أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميشيل الرائي - الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية للمرأة العربية














المزيد.....

الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية للمرأة العربية


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 03:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في السياق العربي، لا يُمارس الجسد الأنثوي بوصفه معطىً طبيعياً أو كينونة بيولوجية محايدة، بل يُنتَج داخل شبكة كثيفة من الخطابات والمؤسسات التي تعمل على ضبطه، تأديبه، وتحويله إلى موضوع للرقابة والمعيارية. الجسد، بهذا المعنى، ليس ما هو عليه، بل ما صُنِع منه؛ هو موقع تخترقه السلطة وتعيد تشكيله باستمرار.

لكن هذا "التشكيل" لا يتم بشكل صريح دائماً، بل ينساب داخل ما هو يومي، عادي، مألوف؛ حيث لا تظهر السلطة على هيئة قمع مباشر، بل تنبثق من الكلمات، من الملابس، من نظرات الآخرين، ومن المعايير التي لا يعرف أحد من وضعها، لكنها تُطبق كما لو كانت طبيعة.

تشتغل السلطة عبر آليات دقيقة، ليست قمعية فحسب، بل منتِجة أيضاً. إنها لا تحظر الجسد الأنثوي فقط، بل تصوغه وتعيد تعريفه وفق أنماط محددة من السلوك والأخلاق والتمثيل. وبهذا، يظهر انقسام مزدوج في الجسد الأنثوي: جسد مركزي مُعلن، وجسد هامشي مقصي. الأول هو الجسد الذي صيغ عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية – كالأسرة، المدرسة، والدين – وتم إنتاجه كجسد الطهارة، العفة، والخضوع. إنه الجسد المؤطر بالقيم العليا، الذي يُمارَس ضمن حدود ما هو مقبول اجتماعياً ومُصرّح به ثقافياً، حيث الكلمات التي تُقال تحجب دائماً ما لا يُقال.

أما الجسد الهامشي، فهو الجسد الذي لم تُكتب له شرعية الظهور في الخطاب، لكنه يَسكن الفجوات، ويطل من بين الشقوق التي يتركها النظام دون إحكام. إنه جسد الرغبة، المتعة، والاشتهاء، الذي لا يُفصح عنه لكنه لا يغيب. الجسد الهامشي، كما النصوص المفتوحة عند إيكو، لا يبوح بمعناه دفعة واحدة؛ إنه يفترض قارئاً متورطاً، يعرف أن وراء الظاهر شبكة من الرموز والعلامات التي تتطلب التأويل. هذا الجسد يُمارس وجوده في الظل، في ما هو مستتر وغير مُصرّح به، ويعبّر عن ذاته لا عبر المواجهة الصريحة، بل من خلال التوتر، التسلل، والمقاومة الصامتة.

هذا الانقسام الجسدي لا يعكس خياراً حراً، بل هو أثر مباشر لأنظمة السلطة التي لم تكتف بتقييد الجسد، بل أعادت تشكيل الرغبة ذاتها. فالمرأة تمثل جسد الفضيلة في المجال المُعلن، وتعيش جسد الرغبة في المجال الكامن، حيث تتفاوض مع الممنوع، لا كممارسة تلقائية، بل كصراع داخلي تمليه السلطة وتتسلل فيه الذات عبر المخاتلة والمقاومة. وكأن الجسد يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر؛ وكأن كل حركة فيه تتطلب قراءة مزدوجة، تأويلاً ضمن تأويل.

المفارقة أن ما يُنسب إلى المرأة من نفور، خجل، أو اشمئزاز تجاه بعض ممارسات الجسد، ليس نابعاً من وعي ذاتي حرّ، بل من جسد تم تطبيعه وتأديبه داخل بنى السلطة. الجسد هنا ليس سوى نص آخر، كُتب بلغة لا تختارها المرأة، لكنه يُفرض عليها لتعيد نطقه وكأنها صاحبة الخطاب. فالهوية الجسدية ليست انعكاساً لما "هي عليه"، بل انعكاس لما أرادت السلطة أن تكونه. وفي هذا، يشتغل الجسد كعلامة أكثر منه مادة، كمعنى يُقرأ أكثر مما يُعاش.

في هذا السياق، تصبح المرأة ليست فقط ضحية للخطاب، بل فاعلاً مقاومًا أيضاً، إذ تنتج في الهامش جسداً آخر، جسداً متحرراً جزئياً، يتجاوز القوالب، ويخترق المراقبة، ويعيد تشكيل معناه خارج السلطة التي أنتجته. وهذا الجسد الآخر، غير المعترف به، ليس مجرد بديل بل هو شيفرة: يحمل داخله إمكانيات متعددة، قابلة للقراءة بطرق لا نهائية، تفتقر إلى مركز ثابت، تماماً كالنص المفتوح عند إيكو.

الجسد الأنثوي، إذن، لا يُقرأ كجوهر ثابت، بل كفضاء للصراع والتفاوض. إنه أرشيف للسلطة، لكنه أيضاً مختبر لإمكانات التحرر. الهوية الجنسية ليست كينونة جاهزة، بل سيرورة ديناميكية تتقاطع فيها أنظمة الإخضاع مع طاقات الممانعة، ويتواجه فيها الجسد المؤدلج مع الجسد الراغب. وفي هذا التوتر، تتشكل المرأة لا كما قيل لها أن تكون، بل كما تقرر أن تعيد إنتاج ذاتها، ولو في الخفاء... أو بالأحرى، داخل النصوص الصامتة التي تكتبها بجسدها لا بكلماتها.


---



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيان مسرحي
- نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي
- في عيون الأرنب الشمسي ويبدأ القارئ بالصراخ
- شذرات من مسرح لا أتذكّر اسمه
- طفل الخشبة /شذرات ضد الأب-المعلّم
- عَتَبة اللّامفاتيح: مُحرِّكُ الأصواتِ اليتيمةِ في هندسةِ الت ...
- الفراغُ يعشقُ الخُلد الأعمى
- القرد الأخير يحاول فهم نزيف ساعةٍ وظله يُعلق ذاته بحبل من أس ...
- تشريح الدرس الأكاديمي
- دليلُ الماعزِ الأعمى إلى علاماتِ الترقيمِ المقدّسةِ
- الركح في متاهة المرايا: عن استيهام الموضة وتيه الهوية في الم ...
- مستدركات على نص تكوينات
- الحاشية الثانية على نص تكوينات
- بيان تأويلي ضد المسرح، أو في امتناع العرض كحدث
- تكوينات / نص مسرحي
- المسرح بوصفه جهازًا أركيولوجيا التمثيل والمراقبة
- بيان تنظيري خراب المعنى في المسرح المعاصر
- بيانٌ حول تأجيل المعنى في المسرح الحديث
- -الكتابة كهرطقة تأويليّة: في تمارين العبور بين اللغة والخراب ...
- ضدّ العرض تفكيك المسرح كجهاز معرفي


المزيد.....




- بالخرائط.. خطة إسرائيل -لغزو- غزة لا تترك للفلسطينيين سوى مك ...
- -لقمة مغمّسة بالدم-.. نهاية مأساوية لرحلة البحث عن الطعام في ...
- بولندا: فوز القومي المشكك في أوروبا كارول ناوروكي في الانتخا ...
- -تيك توك- في مرمى العلم: أكثر من نصف نصائح الصحة النفسية مُ ...
- الدفاع الروسية: إسقاط صاروخين -ستورم شادو- بريطانيي الصنع خل ...
- روسيا.. طائرات مسيرة تستهدف مقاطعة إيركوتسك
- موسكو.. علاج شامل لطفل تعرض لإصابة نتيجة حادث في مقاطعة بريا ...
- الوفد الأوكراني يلتقي في اسطنبول مع ممثلين أوروبيين قبيل الم ...
- ألمانيا.. 11 رجل إطفاء وسيارتا إسعاف لإنقاذ رجل يبحث عن سماع ...
- -فتنة أموال الدجوي في مصر-.. كاتب مصري يكشف أسرارا حول انتحا ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميشيل الرائي - الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية للمرأة العربية