حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 20:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يُعَدُّ كُلٌّ مِنْ مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار و الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد مَفْهُومَيْن أُسَاسِيِّين لِفَهْمِ أثَار الِإسْتِعْمَار، وَلَكِنَّهُمَا يُشِيرَان إلَى جَوَانِبِ مُخْتَلِفَة وَمُتَكَامِلَة مِنْ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ
1. مَا بَعْدَ الِاسْتِعْمَار (Postcolonialism)
مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار هُوَ فِي الْأَسَاسِ مَجَال دِرَاسَات أَكَادِيمِيَة وَ نَظَرِيَّة نَقْدِيَّة. يُرَكِّز هَذَا الْمَجَالِ عَلَى:
التَّحْلِيلِ النَّظَرِيّ وَالنَّقْد الثَّقَافِيّ: يَهْدِفُ إِلَى تَحْلِيل وَتَفْكِيك الْإِرْث الثَّقَافِيّ، الِإجْتِمَاعِيِّ، السِّيَاسِيِّ، وَالِإقْتِصَادِيّ لِلِإسْتِعْمَار وَالْإِمْبِرْيَالِيَّة. إنَّهُ يُعْنَى بِأثَار الِإسْتِعْمَارُ عَلَى الْمُسْتَعْمَر وَ الْمُسْتَعْمِر عَلَى حَدِّ سَوَاءٍ، وَكَيْف شَكْل هَذَا التَّارِيخِ وَعْيّ النَّاس وَهُوَيَاتِهِمْ وَمُؤَسَّسَاتهم.
الْإِرْثُ وَالْأثَار الدَّائِمَة: يَدْرُس مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار كَيْف تَسْتَمِرّ أثَار الِإسْتِعْمَار فِي التَّشَكُّل بَعْدَ رَحِيلِ الْمُسْتَعْمِر الْمَادِّيّ. هَذَا يَشْمَلُ قَضَايَا مِثْل:
الْهُوِيَّة: كَيْف تَشَكَّلَتْ هُوِيَّات الشُّعُوبُ الْمُسْتَعْمَرَة وَالْمُسْتَعْمِرِة.
اللُّغَةُ وَالْأَدَب: تَحْلِيل النُّصُوصُ الَّتِي أُنْتِجَتْ فِي ظِلِّ الِإسْتِعْمَار وَمَا بَعْدَهُ، وَكَيْف عَكَسَتْ أَوْ تَحَدَّت
الْخِطَابُ الِإسْتِعْمَارِيّ.
الْمَعْرِفَة: نَقْد الْمَرْكَزِيَّة الْأُورُوبِّيَّة فِي إنْتَاجِ الْمَعْرِفَة وَتَهْميش الْمَعَارِفِ غَيْر الْغَرْبِيَّة.
السُّلْطَةَ: تَحْلِيل دَيْنٌاميكَيَّات السُّلْطَةَ الَّتِي إسْتَمَرَّتْ بَعْدَ الِإسْتِقْلَالِ الرَّسْمِيّ.
الْهَدَف: لَيْسَ فَقَطْ وَصْفِ مَا حَدَثَ، بَلْ نَقْدُ الْخَطَّاب الِإسْتِعْمَارِيّ الْكَامِنَ فِي الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ، وَإِبْرَاز صَوْت الْآخَر الْمَهمش، وَالْبَحْثُ عَنْ سُبُلِ لِتَحْرِير الشُّعُوبِ مِنْ التَّبَعِيَّةِ الذِّهْنِيَّة وَالثَّقَافِيَّة.
الزَّمَن: يُشِيرُ إلَى الْفَتْرَةِ الَّتِي تَلِي الِإسْتِقْلَال السِّيَاسِيّ الرَّسْمِيّ، لَكِنَّه يُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ الْأثَارَ الِإسْتِعْمَارِيَّة الثَّقَافِيَّة وَ النَّفْسِيَّة وَالِاقْتِصَادِيَّة لَا تَنْتَهِي بِالِإسْتِقْلَال.
بِإخْتِصَارٍ مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار هُوَ إطَارُ تَحْلِيلَيْ نَقْدِيّ لِفَهْم التَّعْقِيدَات وَالْأثَار الْمُسْتَمِرَّة لِلِإسْتِعْمَار، وَكَيْفَ أنْ الْمَاضِي الِإسْتِعْمَارِيّ لَا يَزَالُ يُشْكِل الْحَاضِر.
2. الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد (Neocolonialism)
الِإسْتِعْمَارُ الْجَدِيدِ هُوَ ظَاهِرَّة سِيَاسِيَّة وَاقْتِصَادِيَّة مُعَاصِرَة. يُشِير إِلَى:
السَّيْطَرَةِ غَيْرُ الْمُبَاشَرَةِ: هُوَ شَكِلٌ مِنْ أشْكَالِ الْهَيْمَنَة الَّذِي تَمَارسه الدُّوَل الْقَوِيَّة غَالِبًا مَا تَكُونُ الدُّوَلُ الِإسْتِعْمَارِيَّة السَّابِقَةِ عَلَى الدُّوَلِ الَّتِي حَصَلَتْ عَلَى إسْتِقْلَالِهَا السِّيَاسِيّ، وَ لَكِنْ دُونَ اللُّجُوءِ إِلَى الِإحْتِلَال الْعَسْكَرِي الْمُبَاشِرِ أَوْ الْحُكْمِ السِّيَاسِيّ الصَّرِيح.
آلِيَات الْهَيْمَنَة: تَتِمُّ هَذِهِ الْهَيْمَنَة مِنْ خِلَالِ وَسَائِل وَأَدَوَات مُخْتَلِفَة، أَبْرَزَهَا:
الِإقْتِصَادِيَّة: عَبَّر الدُّيُون، الْقُرُوض الْمَشْرُوطَة، الِإسْتِثْمَارِات الْأَجْنَبِيَّةُ، السَّيْطَرَةَ عَلَى الْتكْنُولُوجْيَا، التَّحَكُّمُ فِي أَسْوَاقِ الْمَوَادِّ الْخَامِّ، وَشُرُوط التِّجَارَةِ غَيْرَ الْعَادِلَةِ الَّتِي تَخْدُمُ مَصَالِح الدُّوَل الْمُتَقَدِّمَة.
السِّيَاسِيَّة: عَبَّر التَّدَخُّلِ فِي الشُّؤُونِ الدَّاخِلِيَّةِ لِلدُّوَل، دَعْم أَنْظِمَة مَوَاليَّةُ، الضَّغْط الدِّبْلُومَاسِيّ، أَوْ حَتَّى التَّهْدِيد بِإسْتِخْدَام الْقُوَّةُ دُونَ إحْتِلَال مُبَاشِر.
الثَّقَافِيَّة: عَبَّر الْهَيْمَنَة الْإِعْلَامِيَّة، نَشْر أَنْمَاط اسْتِهْلَاكَيْه مُعَيَّنَةٍ، فَرْض نَمَاذِج تَعْلِيمِيَّة أَوْ ثَقَافِيَّة تَخْدُم مَصَالِح الْقَوِيّ المُهَيْمِنَة.
الْهَدَفَ: هُوَ إسْتِمْرَارِيَّة الِإسْتِغْلَال الِإقْتِصَادِيّ وَالسَّيْطَرَة السِّيَاسِيَّة بِطُرُق أَقَلّ وُضُوحًا وَأَكْثَر قَبُولًا ظَاهِرِيًّا فِي الْقَانُونِ الدَّوْلِيّ، مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى التَّبَعِيَّة.
الزَّمَن: يَصِف الْعَلَاقَة الْحَالِيَّة الْمُسْتَمِرَّة بَيْنَ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَة وَ الدُّوَل النَّامِيَة بَعْدَ فَتْرَةِ الِإسْتِعْمَار الْمُبَاشِر.
بِإخْتِصَارٍ: الِإسْتِعْمَار الْجَدِيدِ هُوَ شَكِلٌ مِنْ أشْكَالِ الِإسْتِغْلَال وَ السَّيْطَرَة الْمُسْتَمِرَّة، وَلَكِنْ بِإسْتِخْدَام آلِيَات غَيْر عَسْكَرِيَّة وَ سِيَاسِيَّة مُبَاشَرَة.
يَكْمُنُ فَهُمْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيدِ وَمَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار فِي تَمْيِيزِ أَحَدِهِمَا كَظَاهِرَّة مُسْتَمِرَّة وَالْآخَر كَمَجْال لِدِرَاسَةٍ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ وَأثَارِهَا. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَرَابِطُهُمَا الْوَثِيق، إلَّا أَنَّهُمَا يُشِيرَان إلَى جَوَانِبِ مُخْتَلِفَة وَمُتَكَامِلَة لِإِرْثِ الْهَيْمَنَة الِإسْتِعْمَارِيَّة.
. الِإسْتِعْمَارُ الْجَدِيد: إسْتِمْرَارِيَّة السَّيْطَرَة بِوُجُوه حَدِيثة
. الِإسْتِعْمَارُ الْجَدِيد (Neocolonialism) يُمَثِّل شَكْلًا مُعَاصِرًا وَمُسْتَمِرًّا مِنْ أشْكَالِ الْهَيْمَنَة وَالسَّيْطَرَة، لَكِنَّهُ يُفْتَقَرُ إلَى الِإحْتِلَال الْعَسْكَرِي الْمُبَاشِرِ أَوْ الْإِدَارَةِ السِّيَاسِيَّة الصَّرِيحَةِ الَّتِي مَيَّزَتْ الِإسْتِعْمَار التَّقْلِيدِيّ. الدُّوَلِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَرَات سَابِقَة قَدْ نَالَتْ إسْتِقْلَالِهَا السِّيَاسِيّ، لَكِنَّهَا تَظَلّ خَاضِعَة لِأشْكَال مُعَقَّدَة مِنْ التَّبَعِيَّةِ.
تَتَجَلَّى هَذِه الْهَيْمَنَة فِي عِدَّةِ جَوَانِب:
السَّيْطَرَة الِإقْتِصَادِيَّة: عَبَّر قُرُوض مَشْرُوطَة، دُيُونٍ مُتَرَاكِمَةِ، شُرُوط تِجَارِيَّة غَيْرَ عَادِلَةٍ تَفْرِضُهَا الْمُؤَسَّسَات الْمَالِيَّة الدَّوْلِيَّة أَوْ الدُّوَل الْقَوِيَّة. هَذِه الآلِيَات تَضَمَّن تَدَفُّق الْمَوَارِد وَالثَّرَوَات نَحْو الدُّوَل الْغُنْيَة، وَتُعِيق التَّنْمِيَة الْمُسْتَقِلَّة لِلدُّوَل النَّامِيَة.
الْهَيْمَنَة السِّيَاسِيَّةِ: مِنْ خِلَالِ التَّدَخُّلِ فِي الشُّؤُونِ الدَّاخِلِيَّةِ لِلدُّوَل، دَعْم أَنْظِمَة مُوَالِيَّة، أَوْ مُمَارَسَة الضُّغُوط الدِّبْلُومَاسِيَّة لِضَمَانِ تَوَافُق سِيَاسَات هَذِهِ الدُّوَلِ مَعَ مَصَالِحِ القِوَّى الْكُبْرَى.
التَّبَعِيَّة الثَّقَافِيَّة وَالْمَعْرُفِيَّة: عَبَّرَ إنْتِشَار الأَنْمَاط الِإسْتِهْلَاكِيَّة، الْمَعَايِير الثَّقَافِيَّة الْغَرْبِيَّة، وَهَيّْمَنَة النَّمَاذِجُ الْمَعْرِفِيَّة وَ التَّعْلِيمِيَّة الَّتِي قَدْ تُهَمِش الثَّقَافَات وَالْمَعَارِف الْمَحَلِّيَّة، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى شَكْلٍ مِنَ إسْتِعْمَار الْعُقُول.
يَهْدُفُ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد بِشَكْلٍ أَسَاسِيٍّ إلَى الحِفَّاظُ عَلَى الِإسْتِغْلَالِ الِإقْتِصَادِيّ وَالتَّبَعِيَّة، لَكِنْ بِوَسَائِل أَكْثَرَ دِقَّةً وَأَقَلّ وُضُوحًا، مِمَّا يَجْعَلُهُ تَحَدِّياً أَخْلَاقِيًّا وَقَانُونٍيا فِي الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْمُعَاصِرَة.
مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار: الْإِطَار النَّقْدِيّ لِتَحْلِيل الْإِرْث
بِالْمُقَابِل، فَإِنَّ مَا بَعْدَ الِاسْتِعْمَار (Postcolonialism) هُوَ فِي الْأَسَاسِ مَجَال دِرَاسَات أَكَادِيمِيَة وَنَظَرِيَّة نَقْديَّة. لَا يُشِيرُ إلَى فَتْرَةٍ زَمَنِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ تَنْتَهِي بِالِإسْتِقْلَالِ، بَلْ إلَى:
تَحْلِيلُ الْإِرْث الْمُعَقَّد لِلِإسْتِعْمَار: يُرَكِّز هَذَا الْمَجَالِ عَلَى دِرَاسَة وَتَفْكِيك الْأثَار الْعَمِيقَة وَالمُسْتَمِرَّة لِلِإسْتِعْمَار وَالْإِمْبِرْيَالِيَّة عَلَى الْمُسْتَوَيَات الثَّقَافِيَّة، النَّفْسِيَّة، الِإجْتِمَاعِيَّةِ، السِّيَاسِيَّةِ، وَ الِإقْتِصَادِيَّةِ. إنَّهُ يَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّةِ تَشْكِيل هَذَا التَّارِيخِ لِهَؤُيات الشُّعُوبُ، لُغَاتِهَا، أَدَّبَهَا، أَنْظِمَة حُكْمُهَا، وَحَتَّى تَصَوُّرَاتِهَا عَنْ الْعَالِمِ.
نَقْدٍ الْخَطَّاب الِإسْتِعْمَارِيّ: يَهْدِفُ إِلَى كَشْفِ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات وَ الْمَفَاهِيمِ الَّتِي بَرَّرَتْ الِإسْتِعْمَار مِثْل الْمَرْكَزِيَّة الْأُورُوبِّيَّة، التَّفَوُّقِ العِرْقِيِّ، مُهِمَّة التَّمْدِين وَكَيْفَ إسْتَمَرَّتْ هَذِه الْأَيْدُيُولُوجِيَّاتِ فِي التَّأْثِيرِ عَلَى الْفِكْرِ وَالْمَمَارَسَات بَعْدَ الِإسْتِقْلَال.
إبْرَازُ أَصْوَات المُهَمَشِين: يَسْعَى إلَى إسْتَعَادَة السَّرْدِيُّات، الْمَعَارِفِ، وَالتَّجَارِب لِلشُّعُوب الْمُسْتَعْمِرَة الَّتِي تَمَّ قَمْعُهَا أَوْ تَجَاهَلَهَا خِلَال الْحِقْبَة الِإسْتِعْمَارِيَّة، وَمَنَحَهَا الْمِسَاحَة وَ الِإعْتِرَاف.
الْبَحْثِ عَنْ تَحَرَّر شَامِل: يَتَجَاوَز الْهَدَف مُجَرَّد الِإسْتِقْلَال السِّيَاسِيُّ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أشْكَالٍ مِنْ التَّحَرُّر الذِّهْنِيّ وَالثَّقَافِيّ وَالْوُجُودِيّ مِنْ بَقَايَا الْهَيْمَنَة الِإسْتِعْمَارِيَّة.
بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُنَا الْقَوْلُ أَنَّ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيدِ هُوَ الظَّاهِرَةِ؛ وَ هُوَ يُمَثِّلُ إسْتِمْرَارِيَّة مُمَارَسَات السَّيْطَرَة وَالِإسْتِغْلَالِ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فِي عَصْرِ مَا بَعْدَ الِإسْتِقْلَالِ الرَّسْمِيّ. بَيْنَمَا مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار هُو الْعَدَسَة التَّحْلِيلِيَّة الَّتِي تُسْتَخْدَمُ لِفَهْمِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ، وَلِلْكشف عَنْ جُذُورُهَا التَّارِيخِيَّة، وَإرِثُهَا الْمُعَقَّد، وَ تَأْثِيرِهَا عَلَى حَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الدُّوَلِ وَالشُّعُوب. أَحَدُهُمَا يَصِفُ مَا يَحْدُثُ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد، وَالْآخَر يُحَلِّل كَيْفَ يُؤَثِّرُ الْمَاضِي الِإسْتِعْمَارِيّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار.
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ الْفُرُوقِ، فَإِنْ الْمَفْهُومَيْن مُرْتَبِطَان إرْتِبَاطًا وَثِيقًا. مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار يُوَفِّر الْإِطَار النَّظَرِيّ لِفَهْم الْأَسْبَاب الْعَمِيقَة وَالْأثَار الْمُعَقَّدَة لِظَاهِرَّة الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد. فَهُو يَشْرَحْ كَيْفَ أَنَّ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات الِإسْتِعْمَارِيَّة الْقَدِيمَة مِثْل التَّفَوُّق الْغَرْبِيّ لَا تَزَالُ تَخْدُم وَتَبَرُّر مُمَارَسَات الِإسْتِعْمَارُ الْجَدِيد.
الِإسْتِعْمَارُ الْجَدِيد يُمَثِّل تَجَلِّيًا عَمَلِيًّا وَمُعَاصِرِا لِلْإِرْثِ الَّذِي يَدْرُّسُهُ مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار. يُمْكِنُ إعْتِبَارُ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد أَحَد تَجَلِّيَات التَّبَعِيَّة وَالظُّلْمِ الَّذِي تَعْمَلُ دِرَاسَات مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَارُ عَلَى تَفْكِيكُه. بِإخْتِصَار، مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار هُو الْعَدَسَة الَّتِي نَنْظُر بِهَا وَنَحْلل مِنْ خِلَالِهَا الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد كَشَكْل مُسْتَمِرٌّ مِنْ إشْكَالِ الْهَيْمَنَة.
_ إعَادَةُ إنْتَاج الكُولُونْيَّالِيَّ: الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي ظِلِّ هَيْمَنَة النَّيو-الكُولُونْيَّالِيَّة
فِي ظِلِّ هَيْمَنَة النَّيو-الكُولُونْيَّالِيَّة، لَا تَزَالُ الدِّينَاميكيات الِإسْتِعْمَارِيَّة الْقَدِيمَة تُعَاد إنْتَاجِهَا، لَيْس بِالِإحْتِلَال الْمُبَاشِرُ، بَلْ عَبَّرَ آليَات أَكْثَرَ دِقَّةً وَتَخَفِيّاً. هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْجَوَانِبِ الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَحَسْبُ، بَلْ تَمْتَدّ لِتَشْمَل مَجَالَات جَوْهَرِيَّة مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى تَرْسِيخ أشْكَال جَدِيدَةٍ مِنْ التَّبَعِيَّةِ وَالهَيْمَنَة.
تُعَدُّ هَيْمَنَة النَّيو-الكُولُونْيَّالِيَّة عَلَى الْعِلْمِ بِمَثَابَة إسْتِعْمَار مَعْرِفِيّ (Epistemic Colonialism)، حَيْث تُعَاد إنْتَاج تَفُوق الْمَعْرِفَة الْغَرْبِيَّة وَتَهْميش الْمَعَارِفِ الْأُخْرَى، مَعَ تَدَاعَيَات أَخْلَاقِيَّة خَطِيرَة.
تَتَجَسَّد إعَادَة إنْتَاج الكُولُونْيَّالِيَّة فِي الْأَخْلَاقِ عَبَّر إسْتِمْرَار الْمَعَايِير الْمُزْدَوِجَة وَالنِّفَاق الْأَخْلَاقِيَّ فِي الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ، مِمَّا يُقَوِّضُ أَيْ إدَّعَاءَات بِالْكَوْنِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة.
تَظْهَرُ إعَادَة إنْتَاج الكُولُونْيَّالِيَّة فِي الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي ظِلِّ هَيْمَنَة النَّيو-الكُولُونْيَّالِيَّة. إنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَة وَ القِيِّم لَيْسَتْ مُحَايِّدَة أَبَدًا. إنَّهَا تَكْشِفُ عَنْ نِفَاق أَخْلَاقِيّ عَمِيق يَفْرُغ الْقَيِّم الْكَوْنِيَّةِ مِنْ مُحْتَوَاهَا وَ يُسَّخِرُ الْحَقَائِق و التَّطْبِيقَات الْعِلْمِيَّة لِيَجْعَلَهَا أَدَوَات لِلَّهِيَمْنَة.
لتَّصَدِّي لِهَذِه الظَّاهِرَةَ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هُنَاك إزَالَةُ شَامِلَة لِلِإسْتِعْمَار لَا تَقْتَصِرُ عَلَى السِّيَاسَةِ وَالِإقْتِصَادِ، بَلْ تَمْتَدُّ إلَى الْعِلْمِ، التَّعْلِيم، وَالْفِكْر. كَذَلِك الْمُسَاءَلَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُسْتَمِرَّة لِتَحْدِيد وَكَشَف أشْكَال النِّفَاق وَالْمَعَايِير الْمُزْدَوِجَةِ فِي الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّة. فِي خُطْوَة نَحْو بِنَاء عَالِم مُتَعَدِّد الْأَقْطَاب الْمَعْرِفِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة. حَيْثُ تُقَدِّرُ جَمِيع أشْكَال الْمَعْرِفَة، وَ تُطَبِّق الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ بِشَكْل مُتَسَاوٍ عَلَى الْجَمِيعِ، وَحَيْثُ تُبْنَى الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الدُّوَلِ عَلَى الِإحْتِرَامِ الْمُتَبَادَل وَالْعَدَالَة الْحَقِيقِيَّةِ، لَا الْهَيْمَنَة الْمُقَنَعَة.
إنْ الظَّاهِرَة الِإسْتِعْمَارِيَّة كَانَتْ نَتِيجَةُ أَسْبَاب تَارِيخِيَّة وَ تَرَاكُمِيَّة لَعِبَ مِنْ خِلَالِهَا التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ و تَقَنَّي دَوْرًا تمفصَلَّيَا حَاسِمًا فِي تَحْقِيقِ الْهَيْمَنَة الشَّامِلَة عَلَى الشُّعُوبِ المَقْهُورَةِ
تُعَدُّ الظَّاهِرَة الِإسْتِعْمَارِيَّة، بِكُلّ أبْعَادِهَا التَّارِيخِيَّة وَالتُّرَاكُمِيَّة، تَجْسِيدًا لِلْعَلَاقَة الْمُعَقَّدَة بَيْنَ الْقُوَّةِ، التَّطَوُّر، وَالهَيْمَنَة. لَمْ تَكُنْ مُجَرَّد سِلْسِلَةً مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ، بَلْ هِيَ نِتَاجُ تَفَاعُل طَوِيل الْأَمَد بَيَّنَ أَسْبَابَ مُتَعَدِّدَة، لَعِب فِيهَا التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَ التِّقْنِيّ دُورًا تمفصَلَّيَا وَحَاسما فِي تَحْقِيقِ الْهَيْمَنَة الشَّامِلَة عَلَى الشُّعُوبِ المَقْهُورَةِ.
بَيْنَمَا كَانَتْ الدَّوَافِع الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةُ هِيَ الْمُحَرِّكُ الْأَسَاسِيُّ وَرَاء الظَّاهِرَة الِإسْتِعْمَارِيَّة، فَإِنَّ التَّطَوُّرَ الْعِلْمِيِّ وَالتِّقْنِيِّ هُوَ الَّذِي وَفَرّ الْأَدَوَات وَالْقُدُرَات غَيْر الْمَسْبُوقَة الَّتِي مَكَّنَتْ القِوَّى الْأُورُوبِّيَّةُ مِنْ تَحْوِيلِ هَذِهِ الدَّوَافِعِ إلَى وَاقِعٍ عَلَى نِطَاقٍ عَالِمِي. هَذَا التَّطَوُّرُ لَمْ يَمْنَحُهُمْ فَقَطْ التَّفَوُّق الْعَسْكَرِي، بَلْ أَيْضًا الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِدَارَةِ الفِعَالَة لِإِمْبْرَاطُورِيَّات شَاسِعَة، وَتَبْرِير هَيْمَنَتِهِمْ مِنْ خِلَالِ خِطَاب عِلْمِي مُزْعَوم. لَقَدْ كَانَ الْعِلْمُ وَالتِّقْنِيَة، فِي هَذَا السِّيَاقِ، العَمُود الفِقْرِيّ لِلَّهِيَمْنَة الشَّامِلَةِ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى الشُّعُوبِ المَقْهُورَةِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ دَائِمًا مَحَايِّداً بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَدَّاة قَوِيَّةٌ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَة وَمَصَالِحِهَا.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟