حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 16:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ تَأْثِيرِ التَّصَوُّرَات الْأَخْلَاقِيَّة الكُولُونْيَّالِيَّة عَلَى الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْمُعَاصِرَة
لَا تَزَالُ التَّصَوُّرَات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ الْعَصْرِ الْكُولُونْيَّالي تُؤَثِّرُ بِشَكْل عَمِيق عَلَى الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْمُعَاصِرَة. هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ بَقَايَا تَارِيخِيَّة، بَلْ تَتَجَلَّى فِي خِطَابَاتِ وَسِيَاسَات مُعَيَّنَة، خَاصَّة الْغَرْبِيَّةِ، الَّتِي تَبَرُّر أَحْيَانًا التَّدَخُّلِ فِي شُؤُونِ الدُّوَل غَيْر الْغَرْبِيَّة تَحْت مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ. هَذَا النِّفَاقُ الْأَخْلَاقِيّ لَيْس دَقِيقًا وَلَا صَرِيحًا كَمَا كَانَ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي أشْكَالِ أَكْثَرَ دِقَّةً وَتَعْقِيدٌا.
1. كَيْفَ تُؤَثِّرُ التَّصَوُّرَات الْأَخْلَاقِيَّة الْكُولُونْيَّاليَّة عَلَى الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْمُعَاصِرَة ؟
تَتَجَلَّى أثَار التَّصَوُّرَات الْأَخْلَاقِيَّة الْكُولُونْيَّاليَّة فِي عِدَّةِ جَوَانِبَ مِنْ الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْيَوْم:
. الْمَرْكَزِيَّة الْغَرْبِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ الْكَوْنِيّ: لَا يَزَالُ هُنَاكَ مَيْلٌ لِتَعْرِيف الْقَيِّم الْكَوْنِيَّة كَالْدِّيمُقْرَاطِيَّة، حُقُوقُ الْإِنْسَانِ، الْحُكْم الرَّشِيدِ مِنْ مَنْظُورٍ غَرْبِيٍّ بَحْت. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ النَّمَاذِج الْغَرْبِيَّة تُقَدَّمُ كَمَعْيار عَالِمِي يَجِبُ عَلَى الدُّوَلِ الْأُخْرَى أَنَّ تَحْذُو حَذْوَه، مَع تَهْمِيش أَوْ حَتَّى شَيْطَنَة النَّمَاذِجُ وَالْأَنْظِمَة غَيْر الْغَرْبِيَّة.
مِثَالٌ: التَّرْكِيزِ عَلَى نَمُوذَج الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ اللِّيبْرَالِيَّةِ الْغَرْبِيَّة كَالمِعْيَّار الْوَحِيدِ لِلدِّيمُقْرَاطِيَّة، وَتَجَاهُل أَوْ التَّقْلِيلِ مِنْ شَأْنِ الْأشْكَال الْأُخْرَى مِنْ الْحُكْمِ أَوْ إتِّخَاذِ الْقَرَار الَّتِي قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مُلَاءَمَة لِلسِّيَاقِات الثَّقَافِيَّة الْمَحَلِّيَّة.
. تَصْنِيفُ الدُّوَلِ إلَى مُتَقَدِّمَة و مُتَخَلِّفَة: تَسْتَمِرّ بَعْضِ الْخِطَابَاتِ فِي تَصْنِيفٍ الدُّوَلِ إلَى مُتَقَدِّمَة غَالِبًا غَرْبِيَّة و نَامِيَة أَوْ مُتَخَلِّفَةٌ غَالِبًا غَيْرُ غَرْبِيَّة. هَذَا التَّصْنِيفِ يُعِيد إنْتَاج التَّسَلْسُل الْهَرَمِيّ الكُولُونْيَّالِي، وَيُبَرِّر التَّدَخُّل بِحُجَّة الْمُسَاعَدَةِ عَلَى التَّنْمِيَةِ أَوْ جَلْبِ الْحَضَارَة.
. الْآخَرُ كَضَحِيَّة أَوْ تَهْدِيدٍ: غَالِبًا مَا تُصَوِّرَ الدُّوَل غَيْر الْغَرْبِيَّة، خَاصَّةً فِي الْجَنُوبِ الْعَالَمِيّ، إمَّا كَـضَحَايَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْإِنْقَاذِ/الْمُسَاعَدَة أَوْ كَـتَهْدِيدَات مِثْل الْإِرْهَاب، الهِجْرَةُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ، عَدَمِ الِإسْتِقْرَارِ. كِلاَّ التَّصَوُّرَيْن يُزِيل عَنْهَا الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقِلّ وَيُبَرِّر التَّدَخُّل الْخَارِجِيّ.
. هَيْمَنَة الأَطْر الْمَعْرِفِيَّة الْغَرْبِيَّةِ: لَا تَزَالُ النَّظَرِيَّات وَالْمَنَاهِج الْغَرْبِيَّةِ تُهَيْمِنُ عَلَى دِرَاسَة الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى تَحْلِيلٍ الْقَضَايَا الْعَالَمِيَّةِ مِنْ مَنْظُورٍ غَرْبِيٍّ وَيُقَلِّلَ مِنْ شَأْنِ الْمَنْظُورات وَ الْخَبَرُات غَيْرَ الْغَرْبِيَّة. وَهَذَا يُسَاهِمُ فِي إدَامَةِ أَنْمَاط التَّفْكِير الكُولُونْيَّالِيَّة.
. إزْدِوَاجُيَة الْمَعَايِير فِي تَطْبِيقِ الْقَانُون الدَّوْلِيّ: لَا تَزَالُ الْقَوِيّ الْكُبْرَى تُمَارِسْ إزْدِوَاجُيَة فِي تَطْبِيقِ الْقَانُون الدَّوْلِيّ وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة. فَمَا يُعْتَبَرُ إنْتِهَاكًا صَارِخًا لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ فِي سِيَاقِ قَدْ يُبَرِّر أَوْ يُتَّجَاهل فِي سِيَاقِ آخَرَ يَخْدُمُ الْمَصَالِح الِإسْتِرَاتِيجِيَّة.
2 . هَلْ لَا تَزَالُ بَعْضِ الْخِطَابَاتِ أَوْ السِّيَاسَات الْغَرْبِيَّة تَعْكِس تَحِيزات أَخْلَاقِيَّة تَبَرُّر التَّدَخُّلِ فِي شُؤُونِ الدُّوَل غَيْر الْغَرْبِيَّة؟
نَعَمْ، بِشَكْلِ وَاضِح وَمُتَزَايِد. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ التَّطَوُّرَات فِي الْقَانُونِ الدَّوْلِيّ وَمَبَادِئ السِّيَادَة، لَا تَزَالُ بَعْضِ الْخِطَابَاتِ وَ السِّيَاسَات الْغَرْبِيَّة تَعْكِس تَحَيُّزَات أَخْلَاقِيَّة مُسْتَمَدَّةً مِنْ الْعَصْرِ الكُولُونْيَّالِي وَتُسْتَخْدَم لِتَبْرِير التَّدَخُّل.
التَّدَخُّل الْإِنْسَانِيّ (Humanitarian Intervention) وَ مَسْؤُولِيَّة الْحِمَايَة (R2P):
. الْأَصْل الْأَخْلَاقِيّ: نَشَأَتْ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ بِهَدَف نَبِيل: حِمَايَة السُّكَّانِ مِنْ الْفَظَائِع الْجَمَاعِيَّة كَالْإِبَادَة الْجَمَاعِيَّة، جَرَائِم الْحَرْب، التَّطْهِير الْعِرْقِيّ، الْجَرَائِم ضِدَّ الْإِنْسَانِيَّة عِنْدَمَا تَفْشَل الدَّوْلَةِ فِي حِمَايَتُهُمْ أَوْ تَكُونُ هِيَ نَفْسُهَا الْجَانِي.
. التَّحَيُّزُ الْكُولُونْيَّالِي: يَرَى الْعَدِيدِ مِنَ النُّقَّادِ مِنْ مَنْظُورٍ مَا بَعْدَالْكُولُونْيَّالِيَّة أنْ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ، رَغْم أَهَمِّيَّتِهَا، تُطَبَّق بِشَكْل إنْتِقَائِي وَمُتَحَيِّزٌ. غَالِبًا مَا يَتِمُّ التَّدَخُّلِ فِي الدُّوَلِ غَيْر الْغَرْبِيَّة خَاصَّةً فِي إِفْرِيقِيَا وَالشَّرْقِ الأَوْسَطِ حَيْث تُوجَدْ مَصَالِح إسْتِرَاتِيجِيَّة أَوْ مَوَارِدِ طَبِيعِيَّة، بَيْنَمَا يَتِمّ تَجَاهَل فَظَائِع مُمَاثِلَةٍ فِي مَنَاطِقَ أُخْرَى أَوْ عِنْدَمَا تَكُونُ الدُّوَلُ الْمُتَدَخِّلَة نَفْسَهَا حُلَفَاء لِأَنْظِمَة قَمْعِيَّة.
. التَّبْرِير: تُبَرَّرُ هَذِه التَّدَخُّلِات أَخْلَاقِيًّا عَلَى أَنَّهَا إنْقَاذ لِلشُّعُوب غَيْر الْقَادِرَةَ عَلَى حِمَايَةِ نَفْسِهَا أَوْ غَيْرَ الْمُتَحَضِّرَة بِمَا يَكْفِي لِمَنْع الْفَظَائِع. هَذَا يُعِيدُ إنْتَاج دَيْنَامِيكِيَّة الْكُولُونْيَّالِيَّة الْمُتَجَلِّيَة فِي الْمُخَلَّصِ الْأَبْيَض.
. الْأثَار: غَالِبًا مَا تُؤَدَّي التَّدَخُّلِات إلَى زَعْزَعَة إسْتِقْرَار الدُّوَلِ، أَوِ تَغْيِير أَنْظِمَة الْحُكْم بِالْقُوَّةِ، أَوْ تَرْكَهَا فِي حَالَةِ مَنْ الفَوْضَى، مِمَّا يُثِيرُ تَسَاؤُلَاتٍ جِدِّيَة حَوْل النَّوَايَا الْحَقِيقِيَّة وَالنَّتَائِج الْأَخْلَاقِيَّة.
دَعِّمْ الدِّيمُقْرَاطِيَّة وَحُقُوق الْإِنْسَان:
. التَّحَيُّز: يَتِمّ دَعْم الدِّيمُقْرَاطِيَّة وَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ غَيْر الْغَرْبِيَّة، بَيْنَمَا تُدَعِّم أَنْظِمَة إِسْتِبْدَادِيَّة فِي دُوَلِ أُخْرَى إذَا كَانَتْ تَخْدُمُ الْمَصَالِح الجُيُّوسِيَاسِيَّة أَوْ الِإقْتِصَادِيَّة الْغَرْبِيَّة.
. التَّبْرِير: يُقَدَّم دَعْم الدِّيمُقْرَاطِيَّة وَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ كَوَاجِب أَخْلَاقِيّ، لَكِنْ التَّطْبِيق الإِنْتِقَائِي يَكْشِفُ عَنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَدَّاة لِلتِّدخل السِّيَاسِيِّ لِتَرْسِيخ نُفُوذ أَوْ تَقْوِيض خُصُوم.
. مِثَالٌ: تَارِيخ دَعْم أَنْظِمَة دِيكًتَاتُورِيَّة فِي أَمْرِيكَا اللَّاتِينِيَّة أَوْ الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ خِلَال الْحَرْب الْبَارِدَة، بَيْنَمَا يُسَلِّطُ الضَّوءَ عَلَى إنْتِهَاكِات حُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي دُوَلِ مُعَادِيَة.
الْمُسَاعَدَات التَّنْمَوِيَّة:
. التَّحَيُّز: تَقَدَّم الْمُسَاعَدَات التَّنْمَوِيَّة أَحْيَانًا بِشُرُوط تَرْبِطُهَا بِسِيَاسَات إقْتِصَادِيَّة أَوْ سِيَاسِيَّة مُعَيَّنَة تَخْدُم مَصَالِح الدُّوَل المَانِحَة، أَوْ تَفْتَحُ أَسْوَاق الدُّوَل الْمُتَلَقِّيَة لِمَنْتَجَاتِهَا وَشَرِكَاتٌهَا.
. التَّبْرِير: تُقَدَّم الْمُسَاعَدَات كَفِعْل خَيْرَيْ لـِمُسَاعَدَةِ الفُقَرَاءِ، لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَدَاةَ لِإِدَامَة التَّبَعِيَّة الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ النَّيو-الْكُولُونْيَّالِيَّةِ.
التَّعَامُلُ مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْحُدُود:
. التَّحَيُّز: تُعَامَلُ الْهِجْرَةِ مِنْ الْجَنُوبِ الْعَالَمِيّ كَتَهْدِيد أَمْنِّي أَوْ عِبّْىء إقْتِصَادِيّ، مَع تَجَاهَل الْمَسْؤُولِيَّة التَّارِيخِيَّة عَنْ الْأَسْبَابِ الجِذْرِيَّة لِلْهِجْرَة الَّتِي غَالِبًا مَا تَكُونُ مُرْتَبِطَة بِالِإسْتِعْمَار وَالِإسْتِغْلَالُ.
. التَّبْرِير: تُبَرَّرُ السِّيَاسَات الحُدُودِيَّة الصَّارِمَة وَالتَّعَامُلًات غَيْرَ الْإِنْسَانِيَّة بـِحِمَايَة الْأَمْن الْقَوْمِيّ أَوْ الرَّفَاه الِإقْتِصَادِيِّ، بَيْنَمَا تَتَجَاهل الْوَاجِبَاتِ الْأَخْلَاقِيَّة تُجَاه الْفَارِّينَ مِنْ الصِّرَاعَات وَ الْفَقْر.
. تُظْهِرُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْأَخْلَاقِيَّة الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ الْعَصْرِ الْكُولُونْيَّالِي لَمْ تَخْتَفِ، بَلْ تَطَوَّرَتْ وَتَكَيَّفَتْ مَعَ السِّيَاقِ الْعَالَمِيّ الْمُعَاصِر. إِنَّهَا تَعْمَلُ غَالِبًا كَـتَحَيُّزَاتٍ مَعْرِفِيَّةٍ وَأَخْلَاقِيَّة ضِمْنِيَّة تَسَمُّح بِتَبَرير أشْكَالٌ جَدِيدَةٍ مِنْ التَّدَخُّل وَ الهَيْمَنَة. إنَّ مُعَالَجَةَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ تَتَطَلَّب:
. نَقْد ذَاتِيّ مُسْتَمِرّ لِلْخِطَابِات وَالسِّيَاسَاتُ، خَاصَّةً فِي الْغَرْب.
. تَعْزِيز أَصْوَات الْجَنُوب الْعَالَمِيِّ فِي النَّقَّاشُات الدَّوْلِيَّة وَفِي صِيَاغَة الْقَوَاعِد وَالْمَعَايِير.
. التَّحَوُّلُ نَحْو عَلَاقَات دَوْلِيَّة قَائِمَةً عَلَى الِإعْتِرَافِ الْمُتَبَادَل، السِّيَادَة الْحَقِيقِيَّة، وَالْعَدَالَة التَّوْزِيعِيَّة بَدَلًا مِنْ الْهَيْمَنَة الْمِقْنَعَة.
. الِإلْتِزَام بِمَفْهُوم كَوْنِيَّة حَقِيقِيَّة لِلْقَيِّم تُطَبَّق دُونَ تَمْيِيزٍ أَوْ تَحَيُّزٍ، وَتَعْتَرِف بِالتَّنَوُّع الثَّقَافِيّ وَالْمَعْرُفِيّ لِلْبَشَرِيَّة.
. هَذَا الْجَهْدُ لَيْسَ سَهْلًا، لَكِنَّهُ ضَرُورِيٌّ لِبِنَاء نِظَام عَالِمِي أَكْثَر عَدْلًا وَإِنْصَافًا.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟