أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - تشريح الدرس الأكاديمي














المزيد.....

تشريح الدرس الأكاديمي


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 01:05
المحور: الادب والفن
    


في زمنٍ تُدار فيه الخطابات كما تُدار الطرود في مكاتب البريد، وتُعقّم فيه المخيلة كما تُعقّم الأدوات الجراحية، لم تعد كليات الفنون فضاءً لإنتاج الفن، بل صارت أجهزةً تُعيد إنتاج السلطة عبر قنواتها الناعمة، بإسم «المعرفة». لم نعد أمام مشاتل تُسقى بالحيرة، بل أمام مؤسسات تربوية تُمارس وظيفة انضباطية بامتياز: تُخضع الجسد، تُهندس الانفعال، وتؤطّر السؤال ضمن شبكات التأديب الرمزية.

لم أكتب هذا بصفتي ناقدًا يملك أداة، بل كذاتٍ مفككة، تشكك في كل أداة، تفضّل الهامش على المركز، وتؤمن أن السؤال لا يُطرح فقط في وجه الجواب، بل في وجه شرعية طرح السؤال نفسه. إن الجسد المسرحي، الجسد الذي يتكلم، يتعرق، يفشل، يرتجف، يصرخ، يُمسك بالهواء ليصنع به حضورًا، هذا الجسد، لا يُدرَّس. بل يُراقَب.

في كليات الفنون، حيث تنمو المعرفة كطقسٍ مؤسسي، يتحوّل المسرح إلى شكل من أشكال الضبط الخطابي. لا يُقصد به الإبداع بل الإخضاع. لا يُدرَّس المسرح كخطر، كفوضى، كصوت لا يُمكن تأطيره، بل يُقدَّم كأرشيف، كجثة معرفية مشروحة، تُستخرج منها الدروس وفق نظام حراسةٍ صارم. فالمنهج هنا ليس أداة فهم، بل أداة قَمع، جهاز يضمن بقاء السلطة الأكاديمية عبر توليد النسخ لا الفوضى، الطاعة لا الأسئلة، الإقناع لا الحيرة.

يتحدث المدرّس باسم سلطة النص، لا باعتباره محاورًا، بل باعتباره مُفَوَّضًا للمعنى. يُدرّس "فن الشعر" لأرسطو، لا بصفته أثرًا إشكاليًا مفتوحًا، بل كنصٍ مغلقٍ، مُؤمَّم من قبل المؤسسة، يُحرَّك كما تُحرَّك الطقوس اللاهوتية في ديرٍ عتيق. إن من يدّعي أن المسرح الإغريقي قد استُهلك بحثًا، لا يختلف عن الموظف الذي يخلط بين دفن الجثة وتشييعها. إنهم لا يدرّسون أرسطو، بل يحرسونه، ككاهن على باب مقبرة.

وهكذا يُنتج الخطاب المسرحي ضمن المؤسسة باعتباره صحيحًا لا صادقًا. صوابه لا يقوم على كثافة التجربة أو توتر الجسد، بل على مطابقته لما قررته السلطة الأكاديمية كـ «نظام حقيقة». فيصبح العرض المسرحي، في سياق هذه السلطة، مخططًا إنتاجيًا، لا أثرًا حيًّا. ويُنظر للجسد كمادة خام، يجب إصلاحها، لا كمصدر معرفة.

حين تُغلق أبواب السؤال باسم المنهج، ويُمنع الشك باسم "المصطلح"، وتُكوى الأسئلة على الجباه كما تُكوى علامات الإدانة، يتحول المسرح من حدثٍ إلى مُنتج، من حياةٍ إلى توثيق، من مواجهةٍ إلى استذكار. وبهذا، لا تعلّم كليات الفنون المسرح، بل تكرّسه كجثة قابلة للشرح. إنها لا تُدرّس "الفن"، بل تُدرّس كيف يجب أن يُفهم "الفن"، وفق نموذج الدولة، المؤسسة، النظام.

لقد تحول النقد المسرحي إلى وظيفة لاكتساب الشرعية داخل هذه البنية؛ طقس طاعة يُؤدى لا بحثًا عن المعنى، بل حمايةً للمعرفة من الشغب. يُكتب النص كوصيّة، لا كحدث. يُعلَّق على السبورة لا ليُفكَّك، بل ليُطاع. وهنا تبدأ السلطة في العمل: حين تتحول الكتابة إلى قانون، والفن إلى إجراء، والجسد إلى ملف إداري.

إن أخطر ما في هذه البنية ليس ما يُدرَّس، بل كيف يُدرَّس. ليس المسرح هو ما يُمحى، بل إمكانه ذاته. إذ يتحوّل الجسد المرتاب، الشاك، المرتجل، الخارج عن النص، إلى حالة مرضيّة، يُقصى، يُهمّش، أو يُعاد تأهيله بمنهج "علمي". يُعامل الخيال كإنحراف، ويُعاد ضبط الحواس بمصطلحات جافة لا ترى في الجسد سوى ما يمكن قياسه.

وحده الفشل هو لحظة التحرر. وحده الارتباك هو أثر الحقيقة. إن المسرح لا يُصاغ، بل يُفجَّر. لا يُكرَّر، بل يُرتجَل. لا يُدرَّس، بل يُخترع. فكل مرة يُقال فيها «هكذا يُقدَّم العرض»، تُغتال إمكانية انفجار جديدة.

لهذا، فإن الفنان الحق لا يكتب بالمنهج بل باللحم، لا بالحبر بل بالخطأ، لا كأستاذ بل كمنحرف. إنه لا يسعى إلى نقل الدرس، بل إلى تقويض السبورة ذاتها، تمزيق دفتر القواعد، وتحويل المسرح إلى تجربة حيث الجنون ليس إقصاءً، بل شرطًا للخلق.

فاحذروا، يا سدنة القاعات، أن تُطفئوا السؤال في صدور من لم يعرفوا بعد أسماءهم. احذروا أن تُشرّعوا المنهج كما يُشرّع القانون، وتُدجّنوا الفن كما تُدجَّن اللغة. لأن المسرح، في آخر الأمر، لا يُكتب ليتكرر، بل ليُحرَق.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دليلُ الماعزِ الأعمى إلى علاماتِ الترقيمِ المقدّسةِ
- الركح في متاهة المرايا: عن استيهام الموضة وتيه الهوية في الم ...
- مستدركات على نص تكوينات
- الحاشية الثانية على نص تكوينات
- بيان تأويلي ضد المسرح، أو في امتناع العرض كحدث
- تكوينات / نص مسرحي
- المسرح بوصفه جهازًا أركيولوجيا التمثيل والمراقبة
- بيان تنظيري خراب المعنى في المسرح المعاصر
- بيانٌ حول تأجيل المعنى في المسرح الحديث
- -الكتابة كهرطقة تأويليّة: في تمارين العبور بين اللغة والخراب ...
- ضدّ العرض تفكيك المسرح كجهاز معرفي
- المسرح كحيّز للخراب الدلالي نحو عرض ينسى ذاته ليتذكّر جسده
- خطاب ثوري ضد المسرح
- هشاشة العرض ومكر الدلالة
- اللوحة كفضاء مسرحي
- الكتابة إلى ذ. محمد الكغاط


المزيد.....




- وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
- الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- لن يخطر على بالك.. شرط غريب لحضور أول عرض لفيلم -بوجونيا-
- اهتمام دولي واقليمي بمهرجان طهران للفيلم القصير
- تفاعل واسع مع فيلم -ويبقى الأمل- في الجونة.. توثيق حقيقي لمع ...
- الجامعة العراقية تستضيف الشاعر الإماراتي محمد عبد الله البري ...
- الإمام الحسين: ما سر احتفال المصريين بمولد -ولي النعم- مرتين ...
- المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي.. سيرة البحث عن إشراق الم ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - تشريح الدرس الأكاديمي