أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - نَقْد الكُولُونْيَّالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّانِي-















المزيد.....



نَقْد الكُولُونْيَّالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّانِي-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 10:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الكُولُونْيَّالِيَّة وَالْأَخْلَاق

الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الكُولُونْيَّالِيَّة وَالْأَخْلَاقِ هِيَ عَلَاقَةٌ مِحْوَرِيَّة، تُظْهِرُ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْقُوَّة أَنْ تُشْوِه الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَتَبَرُّر الظُّلْم، وَ كَيْفَ إنْ الْأَخْلَاق هِيَ فِي صَمِيمِ النَّقْد الْمُوَجِّه لِلْمَشْرُوع الِإسْتِعْمَارِيّ. هَذِهِ الْعَلَاقَةِ تُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلَى مَفَاهِيمِ الْعَدَالَة، الْإِنْسَانِيَّة، وَالْمَسْؤُولِيَّة.
1. التَّبْرِيرَات الْأَخْلَاقِيَّة الْكَاذِبَة لِلْكُولُونْيَّالِيَّة
لِتَبْرِير أَعْمَالِهَا، إبْتَكَرْت القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات الَّتِي حَاوَلَتِ إِضْفَاء شَرْعِيَّة أَخْلَاقِيَّة عَلَى مُمَارَسَاتِهَا غَيْر الْأَخْلَاقِيَّة. هَذِه التَّبْرِيرَات غَالِبًا مَا إعْتَمَدَتْ عَلَى:
الْمُهِمَّةُ الْحَضَارِيَّة أَوْ عِبْىءْ الرَّجُلُ الأَبْيَضُ: زَعَمَتْ القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة أَنَّهَا تَحْمِلُ مُهِمَّة مُقَدَّسَة لِتَمَدين الشُّعُوبُ الْمُتَخَلِّفَة أَوْ الْبَرْبَرِيَّة وَجَلْب التَّقَدُّم وَالتَّنْوِير إلَيْهَا. هَذَا التَّصَوُّرِ تَجَاهَل الْحَضَارَات الْقَائِمَة بِالْفِعْل وَقَدَّم الِإسْتِعْمَار كَفِعْل إحْسَانِي أَوْ نَبِيل، بَيْنَمَا كَانَ فِي جَوْهَرِهِ إسْتِغْلَالًا وَقَمْعًا.
التَّفَوُّقِ العِرْقِيِّ وَالدِّينِيّ: تَمّ تَبْرِير الِإسْتِعْمَار بِنَاءً عَلَى إعْتِقَادَات زَائِفَة بِالتَّفَوُّق الْعِرْقِيّ (خَاصَّة تَفُوق الْعِرْقُ الْأَبْيَضُ وَالدِّينِيّ (نَشْر الْمَسِيحِيَّة كَدِين "أسْمَّى"). هَذِه الْمُعْتَقَدَات سَمَحَتْ بِتَجْرِيد الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة مِنْ إِنْسَانِيٍّتِهَا وَتَبْرِيرِ إسْتِعْبَادِهِمْ أَوْ إبَادَتُهُمْ.
الْأَرْضِ الْخَالِيَةِ أَوْ الْفَرَاغَ السُّكَّانِيّ: فِي حَالَاتِ الِإسْتِيطَان، إدَّعَتْ القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة أَنَّ الْأَرَاضِيَ الْمُسْتَهْدَفَة كَانَتْ خَالِيَةً أَوْ غَيْرَ مُسْتَغَلَّة بِشَكْل فَعَّال، مِمَّا بَرَّر الِإسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي مَأْهُولَة بِالسُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ الَّذِينَ تَعَرَّضُوا لِلطَّرْد أَوْ الْإِبَادَة.
جَلْب النِّظَام وَالْقَانُون : قَدِّمَتْ بَعْض القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة نَفْسَهَا عَلَى أَنَّهَا تَجْلِب النِّظَام وَالْقَانُون إِلَى مُجْتَمَعَاتٍ تَرَى أَنَّهَا فَوْضَوِيَّة أَوْ غَيْرَ مُنَظَّمَة، مُتَجَاهِلَةً الأَنظِمةُ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ الْقَائِمَةِ فِي تِلْكَ الْمُجْتَمَعَاتِ.

2. الإنْتِهَاكَات الْأَخْلَاقِيَّة الْجَوْهَرِيَّة لِلْكُولُونْيَّالِيَّة

بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ التَّبْرِيرَات، فَإِنْ الْمُمَارَسَات الكُولُونْيَّالِيَّة كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَى إنْتِهَاكِات أَخْلَاقِيَّة صَارِخَة:
إنْكَارُ الْحَقِّ فِي تَقْرِيرِ الْمَصِيرِ: سَلَب الْمُسْتَعِمُرُون الشُّعُوبُ الْمُسْتَعْمَرَة حَقِّهَا الْأَسَاسِيُّ فِي حُكْمِ نَفْسِهَا وَإخْتِيَار مَصِيرُهَا، وَهُوَ مَا يُعَدُّ إنْتِهَاكًا جَوْهَرِيًّا لِلْحُرِّيَّة وَالسِّيَادَة.
الِإسْتِغْلَال الِإقْتِصَادِيّ: أَدَّى الِإسْتِغْلَال الْمَنْهَجِيّ لِلْمَوَارِد الطَّبِيعِيَّة وَالعَمَالَة الْبَشَرِيَّةِ فِي الْمُسْتَعْمَرَات إلَى فَقْرٍ مُدْقِعٍ وَ مَجْاعَات، بَيْنَمَا كَانَتْ الثَّرَوَات تَتَدَفَّق إِلَى الدُّوَلِ الْمُسْتَعْمِرَة. هَذَا يَنْتَهِكُ مَبَادِئ الْعَدَالَة الِإقْتِصَادِيَّة وَحَقّ الشُّعُوب فِي الِإسْتِفَادَةِ مِنَ مَوَارِدِهَا.
العُنْفِ وَالْقَمْع الْوَحْشِيّ: رَافَقْت الكُولُونْيَّالِيَّة غَالِبًا مُمَارَسَات وَحْشِيَّةٍ مِنْ الْقَمَعِ، التَّعْذِيب، الْمَذَابِح، وَالْحُرُوب الَّتِي أَسْفَرَتْ عَنْ مَلَايِين الضَّحَايَا، وَهُوَ مَا يَتَعَارَضُ مَعَ أَبْسَطِ مَبَادِئ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَتِهِ.
التَّمْيِيزُ الْعُنْصُرِيّ: قَامَتْ الأَنْظِمَة الكُولُونْيَّالِيَّة عَلَى التَّمْيِيزِ الْعُنْصُرِيِّ الصَّرِيحَ، حَيْثُ تَمَّ تَصْنِيف السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ عَلَى أَنَّهُمْ مُوَاطِنُون مِنْ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ أَدْنَى، وَحُرِّمُوا مِنْ الْحُقُوقِ الْأَسَاسِيَّة، وَهُو إنْتِهَاك صَارِخ لِمَبْدَأ الْمُسَاوَاة.
تَدْمِير الثَّقَافَات وَالهُوِيَّات: عَمِلَتْ القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة عَلَى قَمْع اللُّغَات، الْأَدْيَان، الْعَادَات، وَالْمَعَارِف الْمَحَلِّيَّة، وَفَرْض ثَقَافَتِهَا وَ هَوِيَّتِهَا الْخَاصَّةِ، مِمَّا أَدَّى إلَى أَزَمَات هَوِيِّة عَمِيقَة لَدَى الشُّعُوب الْمُسْتَعْمِرَة. هَذَا يُعْتَبَرُ إعْتِدَاءٌ عَلَى التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ وَ التَّعْبِير الذَّاتِيّ.
إزْدِوَاجُيَة الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة: تَمّ تَطْبِيق مَبَادِئ مِثْل الْحُرِّيَّةِ وَ الْعَدَالَةِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّة دَاخِل الدُّوَلِ الِإسْتِعْمَارِيَّةِ، بَيْنَمَا تَمّ تَجَاهَلَهَا تَمَامًا أَوْ نَقَضَهَا فِي الْمُسْتَعْمَرَات. هَذَا يَكْشِفُ عَنْ نِفَاق أَخْلَاقِيّ عَمِيق.
3. أَخْلَاقِيَّات مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار (Postcolonial Ethics)
بَعْدَ إنْتِهَاءِ الِإسْتِعْمَار الرَّسْمِيّ، بَرَز مَجَال أَخْلَاقِيَّات مَا بَعْدَ الِإسْتِعْمَار الَّذِي يَسْعَى إلَى:
تَفْكِيك الْإِرْث الْأَخْلَاقِيّ لِلِإسْتِعْمَار: تَحْلِيل كَيْفَ لَا تَزَالُ الْإيْدُيُولُوجِيَّات وَالْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي نَشَأَتْ خِلَال الْحِقْبَة الكُولُونْيَّالِيَّة تُؤَثِّرُ عَلَى الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ، الْعَدَالَة الْعَالَمِيَّة، وَتَصَوُّرَاتنا عَنْ الْخَيْرِ وَ الشَّرّ.
إعَادَة تَقْيِيم الْقَيِّم الْعَالَمِيَّة: التَّشْكِيكِ فِي الْقِيَمِ الَّتِي قُدِّمَتْ كَـعَالَمِيَّة مِنْ مَنْظُورٍ غَرْبِيٍّ، وَالسَّعْيِ نَحْوَ صِيَاغَة أَخْلَاقِيَّات عَالَمِيَّةُ أَكْثَر شُمُولِيَّة وَتُرَاعِي التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ وَالْخَبَرُات التَّارِيخِيَّة لِلشُّعُوب غَيْر الْغَرْبِيَّة.
الْعَدَالَة التَّعْوِيضِيَّة وَالْمُصَالَحَةُ: مُنَاقَشَة قَضَايَا التَّعْوِيضُ عَنْ الْمَظَالِمِ التَّارِيخِيَّة، وَإعَادَة الْأُصُول الثَّقَافِيَّة، وَكَيْفَ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْمُصَالَحَةُ بَيْنَ الْمُسْتَعْمِر وَالْمُسْتَعْمَر السَّابِقَيْن.
مَسْؤُولِيَّة الْحَاضِر: فَهُمْ كَيْفَ أَنَّ إشْكَالَ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد (النّيو-الكُولُونْيَّالِيَّة) تَسْتَمِرُّ فِي إحْدَاثِ إنْتِهَاكِات أَخْلَاقِيَّة مِنْ خِلَالِ الْهَيْمَنَة الِإقْتِصَادِيَّة أَوِ السِّيَاسِيَّةِ أَوْ الثَّقَافِيَّة غَيْرُ الْمُبَاشَرَةِ، وَتَطْوِير أُطُر أَخْلَاقِيَّة لِمُوَاجَهَتها.
تَأْكِيد الْكَرَامَة وَالذَّات: الْهَدَف الأَسَاسِيّ هُوَ إعَادَةٌ تَأْكِيد كَرَامَة الشُّعُوبِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لِلظُّلْم الِإسْتِعْمَارِيّ، وَتَمْكِينِهَا مِنْ صِيَاغَة قِيَمِهَا وَأَخْلَاقِيَّاتٍهَا وَمَسَارَاتِهَا الْخَاصَّةِ بَعِيدًا عَنْ أَيِّ شَكْلٍ مِنَ أشْكَال الْهَيْمَنَة.
بِإخْتِصَار، الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الكُولُونْيَّالِيَّة وَالْأَخْلَاقِ هِيَ قِصَّةٌ عَنْ السُّلْطَةِ الَّتِي تُشْوِه الْأَخْلَاق لِخِدْمَة مَصَالِحِهَا، وَعَنْ النِّضَال الْأَخْلَاقِيّ الْمُسْتَمِرّ لِلشُّعُوب الَّتِي تَعَرَّضَتْ لِلظُّلْم مِنْ أَجْلِ إِسْتِعَادَة حُقُوقِهَا، كَرَامَتَهَا، وَهَوِيَّتِهَا. إنَّهَا تُبْرِزُ الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إِلَى إِعَادَةِ تَقْيِيم عَمِيقَة لِلْقَيِّم وَتَطْبِيقِهَا الْعَادِلِ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ وَالمُجْتَمَعَات.

_ تَبْرِير الظُّلْم بِإسْم الْحَضَارَة والتَّقَدُّمِ فِي سِيَاقِ الكُولُونْيَّالِيَّة

إنْ السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَحْوِيلِ قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مُفْتَرَضَة مِثْل الْحَضَارَة وَالتَّقَدُّمُ إِلَى ذَرَائِع لِأَعْمَال وَحْشِيَّة كَالِإسْتِغْلَال وَ الْقَمْع وَالْعُنْف فِي الكُولُونْيَّالِيَّة، يُمَثِّلُ إشْكَالِيَّة فَلْسَفِيَّة وَ أَخْلَاقِيَّة عَمِيقَة. الْأَمْرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ نِفَاق بَسِيط، بَلْ بِعَمَلِيَّة مُعَقَّدَة مِنْ التَّبْرِير الْأَيْدُيُولُوجِيّ، حَيْثُ يَتِمُّ إعَادَة تَعْرِيف الْأَخْلَاق نَفْسَهَا لِخِدْمَةِ مَصَالِح الْقُوَّة الِإسْتِعْمَارِيَّة.
1.بِنَاءِ الْآخَرِ الْمُتَدَنِّي لِتَعْزِيزِ الذَّات الْمُتَفَوِّقَة
يَكْمُن جَوْهَر هَذَا التَّبْرِيرَ فِي عَمَلِيَّةِ نَزَع الْإِنْسَانِيَّة (Dehumanization) والِإسْتِشْرَاق (Orientalism). لِكَيْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَعْمِر مِنْ إسْتِغْلَالِ شَعْبٍ آخَرَ دُونَ الشُّعُور بِالذَّنْب الْأَخْلَاقِيّ، يَجِبُ أَنْ يُتِمَّ تَصْوِيرُ هَذَا الشِّعْبِ عَلَى أَنَّهُ أَقَلُّ إِنْسَانِيَّة، أَوْ أَقَلَّ تَطَوُّرًا، أَوْ أَقَلَّ عَقْلَانِيَّة. هَذَا التَّصْوِيرِ لَا يَعْكِسُ الْوَاقِعِ، بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ أإيْدُيُولُوجِيّ يَخْدُمُ مَصَالِح الْقُوَّة.
الشُّعُوبُ الْمُسْتَعْمَرَة: غَالِبًا مَا كَانَتْ الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة تُصَوَّر عَلَى أَنَّهَا هَمَجِيَّة، بِدَائِيَّة، كُسُولَة، غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى حُكْمِ نَفْسِهَا، أَوْ حَتَّى طُفُولِيَّة. هَذَا التَّصْنِيفِ أَزَالَ عَنْهَا صِفَةٌ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الَّذِي يَمْتَلِكُ حُقُوقًا مُتَأَصِّلَة، مِمَّا سَهْل تَبْرِير إسْتِغْلَالَهُمْ وَقَمْعِهِم
بِنَاءً الذَّات الْمُتَفَوِّقَة: فِي الْمُقَابِلِ، تُعَزُّز الْقُوَّة الِإسْتِعْمَارِيَّة صُورَتُهَا الذَّاتِيَّة كـمُتَّفَوقة، مُتَحَضِرَّة، عَقْلَانِيَّة، وَحَامِلَة لِلْمِشْعَل. هَذَا التَّصْوِيرِ يَضَع الْغَرْبُ فِي مَرْكَزِ الْحَضَارَة الْوَحِيدَة، مِمَّا يُبَرِّر تَدْخُلُهُمْ وَمَهْمُتَّهَم لِتَعْلِيمِ وَتَوْجِيه الْآخَرِين.
2. مَفْهُوم الْحَضَارَة وَالتَّقَدُّم كَأَدَوَات لِلْهَيّْمَنَة
لَمْ تَكُنْ الْحَضَارَة وَالتَّقَدُّم مَفَاهِيم بَرِيئَة تُشِير بِبَسَاطَة إلَى التَّطَوُّرُ البَشَرِيُّ، بَلْ أَصْبَحَتْ أَدَوَات أَيْدُيُولُوجِيَّة قَوِيَّةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَعْمِر:
الْحَضَارَة كَمِعْيَّار غَرْبِيِّ: تَمّ تَعْرِيف الْحَضَارَة بِشَكْل حَصْرِي وِفْقاً لِلنَّمُوذَج الْأُورُوبِّيُّ. أَيِّ مُجْتَمَعٍ لَا يَتْبَعُ نَفْس الْمَسَار التَّنْمَوِي، أَوْ لَا يَمْتَلِكُ نَفْس الْقَيِّمُ، أَوْ نَفْسٍ التِّكْنُولُوجْيَا، أَوْ نَفْسٍ الْأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ، يُصَنَّفْ تِلْقَائِيًّا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَضر. هَذَا التَّحْدِيدُ الضِّيق لِلْحَضَارَة أَتَاح لِلْمُسْتَعْمِر أَنْ يَنْظُرَ إلَى الثَّقَافَات الْغَنِيَّة وَالمُتَنَوِّعَة فِي الْعَالَمِ كـمُتَخَلِّفَة تَحْتَاجُ إلَى التَّصْحِيحِ.
التَّقَدُّمُ كَخَطِيَّة إجْبِارِيَة: فُرِضَ مَفْهُوم التَّقَدُّم كَمَسْار خَطِي وَاحِد يَنْتَهِي بِالنَّمُوذَج الْغَرْبِيّ. وَبِمَا أَنَّ الشُّعُوبَ الْمُسْتَعْمَرَة لَمْ تَصِلْ إلَى هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْمَزْعُومَة مِنْ التَّقَدُّمِ، فَقَدْ إعْتَبَرَ الْمُسْتَعْمِر نَفْسِه مُبَرِّرًا لِأَخْذِهِمْ إلَى هُنَاكَ بِالْقُوَّةِ، حَتَّى لَوْ عَنَى ذَلِكَ تَدْمِيرٌ اُنْظُمُتَّهَم الِإجْتِمَاعِيَّةِ، الِإقْتِصَادِيَّة، وَالثَّقَافِيَّة.
رِسَالَةُ التَّمْدِين: هَذِهِ الرِّسَالَةِ كَانَتْ تَبْرِيرًا أَخْلَاقِيًّا أَسَاسِيًّا. فَقَدْ إدَّعَى الْمُسْتَعْمِر أَنَّهُ يُحْمَلُ رِسَالَة نَبِيلَة لِجَلْب الْمَدَنِيَّة إلَى الشُّعُوبِ الَّتِي تَعِيشُ فِي الظَّلَامِ. هَذَا يَعْنِي أَنَّ الِإسْتِغْلَالَ كَانَ يُنْظُرُ إلَيْهِ لَيْسَ كَظُلْم، بَلْ كـضَرِيبَةً عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّنْوِير الَّذِي يَجْلِبُهُ الْمُسْتَعْمِر. وَهَكَذَا، تَحَوَّل الِإسْتِغْلَال الِإقْتِصَادِيّ إلَى جُزْءٍ مِنْ مَشْرُوعٍ تَنْمَوِيّ مُزْعَوم.
3 . فَصْل الْأَخْلَاقِ عَنْ الْآخَرِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى الذَّاتِ فَقَطْ
إنْ النُّقْطَة الْأَكْثَر دِقِّة فِي هَذَا التَّبْرِيرَ هِي تَطْبِيق الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة بِمَعْايِير مُزْدَوِجَة:
الْأَخْلَاق لِلذَّاتِ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ: الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ مِثْلُ عَدَمِ الْقَتْلِ، عَدَمَ السَّرِقَةِ، إحْتِرَام الْمِلْكِيَّة، الْحُرِّيَّةَ كَانَتْ تُعْتَبَرُ أَسَاسِيَّة دَاخِل الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ. لَكِنْ عِنْدَمَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة، كَانَتْ هَذِهِ الْمَبَادِئِ تَعَلَّق أَوْ تُنْكَرُ بِشَكْل مِنْهُجي. الْقَتْلُ كَانَ قَمْعًا لِلتِّمرد، السَّرِقَةُ كَانَتْ تَنْمِيَة لِلْمَوَارِد، سَلَب الْأَرَاضِي كَانَ إسْتِيطَانًا، وَالْقَمْع كَان إِرْسَاء لِلنَّظَّام.
إفْرَاغ الْقَوَانِين مِنْ مُحْتَوَاهَا الْأَخْلَاقِيّ تُجَاه الْمُسْتَعْمَر: تَمّ سُنّ قَوَانِين وَأَنْظِمَة إدَارِيَّة فِي الْمُسْتَعْمَرَات تُشَرِع التَّمْيِيزِ الْعُنْصُرِيِّ، الِإسْتِغْلَال، وَحَتَّى الْعُنْف. هَذِهِ الْقَوَانِينِ، الَّتِي كَانَتْ تَبْدُو مَنْطِقِيَّة فِي سِيَاقِ الْأَيْدُيُولُوجِيَّة الِإسْتِعْمَارِيَّة، كَانَتْ فِي الْوَاقِعِ تَجْسِيدًا لِتَجْرِيد الْآخَرِ مِنْ حُقُوقِهِ الْأَخْلَاقِيَّة.
التَّغَاضِي عَنْ الْأثَارِ: تَمّ التَّغَاضِي عَنْ الْأثَارِ الْمُدَمِّرَة لِلِإسْتِعْمَار عَلَى الشُّعُوبِ الْأَصْلِيَّةِ (الْمَجَاعَات، الْأَمْرَاضُ، التَّدْمِير الثَّقَافِيّ، الصِّرَاعَات) أَوْ نُسِبَتْ إلَى عَدَمِ قُدْرَةِ تِلْكَ الشُّعُوبِ عَلَى التَّكَيُّفِ، بَدَلًا مِنْ الِإعْتِرَافِ بِهَا كَنَتِيجَة مُبَاشَرَة لِلْمُمَارَسَات اللَّاأَخْلَاقِيَّة
تَبْرِير مُمَارَسَات لَا أَخْلَاقِيَّة بِإسْم الْحَضَارَة وَ التَّقَدُّمِ فِي سِيَاقِ الكُولُونْيَّالِيَّة لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ صُدْفَةٌ أَوْ شُذُوذٍ، بَلْ كَانَ جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنْ مَنْظُومَة أَيْدُيُولُوجِيَّة مُتَكَامِلَة. هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ قَامَتْ عَلَى بِنَاء تَصَوُّرَات مُشَوَّهَة عَنْ الْآخَرِ وَعَنْ الذَّات، وَإسْتَغَلَّت مَفَاهِيم قِيَمِيَّة مِثْل الْحَضَارَة وَالتَّقَدُّم لِتَفْرِيغِهَا مِنْ مُحْتَوَاهَا الْأَخْلَاقِيّ الْأَصِيل وَتَوْظِيفِهَا كَأَدَوَات لِلَّهِيَمْنَة. إنْ فُهِمَ هَذِه الآلِيَّة الْأَيْدُيُولُوجِيَّة ضَرُورِيٌّ لِتَفْكِيك لَيْسَ فَقَطْ إرْث الكُولُونْيَّالِيَّة التَّارِيخِيّ، بَلْ أَيْضًا أشْكَالٌ الِإسْتِعْمَار الْجَدِيد الَّتِي قَدْ تَسْتَخْدِمُ تَبْرِيرًات مُشَابَهَةُ الْيَوْم.

_ هَلْ يُمْكِنُ فَصْلُ الْأَيْدُيُولُوجِيَّا عَنْ الْمُمَارَسَةِ فِي الكُولُونْيَّالِيَّة

أَنْ التَّسَاؤُل عَمَّا إذَا كَانَتْ التَّبْرِيرَات الِإسْتِعْمَارِيَّة مُجَرَّد أَقْنَعَة لِلْوَحْشِيَّة، أَمْ إِنَّهَا عَكَسَتْ قَنَّاعَاتٍ مُشَوَّهَة، يَطْرَحُ إشْكَالِيَّة فَلْسَفِيَّة عَمِيقَة حَوْل الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَيْدُيُولُوجِيَّا (الْفِكْر/الْمُعْتَقَدَات) وَالْمُمَارَسَة (الْأَفْعَال/التَّطْبِيق). الْإِجَابَة الْأَكْثَر دِقِّة هِيَ أَنْ الْأَمْرَ غَالِبًا مَا كَانَ كِلَاهُمَا مَعًا، وَلَكِنْ بِطُرُق مُعَقَّدَة وَ مُتَرَابِطَة.
1. الْأَيْدُيُولُوجِيَّا كَقِنٍّاع لِلْوَحْشِيَّة (تَبْرِير نَفْعِي)
فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَالَاتِ، كَانَتْ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات مِثْل الْمُهِمَّة الْحَضَارِيَّة أَوْ عَبْىء الرَّجُلُ الأَبْيَضُ بِمَثَابَة أَقْنَعَة وَاعِيَة أَوْ غَيْرَ وَاعِيَةٍ لِلْمَصَالِح الْمَادِّيَّة لِلْقِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة.
الْمَصَالِح الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ: كَانَ الدَّافِعُ الأَسَاسِيّ لِلِإسْتِعْمَار هُو الِإسْتِغْلَال الِإقْتِصَادِيّ الْحُصُولِ عَلَى الْمَوَارِد الْخَام، فَتْح أَسْوَاق جَدِيدَة، إسْتِغْلَال الْعَمَالَة الرَّخِيصَة) وَ التَّوَسُّع الْجُيوسيَاسِيّ. بِنَاءً إِمْبِرَاطُورِيَّات، تَأْمِين طُرُق التِّجَارَةِ. التَّبْرِيرَات الْأَخْلَاقِيَّة كَانَتْ تَوَفُّر غِطَاء مَقْبُولًا لِهَذِه الدَّوَافِع الْوَاقِعِيَّة وَالْقَاسِيَة. فَمَنْ الْأَسْهَلُ عَلَى الدُّوَلِ وَ الْمَوَّاطِنِين دَعِّمْ مَشْرُوع يُقَدَّم كَـتَنْوِير وَتَنْمِيَة بَدَلًا مِنْ الِإعْتِرَافِ بِأَنَّهُ إسْتِغْلَال مُبَاشِر.
تَخْفِيفِ الشُّعُورِ بِالذَّنْب: بِالنِّسْبَة لِلْمُسْتَعِمِرِين الْأفْرَادُ وَ الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَتْرُوبول، كَانَتْ هَذِهِ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات تُسَاعِدُ عَلَى تَخْفِيفِ الشُّعُورِ بِالذَّنَبِ أَوْ التَّنَاقُضِ الْأَخْلَاقِيّ. إذَا كُنْت تُؤْمِنُ بِأَنَّك تَجْلِب الْخَيْر لِشُعُوب مُتَخَلِّفَة، فَمَنْ الْأَسْهَل التَغَاضِّي عَنْ الْعُنْف، الْقَمْع، وَالْفَقْر الَّذِي تُسَبُّبِه مُمَارَسَاتك. الْأَيْدُيُولُوجِيَّا هُنَا تَعْمَل كَآليَّة دِفَاع نَفْسِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة.
الحِفَّاظُ عَلَى صُورَةِ الذَّاتِ: كَانَتْ هَذِهِ التَّبْرِيرَات ضَرُورِيَّة لِلْحِفَاظِ عَلَى صُورَةِ ذَاتِيَّة إِيجَابِيَّة لِلْمُسْتَعِمِرِين كَمُتَحَضِرِين، أَخْلَاقِيَّيْن، وَمُتَفَوِقِيّن، حَتَّى وَهُمْ يَرْتَكِبُون فَظَائِعْ.
2. الْأَيْدُيُولُوجِيَّا كَقَنَّاعَاتٍ مُشَوَّهَة (إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ بِالْوَهْم)
لَكِنْ الْأَيْدُيُولُوجِيَّا لَمْ تَكُنْ مُجَرَّد خُدْعَة خَارِجِيَّةٍ. فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ، كَانَتْ تَعْكِس قَنَّاعَاتٍ حَقِيقِيَّةً وَمُشَوِّهَة بِعُمْق لَدَى الْمُسْتَعْمِرِين حَوْل تَفَوُّقِهِمْ الْأَخْلَاقِيّ وَالثَّقَافِيّ وَالعُنْصُرِيّ.
التَّكْوِينُ الِإجْتِمَاعِيّ لِلْعَقْل: نَشَأ الْمُسْتَعِمُرُون ضَمِنَ مُجْتَمَعَات وَثَقَافَات كَانَتْ قَدْ غَرَسْت فِيهِمْ مُنْذُ الصِّغَرِ فِكْرَّة تَفَوُّقِهِمْ الْحَضَارِيّ. هَذِهِ الْأَفْكَارِ لَمْ تَكُنْ كَدِعَايَّة، بَلْ كَانَتْ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ التَّعْلِيمِ، الْإِعْلَام، الْفَلْسَفَة، وَحَتَّى الْخَطَّاب الدِّينِيّ
الْمَرْكَزِيَّة الْأُورُوبِّيَّة: الْإيْمَانِ بِأَنَّ أُورُوبَّا هِي مَرْكَز الْحَضَارَة وَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّقَدُّمِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ إدِّعَاءِ، بَلْ كَانَ إعْتِقَادًا رَاسِخًا يَرَى الْعَالَمِ مِنْ خِلَالِهِ. هَذَا الِإعْتِقَادِ أَدَّى إلَى عَمِّى أَخْلَاقِيّ تُجَاه مُعَانَاةِ الْآخَرِينَ لِأَنَّهُمْ بِبَسَاطَة لَمْ يُعْتَبِرُوا مُتَسَاوِينَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ أَوِ فِي الْحُقُوق.
غِيَاب التَّسَاؤُل النَّقْدِيّ: غَالِبًا مَا كَانَ هُنَاكَ غِيَاب لِلتَّسَاوِل النَّقْدِيّ الدَّاخِلِيّ حَوْل أَخْلَاقِيَّات الِإسْتِعْمَارُ. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ هَذِه الْأَيْدُيُولُوجِيَّات بِصِدْقِ لَمْ يَرَوْا أَيْ تَنَاقُضٌ بَيْنَ قِيَمِهِمْ الْمُعْلَنَة وَمُمَارَسَاُتُّهِم الِإسْتِعْمَارِيَّة، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَخْدُمُون قَضِيَّة أَكْبَر (التَّمْدِين) أَوْ يَتَعَامَلُون مَع كَائِنَات لَيْسَتْ عَلَى قَدَمِ الْمُسَاوَاةِ الْأَخْلَاقِيَّة.
تَارِيخَانِيَّة الْقَيِّمُ: كَانَتْ هُنَاكَ قَنَاعَة بِأَنَّ التَّارِيخَ يَسِيرُ فِي خَطِّ وَاحِدٍ نَحْوَ التَّقَدُّمِ، وَإِنْ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ هِي قِمَّتِه. أَيِّ مُجْتَمَعٍ لَا يَتْبَعُ هَذَا الْمَسَارِ يَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَخَلِّفٌ بِطَبِيعَتِه، وَ يُصْبِح التَّدَخُّلِ فِي شُؤُونِه وَاجِبًا أَخْلَاقِيًّا لِلْمُسَاعَدَة فِي لَحَاقِهِ.
3. التَّدَاخُل وَالتَّعْزِيز الْمُتَبَادَل
فِي الْوَاقِعِ، لَمْ تَكُنْ الْأَيْدُيُولُوجِيَّا مُجَرَّد قِنَاعٍ أَوْ مُجَرَّدُ قَنَاعَة مُشَوَّهَة؛ بَلْ كَانَ هُنَاكَ تَدَاخُل وَتَعْزِيز مُتَبَادَل بَيْن الْجَانِبَيْن:
الْأَيْدُيُولُوجِيَّا النَّفْعِيَّة (الْقِنَاع) خُلِقَتْ لِخِدْمَةِ الْمَصَالِحِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهَا بِمُرُورِ الْوَقْتِ تَغَلْغَلَت فِي وَعِيِ الْأَفْرَاد وَالمُجْتَمَعَات، مُتَحَوِّلَة إلَى قَنَّاعَاتٍ حَقِيقِيَّةً.
الْقَنَاعَات الْمُشَوِّهُة بِالتَّفَوُّق بَرَّرَتْ الْمَصَالِحِ الْمَادِّيَّةِ وَسَهُلَتْ تَحْقِيقِهَا، مِمَّا أَدَّى إلَى حَلَقَة مُفَرِّغَة حَيْث تَتَغَذَّى الْأَيْدُيُولُوجِيَّا عَلَى الْمُمَارَسَة، وَتُبَرِّرُهَا الْمُمَارَسَةُ.
لِذَلِكَ، مِنْ الصَّعْبِ فَصْل الْأَيْدُيُولُوجِيَّا عَنْ الْمُمَارَسَة بِشَكْل كَامِل. الْأَيْدُيُولُوجِيَّا لَمْ تَكُنْ مُجَرَّد سِتَار خَارِجِيّ، بَلْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ بِنْيَّة فِكْرِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة كَامِلَة سَمَحَتْ بِحُدُوث الكُولُونْيَّالِيَّة وَإسْتِمْرَارِهَا. هَذَا التَّحْلِيلَ فَهْمِنَا لِلظَّاهِرَة الِإسْتِعْمَارِيَّة وَيَجْعَلُ مَنْ الصَّعْب تَبْرِيرَهُا أَوْ إعْتِبَارِهَا مُجَرَّد خَطَأ تَارِيخِيّ بَسِيط.

_ النِّفَاقُ الْأَخْلَاقِيَّ فِي الكُولُونْيَّالِيَّة: كَيْفَ يَتِمُّ تَبْرِير التَّنَاقُض

إنْ التَّسَاؤُلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَمَكَّن الدُّوَلِ الِإسْتِعْمَارِيَّةِ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ دِفَاعُهَا عَنْ قِيِّمِ مِثْل الْحُرِّيَّة، الدِّيمُقْرَاطِيَّة، وَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ دَاخِلٌ حُدُودِهَا، وَبَيْن نَقْضُهَا التَّامّ لِهَذِهِ الْقِيَمِ فِي مُسْتَعْمِرِاتِهِا، يُلَامِس جَوْهَر النِّفَاق الْأَخْلَاقِيَّ فِي الْمَشْرُوعِ الْكُولُونْيَّالِي. هَذَا التَّنَاقُضِ الصَّارِخ لَا يَعْكِسُ مُجَرَّد خَطَأ عَابِر، بَلْ هُوَ نِتَاجُ مَنْظُومَة مُعَقَّدَة مِنَ التَّبْرِيرَاتِ الْفِكْرِيَّة وَ الْإِيدَيُولُوجِيَّة الَّتِي سَمَحَتْ بِتَطْبِيق الْقَيِّم بِشَكْل إنْتِقَائِي، بِنَاءً عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَالْقُوَّةُ، لَا الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الصِّرْفَة.
1. تَصْنِيفُ الْآخَر كـَغَيْرَ كَامِلٍ أَوْ أَقَلَّ إِنْسَانِيَّة
الْأَسَاسِ الَّذِي سَمَحَ بِهَذَا النِّفَاقُ هُوَ نَزَع الصِّفَة الْإِنْسَانِيَّةِ (Dehumanization) عَنِ الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة. لِكَيْ تُدَافِعُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فِي الدَّاخِلِ وَتُلْغِيهَا فِي الْخَارِجِ، كَانَ لَابُدَّ مِنْ إقْنَاع الذَّاتِ بِأَنْ الْمُسْتَعْمَرِين لَيْسُوا مُتَسَاوِينَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ أَوِ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ.
التَّبْرِير الْعُنْصُرِيّ: إعْتَمَدَتْ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات الِإسْتِعْمَارِيَّة عَلَى مَفَاهِيمِ زَائِفَة لِلتَّفَوُّق الْعُنْصُرِيّ، حَيْثُ تَمَّ تَصْوِير الشُّعُوب غَيْر الأُورُوبِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا أَقَلُّ تَطَوُّرًا، أَوْ أَقَلَّ عَقْلَانِيَّةً، أَوْ حَتَّى بَرْبَرِيَّة. هَذَا التَّصْنِيفِ سَمَح بِوَضْعِهِمْ خَارِج نِطَاق الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَالَمِيَّة الَّتِي طُبِّقَت عَلَى الْأُورُوبِّيِّين. فَإِذَا لَمْ يَعْتَبِرُوا بَشَرًا كَامِلَيْن، فَلَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ حَقٌّ تَقْرِيرِ الْمَصِيرِ أَوْ الْمُسَاوَاةِ.
الطُّفُولَة وَالْهَمَجُيَّة : صُوِّرَتْ الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة عَلَى أَنَّهَا أَطْفَال كِبَار يَحْتَاجُونَ إلَى التَّوْجِيهِ الْأَبَوَيْ مِنْ القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة، أَوْ هَمَج يَحْتَاجُونَ إلَى التَّمْدِين. هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ أَزَالَتْ عَنْهُمْ الْحُقُوقِ الَّتِي تُمْنَحُ لِلْبَالِغِين أَوْ الْمُتَحَضِّرِين، وَ بَرَرْت السَّيْطَرَة عَلَيْهِمْ بِـمَصْلَحَتِهِمْ.
2. مَفْهُوم الْحَضَارَة كَمِلْكِيَّة حَصْرِيَّة: تَمّ حَصْر مَفْهُوم الْحَضَارَة وَتَعْرِيفُهَا وِفْقاً لِلْمِقْيَاس الْغَرْبِيِّ، مِمَّا أَدَّى إلَى إسْتِبْعَادِ بَقِيَّة الْعَالَمِ مِنْ نِطَاقِهَا.
الْحَضَارَةُ كَمَشْرُوع غَرْبِيّ: فُرِضَتْ فِكْرَّة أَنْ الْحَضَارَةُ هِيَ نِتَاجُ أُورُوبِّيّ، وَإِنْ الدُّوَل الْمُسْتَعْمِرَة هِي الْوَحِيدَة الْمُؤَهِّلَة لِحَمْل شُعْلَتها. وَبِمَا أَنَّ الْمُسْتَعْمَرَات لَمْ تُعْتَبَرْ مُتَحَضِرَّة وِفْقاً لِلْمَعَايِيّر الْغَرْبِيَّةِ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ قَيِّم الْحَضَارَة كَالْدِّيمُقْرَاطِيَّة وَالْحُرِّيَّةُ، أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ جَاهِزَة لَهَا بَعْدَ.
الْمُهِمَّةُ التَّمْدِينِيَّة: قُدِّمَ الْمَشْرُوع الِإسْتِعْمَارِيّ عَلَى أَنَّهُ مُهِمَّة تَّمْدِينِيَّة أَوْ عِبْىء الرَّجُلُ الأَبْيَضُ، يَهْدِفُ إِلَى جَلْبِ هَذِهِ الْقِيَمِ إلَى الشُّعُوبِ الْمُتَخَلِّفَة. هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْقَمْع وَالِإسْتِغْلَال لَمْ يَكُونَا إنْتِهَاكًا لِلْقَيِّم، بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِهَا عَلَى الْمَدَى الطَّوِيلِ ! وَ هَكَذَا، تَحَوَّل الظُّلْمَ إلَى وَاجِبٍ أَخْلَاقِيّ.
3. فَصْل الدَّاخِلِ عَنْ الْخَارِجِ: الْجُغْرَافِيَا الْأَخْلَاقِيَّة أقَامَتْ القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة فَصْلًا حَادًّا بَيْنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ فِيمَا يَخُصُّ تَطْبِيق الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة.
الْقَانُون وَالْأَخْلَاق لِلْوَطَن الْأُمّ: دَاخِلَ حُدُودِ الدُّوَلِ الِإسْتِعْمَارِيَّةِ، كَانَتْ سِيَادَة الْقَانُون، الحُرِّيَّات الْفَرْدِيَّة، وَالْأَنْظِمَة الدِّيمُقْرَاطِيَّةَ هِيَ الْمِعْيَارُ. كَانَتْ هَذِهِ الْقِيَمِ جُزْءًا مِنْ الْعَقْدِ الِإجْتِمَاعِيِّ الَّذِي يَحْكُمُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الدَّوْلَة وَمَوَاطِنِيها.
قَوَاعِدُ مُخْتَلِفَة لِلْمُسْتَعْمَرَات: فِي الْمُسْتَعْمَرَات، تَمّ تَطْبِيق قَوَانِين وَإدَّارَات إسْتِثْنَائِيَّةٌ، غَالِبًا مَا كَانَتْ قَمْعِيَّةٌ وَتَمْيِيزِيَّةٌ، تَمْنَحُ صَلَاحِيَّات وَاسِعَةٌ لِلْمَسْؤُولِين الِإسْتِعْمَارِيِيّن وَتُجَرِدُ السُّكَّان المَحَلَّيِيّن مِنْ حُقُوقِهِمْ. لَمْ تَكُنْ الْمُسْتَعْمَرَات جُزْءًا مِنْ الْأَمَةِ بِالْمَعْنَى الْكَامِل، وَبِالتَّالِي لَمْ تُطَبَّقْ عَلَيْهَا نَفْسَ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْقَانُونِيَّة.
الْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا كَذَرِيعَة: غَالِبًا مَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلدَّوْلَة الْمُسْتَعْمِرَة (إقْتِصَادِيَّة، إسْتِرَاتِيجِيَّة، سِيَاسِيَّة) هِي الذَّرِيعَة لِتَجَاوُز أَيْ قُيُود أَخْلَاقِيَّة فِي الْمُسْتَعْمَرَات. فُسِّرَتْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ عَلَى أَنَّهَا تَتَجَاوَز حُقُوق السُّكَّان المُحَلَّيَيْن، وَتُعْتَبَر أَكْثَر أَهَمِّيَّةً مِنْ أَيِّ إلْتِزَام بِقِيَم الْحُرِّيَّةِ أَوْ الدِّيمُقْرَاطِيَّة هُنَاك.
4. دُور الْأَيْدُيُولُوجِيَّا فِي تَشْكِيلِ الْوَعْي
لَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّبْرِيرَات مُجَرَّد أَقْنَعَة وَاعِيَة فَقَطْ، بَلْ كَانَتْ تَتَغَلْغَل فِي النَّسِيجِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ لِلْمُجْتَمَعَات الِإسْتِعْمَارِيَّة، لِتَشَكِّلَ وَعْيًا مُشَوَّهًا لَدَى الْأَفْرَاد.
التَّرْبِيَة وَالْإِعْلَام: قَامَتْ الأَنْظِمَة التَّعْلِيمِيَّة وَالإِعْلَامِيَّة بِتَرْسيخ هَذِهِ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات، مِمَّا جَعَلَ الْكَثِيرَ مِنْ الْمُسْتَعْمِرِين يُؤْمِنُون بِصِدْق بِتَفَوُّقِهِمْ وَبِصِحَّةِ مُهِمَّتِهِمْ. لَمْ يَرَوْا التَّنَاقُضَات لِأَنّ تَصَوُّرَاتُهُمْ لِلْعَالِم كَانَتْ قَدْ تَشَكَّلَتْ بِالْفِعْل بِهَذِه الطَّرُوحَات.
الْعَمَى الْأَخْلَاقِيّ: أَدَّتْ هَذِهِ الْقَنَاعَات الْمُشَوِّهُة إلَى نَوْعٍ مِنْ الْعَمَى الْأَخْلَاقِيّ تُجَاه مُعَانَاة الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة. عِنْدَمَا يَتِمُّ تَصْوِير مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى أَنَّهُمْ أَقَلُّ، يُصْبِحُ مِنْ الْأَسْهَل تَجَاهُل مُعَانَاتِهِمْ، بَلْ وَتَبْرِيرِهَا كَـضَرُورَةٍ أَوْ نَتِيجَةَ طَبِيعِيَّة لِـتَفَوُق الْمُسْتَعْمِر.
النِّفَاقُ الْأَخْلَاقِيَّ فِي الكُولُونْيَّالِيَّة لَمْ يَكُنْ عَرَضِيًّا، بَلْ كَانَ جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنْ آلِيَتِهَا الوَظِيفِيَّة. سَمَحَتْ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات الَّتِي تَجَرَّدَتْ مِنْ الْإِنْسَانِيَّةِ وَتَفَرَّقَتْ فِي تَطْبِيقِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ لِلْقِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة بِتَحْقِيق مَصَالِحِهَا الْمَادِّيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ دُون التَّنَازُلِ عَنْ صُورَةِ ذَاتِيَّة مُتَحَضِرَّة وَأَخْلَاقِيَّة. إنْ فَهْمَ هَذَا النِّفَاقُ أَمَر حَيَوِيّ لَيْسَ فَقَطْ لِفَهْم تَارِيخ الِإسْتِعْمَار، بَلْ أَيْضًا لِتَحْلِيل كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمَصَالِح وَالْقُوَّة أَنْ تُشْوِه الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ فِي الْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الْمُعَاصِرَة.

_ الْقَيِّمُ وَالْمَعَايِير الْمُزْدَوِجَةِ لِلْكُولُونْيَّالِيَّة: هَلْ يُمْكِنُ لـِلْكَوْنِيَّة أَنْ تَكُونَ إنْتِقَائِيَّة؟

إنْ السُّؤَالُ عَمَّا إذَا كَانَتْ الْقِيَمُ الَّتِي تُطَبِّقُ بِمَعْايِير مُزْدَوِجَة، كَمَا حَدَّثَ فِي الْحُقْبُ الكُولُونْيَّالِيَّة، يُمْكِنُ إعْتِبَارُهَا كَوْنِيَّة حَقًّا، هُوَ سُؤَالٌ فَلْسَفِيّ أَخْلَاقِيّ جَوْهَرِيّ يَمَسّ صَمِيمِ مَفْهُومِ الْكَوْنِيَّة نَفْسِهِ. الْإِجَابَةَ الْفَلْسَفِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة الْقَاطِعَةُ هِيَ لَا، لَا يُمْكِنُ لِقِيمَة تُطَبَّق بِمَعْايِير مُزْدَوِجَة أَنْ تَكُونَ كَوْنِيَّة حَقِيقِيَّة.
1. مَاهِيَّة الْكَوْنِيَّةِ فِي سِيَاقِ القِيِّم
لِفَهْمِ الإِشْكَالِيَّة، يَجِبُ أَنْ نُحَدِّدَ مَا نُعَنِّيَه بِـالْكَوْنِيَّة (Universality) عِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة:
الشُّمُولِيَّة وَالْإِلْزَام: الْقِيمَة الْكَوْنِيَّة هِيَ مَبْدَأُ أَوْ مِعْيَار أَخْلَاقِيّ يُفْتَرَضُ أَنْ يَنْطَبِقَ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فِي جَمِيعِ السِّيَاقَات الثَّقَافِيَّة وَالتَّارِيخِيَّة وَالجُغْرَافِيَّة، وَأنْ يَلْزَمْهُمْ عَلَى قَدَمِ الْمُسَاوَاة.
التَّجْرِيدِ مِنْ الْخُصُوصِيَّةِ: تَتَطَلَّب الْكَوْنِيَّة أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ مُجَرَّدَةً مِنْ الِإنْتِمَاءَات الضَّيِّقَةِ (الْعِرْقِيَّة، الدِّينِيَّة، الْقَوْمِيَّة) وَ أَنْ تَتَجَاوَزَ الْمَصَالِح الذَّاتِيَّة لِمَجْمُوعَة مُعَيَّنَة.
المُسَاوَاةِ فِي التَّطْبِيقِ: جَوْهَر الْكَوْنِيَّة يَكْمُنُ فِي تَطْبِيقِهَا الْعَادِل وَغَيْر التَّمْيِيزي عَلَى الْجَمِيع. قِيِّم مِثْل الْحُرِّيَّة، الْعَدَالَة، الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَ الْمُسَاوَاة، تُعْتَبَر تَقْلِيدِيٍّا قِيِّمًا كَوْنِيَّة مُفْتَرَضَة، لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحَالَة الْإِنْسَانِ الْأَسَاسِيَّةُ وَحُقُوقِه الْمُتَأَصِّلَة.
2.التَّنَاقُض الْجَوْهَرِيُّ فِي الْكَوْنِيَّة الِإنْتِقَائِيَّة لِلْكُولُونْيَّالِيَّة
مَارَسْتُ الكُولُونْيَّالِيَّة إزْدِوَاجُيَة صَارِخَة فِي تَطْبِيقِ الْقِيَمِ، مِمَّا كَشَفَ عَنْ تَنَاقُضٍ جَوْهَرِيّ مَعَ أَيْ إدِّعَاءُ بِالْكَوْنِيَّة:
فِقْدَانُ الشُّمُولِيَّة: عِنْدَمَا تَدَافُع القِوَّى الِإسْتِعْمَارِيَّة عَنْ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ وَالْعَدَالَة لِمَوَاطِنِيهَا فِي الدَّاخِلِ، بَيْنَمَا تَسْلُب هَذِهِ الْحُقُوقِ تَمَامًا مِنْ الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة فِي الْخَارِجِ عَبَّر الْقَمْع، الِإسْتِغْلَال، الْحِرْمَانِ مِنْ السِّيَادَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ القِيَمَ تَفْقِد صِفَتِهَا الْكَوْنِيَّة. لَمْ تَعُدْ تَنْطَبِقُ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ بَلْ أَصْبَحَتْ إمْتِيَازًا مَحْصُورًا عَلَى فِئَّة مُعَيَّنَةً (الْمُسْتَعْمِرِين وَمَنْ هُم فِي دَائِرَةِ تَعْرِيفُهُمْ كَبَشَر الْكَامِلِين
تَحَوُّل الْقِيمَةِ إلَى أَدَاةٍ لِلَّهِيَمْنَة: إنْ التَّطْبِيق الِإنْتِقَائِيّ يَحُوِّلُ الْقِيمَةِ مِنْ مَبْدَأِ أَخْلَاقِيّ مُوَجَّه لِلسُّلُوكِ إلَى أَدَاةٍ بَرَاغْمَاتِيَّة لِخِدْمَةٍ الْمَصَالِح وَالْقُوَّة. الْحُرِّيَّةَ يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ ذَرِيعَة لِغَزْو أَرْضِ الْآخَرِ لِتَحْرِيرِه مِنْ حَقِّهِ فِي تَقْرِيرِ مَصِيرُه، وَالْعَدَالَة تُفَسَّر وَتُبَرِّرُ إسْتِغْلَال مَوَارِدِه. هُنَا، تَتَجَرَّد الْقِيمَةِ مِنْ جَوْهَرِهَا الْأَخْلَاقِيّ وَتُصْبِح مُجَرَّد خِطَاب نَفْعِي.
التَّعَرِّي مِنْ الْمِصْدَاقِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة: هَذَا التَّنَاقُضِ الصَّارِخ يَفْرُغ الْقِيمَةِ مِنْ مُحْتَوَاهَا الْأَخْلَاقِيّ وَيَجْعَلُهَا مُجَرَّد خِطَاب نَفَاقِي. الدُّوَلِ الَّتِي تَدَّعِي إلْتِزَامِهَا بِقِيَم كَوْنِيَّة بَيْنَمَا تَنْتَهِكَهَا فِي مُمَارَسَاتِهَا، تَفْقِد مَصْدَاقِيتِهَا الْأَخْلَاقِيَّة أمَام الْعَالِم، خَاصَّة أمَام الشُّعُوبِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لِظُلْمِهَا. هَذَا التَّآكُل للِْمِصْدَاقِيَّة يَمْتَدُّ لِيَشْمَل الْقَيِّم الْمُعْلَنَة نَفْسَهَا، مِمَّا قَدْ يُؤَدِّي إلَى تَشْكِيك الْمُتَضَرِّرين فِي صِدْقِ هَذِهِ الْقِيَمِ أَصْلًا.
3. الْأَسَاس الْأَخْلَاقِيّ الْمَفْقُود لِإدِّعَاء الْكَوْنِيَّةِ فِي ظِلِّ النِّفَاق
لَا يُوجَدُ أَسَاسٌ أَخْلَاقِيّ حَقِيقِيٌّ: فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لَا يُوجَدُ أَسَاسٌ أَخْلَاقِيّ مَتِين لِإدِّعَاء الْكَوْنِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يَكُونُ الْأَسَاس الْوَحِيدُ هُوَ الْقُوَّةُ (Power). فَالْقُوَّةُ هِيَ الَّتِي تُمِكِنُ الطَّرَف الْمُهَيْمِنُ مِنْ فَرْضِ تَعْرِيفُهُ الْخَاصُّ لِلْقَيِّم وَتَطْبِيقِه بِشَكْل إنْتِقَائِي، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِيَمِ كَوْنِيَّة رَغْم تَنَاقُض تَطْبِيقِهَا. الْكَوْنِيَّة هُنَا لَا تَنْبُعُ مِنْ مَبْدَأِ أَخْلَاقِيّ مُتَّسِق، بَلْ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْطَرَة وَفَرْض الْمَعَايِير.
الْأَيْدُيُولُوجِيَّات الزَّائِفَة كَبَدِيل لِلْأَسَاس الْأَخْلَاقِيّ: يَتِمّ اللُّجُوءَ إِلَى أَيْدُيُولُوجِيَّات زَائِفَة لِتَغْطِيَة غِيَاب الْأَسَاس الْأَخْلَاقِيّ، مِثْل: نَزَع الْإِنْسَانِيَّة (Dehumanization). تَصْوِير الشُّعُوب الْمُسْتَعْمَرَة عَلَى أَنَّهَا أَقَلُّ أَوْ غَيْرَ نَاضِجَة أَوْ مُتَخَلِّفَةٌ، مِمَّا يَسْمَحُ بِوَضْعِهَا خَارِجَ دَائِرَةِ التَّطْبِيق الْكَامِل لِلْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَشَرًا كَامِلَيْن فَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ تُطَبَّقَ عَلَيْهِمْ نَفْس الْحُقُوق.
الْحَضَارَةُ كَمِلْكِيَّة حَصْرِيَّة: الِإدِّعَاءُ بِأَنَّ الْحَضَارَةُ هِيَ حَكِرَ عَلَى مَجْمُوعة مُعَيَّنَة (الْغَرْب)، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْقَيِّمَ الْمُتَحَضِّرَة لَا تَمْنَح إلَّا لِمَنْ يَنْتَمِي إلَى هَذِهِ الْحَضَارَةِ أَوْ مَنْ هُوَ جَاهِز لَهَا.
الْمَصْلَحَة الذَّاتِيَّة الْعُلْيَا: تَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْقَوْمِيَّة أَوْ الِإقْتِصَادِيَّة لِلطَّرَف الْمُهَيْمِن عَلَى أَنَّهَا تَتَجَاوَز أَيْ إلْتِزَامَات أَخْلَاقِيَّة تُجَاه الشُّعُوب الْأُخْرَى.
4. التَّدَاعِيَات الْفَلْسَفِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة
هَذَا النِّفَاقُ الْكُولُونْيَّالِي لَهُ تَدَاعَيَات عَمِيقَة وَمُسْتَمِرًّة:
تَأْكُلُ مَفْهُوم حُقُوقِ الْإِنْسَانِ: عِنْدَمَا تُطَبَّق حُقُوقِ الْإِنْسَانِ بِشَكْل إنْتِقَائِي، يَتَأكَلْ مَفْهُومِهَا كَحُقُوق مُتَأَصِّلَة وَغَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّصَرُّف لِكُلِّ فَرْدٍ، وَتُصْبِح مُجَرَّد أَدَّاة سِيَاسِيَّة.
الْعَدَالَة الْمَعْرِفِيَّة: يُصْبِح إدِّعَاء الْكَوْنِيَّة لِلْقِيمَة نَفْسِهَا مَوْضِعٌ شَكَّ. فَلَيْسَ فَقَطْ التَّطْبِيق هُو الْمُشْكِلَة، بَلْ حَتَّى تَعْرِيف الْقِيمَةَ قَدْ يَكُونُ مُتَحَيِّزًا لِلْمَرْكَز الْمُهَيْمِنُ وَيَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ نَظَر.
تَوْلِيد الِإسْتِيَاء وَإنْعِدَام الثِّقَة: يُؤَدِّي النِّفَاقِ إلَى إنْعِدَامِ ثِقَة عَمِيق لَدَى الشُّعُوب الْمُتَضَرِّرَة فِي الْخِطَابِ الْأَخْلَاقِيّ لِلْقِوَّى المُهَيْمِنَة، وَرُبَّمَا فِي الْقِيَمِ الْمُعْلَنَة نَفْسَهَا، مِمَّا يُعِيقُ أَيْ حِوَار حَقِيقِيّ حَوْل الْقَيِّم الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ بِنَاءٍ نِظَام عَالِمِي عَادِل.
خُلَاصَةٌ الْقَوْل الْكَوْنِيَّة لَا يُمْكِنُ لِلْكَوْنِيَّة أَنْ تَكُونَ إنْتِقَائِيَّة. عِنْدَمَا تُطَبَّق الْقِيِّم بِمَعْايِير مُزْدَوِجَة، فَإِنَّهَا تَفْقِد جَوْهَرُهَا الْكَوْنِيّ وَتَتَحَوَّلُ إِلَى مُجَرَّدِ وَاجِهَة أَيْدُيُولُوجِيَّة تَخْفِي وَرَاءَهَا مَصَالِح الْقُوَّة وَالهَيْمَنَة. إنَّ التَّحَدِّيَ الْفَلْسَفِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ الْمُعَاصِر يَكْمُنُ فِي السَّعْيِ نَحْوُ قَيِّمٍ كَوْنِيَّة حَقِيقِيَّة، تُطَبَّق عَلَى الْجَمِيعِ دُونَ تَمْيِيزٍ، وَتُبْنَى عَلَى حِوَار عَالِمِي يَتَجَاوَز إرْث الْمَرْكَزِيَّة الْغَرْبِيَّة وَالِإسْتِعْمَار.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نَقْد الكُولُونْيَّالِيَّة - الْجُزْءِ الْأَوَّلِ-
- الْعِلْمُ و الْأَخْلَاق: الْمَرْكَزِيَّة الْغَرْبِيَّة
- التَّنْمِيَط الثَّقَافِيّ وَالْقِيَمِيّ -الْجُزْءِ الثَّانِي ...
- التَّنْمِيط الثَّقَافِيّ والقِيَمِيّ -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- حَوْسَبَة القَرَارَات الْأَخْلَاقِيّة -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- حَوْسَبَة القَرَارَات الْأَخْلَاقِيّة -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- الْفَجْوَة الرَّقْمِيَّة -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- الْفَجْوَة الرَّقْمِيَّة -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- الهُوِيَّات الرَّقْمِيَّةِ : -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-
- الهُوِيَّات الرَّقْمِيَّةِ : -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- الهُوِيَّات الرَّقْمِيَّةِ -الْجُزْءُ الْأَوَّل-
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : الْوَاقِع الِإفْتِرَاضِي
- أَخْلَاقِيَّات الذَّكَاءُ الِإصْطِنَاعِيّ -الْجُزْءُ الثَّان ...
- أَخْلَاقِيَّات الذَّكَاءُ الِإصْطِنَاعِيّ -الْجُزْءُ الْأَوّ ...
- الْعَقْل التِّقَنِيّ ؛ -الْجُزْءِ الثَّانِي-
- الْعَقْل التِّقَنِيّ -الْجُزْءِ الْأَوَّلِ-
- الوَعِي الإِيْكُولُوجِيّ: -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- اللاَّوَعِي الإِيْكُولُوجِيّ: -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- عِلْمُ النَّفْسِ الإِيْكُولُوجِيّ
- الْبَيُولُوجْيَا الِإصْطِنَاعِيَّة


المزيد.....




- تحديث مباشر.. الجيش الإسرائيلي يعلن رصد صواريخ قادمة من إيرا ...
- إدارة ترامب تستهدف مصر وسوريا و34 دولة بحظر السفر للولايات ا ...
- إعلام عبري يكشف الأهداف الأربعة لعملية -الأسد الصاعد- الإسرا ...
- بن سلمان يؤكد لبزشكيان وقوف السعودية بثبات إلى جانب إيران
- ليبيا.. -قافلة كسر الحصار على غزة- تتراجع من مشارف سرت وتتجه ...
- +++ قصف إيراني جديد وإسرائيل ترد باستهداف العمق الإيراني +++ ...
- ضربة صاروخية إيرانية كبيرة جديدة على إسرائيل (فيديوهات)
- -كان 11- العبرية: إيران هزمت بالفعل بفضل خطوة إسرائيلية لم ت ...
- مراسلة RT: سلاح الجو الإسرائيلي يشن هجوما على اليمن وصف بالد ...
- خبير عسكري يفجر مفاجأة بشأن الضربات الإسرائيلية ضد إيران


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - نَقْد الكُولُونْيَّالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّانِي-