|
الأرض شاهدةً لا موضوعًا: دراسة ذرائعية في تطوّر البؤرة الفكرية في ديوان -الأرض تكبر أولًا- للشاعر الأردني محمد مثقال الخضور. بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي
عببر خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 8378 - 2025 / 6 / 19 - 21:14
المحور:
الادب والفن
المقدمة: يتّخذ ديوان "الأرض تكبر أولًا" - قصائد تفعيلة- موقعًا استثنائيًا في المشهد الشعري المعاصر، حيث لا يُقارِب موضوع الأرض بوصفه رمزًا سياسيًا أو جغرافيًا، بل ككائن حيّ يملك وعيًا ونموًا خاصًا. الشاعر محمد مثقال الخضور يُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والمكان، بين الأرض والقصيدة، ليتحوّل النص إلى مرآة لصوت الأرض لا لصوت الشاعر فحسب. في هذه الدراسة، نعتمد المنهج الذرائعي الذي يسبر المستويات اللغوية والبصرية والنفسية والتداولية للنص، ويتتبّع تطوّر البؤرة الفكرية من قصيدة إلى أخرى، لنكتشف كيف يتنامى الوعي داخل النصوص لا بوصفه خطابًا بل حالة. سوف نعتمد مقاربة ذرائعية تطبيقية، نرصد من خلالها، كما أسلفنا، تطور الفكرة المركزية (البؤرة الفكرية) عبر عدد من القصائد المفصلية، ثم نحلل بعضها تحليلًا فنيًا شاملًا على المستويات الذرائعية الأربعة: اللغوي، البصري، النفسي، والتداولي. • البؤرة الفكرية العامة للديوان تَكمن البؤرة في رؤية الشاعر للأرض بوصفها كائنًا حيًّا واعيًا يسبق الإنسان في الكرامة والوجع والمقاومة. في قصيدة العنوان «الأرض تكبر أولًا» يُعلن محمد مثقال الخضور أن الأرض هي الأم والوصيّة والشهيدة معًا، تحمل التاريخ والدم والأنبياء، وتظلُّ الحاضنة التي «تكبر» قبل أبنائها، مهما خُذِلت. • تتبّع تطوّر الفكرة عبر القصائد الرئيسة تبدأ البؤرة الفكرية في قصيدة "الأرض تكبر أولًا"، حيث تظهر الأرض بوصفها كائنًا ناطقًا، واعيًا، يسبق الإنسان في النضج والاحتراق. إنها الأم والأنثى والوصيّة، تخاطب وتنتظر وتكبر، ثم تُخذَل، فتتحول القصيدة إلى بيان نبوئي عن مركزية الأرض في التجربة الوجودية والمقاومة. تنتقل البؤرة في قصيدة "ببطء النور في تأجيل عتمتنا" إلى مرحلة تأملية، حيث لا تعود الأرض مجرد كيان أنثوي، بل تصبح زمنًا بطيئًا يُعيد تشكيل الضوء والعتمة، ويحوّل البطء إلى فعل مقاومة داخلي. هنا، يتراجع الصوت الخطابي لصالح الإيقاع الباطني، وتتحول اللغة إلى أداة تفكيك للزمن والانتماء. ثم نبلغ الذروة النفسية في قصيدة "خرج من إربد ولم يعد"، حيث يتغير موقع الأرض من الأم إلى الطريق الهاربة، ومن الملاذ إلى الصمت القاسي. الأرض لا تعود تحتضن أبناءها، بل تبتلع خطاهم، وتتركهم في متاهة لا عودة منها. تتكسّر العلاقة الوجودية مع الأرض، وينكسر معها وهم الانتماء. في قصيدة "الوهم أجمل يا حقيقة من دمك"، ينتقل الشاعر إلى مساحة داخلية جديدة، حيث يرفض الحقائق الوثائقية، ويختار الوهم كخلاص رمزي من جفاف التاريخ والأرشيف. تُطرح الأرض هنا من خلال التماس مع الذات المأزومة، الباحثة عن نجاة نفسية خارج الحقائق المهزومة. أما في "شهادة حسن سلوك"، فنجد انتقالًا إلى لهجة تهكمية صادمة، تفضح المؤسسات وتدين التواطؤ الجماعي. لم تعد الأرض هنا تشتكي، بل تسخر وتوجّه الاتهام مباشرة، فتتداخل البؤرة الفكرية مع مساءلة الذات الجمعية، وكأن الأرض أصبحت قاضيًا للذاكرة. ويُختَتم المسار في قصيدة "ومن الحب ما قتل"، حيث تنسحب الذات إلى صمت تأملي شفاف، وتغدو الأرض كيانًا يدور في مجاله الخاص، دون حاجة إلى صوت الشاعر. الحب لا يُعاد تمجيده، بل يُعترف به كقوة جارحة وهادئة في آنٍ معًا، وتتحوّل القصيدة إلى مرآة باطنية للحزن الناضج، لا للتنديد بل للإنصات. ملامح تطوّر البؤرة 1 "الأرض تكبر أولًا": الأرضُ كأنثى نبوئيّة واعية تُربّي وتُقاوِم وتكبر، لكنها تُترَك وحيدة بعد أن تمنح أبنـاءها المعنى. 2 "ببطء النور في تأجيل عتمتنا": تتحوّل الأرض إلى زمنٍ بطيء؛ البطء نفسه يصبح فعلَ مقاومة وتأمل، والنور لا يُبدِّد العتمة بل يؤجّلها حتى يكتمل الوعي. 3 "خرج من إربد ولم يعد" تنقلب الأرض من حضنٍ إلى طريقٍ هارب؛ مَنْ يخرج لا يعود، فتظهر فجيعة الانفصال والشتات وانكسار الهوية. 4 "الوهم أجمل يا حقيقة من دمك": بعدما تبهت «الحقائق» يتبنّى الشاعر الوَهْم ملاذًا نفسيًّا ضد الأرشيف الجامد؛ الأرض هنا مساحةُ اختراعٍ جديد للذات. 5 "شهادة حسن سلوك" سخريةٌ لاذعة من المؤسّسات والخِطاب المزيَّف؛ الأرض تفضح الآليات التي تُمنَح بها «شهادات حسن السلوك» في زمن الخراب. 6 "ومن الحب ما قَتَل" ختامٌ تأمّلي هادئ: الشاعر يتخلّى عن الصوت الخطابي، والأرض تتابع دورتها بلا حاجة إلى شهادته؛ قبولٌ ناضج بالخسارة والصمت. • المقاربة التحليلية (خطة العمل) لإبراز تجسّد البؤرة في مستويات النص سنُجري تحليلًا ذرائعيًّا تفصيليًّا على القصائد الستّ الواردة أعلاه، لأنها تمثّل المنعطفات الكبرى لمسار الفكرة: 1. الأرض تكبر أولًا – النص التأسيسي للبؤرة البدئية. 2. ببطء النور في تأجيل عتمتنا – الأرض بوصفها زمنًا يبطئ الضوء ويعمّق التجربة. 3. خرج من إربد ولم يعد – ذروة الانفصال والشتات. 4. الوهم أجمل يا حقيقة من دمك – الهروب إلى الوهم وإعادة تشكيل الهوية. 5. شهادة حسن سلوك – تفكيك السلطة الرمزية ومساءلة الخطاب. 6. ومن الحب ما قتل – الانطفاء الصامت والقبول بالزوال. بهذا المنهج الذرائعي لا نكشف البنية النصية فحسب؛ بل نضيء البنية النفسية للشاعر، متتبّعين كيف تحوّلت الأرض من مشهد إلى معنى، ومن رمز إلى شاهد حيّ، ومن خلفية صامتة إلى ذات تتكلّم ثم تختار الصمت الأخير. 1 "الأرضُ تكبرُ أوّلًا" ومن بين هذا الركام الرمزي والوجداني، تبرز قصيدة "الأرض تكبر أولًا" بوصفها العتبة التي يُفتح بها النص الكلي للديوان، لا من باب التمهيد، بل من باب التأسيس الجمالي والفكري. فهي ليست مجرد قصيدة افتتاحية، بل إعلان لميلاد الأرض بوصفها ذاتًا متكلمة، وفاعلة، ومتفوقة على الإنسان في الوعي والفداء. في هذه القصيدة، ينكفئ صوت الشاعر ليفسح المجال لصوت الأرض، لا كرمز بل ككائن حيّ يُدير دفّة المعنى، ويعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والمكان، بين الذاكرة والنبؤة، وبين الوطن والقصيدة. ولهذا، فإن البدء بتحليل هذه القصيدة ليس خيارًا شكليًا، بل هو عودة إلى الجذر الذي تتفرع منه بقية النصوص، الجذر الذي يُعلن ببساطة ووجع: ليس الإنسان من يكبر أولًا، بل الأرض. ومن هذا الإعلان تتوالى القصائد كتجليات لوجه الأرض الواحد، المتعدّد، المنكوب، والمنتصر في آنٍ معًا. بتحليل قصيدة "الأرض تكبر أولًا"، وهي القصيدة التأسيسية للديوان وتحمل اسمه. تحليلنا سيكون وفق المقاربة الذرائعية التطبيقية، عبر المستويات الأربعة: 1- المستوى اللغوي: اللغة في هذه القصيدة تمتاز بتكثيف رمزي عالٍ وبتعابير تنقل إحساسًا فوريًا بالمرارة والدهشة. لغة تجريدية، حلمية، تُعلن بداية التحوّل الفكري. المعجم الشعري يتراوح بين: الكوني: "السماء – الشمس – الشروق – الليل" الإنساني/الحيوي: "الأم – الطين – الخطى – الذاكرة- الحنين" السياسي/الوطني: "المنفى – الجرح – الحصار – الشهيد" الأنثوي: "العين – الطرَف – الجسد – الحجاب – الخصوبة" السياسي: "الاحتلال – الأسر – الدم – الغياب – العدو" الروحي: "القبلة – الصلاة – السرّ – النبوة" كما أن القصيدة تنهض أيضًا على لغة مشبعة بالأنوثة المضمّخة بالوجع والمقاومة، حيث تتحوّل المدينة (القدس) إلى امرأة، لا بوصفها استعارة مجازية فقط، بل بوصفها كائنًا أنثويًّا مقدسًا يُستهدف ويُقاوم ويحتجب ويضيء في آن. " وتركتُني في الانتظار وكنتُ أذهب للبعيدِ لكي أرى لونَ المدينة كيف يبدو في غيابِ تساؤلي عن لونِها هل يستقرُّ على البياض لكي يموتَ حنينها أم يجنح الإحساس فيها للغوامق كي يرى فانوسَها" يعتمد الشاعر على تراكيب تنوس بين النعومة والصلابة، بين الحسيّ والرمزي، كما في: " أو حينما تأتينَ مثل خريطةٍ تحتاجُ حظًّا كي تخوضَ حوارَها مع شارعٍ يُفضي إلى كلِّ الفصولِ لكي ترى ألوانَها" هذا التداخل يُنتج نصًا ينتمي إلى جنس "المقامة الروحية للأنثى المُغتَصبة". كما يلاحظ اعتماد الشاعر على تراكيب مفاجئة تنزاح عن المألوف مثل: "كانت تزلزلُ ذاتَها بين اليدين لكي تُنَخّلَ ساحةً لقائنا تحت السماء وكلّما ناديتُ صوتَك في الصدى قالت :تمهّل سوف أكبرُ أوّلًا لأصير أوسعَ من مهابة مستحيلٍ سوفَ يهبطُ بعد حين آيةً بكتابِ روحِك في الطريق العاثرة." هذا التداخل بين الذات والأرض، حيث الأرض هي الفاعل والإنسان هو المفعول به، يكشف عن قلب للمعادلة التقليدية: القصيدة لا تتكلم عن الأرض، بل الأرض هي من تتكلم من داخل القصيدة. هذه الأبيات تختصر جوهر الديوان بأكمله، وتكاد تكون نصًّا مفصليًا في فهم العلاقة بين الأرض/الأنثى والذات/المنتظِرة. قراءة سريعة تأويلية ضمن السياق العام للدراسة: "كانت تزلزلُ ذاتَها بين اليدين لكي تُنَخّلَ ساحةً لقائنا تحت السماء" هنا تُشخصَن الأرض أو المحبوبة كذاتٍ تهتز، لا خوفًا، بل كي تُصفّي ذاتها وتنقّيها، في استعداد رمزي لـ"اللقاء" – اللقاء الذي تحبّه السماء، أي أنه مقدّس، مكتوب، نازل من العلو. كأن الذات الأنثوية (الأرض/القدس/الروح) لا تُعطى ببساطة، بل تتهيّأ بالزلزلة والتصفية، كأنها تمرّ بطقس تطهيري. "وكلّما ناديتُ صوتَك في الصدى قالت :تمهّل سوف أكبرُ أوّلًا" يا لها من عودة دقيقة إلى العنوان! الصوت هنا ليس مفقودًا بل مؤجَّل، لأن الكينونة (الأنثى/الأرض/القصيدة) تطلب النضج أولًا قبل الالتحام، قبل الحب، قبل المعجزة. كأنها تقول: لا تقترب مني وأنا بعدُ قاصرة عن استقبالك. هذا التمهّل هو فعل نبوءة أنثوي، لا رفض بل انتظار لتمام التحوّل. "لأصير أوسعَ من مهابة مستحيلٍ سوفَ يهبطُ بعد حين آيةً بكتابِ روحِك في الطريق العاثرة." وهنا تتصاعد الرؤية نحو الميتافيزيقي، حيث الغرض من النضج هو أن تتسع الأنثى/الأرض/القصيدة لحمل المستحيل، للمعجزة، للآية. وهذه الآية ليست وحيًا علويًا مجردًا، بل ستنزل في كتاب روح الآخر – أي أن الحبيب أو الشاعر نفسه سيحمل النبوءة بعد أن تمرّ به، بعد أن يُهيّأ. من أكثر المقاطع التي تعادل العنوان في قوتها وعمقها: - نضج الأرض قبل الإنسان - سلطة الأنثى–المكان على لحظة اللقاء - البعد الصوفي والنبوءي في الانتظار - واللغة التي تتسامى إلى حدّ أن تصبح مأوى للمعنى لا سجنًا له. 2- المستوى البصري: توزيع القصيدة بصريًا يوحي بالتشظّي، وكأن القصيدة نفسها مفخخة بالانفصال بين السطور، أو أن شكلها يحاكي الجغرافيا الممزقة. هناك مقاطع قصيرة متجاورة تفصلها فراغات، كل مقطع يبدو كـ"نَفَس" شعري يتقطّع، وهذا يتماشى مع الإيقاع الداخلي للحزن في النص. أيضًا يلاحظ غياب علامات الترقيم، مما يجعل القصيدة مفتوحةً على التأويل، ويمنح القارئ حرية إعادة بناء التدفق الشعري وفق إحساسه الذاتي. 3- المستوى النفسي: أعمق مقاطع الديوان دلالة على التمزق النفسي بين التوق والخذلان، وهو غني بإيحاءات الانتظار والانكسار والتساؤل الوجودي. "وسألتُ في سجن الهوى طعمَ النوى ماذا لو أني لم أكن وقت انطفاء حجارة كانت تؤجّج بيننا نارَ الحنين إلى الفضا هل سوف أنجو من فراغ دون وزنٍ كي اطير كما أشاء فلا يراني سورُنا أم أنّ وجهي في انتظاركِ سوف يبقى والإطار مُعلّقيْنِ بسورِنا كالأمنيةْ سأقولُ إني في انتظار حبيبة لأصارحَ الدنيا بأني قد هُزِمتُ وأنني لا أفهمُ الأشياءَ وحدي في المرايا الخائفاتِ من التشابُهِ بين وجهي والزجاجِ" 1. الاغتراب العاطفي والوجودي: "وسألتُ في سجن الهوى طعمَ النوى" يبدأ النص بسؤالٍ يخرج من عمق العاطفة المحتجزة: الحبّ هنا سجن، و"النوى" (الابتعاد) لم يعد مجرّد فراق، بل طعم يُتذوّق داخل القيد. إنه اغتراب مزدوج: الاغتراب عن الحبيب، وعن الذات في الحبّ نفسه. "ماذا لو أني لم أكن وقت انطفاء حجارة" هنا تتجلّى الندم الوجودي، على الحضور في لحظة الانطفاء، في زمن خمدت فيه النار التي كانت تؤجّج العلاقة. إنه توق إلى هروب مستحيل من الزمن، إلى تحييد الذات عن لحظة الألم. 2. الرغبة في الانفصال عن الثقل / فقدان الجاذبية النفسية: "هل سوف أنجو من فراغ دون وزنٍ كي أطير كما أشاء" يرتفع النص إلى تأملٍ كأنّه فيزيائي–روحي: يتخيّل الشاعر نفسه منفلتًا من الوزن، من القيد، من التثاقل... لكن المفارقة أن هذه الحرية لا تخلو من رعب: فلا يراني سورُنا. كأن التحرّر من الجاذبية يعني أيضًا اللا مرئية – العزلة التامة. 3. ثبات الوجه / التجمّد في إطار الألم: "أم أنّ وجهي في انتظاركِ سوف يبقى والإطار مُعلّقيْنِ بسورِنا كالأمنيةْ" مشهدٌ شديد الكثافة النفسية: الوجه لا يتحرّك، الإطار لا يسقط، كلاهما معلّق على جدار الانتظار، مثل أمنية لم تتحقق. هنا نلمح ما يسمّى بـالجمود العاطفي المتكرر (emotional stasis): حالة لا هي أمل ولا قطيعة، بل وقوفٌ على الحافة. 4. الاعتراف بالهزيمة الشعورية: "سأقولُ إني في انتظار حبيبة لأصارحَ الدنيا بأني قد هُزِمتُ" هنا ينكسر القناع تمامًا: الشاعر لا يعود يتكلّم من موقع المتماسك، بل يعترف علنًا بالهزيمة، لا هزيمة الحرب بل هزيمة الحب، هزيمة الذات أمام التوق. هذا الإقرار لا يحمل ضعفًا، بل قوة في كشف الألم، وفي مصارحة العالم بالحقيقة. 5. القلق الوجودي وانكسار الهوية: "وأنني لا أفهمُ الأشياءَ وحدي في المرايا الخائفاتِ من التشابُهِ بين وجهي والزجاجِ" المرايا خائفة. الزجاج – رمز الصفاء – أصبح مشوّهًا بتشابه الوجوه، لا فرق بين الذات وانعكاسها، ولا بين الأنا والآخر. وهذا يقود إلى ما يشبه اللايقين النفسي والهوياتي: لا شيء يُميّز، لا شيء يُفهم، كلّ شيء يخيف. هذا المقطع هو ذروة الانكسار الوجداني في الديوان: - منفى داخلي في الحب - رغبة بالتحليق مصحوبة بفقدان الانتماء - ثبات في لحظة لا تحتمل الثبات - اعتراف علني بالهزيمة - اضطراب إدراكي بين الذات وصورتها الشاعر هنا لا يكتفي بتوصيف المشاعر، بل يعيش داخلها كمن يحفر قبرًا في الريح، فينتج نصًا مشحونًا بالتوتر، لكنه متماسك بلغة حلمية–فلسفية تتصاعد دون أن تتفكك. المدخل: السلوكي والتناصّي: "ماذا لو أني لم أكن وقت انطفاء حجارة" تحمل إحالة مباشرة وتناصًا إيحائيًا مع واحدة من أقوى الرموز في الوعي الجمعي الفلسطيني: ثورة أطفال الحجارة – انتفاضة الحجارة (1987) التي جسّدت المقاومة بالحدّ الأدنى من السلاح: الحجر. "لم أكن وقت انطفاء حجارة" هنا لا يتحدث الشاعر عن غيابٍ عن حدث عابر، بل عن غياب وجودي عن لحظة كبرى – لحظة انطفاء الثورة، أو لحظة أفول حلمها. "انطفاء الحجارة" ليست مجرد استكانة، بل تحوّل الحجر المقاوِم إلى رماد أو صمت، مما يدل على خيبة جيل، أو انكسار حلم جماعي. الشاعر يسأل: ماذا لو لم أكن حاضرًا في تلك اللحظة؟ وكأنه يودّ أن يتخفّف من شعور بالذنب، أو بالخذلان، أو بالعجز. - المعنى النفسي والسياسي المزدوج: على المستوى النفسي: العبارة تُعبر عن عقدة "الناجي" أو "المتأخر"، أي الذي حضر بعد الهزيمة، أو فاته المجد الثوري، ويشعر بثقل الغياب أو العجز. - على المستوى السياسي/الوطني: هناك إشارة إلى زمن ما بعد الانتفاضة، حين بدأت رموز الثورة تُستهلك، وبدأ "سورُنا" (كما ورد لاحقًا في النص) يُصبح أكثر قسوة، وأقل شفافية. خلاصة نقدية: العبارة تُعيد تحميل حجر الانتفاضة بدلالة جديدة: من أداة مقاومة إلى أيقونة فقدت بريقها، أو لحظة مقدّسة خمدت نارها. وهي تفتح بابًا لتفسير أوسع للقصيدة ككل: ليست فقط عن حُبّ مهدور، بل عن وطن مكسور، وسور يفصل بين ما كنا نؤمن به، وما أصبحنا عليه. 4- المستوى التداولي: هذه القصيدة ليست خطابًا ذاتيًا فقط، بل خطابٌ موجَّه إلى جمهور يُفترض أنه يعرف الأرض ويتماهى معها. إنها تعيد صياغة العلاقة بين الشاعر والقارئ، وتطرح سؤالًا ضمنيًا: من الذي يملك القول؟ هل هو الشاعر؟ أم الأرض التي أصبحت تتكلّم من خلاله؟ تأخذ القصيدة طابع النشيد الداخلي، الموجّه إلى جمهور مجروح، وتفتح له بابًا للمشاركة في الحزن الجمعي، عبر تذكيرهم بأن الأرض لا تنتظر، بل تكبر وتمضي. القصيدة تحمل أيضًا شحنة احتجاج غير مباشرة، إذ تقول ضمنًا: إذا كانت الأرض تعرف كيف تقاتل، فهل أنتم دونها؟ في "الأرض تكبر أولًا"، تتحوّل الأرض من مفهوم ثابت إلى كائن فاعل وفاعل لغوي ورمزي. هي التي تعرف، وتتكلّم، وتقاوم، وتموت، وتبعث، وتمنح القصيدة معناها. الشاعر لا يُملي عليها الموقف، بل ينصت إليها، وينقل صوتها، وكأنه مجرد صدى. الخطاب هنا يحرّك الحياء أكثر من الثورة، ويستدعي الإحساس بالخسارة الجمالية لا فقط الجغرافية. القصيدة موجّهة إلى القارئ العربي، لكنها ليست خطابًا دعائيًا، بل استدعاء عاطفي وتاريخي وأخلاقي. تخاطب ذاكرتنا الجمعية عبر المرأة، لتقول: "أن تنظر إلى القدس، يعني أن ترى امرأة تُغتصب وتظلّ تلبس الأبيض." القصيدة أيضًا تستبدل الخطاب السياسي بالخطاب الجمالي الأخلاقي، وهو ما يمنحها قوة شعرية ناعمة، لكنها نافذة، تقطع بهدوء أشدّ من صراخ القصائد المباشرة. القصيدة تؤسس لرؤية شعرية ترى أن الأرض ليست موضوعًا للقصيدة، بل هي المتكلمة الأصلية، وأن الشاعر مجرد وسيط بين ترابها وصوت البشر. 2 ببطء النور في تأجيل عَتمتِنا: هذه القصيدة من أجمل ما كُتب في ديوان "الأرض تكبر أولًا"، لأنها لا تصرخ ولا تندد، بل تحفر داخل بطء الزمن والوجع حتى تلامس الجوهر الوجودي للغياب، كأنها الصدى الأعمق لبؤرة الديوان الأساسية: الأرض ككائن يتكلم، يتمهل، ينمو، يحزن، ويكبر. من خلال التحليل الذرائعي التطبيقي للقصيدة: "ببطء النور في تأجيل عتمتنا"، ندرس تطور البؤرة الفكرية للديوان: 1. البؤرة الفكرية: في هذه القصيدة، تتطوّر البؤرة الفكرية من الأرض/الذات/الصمت إلى الأرض/الزمن/الاختفاء البطولي. لم تعد الأرض صوتًا حاضرًا فقط، بل أصبحت زمنًا يُنسج ببطء – يطيل العتمة كي يحتملها، ويؤخر النور كي يكتمل الوعي. البؤرة هنا هي: البطء كمقاومة للزوال. النور لا يأتي ليبدد العتمة، بل ليؤجلها، كي يعيد رسم شكل الحضور في عالم متشظٍّ. القصيدة لا تنعى، بل تعلّق الحزن في فضاءٍ شعري ميتافيزيقي، وتحوّل الألم إلى طقس من طقوس البطء المقدّس. 2. المستوى اللغوي والديناميكي: اللغة هنا تتقاطر كأنها تتنفس من تحت الماء؛ لا اندفاع ولا نبرة عالية، بل جُمل طويلة، محمّلة بالفعل الناقص، والجملة الشرطية، والتراكيب المتراخية: "ببطء الليل في تجفيف دمعتنا وراء الباب" "كي لا تعبر الشبّاك نظرتُنا مبلّلةً بماضينا" "ثقبتُ الكون كي أحظى بمناسبة" هذا الاستخدام المديد للتراكيب يجسّد المعنى ذاته: كل شيء يتأخر… كي يُفهم. الصور البلاغية ليست زينة بل أدوات تفكيك للواقع: الشاعر لا يستعمل التشبيه فحسب، بل يفتحه على بعدٍ داخلي: "ببطء الوحش حين يكون شبعانًا" "ببطء البئر يغرقنا بلا موج ولا ضجة" 3. المستوى النفسي: القصيدة هي مقامة اكتئاب متعالية – لا تستسلم للحزن، بل تمكث فيه حتى يُصبح مرآة وجودية: "تعبتُ لأنني أبطأتُ أم أبطأتُ من تعبي؟" سؤال وجودي عميق يكشف دوّامة الذنب والحيرة والتلاشي، وتكرار فعل البطء يجعل الحالة النفسية غير قابلة للانفجار، بل للاستمرار الصامت. الشاعر لا يريد النجاة، بل يريد أن يفهم البُطء الداخلي الذي يمنع النسيان. 4. المستوى البصري: صور القصيدة غير مرئية بشكل مباشر، بل حسّية/صوفية/مخفّفة: "ببطء الأرض في إنماء نخلتها" "طفل راقد في الصخر" "ثقبتُ الكون كي أحظى بمناسبة" نحن أمام شعر يشبه التصوير بالأشعة – يلتقط حركة ما لا يُرى. 5. المستوى التداولي: القصيدة لا تُوجّه خطابًا مباشرًا، بل تحاور الوجود كله: - تحاور الزمن - تحاور الغياب - تحاور الذات الموجوعة - لا خطاب احتجاجي ولا دعائي، بل حوار داخلي بطيء ووجودي بين الإنسان والأثر. 6. الخلفية الأخلاقية: هذه القصيدة تمثل أخلاق الصبر النبيل. الشاعر لا يندب بل يمارس الحزن بطقوس التأمل، يحوّل المعاناة إلى وعي غير ضاج. ليس هناك ضحية، بل كائن يعرف أن البطء وحده يمنح للأشياء معناها الأخير. خلاصة مكانها ضمن تطور البؤرة: بدأت البؤرة من الأرض التي تكبر أولًا، الأرض/الأنثى/الصوت. ثم رأينا الأرض في هيئة الذاكرة، الأمهات، الشهداء، العيون. وفي هذه القصيدة، تصل البؤرة إلى ذروتها التأملية: الأرض بوصفها زمنًا بطيئًا يربّي النسيان ويحرس النور. 3 قصيدة خرجَ "من إربد" ولم يَعُد 1 – البؤرة الفكرية داخل القصيدة على امتداد القصيدة يظهر «الخروج» بوصفه قدرًا دائريًّا: خطوةٍ قسرية تبدأ من الشمال («إربد») ولا تنتهى بالعودة، بل تتبدّد في مسارٍ من التيه والبُطء والخسارة. الأرض لا تلوِّح هنا بقداستها كما في القصائد الأولى؛ بل تتحوّل إلى طريقٍ هاربٍ يبتلع أثر الأقدام. البؤرة العامّة للديوان – الأرض ككائنٍ يسبقنا ويُربّينا – تتطوّر هنا إلى صورةٍ أشدِّ قسوة: الأرض تُربِّي المنفى في داخل أبنائها، فإذا كبُرتْ تركتهم حفاةً يعمّدهم الحصى. 2 – المستوى اللغوي لغة سردية تَمزج بين التقريري «كنتُ الصبيّ» والصورة الكثيفة «كي يُعمّدنا الحصى بشقوق أقدام». جُملٌ طويلة تتّسع للزمن «على الأسابيع القديمة والحديثة والحصى» تقابلها قفلاتٌ قصيرة تُشظّي الإيقاع «الهاربة». حقول معجميّة متلاحقة: العائلة/ الجدّ – المكان/ الشمال – الطقس/ المطر – النبات/ الشتلة – الميثولوجيا/ الكواهن؛ ما يخلق إحساسًا بالتراكم الذى لا يفضى إلى خلاص. 3 – المستوى البصري القصيدة تتدرّج على الصفحة كممرٍّ طويل: مقاطع واسعة تنتهى غالبًا بفعل حركة «فانتهى»، «كي يكبر». البياضاتُ الكثيرةُ تحاكى فجوات الذاكرة؛ فكأنّ النصّ يُسقِطُ حجارةَ علامات طريق ثم يترك بينها فراغًا متعمَّدًا كى يضيع القارئ مثل المتكلّم. 4 – المستوى النفسي 1. الحالة النفسية العامة: الاغتراب المركّب القصيدة تُشكّل بؤرة اغترابية على أكثر من مستوى: - اغتراب مكاني: من إربد إلى مدينة "لا تنير له البلد". - اغتراب نفسي: الشاعر لا يرى نفسه في "المرآة"، ولا يُتقن "اللغة الجميلة والوسامة"، كمن فُرض عليه أن يكون ظلًّا. - اغتراب وجودي: "كنّا شهودًا حين ماتت قلعة بخيالنا"، وهو تصريحٌ بعدم الفاعلية أمام انهيار الرموز. المدخل السلوكي (التساؤلات النفسية) والتناص يعملان بعمق على تفكيك حالة الاغتراب الداخلي والوعي المتشظي في النص. 2. المدخل السلوكي (عبر التساؤلات النفسية) يستعمل الشاعر تساؤلاتٍ غير صريحة، لكنّها حاضرة في صيغ التردّد والتعجّب واللايقين، مثل: "ما كان يعنيني بأي سحابة ستجيء أول زخّة؟" تساؤل يعكس اللاجدوى النفسية، والانفصال العاطفي عن فكرة الفرح أو التغيير. "أو إنها قد قدّمتني للمدينة مثل قربان فقير" لا يطرح هذا السؤال مباشرة، لكنه يستبطن شعورًا عميقًا بالخذلان الأمومي، وبأن المدينة لا تمنح أبناء الفقراء فرصة النجاة. التساؤلات هنا ليست للمعرفة، بل للدوران داخل النفس، تُشبه جلسة استبطان داخلي مفتوحة على الجراح والمفارقات. 3. التناص النفسي–الرمزي القصيدة لا تمارس التناص الظاهر مع نصوص دينية أو تراثية، لكنها تمارس تناصًا خفيًّا وشعوريًا مع عدّة أنساق: - تناص مع طقس التعميد: "جئنا حفاةً كي يُعمّدنا الحصى بشقوق أقدام" هنا تناص رمزي مع طقس التعميد المسيحي، حيث تُغمس الأقدام في الماء للولادة الجديدة. لكنّه يُقلب المعنى: الحصى هو الماء، والخشونة هي الغسل، والجرح هو التجديد. - تناص مع المشهد الإنجيلي والمقارن: "كي تنال الشمس مجدًا في تشوّه وجهنا" استدعاء غير مباشر لفكرة الصلب والمجد من خلال الألم. كأن المتكلم يُقدَّم قربانًا جديدًا، لكن بلا قداسة، فقط بوجعٍ ماديّ وصامت. - تناص مع طقس القربان القديم: "قدّمتني للمدينة مثل قربان فقير" يعيدنا هذا إلى الأساطير والكتب المقدسة، حيث يُقدم الأبناء أو الغرباء كقربان للآلهة. لكن هنا، المدينة هي الإلهة القاسية، لا تقبل القربان، ولا تمنحه نورًا. - تناص مع القرآن – «الذاريات»: "فانتهى والذاريات على غلاف الخاتمة" هذا التناص يحمل دلالتين: أن النهاية جاءت محاطة بسورة تتحدث عن الريح التي تذرّي الأشياء. دلالة مبطّنة على أن الإنسان، حتى في ختام رحلته، يُذرّى في ذاكرة الآخرين مثل غبار، لا أحد يثبّت ملامحه. بالنتيجة : تكشف القصيدة، عبر تساؤلاتها وتأويلاتها التناصية، عن ذاتٍ مأزومة بالحيرة والخذلان وغياب المرجعيات. فهي لا تكتفي بالحزن على مدينة لا تحتضنها، بل تُسائل الذاكرة، واللغة، والطريق، والأم، والخطيئة، والهوية. إنها قصيدة «التأخّر الوجودي»، حيث النفس تُرمّم موعدها مع فرحة ضائعة، وتراقب انمحاء الأثر عن الطريق كما لو كانت تكتب نَعيًا لأملٍ لم يُولد أصلًا. 5 – المستوى التداولي الخطاب موجَّه لقارئ فلسطيني/عربيّ يعي سيرورة الخروج الدائم: من الوطن، من الوعود، من اللغة ذاتها. لا دعوةَ صريحة إلى الثورة، بل محاكمةٌ هادئة: «كنّا شهودًا حين ماتت قلعة بخيالنا». إنّه يُدين جيلَه وجيلَ الآباء معًا لتركهم «الأسماء تُنسى حين تكبر شجيرة». 6 – صلة القصيدة بتطوّر البؤرة الفكرية فى الديوان في قصيدة "خرج من إربد ولم يعد"، نبلغ الذروة الأخيرة لتطوّر هذه البؤرة. هنا لا نجد الأرض أمًّا، ولا معلمًا، ولا حقلًا، بل طريقًا هاربًا يتواطأ مع الزمن والنسيان. المتكلّم لا يخرج منها فقط، بل تخرج منه الأرض أيضًا، وتتركه يتيه في اللاحلم، في تاريخٍ مكسورٍ، ومدينةٍ لا تعترف به. هو لا يحاكم الاحتلال، بل يُلمّح إلى أن القلعة ماتت في الخيال قبل أن تنهار في الواقع. لم تعد الأرض مكانًا يُقاتَل من أجله، بل مكانًا لم يعد ينتظر أحدًا، لا يعود فيه الخارجون ولا تترك الشمس فيهم أثرًا إلا كـ«تشوّه وجه» يُحوّلهم إلى ظلال. بهذا الشكل، تُغلق القصيدة دائرة البؤرة الفكرية في الديوان: بدأت الأرض صوتًا سابقًا علينا، وانتهت بصمتٍ لاحقٍ بنا، كانت أمًّا تُربّي، ثم غدت طريقًا يبتلع أبناءه، لا يعودون منه ولا يحتفظ بهم. بهذا النصّ يصل الديوان إلى ذروة تشظّى المكان؛ الأرض لم تَعُد أمًّا تحتضن أو قدَرًا يُنبئ، بل دربًا يتهرّب من أقدامنا كلّما حاولنا ترميمه. هنا يتحوّل صوت الشاعر من الشاهد إلى المتروك: يطارد أثره فى التراب، فلا يجد إلّا صمت «الطريق الهاربة». القصيدة ترصد اللحظة التى تدركُ فيها الذات أنّها لن تعود؛ وأنّ الأرض، وقد كبِرتْ، تركتْ أبناءها يحتشدون فى ظلالها الساكنة «بحزن جدّه والحياة الفائتة». فالبطء لم يَعُد وسيلةً للتأمّل، بل صار قانون الفقد نفسه. وهكذا تكتمل دائرة البؤرة: تبدأ الأرضُ فى القصائد الأولى كصوتٍ سابق، وتنتهى هنا كغيابٍ لاحق، طريقٍ بلا آثار، وسماءٍ لا تنتظر أحدًا. 4 قصيدة «الوَهْمُ أجملُ يا حقيقةًُ من دمِك» 1 – البؤرة الفكرية داخل القصيدة بعد مسارٍ طويلٍ في الديوان- حيث صوَّر الشاعر الأرضَ كأمٍّ، ثم كامرأةٍ مغتَصَبة، ثم كطريقٍ هاربة- تتجلّى هنا بؤرةٌ جديدة: صراعُ الذات مع «حقيقةٍ» أرهقها الفقدُ والهزائم، وميلُها إلى الاحتماء بالوَهْم. الحقيقة ترمز إلى أرشيفٍ جافّ من شهادات الميلاد، والسجلات، والوصايا، والعهود التى لم تُنقذ أحدًا؛ أمّا الوَهْمُ فيقدَّمُ كمساحةٍ روحيةٍ حرّةٍ تتيح إعادة اختراع الذات بعيدًا عن «الدُّفاتر» و«المحاكم» و«المكتبات». البؤرة إذن: وَهْمٌ يُطرَح بوصفِه خلاصًا نفسيًّا حين تعجز الحقائقُ عن منح المعنى. 2 – المستوى اللغوي خطابٌ مباشرٌ إلى «حقيقةٍ» مجسَّدةٍ ككائنٍ دامٍ: «الوهم أجمل يا حقيقة من دمك». تراكيب شرطية وسردية يُكثر فيها فعل النفى والرغبة: «لا أريد…»، «أحتاج وهمًا…»؛ ما يفتح النص على مونولوجٍ اعترافي. المعجم يدور حول مفردات السجلّ والوثيقة (اسم، تاريخ، عنوان، سادن المقبرة، الوثائق…) يقابلها معجم الخيال (وهم، خرافة، مذبحة للكتابة، صبية تُغرق القصيدة…). 3 – المستوى البصري النصُّ طويلٌ متدفّق، مقاطعُه تتكسّر بفواصلَ قصيرة، تحاكي ارتطام أفكار الراوي: حقيقة - وثيقة - وهم - سؤال وجودي. الفراغات الكثيرة تُشبه ثقوبًا فى «الوثيقة» يسمح الوهمُ بالنفاذ منها. 4 – المستوى النفسي: أ. الأسئلة السلوكية (القلق الوجودي) «ما ذا جنيت من الوثائق…؟» «ما ذا جنيت من الحقوق…؟» «ما ذا جنيت من استقامة نخلةٍ خرقاء…؟» هذه الأسئلة الدوَّارة تكشف قلقًا وجوديًّا عميقًا: الذات تراجع جدوى كلّ ما عُدَّ حقيقةً يومًا (علم، قانون، أخلاق). ب. التناصّ النفسى–الرمزى - تناصٌّ مع التراث القضائي والديني: «القاضي»، «صكّ براءتي»، «سادن المقبرة» كأنّ الذات فى محاكمةٍ أزليّة تبحث عن تبرئةٍ من تاريخها. - تناصٌّ مع صورة الرَّحم والولادة: «في الرَّحم نحن وجاهزون لصرخة… سوف نولد دون أم» إعادة ولادة مقلوبة تُحيل إلى أسطورة الخَلق من العدم، لا من الأمّ. - تناصٌّ مع آية الزلزلة: «كالصخر يكبر… إن لم تلده بذات اليوم زلزلة» كأنّ الحقيقة يجب أن تُهَدّ بقوةٍ كونيةٍ حتى يُعاد تشكيلها. 5 – المستوى التداولي القصيدة تُواجه القارئ العربي المُثقل بالملفّات والشهادات والهزائم المسجَّلة. لا تدعو إلى تمرّدٍ سياسي مباشر، بل إلى تمرّد معرفي/شعوري: «أحتاج مذبحة لأُعدم ما كتبتُ وما قرأتُ». إنّه خطابٌ يُنفِّر من الأرشيف ويُغري بالخيال، كى ينجو القارئ من «حقائق كاذبة». 6 – موضع القصيدة فى مسار تطوّر البؤرة الفكرية : 1. البداية: الأرضُ كأمٍّ تقود المعنى. 2. منتصف الديوان: الأرضُ شاهدٌ صامتٌ والطريقُ هارب. 3. قصيدة «خرج من إربد…»: الإنسان يغادر الأرض فلا يعود، وتذوب الأقدام فى الرمل. 4. هنا: حتى «الحقيقة» التى وثّقت الهزائم تُصبح عبئًا؛ فيحدث الانفصال النفسى الأخير: اللجوء إلى الوَهْم لاسترداد حرية داخلية. هكذا يكتمل المنحنى: الأرض تكبر أوّلًا ← ينكسر الطريق ← تبهت الحقائق ← يتجلّى الوَهْم كمساحة نجاةٍ أخيرة. فالقصيدة تفترش جغرافيا ما بعد-الحقيقة: لا تواريخُ الميلاد ولا أسماءُ الأمهات تشكّل الهوية وحدها، بل قدرةُ الفرد على تخيّل نفسه خارجَ الأرشيف. وبذلك تضيف حلقةً أخيرة لتطوّر البؤرة الفكرية فى الديوان: بعد أن كبُرت الأرضُ وتقلّص الإنسان، ها هو الإنسان يختار خرافته الخاصّة كى يحتمل وِزر الحقائق التي فشلت فى إنقاذه 5 شهادة حسن سلوك: سخرية لاذعة من الواقع والذاكرة المؤدلجة. القصيدة تفضح المؤسسات، وتدين الصمت باسم "السلوك الحسن". 1- المستوى اللغوي: في هذه القصيدة، ينحرف الشاعر عن نبرة الحزن الرمزية المعتادة، ويعتمد أسلوبًا تهكميًا لاذعًا، يمزج بين اللغة اليومية والتناص الرمزي. القصيدة تتخذ عنوانًا إداريًا– بيروقراطيًا: "شهادة حسن سلوك"، لكنها تقلب وظيفته وتحيله إلى محاكمة رمزية للأزمنة، للسلطات، للواقع، وللذات الجمعية. اللغة هنا ساخرة ولكن ثقيلة، مليئة بالتعابير المتنافرة المقصودة: "أنا لستُ من فتحَ الطريقَ الى ثمار البرتقالِ لِتهجرَ الأغصانَ يومًا كي تموتَ ب معصرةْ" المعجم في هذه القصيدة يُركّب الدلالة من خلال اصطدام المفاهيم: "النمل – التصفيق – العصا – الفوضى – الأمطار – الدم – التراب – دفتر الواجبات – المكتبة المحترقة" كل كلمة تبدو في غير مكانها، لكنها في الحقيقة تُنصب كمشهد تفكيكي لحالة الانحدار الجماعي. 2️ المستوى البصري: القصيدة تتخذ بنية متحرّكة بصريًا، حيث تتجاور الأسطر القصيرة مع صور متقطعة، وكأن القصيدة تُكتَب بين فواصل تقرير أمني أو سجل مدرسي. لا يُقصد من التوزيع البصري هنا التجميل، بل محاكاة الفوضى الداخلية للنص، وللوطن، وللذاكرة. القصيدة تسير بلا علامات ترقيم واضحة، لكنها مشحونة بجُمل تفجر المعنى في نهاياتها، كما لو أن كل سطر هو توقيع على شهادة الانهيار. 3- المستوى النفسي: نحن هنا أمام انفجار نفسي مكبوت منذ بدايات الديوان. في "شهادة حسن سلوك"، الشاعر لم يعد يتأمل، بل يضحك ساخرًا من الخراب المتواصل باسم النظام والانضباط. تتحول القصيدة إلى موقف نفسي مرير تجاه السلطة، والخطاب الديني/السياسي/التربوي الذي زوّر المعاني وأعطى الصمت وسامًا. "لا شأن لي بخروج سرب النمل عن صلواته وعن استقامة نهجه ف عصا المسنّ ضريرةٌ لم تنتبه للسرب يجري تحتها" هذا السطر يُلخص المأزق النفسي تمامًا: أدوات السلطة فقدت البصيرة، لكن المسحوقين ما زالوا يعرفون الطريق... ومع ذلك لا أحد ينصت إليهم. 4- المستوى التداولي: القصيدة تخاطب القارئ بشكل مختلف عن باقي نصوص الديوان: فبدلًا من التعاطف أو الحزن أو التأمل، تطلب منه أن يخجل، أن يراجع ذاكرته اليومية، أن يُسائل نفسه عن "حسن السلوك" في عالم فاسد. هذه قصيدة اتهام لا استعطاف، توجّه خطابًا تداوليًا نقديًا ضد: - المنظومات التعليمية التي تُخدّر الطفل بدلًا من وعيه. - الإعلام الكاذب الذي "يوزع البرتقال" فوق الجثث. - كل قارئ ساكت وهو يوقّع شهادته اليومية دون أن يرى من مات لكي يحصل عليها " ولكي يظلّ رَويُّها حَسَنَ السكوتِ برصدهِ للخاتمةْ" في "شهادة حسن سلوك"، تصل البؤرة الفكرية إلى منعطف فاضح: لم تعد الأرض فقط تكبر وتبكي وتوصي، بل تسألنا عن علاقتنا بسلوكنا المزيّف أمام موتها. هنا، يتوقف الشاعر عن الحزن، ويتكلم بلسان الأرض ساخرًا: ماذا فعلتم بشهاداتكم؟ من أي مدارس تخرج شهداؤكم؟ من أي نشرة أخبار تنبع أصواتكم؟ القصيدة تؤسس لفصل جديد في تطور البؤرة، حيث تُحمّل القارئ ذاته مسؤولية التشويه والتواطؤ. وتفتح بابًا مختلفًا: أن تكون الأرض طاهرة، لكنها لا تستطيع منح شهادة حسن سلوك لأحد… لأن الجميع متّهم. 6 ومن الحبِّ ما قتل: تأمل خافت، انسحاب من اللغة إلى الصمت. الأرض تُتم دورتها دون الحاجة إلى صوت الشاعر. ملاحظة: يعود الشاعر في نهاية الديوان إلى ذات العبارة التأسيسية في نصوصه الأخيرة، بما يشبه الإغلاق الدائري للفكرة. ويبدو أنه كتب أكثر من نص يكرّر فيه النبوءة الأولى بصيغ رمزية أخرى، وسنستند إلى هذه النصوص الختامية بوصفها "التتويج" الرمزي للبؤرة. 1- المستوى اللغوي: في هذه المرحلة من الكتابة، تصبح اللغة أشد تقشفًا، وأكثر شفافية، وأقرب إلى التأمل المجرد. يفقد الشاعر التوصيف الخارجي، ويستعيض عنه بتراكيب حلمية وهواجس داخلية، تدور كلها في فلك الأرض والغياب والذاكرة. "للحبِّ وجهٌ آخر تلقاهُ في مطرٍ سيُغرق ما يشاءُ من البلاد أو العباد." في هذه اللغة، تختلط الأزمنة، وتغيب الحدود بين الذات والمكان، بين الحلم والحقيقة، فيتحول النص إلى اعتراف شفاف، أو تأمل هادئ لما تبقى بعد كل ما حدث. الأرض هنا لم تُذكر صراحة، إلا في هذا الموضع، وقد ذُكرت فيه في معرض الحديث عن الحب: " والحبُّ زلزالٌ عنيفٌ عاشقٌ سيُهينُ سلسلة الجبال وقلعةً ومدينتينِ لكي يُساعدَ حُبّه " الأرض الملولة" أن تغيّر شكلها" لكنها تحضر في كل استعارة: في الغيمة، في الرذاذ، في الطين، في ملوحة العيون. 2- المستوى البصري: القصيدة تنكسر على الصفحة كأنها دمعة أو حفيفُ ظلّ. الجمل قصيرة، متكسرة، تحاكي نهاية رحلة أو ما يشبه المشي على أطراف الحلم. البياض يطغى، والنص يترك مساحات تأمل بين المقاطع، كأنه يطلب من القارئ أن يُكمل الفكرة بنفسه. 3- المستوى النفسي: نصل هنا إلى العتبة النفسية الأكثر هدوءًا ونضجًا. بعد الألم والغضب والسخرية والتأمل، يعود الشاعر منكسرًا بنبرة تصالح وجودي، حيث لا مكان للاتهام، بل فقط للإنصات. في هذه اللحظة، لا يسائل أحدًا، ولا يستنهض، بل يعترف بالخذلان العام والذاتي، ويقدّمه بهدوء كمن يسلم مفاتيح القصيدة للأرض. النفس هنا متعبة لكنها مستسلمة لمعناها. 1. حالة الوعي العاطفي: تتجلّى في هذه القصيدة درجة من التوازن الانفعالي المتقدم، حيث ينظر المتكلم إلى الحب كقوة مزدوجة: هو لا يُنكره، ولا يُمجّده، بل يعترف به وهو يدرك خطره. "للحب وجهٌ آخر..." هذا السطر يفتتح تأويلًا نفسيًا عميقًا: المتكلم ليس عاشقًا مندفعًا، بل كائن عاش التجربة وتألم ونجا ببصيرة هادئة. إنه ليس منكرًا للحب، لكنه لم يعد يثق به كملاذ آمن. 2. التحوّل من التماهي إلى المفارقة: في نصوص سابقة، كان المتكلم غالبًا ممتزجًا تمامًا بالحدث الشعوري: كان "الطفل"، و"العاشق"، و"الشاهد"، و"المنكسر". أما هنا، فهو ينأى بنفسه عن الانغماس الكامل. هو يرى الحب من الخارج، من بعد خطوة… الحب هنا: "مطرٌ يغرق ما يشاء" والمتكلم: "يرى الشتلة، يرى الحزن، لكنه لا يذوب فيهما" هذه المسافة الشعورية تُمثل نضجًا نفسيًا متقدمًا، ناتجًا عن خبرة طويلة مع الألم. 3. انعكاس الصورة النفسية من الغرق إلى الرضا: الحب في هذه القصيدة ليس خلاصًا، لكنه ليس نقمة صاخبة أيضًا. هو أشبه بـ"ماء داخلي" يفيض في القلب ثم يترك خلفه قشرة ملح، لا جرحًا مفتوحًا. الشتلة ظمأت، والحب لم ينقذها، لكنها صارت رمزًا للذات التي لا تعاتب، بل تفهم. 4. استقرار التناقضات: هذه القصيدة توظّف تناقضًا داخليًا هائلًا (الحب = القتل) دون أن تدخل في تمزّق أو صراخ. بل بالعكس، يُحافظ النص على لغته الرصينة، الواثقة، ذات النبرة التأملية: المطر = عطاء مفترض، يتحول إلى فيضان الحب = علاقة مفترضة، تتحول إلى خذلان الشتلة = الرغبة في الحياة، تموت عطشًا لكن الشاعر لا يصرخ، بل يسرد. وهذا السرد الهادئ يعني أن الذات قد مرّت على جرحها أكثر من مرة، وأصبح لديها مصل نفسي ضد الهشاشة. 5. التوازن بين التماهي والانفصال: في ختام الديوان، يتعامل المتكلم مع العاطفة بنفسٍ فني لا يحتاج إلى الانفجار. هو يعرف ما أصابه، ولا يحتاج إلى أن يُقنع أحدًا بما شعر، يكفيه أن يقول: "ومن الحب ما قتل"…ثم يصمت. الخلاصة النفسية: تمثل هذه القصيدة نضجًا نفسيًا خالصًا، حيث الحب يُقاس لا بالعاطفة بل بالأثر، والوجع لا يُقاس بالبكاء، بل بقدرتنا على النظر إليه دون أن نرتعش. إنها لحظة الذات حين تتجاوز الرغبة في الانتصار، إلى الرغبة في الفهم. لحظة تصالحٍ مع الخسارة كجزء من التجربة، لا كعقوبة. 4- المستوى التداولي: تتحول الوظيفة التداولية للقصيدة إلى رسالة وداع، أو "وصية الشاعر" بعد كل ما قاله في الديوان. الخطاب لا يخاطب قارئًا خارجيًا هذه المرة، بل يعود إلى داخل الذات، ويمرّ على الأرض مرور التبجيل الأخير. إنها مخاطبة تأملية، تشبه الاعتراف الأخير، وتدعو القارئ لا لأن يغضب، بل لأن يصمت أمام كِبر الأرض خاتمة: من الأرض إلى الذات العارفة تأتي قصيدة "ومن الحب ما قتل" في ختام الديوان كعتبة نفسية متعالية، ليست الأعلى صوتًا، بل الأكثر هدوءًا واتزانًا. في هذا النص، لم يعد المتكلم مشتبكًا مع العالم، بل أصبح يراه من مسافة، يعترف بهزيمته دون أن يُهزم، ويؤنسن الألم دون أن يُجمّله. "للحب وجه آخر تلقاه في مطر سيغرق ما يشاء من البلاد أو العباد" هكذا يصبح الحب قوة قَدَرية لا يمكن السيطرة عليها، تمارس أثرها دون استئذان. ومع أن القصيدة تبدأ من الماء، المطر، الشتلة، إلا أن القارئ يدرك أن هذا الماء لا يروي، بل يغمر. وأن هذه الشتلة تمثل القلب البشري حين يظن أن الحب خلاص، فيكتشف أنه طوفان. في هذا المشهد الختامي، تنضج البؤرة النفسية للديوان: لم تعد الذات تئنّ من الجرح، بل تصفه بصوت منخفض يشبه البصيرة؛ لم تعد الشهادة أو الوطن أو النفي المفاجئ مركز الحزن، بل الحب ذاته وقد انقلب إلى جرح كوني. إذا كانت قصائد الديوان السابقة قد رسمت صورة الأرض وهي تنمو، تصرخ، تموت، تنهض، فإن هذه القصيدة الأخيرة تغلق القوس على إنسان يراقب كل ذلك بعين مجرّبة. إنه لم يعد يسأل الأرض: لماذا؟ بل يهمس للريح: مرّ بي كما تشاء، فقد صرت أعرِف. • النتائج: يتّضح من هذا التتبّع أن الشاعر محمد مثقال الخضور لا يتعامل مع الأرض كعنصر رمزي ساكن، بل يُعيد تشكيلها في كل مرحلة بوصفها كائنًا متحوّلًا، يعكس تحوّلات الذات الجمعية والذات الفردية معًا. من الأرض الأم التي تُنجب وتُربّي وتُخذل، إلى الأرض التي تصبح زمنًا يقاوم الزوال، ثم إلى الأرض التي تهجر أبناءها وتتركهم في العراء، يختبر الشاعر، عبر القصائد، طبقات متراكبة من الفقد والانتماء والاحتجاج. ومع كل تحوّل في صورة الأرض، يتغيّر موقف الشاعر من اللغة: في البداية، تأتي اللغة مشبعة بالنبوءة والرمز، ثم تنحو نحو التأمل، فالسخرية، وأخيرًا تتقشّف حتى تبلغ الصمت. بهذا، لا يقدّم الشاعر المقاومة بوصفها فعلاً عسكريًا أو صراخًا خطابيًا، بل يفتح لها مجالات أعمق: البطء، والدهشة، والانسحاب، والاحتجاج الخافت. فالمقاومة، كما تتجلى في هذا الديوان، ليست دائمًا هتافًا، بل قد تكون لحظة وعي ناعم، أو انكسارًا صامتًا، أو رفضًا مكتومًا لتوقيع "شهادة حسن سلوك" على جثّة اللغة. وهكذا، تتطوّر البؤرة الفكرية من صوتٍ يحتفي بالأرض، إلى صوتٍ ينصت لها، ثم يختفي في ظلها، تاركًا لها وحدها الحق في أن "تكبر أولًا"، وأن تُنهي الحكاية بلا ضجيج… وبلا وداع. • التجربة الإبداعية: ينتمي ديوان "الأرض تكبر أولًا" إلى ما يمكن تسميته بـ الشعر المقاوم الداخلي، حيث لا يعتمد محمد مثقال الخضور على الشعارات أو المباشرة، بل يبني تجربته الإبداعية من الداخل، من تلك المساحات التي يلتقي فيها التأمل بالفجيعة، واللغة بالرؤية، والذات بجراحها المتكررة. الشاعر هنا لا يكتب عن الأرض بقدر ما يُنصت لها، ويعيد صياغة علاقتها بالذات بوصفها الأم، والمكان، والزمن، والجسد، والرمز، والمأوى، والحكم. وهذا التوسّع في تمثيل الأرض لا يتم عبر التقريرية، بل عبر توظيف جمالي مكثف للصورة الشعرية، والمجاز، والانزياح، حتى تتحوّل القصيدة إلى كائن حيّ ينبض بالمعنى، لا يقرّر شيئًا، بل يضيء احتمالات متعدّدة للفهم. التجربة هنا تقوم على تراكم الوجع لا تفجّره، وعلى بناء الوعي لا استهلاكه، وهي بذلك تتمايز عن كثير من شعر القضية الذي ينزلق نحو الهتاف. فالشاعر يقاوم النسيان بالصمت، والخذلان بالبصيرة، والتشظي ببطء القصيدة. تتّضح بصمته الشعرية من خلال لغته المتقشّفة رغم شعريّتها العالية، وإيقاعه الداخلي الذي لا يعتمد الوزن بل المشهد والفراغ، وقدرته على إعادة تدوير الرمز في سياقات جديدة دون أن يفقد طزاجته. تجربته الشعرية إذًا هي تجربة حفر لا رفع شعارات، تجربة تقطير للمعنى في لحظة احتراقه، وتجربة كتابة مأهولة بالأرض… حتى وإن اختارت الأرض أن تصمت. • الخاتمة الكبرى: يمثّل ديوان "الأرض تكبر أولًا" وثيقة شعرية ذات بُنية متحوّلة، يتجلّى فيها تطوّر البؤرة الفكرية من التبشير إلى الانكسار، ومن التقديس إلى المراجعة، ومن الهُتاف إلى الصمت. الأرض، بوصفها الشخصية المركزية في الديوان، تمرّ عبر مراحل متعددة: تُنجب، تُخذل، تتأمل، تسخر، ثم تنسحب. وهي في كل مرحلة، تعيد تعريف الشاعر، لا العكس. فكلما تكلمت الأرض، صمت الشاعر أكثر؛ وكلما نضجت هي، بدا هو أقل يقينًا. لقد اختار الشاعر أن لا يمنح الأرض خاتمة، بل جعلها تدور… تكبر… ثم تختفي خلف القصيدة، تاركةً لنا الفراغ كي نملأه بما نشاء: ذاكرةً، حلمًا، خيبةً، أو حتى وهْمًا. بهذا، لا يُغلِق الديوان موضوعه، بل يفتحه على أسئلة أكثر حدة: هل كبِرت الأرض فعلًا… أم صغُرنا نحن؟ هل صمتها نهاية… أم بداية لحكاية لا تحتاج إلينا؟ وهل كانت القصيدة صوت الأرض… أم مجرد صدى لما لم تقله بعد؟ تلك هي خلاصة الديوان: الأرض تكبر، نعم، لكنها تفعل ذلك من دوننا. #دعبير خالديحيي الإسكندرية – مصر 15/ 6/ 2025
المراجع
1. الغالبي، عبد الرزاق. الذرائعية في التطبيق. دارشعلة الإبداع للنشر والتوزيع . القاهرة، 2017 2. الغالبي، عبد الرزاق، وعبير خالد يحيى. الذرائعية والعقل.منشورات اتحاد كتاب العراق . بغداد. 2021. 3. يحيى، عبير خالد. إيقاع الذات الشاعرة بين التكرار والتوازي. بحث منشور في الحوار المتمدن، 2025. 4. الجرجاني، عبد القاهر. دلائل الإعجاز. تحقيق محمود شاكر. 5. دراسات في الشعر العربي الحديث والمقاومة، منشورات مركز دراسات فلسطين، 2018. 6. الخضور، محمد مثقال. الأرض تكبر أولًا. الطبعة الأولى، 2023.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـ-غزة.. ص
...
-
النيابة تطالب بمضاعفة عقوبة الكاتب بوعلام صنصال إلى عشر سنوا
...
-
دعوات من فنانين عرب لأمن قطر واستقرار المنطقة
-
-الهجوم الإيراني على قاعدة العُديد مسرحية استعراضية- - مقال
...
-
ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل
...
-
صدر حديثا : كتاب إبداعات منداوية 13
-
لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟
...
-
ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة
...
-
مركز الاتصال الحكومي: وزارة الثقافة تُعزّز الهوية الوطنية وت
...
-
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|