفض القيم المعكوسة التي تسود العالم:
قسوة الإنسان على الإنسان، تلاشي العدالة، شيوع العنف، تغييب الحنان الإنساني.
يبرز في مواضع متعددة توق الذات إلى عالم أكثر عدلًا ورحمة:
في صورة الأم كرمز للخلاص، وفي توق الذات إلى انبعاث قيمي جديد، وفي مقاومة الخراب بالكتابة ذاتها.
الحلم، إذًا، ليس في هذه النصوص ترفًا جماليًا، بل موقفًا أخلاقيًا حادًا، يتمثّل في الإصرار على الحلم رغم التهديدات المتكاثرة باليأس والعدمية.

• التركيب العام للنصوص المختارة في ضوء البؤرة
على امتداد النصوص التسعة المختارة من مجموعة رؤى وأحلام للشاعرة زينب الحسيني، تتبلور بوضوح البؤرة الفكرية التي تشكّل الخيط الناظم للتجربة:
"الحلم كفعل مقاومة للاغتراب والخراب."
لكن الحلم هنا ليس بنية مسطّحة أو خطًّا أحادي الاتجاه؛ بل يتخذ وجوهًا متعددة، تتنوّع بتنوّع المواقع النفسية والوجودية التي تمرّ بها الذات الشاعرة.
نحن أمام خريطة حلمية تتحرّك من التجربة الشخصية الحميمية إلى القلق الجمعي والكوني.
في قصيدة "أمي"، يتجلّى الحلم كحاجة إلى الحنان الأصلي، إلى ذلك النور الأمومي القادر على انتشال الذات من وحدة الاغتراب.
في قصيدة "متاهات"، يصبح الحلم مسعىً للخروج من التيه الداخلي، محاولة لاختراق الفراغ النفسي الذي يطوّق الذات.
في قصيدة "طيران"، يتحول الحلم إلى تحليق صوفي، إلى رغبة في الانعتاق من قيود الحزن والزمن.
في قصيدة "قلم يبكي"، يأخذ الحلم صورة الكتابة نفسها كفعل مقاومة: القلم الذي يبكي، لكنه يُنتج جمالًا في وجه الخراب.
في قصيدة "زهرة فوق الركام"، يبلغ الحلم ذروته الثورية: إنه حلم جماعي بالانبعاث وسط الدمار، حلم يُصرّ على إنبات الجمال من قلب الركام.
في قصيدة"توق"، يصبح الحلم توقًا بعثيًا، نداءً داخليًا لولادة جديدة، لاستعادة دورة الحياة.
في قصيدة"وحدي"، نواجه الحلم بوصفه صراع الذات مع وحدتها وخرابها الداخلي، صراع الإرادة ضد العدم.
في قصيدة "سؤال"، يتسع الحلم ليصبح بحثًا عن العدالة، عن نظام كوني مفقود في عالم تسوده شريعة الغاب.
وأخيرًا، في قصيدة "كم نحن"، يتخذ الحلم بُعدًا جماعيًا صرفًا: توق البشرية إلى عودة القيم المفقودة، إلى استعادة الحنان والرحمة.
هكذا تتكامل هذه النصوص لتبني مدارًا حلقيًا شعريًا:
من الحلم الشخصي إلى الحلم الوجودي إلى الحلم الجمعي إلى الحلم الثوري إلى الحلم الأخلاقي.
بهذا التنوع، تبرهن زينب الحسيني أن الحلم ليس مجرد موضوع شعري، بل هو وظيفة جمالية وأخلاقية في آن:
أداة لترميم الذات، ووسيلة لمقاومة القبح، ومسارًا لاستعادة الأمل.
تقدّم المجموعة، في ضوء هذا التركيب، أنشودة شعرية للحلم المقاوم — حلمٍ لا يهرب من الألم، بل يحاول أن ينتج منه معنى شعريًا وإنسانيًا جديدًا.

• المستوى الموحد: البصري - اللغوي - النفسي – الديناميكي

1. المستوى البصري
تتسم نصوص رؤى وأحلام بجمالية بصرية حلمية، تعكس توتر الذات الشاعرة بين قطبي: النور والظلمة، الحضور والغياب، التحليق والانحباس.
الرؤية ليست وصفًا للواقع بقدر ما هي تشخيص شعري لمشهديات داخلية، حيث يتحوّل الحلم إلى صورة مرئية رمزية تنقذ الذات من ضغوط القلق والاغتراب.
في قصيدة "أمي"، تظهر صورة حلمية شديدة الرهافة:
«رأيتك تحلقين في الفضاء / تمتطين رواحل الغيم والسحاب»
وهي صورة بصرية ترسم الأم ككائن علوي، متحرر من الجسد والغياب، مما يعيد إلى الذات شيئًا من سكينة مفقودة.
في "وحدي"، نقرأ:
«سأخرق سراب الحلم وأحلم / ومن دخان الحرائق أطلع»
الصورة هنا ذات طبيعة بعثية، حيث تُصوَّر الذات كشمس تُولد من رماد الدمار، مؤكدة قدرة الحلم على إشعال الفعل.
في "زهرة فوق الركام":
«سأرتفع كطائر الفينيق / وأغني من فوق الركام»
الصورة ذات طابع أسطوري (طائر الفينيق) ومقاوم، تقترح نهوضًا جماليًا من بين الركام، وتحويلًا للخراب إلى غناء.
وفي "طيران":
«أهيم في فضاء فسيح / أطير بعشق قديم»
صورة متحررة حالمة، تتجاوز الجسد والواقع، وتغدو أقرب إلى تجربة صوفية تتوسل الهروب عبر العشق والبوح.
في قصيدة "قلم يبكي":
«ظلام يتلوه ظلام / وأتوه في معارج لا تنتهي»
نحن هنا أمام صورة تيه داخلي، حيث تعكس الظلمة المتكررة انسداد أفق الذات وانغمارها في عتمة شعورية خانقة.
أما في "متاهات":
«أحلق في متاهاتي / وأعبر فوق الأحزان»
يتجسد الحلم كفعل طيران داخلي، يتجاوز الحزن ليس بإنكاره، وإنما بالتعالي الرمزي عليه، ما يمنح الذات طاقة تجاوز.
في "توق":
«أبعث من رعد وبرق / ويعود الخصب»
صورة كونية/أسطورية تعبّر عن توق الذات إلى الخصب والانبعاث من قوى طبيعية عظيمة.
وفي "سؤال"، تأخذ الصورة طابعًا مفارقًا:
«وطن يسجنني بلا أبواب»
مجاز بصري مكثف لاغتراب الذات داخل وطن مأزوم، حيث الحرية مغلقة والهوية محبوسة.
وفي "كم نحن":
«الذبّاح صار رحيمًا / يصلّي ويكبر ويسلّم»
صورة صادمة، تشتغل على مفارقة بصرية/قيمية تفضح تزييف الأخلاق، وتُدين التواطؤ بين القتل والمقدس.
هذه الصور البصرية ليست مجرد زينة لغوية، بل أدوات تواصل نفسي وفكري تعبّر عن رؤية الذات للعالم بوصفه قابلاً لإعادة الخلق من الحلم.

2. المستوى اللغوي والجمالي
تعتمد اللغة الشعرية في مجموعة رؤى وأحلام على تكثيف دلالي رفيع، يندرج ضمن أسلوب شاعري نثري تتخلله خصائص متعددة:
الاقتصاد التعبيري: الجُمل قصيرة، مكثفة، تترك للقارئ مجال التأمل.
الإيقاع الداخلي: يتشكل من التكرار، والوزن النفسي، وانسياب الصور.
المجاز الكثيف: حيث تُركّب المعاني على استعارات غير مباشرة.
التكرار البنائي: «هل... كم... أحقًا...» كوسائل إلحاح فكري وشعوري.
في "أمي"، نقرأ:
«أستحلفك أن تردي الجواب / هل انطفأ الضوء؟»
صيغة إنشائية حوارية تستدعي الغائب، وتُبرز القلق من الانطفاء الوجودي.
في "وحدي":
«ومن دخان الحرائق أطلع / كما الشمس تخبو في المسا / ومن خفايا الفجر تسطع»
هنا يمتزج الإيقاع الداخلي بالصور الطبيعية، مما يمنح اللغة بعدًا دراميًا تصاعديًا.
في "زهرة فوق الركام":
«وداعًا أيتها الأرض الحمقاء / يا أكذوبة يتناقلها البشر»
لغة صادمة/ساخرة، تُفكك وهم الوطن بوصفه كيانًا خادعًا، وتُمارس نقدًا ضمنيًا للمفاهيم الجاهزة.
في "قلم يبكي":
«سبائك حزن / يزرعون الدروب حشرجات وأنين»
مجاز فني يُضفي على الألم ملمسًا ماديًا (السبائك)، في تحويل للمجرد إلى محسوس.
في "طيران":
«أرتدي الخفاء أمان»
استعارة مبتكرة، تجعل من الاختفاء لباسًا وملاذًا في آن، تكشف عن موقف وجودي من الواقع.

في "توق"، نقرأ:
«أما آن لأوجاعنا أن تثمر؟»
سؤال شعري مكثف يجمع الألم والتوق للتغيير في عبارة واحدة.
وفي "سؤال":
«أهو عقاب سماء؟ أم شريعة غاب؟»
سؤال مفصلي مزدوج، يوظف ثنائية دلالية (السماء/الغاب) في تأويل الواقع السياسي والأخلاقي.
وفي "كم نحن":
«كم صرخة وامعتصماه تلاشت»
توظيف تراجعي للتاريخ، حيث تنهار قيمة النداء التاريخي تحت نيران النسيان والخذلان.
بهذه اللغة، تتحول القصيدة إلى مُجسِّدة للحلم — لا تصفه فحسب، بل تجعله يتحقق بوصفه فعلًا جماليًا.

3. المستوى النفسي:
في قصائد رؤى وأحلام تتجلّى الذات الشاعرة بوصفها كينونة قلقة، موزّعة بين الحنين والتمرد، بين الضعف والإرادة، وبين القلق الوجودي والتشبّث بأمل يتجاوز الواقع المُحبط. إننا بإزاء ذات لا تستكين، بل تستبطن تناقضاتها لتُحوّلها إلى طاقة شعرية، تمارس عبرها فعلًا مزدوجًا من الكشف والمقاومة.
في قصيدتي "أمي" و "وحدي"، يبرز الحنين كقوة داخلية تبحث عن الأمان المفقود، إذ تقول:
«أمي، أستحلفكِ أن تردي الجواب… هل انطفأ الضوء؟»
وفي وحدي:
«آه… أنا وحدي… وهل قنديلي انطفأ؟».
تتموضع النفس هنا بين التوسّل والنداء، متشبثة بصورة رمزية للأم أو للحب الأول، كمرآة للحنان الغائب والضوء المراوغ.
في "متاهات" و"قلم يبكي"، نجد النفس في أقصى حالات انكسارها، في صراع داخلي مرير مع التيه والعجز. تقول الحسيني:
«أحلق في متاهاتي… أفتش عن حقائق في عالم الزور والصمت»،
ثم تُتبع ذلك بصوتٍ خفيض ينوس بين الألم والاحتجاج:
«تئنّ حرقة الآه… ويسرى الخواء في داخلي حتى العظام».
الذات هنا ليست راكدة، بل قلقة، تفتّش عن يقين ما، عن معنى مفقود تحت ركام الخراب.
أما في "زهرة فوق الركام" و"توق"، فتغدو النفس تواقة للبعث، حاملة لوجدان نهوضي يتوق لإعادة تشكيل العالم من رماده:
«سأرتفع كطائر الفينيق… وأغني أغنية الثورة»،
وتقول أيضًا:
«كم أتوق أن أبعث من رعد وبرق… ويعود الخصب من فوح الربيع».
هنا، تتحوّل الذاكرة من مسكنٍ للوجع إلى مخزن رمزي للانبعاث والتجدّد، بما يمنح القصيدة أفقًا مضيئًا من داخل العتمة.
أما قصيدة "طيران" فتتلبّسها نفس حالمة، تتماهى مع الفضاء، تتخفّف من الأرضيّ لتلتحق بعالم صوفي محض، حيث تقول:
«أهيم في فضاءٍ فسيح… أطير بعشقٍ قديم… ففاض بوحي… همسات همسات».
هي تجربة وجدانية تتوسل الرفرفة لا كتحليق جسدي، بل كتحرّر داخلي من شرط الوجع.
وأخيرًا، في قصيدتي "سؤال" و"كم نحن"، تتجلّى النفس الجمعية في قلقها من واقع مقلوب القيم، حيث تقول في سؤال:
«أهو عقاب سماء… أم أنه شريعة غاب؟!»،
وفي كم نحن:
«الذبّاح صار رحيمًا… والموت صار سريعًا… ولا يرحم هرِمًا».
الذات هنا لا تنطق باسمها فقط، بل باسم الجمع المذبوح، وتضع سؤالًا وجوديًا عميقًا حول عدالة الكون وغياب الحنان الأمومي كقيمة أخلاقية.
هكذا، تُشكّل هذه الأصوات النفسية المتعددة فسيفساء داخلية متوترة، حيث يبدو الحلم هو الفضاء الداخلي الوحيد الذي يحمي الذات من الانهيار، وهو في الآن ذاته، طوق نجاتها.

4. المستوى الديناميكي
تتّسم الحركة الديناميكية في قصائد رؤى وأحلام باتجاه تصاعدي دائم، يبدأ غالبًا من حالة سكونية، شعورية أو تأملية، مشبعة بالاغتراب أو الضياع، لينتهي إلى فعلٍ وجودي/شعري/ثوري يعيد للذات بعض امتلاكها لما فُقِد.
في قصيدة "أمي" نبدأ من لحظة فقد وحنين:
«هل ناديتكِ وما سمعتِ النداء؟»،
ثم ننتقل إلى محاولة استدعاء الأم الغائبة صوتيًا ووجوديًا:
«أستحلفكِ أن تردي الجواب… هل سكتت شهرزاد؟».
الحركة هنا ليست حلمًا فقط، بل استعادة رمزية للأصل المفقود، وللحنان الغائب كقيمة مؤسسة.
أما في "متاهات"، فإن بداية النص تُشي بحالة تائهة مرتبكة:
«أفتّش عن حقائق في عالم الزور»،
لكن سرعان ما يتحوّل هذا الضياع إلى قرار شعري بالمواجهة:
«سأغنّي نشيدًا… ونبني وجودًا ولو في أقبية الموت».
إنه القرار الذي يُحوّل الحلم إلى أغنية، والتيه إلى مسار.
في "طيران"، تسير الذات من الرغبة في الانفلات إلى حالة التحليق المتجاوز:
«أرتدي الخفاء أمان… أطير بعشقٍ قديم».
والقصيدة كلّها ترفرف، لا تسير، كما لو أنها كتبت على جناح النسيم.
وفي "قلم يبكي" نبدأ من مشهد بكائي عميق:
«رأيتك تبكي… ودماؤك تخنق الكلام»،
ثم نجد الشاعرة تفتح بابًا لمجابهة هذا الألم:
«أشاكس أنفاس الحياة… مضرّجة بالدم».
هنا، الكتابة نفسها تصبح الفعل الديناميكي المقاوم.
أما "زهرة فوق الركام" فهي أكثر النصوص وضوحًا في مسارها التحولي؛ من سؤالٍ عن القيم:
«وهل أقفرت من الحب دنيانا؟»،
إلى إعلان نهوضي عنيد:
«سأرتفع كطائر الفينيق… وأغني أغنية الثورة».
وفي "توق"، تبدأ القصيدة من قلق وجودي شائك:
«ترى هل غاب حلمنا العذري واندثر؟»،
ثم تتدرج نحو إعلان توقٍ لإعادة الخصب والانبعاث:
«كم أتوق أن أبعث من رعد وبرق… ويعود الخصب».
في "وحدي"، تنتقل الذات من اعتراف بالوحدة وانطفاء الأمل:
«أنا وحدي… وهل قنديلي انطفأ؟»،
إلى إرادة حلمٍ جديد:
«سأخرق سراب الحلم وأحلم… ومن خفايا الفجر تسطع».
أما "سؤال" فيتحول من سؤال الحب الوجودي:
«أحقًا أنا أهواك يا قمري؟»،
إلى سؤال أخلاقي فادح:
«أهو عقاب سماء… أم شريعة غاب؟».
وفي "كم نحن"، يشتغل النص على سرد الخراب الأخلاقي:
«والموت صار سريعًا… يقتل طفلًا وجنينًا»،
ليصل في النهاية إلى توق للحنان الغائب:
«كم نحتاج لتلك الأم… كي ندرك معنى الحياة».
هكذا، تُظهر هذه البنية الديناميكية أن الحلم، في مشروع زينب الحسيني الشعري، ليس معطىً، بل يُنتَزع — كما تُنتزع الأوطان — من بين أنقاض اليأس والخيبة، ويُبنى من حروف حارّة تقاوم الزوال.

• دراسة التجربة الإبداعية
تكتب زينب الحسيني في رؤى وأحلام قصائدها بروحٍ حلمية/تأملية، قريبة إلى الحلم، بعيدة عن المباشرة، ورافضة للخطابية الجاهزة.
إنها قصيدة امرأة تُدرك هشاشة الذات وهشاشة العالم معًا، فتسعى بالكلمة إلى بناء عوالم موازية أكثر رحابة للروح والمعنى.
ترتكز التجربة الإبداعية هنا على عدّة ملامح:
أولًا، رؤية شعرية واعية بوظيفة الحلم:
الحلم ليس حالة رومانسية، بل ضرورة وجودية.
في نصوص مثل "توق"، "زهرة فوق الركام"، "كم نحن"، يصبح الحلم فعل مقاومة اجتماعيًا وأخلاقيًا.
في "وحدي"، "أمي"، يتحول إلى ملاذ نفسي عميق.
في "قلم يبكي"، تغدو الكتابة ذاتها أداة مقاومة.

ثانيًا، نزعة إلى الاقتصاد اللغوي:
استخدام مجازات مركّزة: (زهرة فوق الركام، قنديلي انطفأ، شرنقة وسط الضباب...).
توظيف الاستفهام البلاغي لتوليد القلق الوجودي.
اعتماد تكرار بنائي يمنح النصوص إيقاعًا داخليًا.
ثالثًا، رؤية أنثوية ناضجة:
الذات هنا ليست صوتًا نسويًا مغلقًا، بل أنثى كونية:
تبحث عن الحنان (أمي).
تحتج على القيم المعكوسة (كم نحن).
تتوق إلى العدالة (سؤال).
تكتب حلمها كفعل خلاص.

رابعًا، التنقل الواعي بين الحلم الفردي والجمعي:
بين النصوص ذات النزعة الداخلية (وحدي، طيران، متاهات).
والنصوص ذات النزعة الاحتجاجية (زهرة فوق الركام، كم نحن، سؤال).
وهذا يُكسب التجربة ديناميكية جميلة.

خامسًا، صدق التجربة الشعورية:
النصوص لا تتوسل البلاغة المجانية، بل تعتمد على الصدق العاطفي.
حتى حين تتناول القضايا الكبرى، تظل اللغة دافئة، مشحونة بجرح الذات.
لا نجد خطابًا دعائيًا أو تعليميًا، بل قصيدة حلمية تحتفي بجرحها كي تخلقه شعرًا.
بهذا، تتشكّل تجربة زينب الحسيني في رؤى وأحلام كتجربة شعرية ناضجة،
تمارس الحلم:
- كملاذ،
- وكفعل مقاومة،
- وكأداة لترميم الذات واللغة معًا.
إنها تجربة تستحق القراءة الذرائعية، لأنها تكشف كيف يمكن للقصيدة أن تظل فضاءً للحلم وللخلاص الممكن،
وتؤكد أن القصيدة النثرية المعاصرة ما تزال قادرة على ابتكار أفق جمالي وأخلاقي متجدد.

• الخاتمة الكبرى
حين نطوي صفحات رؤى وأحلام بعد هذا المسار القرائي الذرائعي، نجد أنفسنا أمام تجربة شعرية صادقة، متّسقة الرؤية، متعددة الوجوه.
ليست هذه المجموعة دفتر أحزان، ولا مرآة حنين ذاتي فحسب؛
بل هي، في جوهرها، رحلة تأملية في معنى الحلم، وفي وظائفه النفسية والجمالية والأخلاقية.
لقد كتبت زينب الحسيني هنا حلمها كفعل مقاومة واعٍ:
حلم الذات المجروحة في وجه الوحدة (وحدي).
حلم الأنثى الباحثة عن أصلها النوراني (أمي).
حلم الإنسان إزاء الاغتراب الوجودي (متاهات، توق).
حلم الشاعرة في مقاومة الخراب بالكتابة (قلم يبكي).
حلم الجماعة في استعادة القيم المهدورة (كم نحن).
حلم الثورة على الرداءة والظلم (زهرة فوق الركام، سؤال).
هكذا تتنوّع بُنى الحلم بين النصوص، لكنها تظل تستند إلى بؤرة فكرية واحدة:
أن الحلم — كما القصيدة — هو المساحة الأخيرة التي يمكن للذات أن تستعيد فيها معناها في عالم متآكل القيم.
على المستوى الفني، نجحت الشاعرة في بناء لغة شعرية مشبعة بالصورة الحلمية/الرمزية،
وفي رسم إيقاع داخلي دافئ، وفي توليد أثر وجداني قوي لدى القارئ، دون الوقوع في الخطابية أو المباشرة.
أما على المستوى التداولي، فقد أظهرت النصوص قدرة على:
- هزّ وجدان المتلقي،
- تحفيز التفكير في العالم المقلوب،
- إعادة مساءلة القيم السائدة،
- والتأكيد على إمكانية الخلاص عبر الحلم.
بهذا، تقدّم رؤى وأحلام قصيدة الحلم بوصفها قصيدة مقاومة:
- مقاومة الاغتراب،
- مقاومة القبح،
- مقاومة العدمية.
وهي، بهذا المعنى، تُعد إضافة نوعية إلى قصيدة النثر الأنثوية المعاصرة:
صوت أنثوي حالم، لا يهرب من الألم، بل يعيد صوغه شعرًا ومعنى.
كما تفتح هذه التجربة أفقًا خصبًا للبحث في:
وظيفة الحلم في الشعر المعاصر، وآليات تشكّله بوصفه خطابًا جماليًا وأخلاقيًا في آن.
وبذلك تبرهن على جدارة المقاربة الذرائعية في تحليل هذا النوع من الكتابة، حيث تتكامل البنية النفسية، والجمالية، والتداولية، لتنتج قصيدة حلمية عميقة، قابلة للتأويل والتفاعل الجمالي.












المراجع
1. الغالبي، عبد الرزاق عودة.الذرائعية في التطبيق. دار النابغة للنشر والتوزيع . طنطا، 2019.
2. الغالبي، عبد الرزاق عودة. الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي. دار النابغة للنشر والتوزيع . طنطا، 2019.
3. الغالبي، عبد الرزاق عودة وعبير خالد يحيى. الذرائعية والعقل. منشورات اتحاد الكتاب العراقيين، 2023.
4. يحيى، عبير خالد.الأدب النسوي العربي من منظور ذرائعي. دار المفكر العربي، 2022
5. صويلح، شاكر. بلاغة الصورة الشعرية في القصيدة النثرية العربية. دار فضاءات للنشر، 2014.
6. سيكسو، هيلين.المرأة والكتابة. ترجمة: فريدة زمكحل. الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2001.
7. ريفاتير، أوزوالد دوكرو. الحجاج: من البلاغة إلى التداولية. ترجمة: محمد الولي. أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1999.
8. لوتمان، يوري. بنية النص الفني. ترجمة: يوسف طاطين. وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1998.
9. الجندي، صلاح. قصيدة النثر: دراسة في التحول الجمالي. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
10. باشلار، غاستون. جماليات الحلم. ترجمة: خليل أحمد خليل. دار التنوير، بيروت، 1986.
11. يونغ، كارل غوستاف.الإنسان ورموزه. ترجمة: فريد أنطونيوس. دار المعارف، القاهرة، 1994.
12. المجموعة الشعرية موضوع الدراسة:الحسيني، زينب. رؤى وأحلام. دار المشرق العربي، 2024.







الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأرض شاهدةً لا موضوعًا: دراسة ذرائعية في تطوّر البؤرة الفكر ...


المزيد.....




- يونس عتبان.. الاستعانة بالتخيل المستقبلي علاج وتمرين صحي للف ...
- في رحاب قلعة أربيل.. قصة 73 عاما من حفظ الأصالة الموسيقية في ...
- -فيلة صغيرة في بيت كبير- لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميل ...
- باللغة الفارسية.. شيخ الأزهر يدين استمرار الغارات الإسرائيلي ...
- “اخر كـلام “موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 195 الموسم السابع في ...
- فيلم -المخطط الفينيقي-.. كم تدفع لتصبح غنيا؟
- حرارة الأحداث.. حين يصبح الصيف بطلا صامتا في الأفلام
- -بردة النبي- رحلة كتاب روائي في عقل إيران الثورة
- تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2025 بتحديثه الجديد على النايل ...
- قصة الرجل الذي بث الحياة في أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عببر خالد يحيي - الحلم كفعل مقاومة دراسة ذرائعية في مجموعة (رؤى وأحلام) للشاعرة اللبنانية زينب الحسيني بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي