أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - الرواقية














المزيد.....

الرواقية


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 01:27
المحور: الادب والفن
    


حين نتأمل في نشأة الفلسفة كما سجلها مؤرخو الفكر، ندرك أن ما يبدو عليه الأمر من انفصال زمني بين الشرق والغرب، هو في الحقيقة تداخل خفيّ، يتوارى في ثنايا الأنساق لا في رؤوس التواريخ. الرواقي، الذي أطل من قبرص على شوارع أثينا، لم يكن غريبًا على صوت الأنبياء، بل كان ظلًا حديثًا لصوت قديم. زينون لم يكن ينتمي إلى تقليد يوناني صرف، كما يحلو لأتباع العقل الهيليني أن يزعموا، بل كان نتاج تقاطع بين اللاهوت الشرقي ومبدأ الكونية الذي صار لاحقًا جوهر كل نزعة كونية فلسفية.

لقد حاولت الرواقية، من خلال هندستها الأخلاقية للعالم، أن تجيب عن معضلة لم يستطع أرسطو، ولا حتى أفلاطون، أن يحلّها: كيف يُبنى الإنسان ككائن متعالٍ في عالم مُصاب بالعرضية والانفعال؟ كانت الفلسفة اليونانية الأولى تميل إلى تصعيد العقل وتحجيم العاطفة، لكن الرواقية لم تكتف بذلك. لقد صنعت من هذا التصعيد بناءً جديدًا للإرادة، حيث الفضيلة لا تعني فقط الانضباط، بل تعني المشاركة في إيقاع كوني سابق على اللغة. فالرجل الفاضل عند الرواقيين، لا يُقاس بما يفعله في لحظة معينة، بل بما يتسق مع لحن الوجود، مع موسيقى الطبيعة التي تنطق بالعقل، لا بوصفه أداة، بل بوصفه مصيرًا.

إن العقل هنا لم يعد محايدًا، بل صار قدريًا. وهذه النقلة هي ما يميز الرواقية عن كل ما سبقها. لقد جعلوا من العقل مرادفًا للطبيعة، ومن الطبيعة معادلًا للقدر، ومن القدر مبررًا للألم، ومن الألم طريقًا للسعادة. وبهذا، فإن الحكيم الرواقي ليس فقط من يسيطر على شهواته، بل من يُعيد تأويل الكارثة لتصبح درسًا في الطاعة الكونية. هذا التفسير الجذري للألم يجعل من الرواقية ضربًا من التصوف، لا على الطريقة الشرقية، بل على طريقة استعارية يونانية. فكما أن العارف الصوفي يذوب في الواحد، فإن الحكيم الرواقي ينصهر في نظام كوني لا يمكن مقاومته إلا بالخضوع له.

الرواقية، إذًا، لم تكن فلسفة فردية فحسب، بل كانت مشروعًا لإعادة تشكيل الوعي الجماعي في زمن الانهيار. لقد وُلدت في زمن ما بعد المدينة، حين صار الفيلسوف بلا "بوليس"، والمواطن بلا وطن، والحرية بلا معنى. كان لا بد من بديل: بديل عن السياسة، عن الدين التقليدي، عن الأخلاق القائمة على الجوائز الخارجية. وهذا البديل كان "الاكتفاء بالذات"، لكنه اكتفاء يقوم على التنازل الكامل عن الذات. فالرجل الكامل، عند الرواقيين، هو من لا يحتاج إلى أحد، لا لأنه استكمل ذاته، بل لأنه فكّكها، ونقّاها من كل ما هو عرضي وزائل.

في هذا السياق، يصبح الحكيم الرواقي صورة مقلوبة عن البطل التراجيدي: كلاهما يواجه العالم، لكن التراجيدي يصرخ، بينما الحكيم يصمت. كلاهما يعاني، لكن الأول يلعن القدر، والثاني يرحّب به. كلاهما يعلم، لكن أحدهما ينهار تحت وطأة المعرفة، والثاني يتطهّر بها. ولعلّ في هذه النقطة تحديدًا تكمن عبقرية الرواقية: لقد حوّلت الألم إلى تمرين، لا على النجاة، بل على النُبل.

لكن السؤال الذي لا مهرب منه: من أين جاءت هذه القدرة على تحويل المعاناة إلى معنى؟ أليست هذه القدرة، في جوهرها، دينية؟ أليس الحكيم الرواقي، رغم إنكاره للوحي، قريبًا من النبي، لا من الفيلسوف؟ إن زينون، كما تصفه المصادر، كان يبدو كمن يتلقى إلهامًا لا يفكر فيه، بل ينقله. وكان يُخاطب تلامذته لا كمدرّس بل كمُرسل. وما أكثر ما تقاطع صوته مع أصوات أولئك الذين نزل عليهم الكتاب في الصحارى والجبال.

الرواقية بهذا المعنى، ليست فقط نظامًا أخلاقيًا بل لاهوتًا مقنّعًا. وقد يكون من المفارقة أن ترى المسيحية، لاحقًا، في بعض أطروحات الرواقيين صدى لأخلاق الموعظة على الجبل. هذا التشابه، الذي أشار إليه كثير من الدارسين، ليس صدفة تاريخية، بل نتيجة لحقيقة أعمق: أن الإنسان، حين يواجه العبث، يختار إما التديّن أو الرواقية. وفي كلا الحالين، عليه أن يفسر الألم، لا أن ينفيه. عليه أن يرحب بالقدر، لا أن يتحداه.

لقد وُلدت الرواقية في زمن نهاية، تمامًا كما وُلدت المسيحية. وكان بينهما صراع ضمني على معنى "الخلاص": هل يتحقق بالاتحاد مع العقل الكوني، أم بالإيمان بإله شخصي متعالٍ؟ وهل يكون الإنسان فاضلًا لأنه أطاع قوانين الوجود، أم لأنه أطاع إلهًا كليّ القدرة؟ هذا الصراع لم يُحسم، بل استمر، وتجلّى لاحقًا في التصوف، وفي أخلاقيات الكانطية، وفي الوجودية الدينية.

ما علينا أن نفهمه هو أن الفلسفة، منذ الرواقية، لم تعد مشروعًا نظريًا فقط، بل تحولت إلى فن للعيش، بل إلى استجابة روحية لعالم بلا مركز. وهكذا تصبح الرواقية علامة مبكرة على قلق الحداثة، لا مذهبًا في الأخلاق فقط، بل نبوءة: نبوءة بعالم ينهار فيه الإله، فيبحث فيه الإنسان عن معنى داخل الألم.

وهكذا، فإن قراءة الرواقية ليست مجرد استعادة لتاريخ أفكار، بل تمرين على مقاومة العدم. إنها ليست فقط خطابًا عقلانيًا، بل استعارة كبرى لبطولة الإنسان حين يعجز عن تغيير العالم، فيغيّر موقفه منه. وهذا، في جوهره، هو التعريف الوحيد الممكن للحكمة.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العُري السماوي
- حاشية ثانية على جزيرة اليوم السابق
- الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية ...
- بيان مسرحي
- نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي
- في عيون الأرنب الشمسي ويبدأ القارئ بالصراخ
- شذرات من مسرح لا أتذكّر اسمه
- طفل الخشبة /شذرات ضد الأب-المعلّم
- عَتَبة اللّامفاتيح: مُحرِّكُ الأصواتِ اليتيمةِ في هندسةِ الت ...
- الفراغُ يعشقُ الخُلد الأعمى
- القرد الأخير يحاول فهم نزيف ساعةٍ وظله يُعلق ذاته بحبل من أس ...
- تشريح الدرس الأكاديمي
- دليلُ الماعزِ الأعمى إلى علاماتِ الترقيمِ المقدّسةِ
- الركح في متاهة المرايا: عن استيهام الموضة وتيه الهوية في الم ...
- مستدركات على نص تكوينات
- الحاشية الثانية على نص تكوينات
- بيان تأويلي ضد المسرح، أو في امتناع العرض كحدث
- تكوينات / نص مسرحي
- المسرح بوصفه جهازًا أركيولوجيا التمثيل والمراقبة
- بيان تنظيري خراب المعنى في المسرح المعاصر


المزيد.....




- مصر .. الفنان صبري عبد المنعم يتجاوز الخطر
- فنان سوري يثير الجدل بعد تعليقه على لقاء وزير الثقافة مع طفل ...
- إيران: المحكمة العليا تؤيد حكم الإعدام ضد مغني الراب تاتالو ...
- كراسي ماري أنطوانيت.. كنوز ملكية تبيّن أنها مزيفة!
- قراءة شاملة لجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور المؤر ...
- فنان عالمي شهير يواجه اتهامات بسلوك غير لائق ومغازلة فتيات ق ...
- فنانة أمريكية مثيرة تطلق صابونا من ماء الاستحمام الخاص بها.. ...
- مقدم كوميدي أمريكي شهير يعلّق على خلاف ترامب وماسك ويثير ضحك ...
- فنانة أمريكية مثيرة تطلق صابونا من ماء الاستحمام الخاص بها.. ...
- فيلم -فلو- يتجاوز 57 مليون دولار في إنجاز غير مسبوق للرسوم ا ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - الرواقية