أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي














المزيد.....

نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 20:43
المحور: الادب والفن
    


ليس المسرح الكلاسيكي مجرّد فنّ يُنتِج الجمال أو يحكي الحكاية؛ إنه، في جوهره، نظام معرفيّ، تمفصل فيه الخطاب مع السلطة، وتحوّل الفضاء المسرحي إلى تقنية مراقبة، تضبط الجسد، وتنقّي الرغبة، وتُنظّم التدفق الزمني وفق ترتيب عقلانيّ صارم.

لقد أسّس أرسطو، في "فن الشعر"، ما يبدو تأمّلاً في البنية الدرامية، لكنه، في الواقع، قدّم تصورًا أوليًّا لجهاز انضباطيّ يعمل تحت مبدأين: وحدة الزمان ووحدة الفعل. كان الحدث المسرحي، وفق هذا الترتيب، أقرب إلى آلة وظيفية، لا مكان فيها للانحراف أو التشتت. كل شيء يجب أن يؤدي إلى شيء، وكل لحظة يجب أن تجد موقعها ضمن سلسلة سببية متكاملة. إنّه اقتصاد دقيق للفعل، محكوم بقانون التماسك.

لكن، كما في كل نظام للمعرفة، يتسلل العنف صامتًا من خلال النموذج. النموذج لا يروي الواقع، بل يعيد إنتاجه على نحو يُقصي الانحراف، ويقمع الشذوذ. وهكذا تتحوّل البنية الدرامية إلى بنية تأديبية، تستأصل الفائض، وتخضع الرغبة لمنطق التقنين.

في القرن السابع عشر، في قلب البلاط الملكي الفرنسي، وُلدت الوحدة الثالثة: وحدة المكان. لم تكن إضافة بريئة، بل كانت فعل ترويض آخر للخيال المسرحي، تُرجم لاحقًا إلى ما سُمّي "بالوحدات الثلاث". لكن ما يُسمّى غالبًا بـ"وحدات أرسطو"، ليس منسوبًا إليه نصًّا، بل صِيغ تاريخيًا كقانون تأديبي ضمن مشروع أوسع: تشكيل مسرح الدولة، لا مسرح الرغبة.

إن هذا "الثالوث" ليس بريئًا: ثلاثة مبادئ تُعيد ترسيم الحقل المسرحي على صورة النظام السياسي. الفعل موحّد، كما لو أنّ التاريخ ذاته قابل للاختزال في قصة واحدة، لا فروع فيها. الزمان متمركز في يوم واحد، كما لو أن التاريخ لا يعرف الامتداد أو الانكسار. والمكان مُغلق، ثابت، كما لو أن الجغرافيا لا تقبل التشظي.

لكن هل الزمان سوى كثافة تشكّلية؟ أليست الطيّات، كما يقول دُلوز، هي ما يصنع اللحظة لا تسلسلها؟ وهل المكان خشبة مسطّحة أم جهاز عبور، شبكة قوى تتقاطع فيها اللامرئيات؟

إن المسرح الكلاسيكي يعمل، إذًا، بوصفه آلة ميكروفيزيائية للسلطة. لا يُراقَب عبر الرقابة المباشرة، بل عبر نسق تمثيليّ يُدرّب الجمهور على رؤية العالم كقصة عقلانية متماسكة. المراقبة ليست صمتًا، بل نظامًا. والضبط لا يتم بالمحو، بل بالإخضاع للشكل.

وهكذا يصبح المشهد المسرحي نموذجًا مصغّرًا للدولة الحديثة: وحدة الفعل تماثل مركزية القرار السياسي؛ وحدة الزمان تُعيد إنتاج الزمن البيروقراطي المقنّن؛ وحدة المكان تُحاكي جغرافيا السلطة حيث لا انفلات، لا هروب، لا عتبات.

لكن كل نظام ينتج تسربًا، كل آلة تُصاب بالعطب. فحين ننقّب في تاريخ الممارسة المسرحية، لا نجد تطبيقًا صارمًا لهذا النموذج. بل نجد انزياحات، انشقاقات، ضحكات خفيّة تنزلق من الشقوق، عروضًا كلاسيكية خرقت القاعدة بخفّة، كأنها تهمس للسلطة: نحن نطيع، لكننا نلعب.

ألم يكن نص أرسطو نفسه عرضة للتأويل؟ ألم تكن الكاتارسيز، لحظة التخلّص من التوتر العاطفي، هي البُعد الغامض، غير المحسوب، في صلب هذا النظام؟ وهل يمكن لـ"التطهير" أن يكون أكثر من تقنية جمالية لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي؟

إن المسرح الذي يحاكي الدولة، لا يمكنه أن يولّد الرغبة. المسرح الذي يراقَب لا يحلم. لكن ثغرات النظام تظلّ تولّد احتمالات: كينونات سردية غير متجانسة، توقيتات مشروخة، أمكنة تتفتّح على المجهول.

كل مسرح ينفلت من النموذج، هو تمرين على الخروج: من الحكاية إلى الخريطة، من الخط إلى الالتواء، من الشكل إلى الكثافة. لا لأن الفوضى هي بديل النظام، بل لأن التعدد هو شرط التجربة. لأن الإنسان، لا يُختزل في حبكة، بل يتكشّف كطبقات دلالية، كسجلّ متداخل من الشفرات، كأثر لا يمكن تمثيله بالكامل على الخشبة.

إن المسرح، إذ يتحرّر من قفص الوحدات الثلاث، لا يعود فنًّا فحسب، بل مقاومة. مقاومة التماثل، مقاومة القياس، مقاومة السلطة.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في عيون الأرنب الشمسي ويبدأ القارئ بالصراخ
- شذرات من مسرح لا أتذكّر اسمه
- طفل الخشبة /شذرات ضد الأب-المعلّم
- عَتَبة اللّامفاتيح: مُحرِّكُ الأصواتِ اليتيمةِ في هندسةِ الت ...
- الفراغُ يعشقُ الخُلد الأعمى
- القرد الأخير يحاول فهم نزيف ساعةٍ وظله يُعلق ذاته بحبل من أس ...
- تشريح الدرس الأكاديمي
- دليلُ الماعزِ الأعمى إلى علاماتِ الترقيمِ المقدّسةِ
- الركح في متاهة المرايا: عن استيهام الموضة وتيه الهوية في الم ...
- مستدركات على نص تكوينات
- الحاشية الثانية على نص تكوينات
- بيان تأويلي ضد المسرح، أو في امتناع العرض كحدث
- تكوينات / نص مسرحي
- المسرح بوصفه جهازًا أركيولوجيا التمثيل والمراقبة
- بيان تنظيري خراب المعنى في المسرح المعاصر
- بيانٌ حول تأجيل المعنى في المسرح الحديث
- -الكتابة كهرطقة تأويليّة: في تمارين العبور بين اللغة والخراب ...
- ضدّ العرض تفكيك المسرح كجهاز معرفي
- المسرح كحيّز للخراب الدلالي نحو عرض ينسى ذاته ليتذكّر جسده
- خطاب ثوري ضد المسرح


المزيد.....




- 37 مليون جنية في أسبوع واحد بس! .. ايرادات فيلم مشروع اكس بط ...
- -أريد موتًا صاخبًا لا مجرد عدد-.. ماذا قالت بطلة فيلم وثائقي ...
- هونر تشعل المنافسة بين الهواتف العملاقة بهاتفها HONOR X9c ال ...
- -صحفيو غزة تحت النار-.. فيلم يكشف منهجية إسرائيل في استهداف ...
- شاهد/استقبال حافل بالورود للفنان الايراني همايون شجريان في ا ...
- ايران وحق تخصيب اليورانيوم.. والمسرحيات ا?مريكية الاسرائيلية ...
- “متفوتش الحلقة الأخيرة” القنوات الناقلة بجودة عالية القنوات ...
- ترامب يفرض رسوما جمركية بنسبة 100% على صناعة الأفلام السينما ...
- أهالي غزة يجابهون الحرب بالموسيقى وسط الدمار والحصار
- تطلعات الأغنية العربية بين الإبداع الفني والبحث عن التجديد و ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي